انتهت الأزمة، ابتدأت الأزمة
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن
-
العدد: 8369 - 2025 / 6 / 10 - 12:25
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
تطلعتُ منذ سنوات المراهقة إلى رؤية الحكم الأسدي يزول. اكتسب هذا التطلع زخماً شخصياً بعد سنوات السجن، حيث تحول الصراع مع الحكم الأسدي من انحياز سياسي وأخلاقي، كمالي بصورة ما، إلى صراع معرف، ضروري ومشكل للهوية. هذا ظهر في الكتابة طوال ربع القرن الماضي، وقد استأثرت الشؤون السورية بما لا يقل عن نصف محصولي الكتابي. وحين سقط النظام أخيراً، كنت مبتهجاً بطبيعة الحال، وسالت دموعي في أول تجمع لسوريين مغتربين في فضاء عام بعد ساعات من السقوط. على أنه لم يخطر بالبال في ذلك الوقت أن السقوط المشتهى للنظام هو تداعٍ لعالم عشت فيه معظم سنوات عمري، وأنه سيضعني في أزمة على أكثر من مستوى.
والمنطق في ذلك هو أنه بأثر اشتباك سياسي وفكري ونفسي مديد مع الحكم الأسدي طوال 48 عاماً من سنواتي الأربعة وستين، صرت أسدياً أنا نفسي بطريقة ما: أمقت النظام واحتقر بشار الأسد وأبيه من قبله، لكن عبر هذا القدر من الاستنفار ومن الشحنة النفسية للموقف منه طوال ثلاثة أرباع العمر، صار مني، أحد ثوابت حياتي.
وفجأة، وبما يشبه المعجزة، اختفى هذا الثابت المديد، فكان لا بد من اختلال التوازن الشخصي، بل اختلال المعنى وفرص البقاء الفاعل. أبدو لنفسي كمن كان يدفع باباً مغلقاً بإحكام، حتى إذا وقع الباب فجأة بعد أن كاد ينقطع نفسه وقع هو فوقه.
أول إدراك للأزمة أخذ شكلاً ساخراً: لقد تركنا النظام وحيدين، ماذا نفعل الآن في غيابه؟ كان التأهب النفسي والفكري والسياسي والأخلاقي للمعارضين من جيلي متوجهاً ضده، وها هو قد غدر بنا وسقط، فما العمل؟ يعود إلى البال في مثل هذا الوضع مقطع لقسطنطين كافافيس، الشاعر اليوناني الذي عاش في الاسكندرية في مصر: والآن ما العمل بعد رحيل البرابرة؟ لقد كانوا نوعاً من الحل!
كان لي إيقاع يومي للعمل، روتين شخصي، ومشاريع كتابية أعمل عليها أو أخطط لها في الشهور والسنوات القادمة. وتعين أن أجمد العمل على أكثر من واحد منها، لأن العمل عليها أو إنجازها لم يعد من الأولويات. ظهر لأول مرة خارج لـ"المنفى" الذي كنت قد وطنت النفسي على العيش فيه، خارج يمكن العودة إليه: سورية ما بعد الأسدية. وهو ما يعني تغيراً ما في هويتي، إذ لم أعد منفياً، أو ليس مجرد منفي. أعود أم لا أعود؟ هذا هو سؤال اليوم. وهو شاغل لا يسمح بالاستمرارية السابقة له، بل هو انقطاع على مستوى تصور الذات والدور وموضوعات التفكير. في إحدى مسوداتي، ذكرت أني لا أستطيع الكتابة عن المنفى إلا من خارجه، وهذا مثلما أني لم أستطع الكتابة عن السجن إلا بعد الخروج منه. والخارج الوحيد للمنفى هو ذلك البلد التعيس الذي اسمه سورية. ما العمل الآن ولدي خيار حقيقي في الرجعة إليه؟ وهل أرجع نهائياً؟ أو أمارس عودات تجريبية، إلى حين أستطيع أن أحسم أمري؟
والأمر أصعب على المستوى العام. ما هو موقعي السياسي اليوم؟ لا يكفي أن يقتصر (أو يكاد) دور المرء على الكتابة، أو أنه لم يرد القيام بدور سياسي مباشر. هناك كثير من السياسة في عملي، سياسة مناهضة أساساً للحكم الأسدي، ما يعني أنه لم يعد لها موضوع اليوم. لا بد بالتالي من سياسة جديدة وكتابة جديدة بعد زواله. وهو ما يسهل قوله ويصعب فعله.
ثم ما هو موقفي السياسي اليوم؟ لست من المنتصرين بسقوط النظام، فهل يكون من أسقطوه برابرتي الجدد، أعدائي؟ ليس بعد. خصومي، إذن؟ بلا شك. لكن ماذا يعني ذلك بالضبط؟ لا تكفي عبارة التفكير النقدي العامة للوفاء بمقتضيات موقع الخصومة وضمان استمرارية فكرية وأخلاقية بين الأسدية وما بعدها. لكنها أولى الفروض على أي حال.
لا يمتنع من حيث المبدأ أن يكون المرء خصماً أو عدواً لعهدين سياسيين متتابعين، قام أحدها ضد الآخر. ما قد يمتنع في تصوري هو إمكانية حدوث ذلك دون أزمة في الأدوات والتوجه والتهيؤ النفسي.
ومن أوجه الأزمة العامة كذلك مصير كتبي. هل صارت هكذا فجأة شيئاً من التاريخ، لا تخاطب إلا بدرجات تقل أكثر وأكثر من يعنيهم فهم المزيد عن أحوال اليوم؟ يكثف هذا التساؤل أزمة الكاتب الوجودية، فرصه في البقاء ومعنى عمله. يشبه تقادم أعمال الكاتب وهو حي وفاة الأبناء في حياة الآباء والأمهات. تجربة شديدة القسوة.
أياً يكن، العالم الكتابي السياسي تغير بالكلية فيما يخصني ويخص جميع من أعرفهم. حقل التجربة لم يعد هو نفسه، لا في بعده المعرفي ولا في بعده النفسي. وهو ما يحتاج إلى استكشاف وتعلم، مع كل احتمالات التعثر والغلط وسوء التقدير والقراءة. وسوء الحساب. يطرح هذا الوضع تحدياً صعباً ربما يستطيع الأصغر سناً الاستجابة له بمرونة أكبر منا، نحن الأسديون القدامى، أعني تحدي إعادة اختراع النفس، أو بعبارة أقل درامية إعادة هيكلة عتادنا وترتيب موقعنا وتشكيل استعداداتنا بما يُبقينا على صلة مؤثرة بما يجري، أو في أقصى الطموح يتيح لنا امتلاك زمام المبادرة الفكري حيال أحوال اليوم. تاريخ الكاتب في كل وقت هو تاريخ إعادة هيكلة مستمرة لعمله، تركيز على عناصر كانت متنحية وزحزحة إلى الهامش لعناصر كانت بارزة، وإدخال عناصر جديدة وإسقاط غيرها، وفي المجمل تحول في الهيكل من أجل تفاعل أفضل مع عالم متغير. اليوم، لا بد لإعادة الهيكلة من أن تكون أوسع نطاقاً وأكثر جذرية، "ثورة"، من أجل استعادة زمام المبادرة.
لم أكن موجوداً في "سورية الأسد"، فهل سأوجد في سورية ما بعد الأسد؟ أعني الوجود العام، الفاعل والآمن والمحمي قانونياً. ليس الأمر مضموناً بحال. كان الشأن الديني ثاني أهم شاغل فكري سياسي بعد الحكم الأسدي، صراع مُعرِّف ثان، وهو مرشح فيما يأتي من سنوات لأن يصير الأول دون منافس. مع ما يحتمل أن يقترن بذلك من مخاطر سياسية ودينية، لا يقلل منها محدودية استعدادي اليوم لممارسة الرقابة الذاتية.
و"اليوم" لا يختزل إلى واقعة سقوط النظام، بل يتعداه إلى ما يرجح أن يكون زمناً عاصفاً عنيفاً، شهدنا عينات إبادية منه حيال العلويين في الساحل، ثم حيال الدروز في مناطق الجنوب، مع اعتداءات واستفزازات هنا وهناك، تترك المرء مستنفراً، يضع يده على قلبه كل يوم خشية وقوع كارثة إضافية. تبدو سورية أشبه بحطب جاف، من شأن شرارة صغيرة أن تحوله إلى حريق كبير. كانت شرارة تافهة قد تسببت بحرائق في أشرفية صحنايا والسويداء، وبدءاً من جامعة حمص.
كنا قد عشنا عقوداً من أزمة وطنية ومواطنيّة عامة، أزمة ثقة مفقودة متعددة المستويات بين السوريين، حرص العهد البائد على تغذيتها وتعميقها عبر إثارة خوف السوريين من بعضهم وارتيابهم ببعضهم. اليوم يثير التمركز السني للتكوين الجديد أزمة ثقة مماثلة، يتحتم أن تتطور إلى أزمة وطنية ومواطنية عامة مزمنة. يفاقم من ذلك ما يعرضه هذا التكوين من قمع فائض وغير وظيفي، حيال البيئة العلوية بخاصة، يحد من قدرة قطاعات من السوريين، لا تقتصر على العلويين، على التعامل معه بتجرد وانفصال نفسي.
هذا للقول إن الأزمات الشخصية لا تقع في عالم منفصل عن الأزمات العامة، وأن حياتنا المتأزمة وجه شخصي من أوجه أزمة بلدنا المستمرة والمتجددة.
وبعد، لا أعتقد أن ثمة ما هو استثنائي في وقوعي في أزمة بدأت من لحظة وقوع النظام أرضاً التي لطالما تمنيتها، ويخيل لي أنها تجربة شائعة في أحوال مشابهة. لكنها تجربة جديرة بالتأمل مع ذلك. تسعى وراء شيء بكل قواك وطوال سنوات وعقود، حتى إذا تحقق ما سعيت وراءه تجد أن قواك استنزفت في ذلك المسعى، وأنه بدل أن يكون هذا التحقق نهاية ترتاح بعدها، هو بداية متعثرة متحدية. قرأت في مكان ما، قبل سنوت طويلة، أن على المرء أن يحاذر في اختيار أحلامه، لأنها قد تتحقق.
الأزمة وضع حرج ضاغط لا يتبين المرء مخرجاً منه، ليس في طوره الحاد على الأقل. فما هو المسلك الأنسب في مثل هذا الوضع؟ ربما لا شيء خاصاً. لا شيء يتجاوز تجنب اللجاجة، وألا يضع المرء نفسه تحت الضغط والحرج. وربما ليس أكثر من التفاعل بدل التفاؤل والتشاؤم. وربما فتح العينين والذهن من أجل الفهم. ثم ترك الزمن يفعل فعله في الوقائع والأنفس. يمكن للأزمة على هذه الصورة أن تكون فرصة اكتساب وتعلم.
كم من الزمن؟ لا يسهل التقدير. سورية اليوم في أزمة تغير مفتوحة النهايات وغير متحكم بها. ليس مضموناً كذلك ألا يقع حريق كبير أو انهيار وطني واسع. ولا هو مؤكد بعد أننا سائرون نحو أوضاع أكثر استقراراً، أو نحو تأزم أقل. أزمة التفاعل الشخصي لا تحل بمعزل عن الأزمة العامة مثلما تقدم. كانت الحقبة الأسدية زمن تأزم مزمن، لا يبعد أنها ستكون صيغة الوجود الشخصي والعام لكثير من السوريين في هذه الحقبة الجديدة.
الأزمات لا توجِّهُ بحد ذاتها نحو المستقبل، ويتواتر أن تعامل بإنكار، وأن تعالج بالانكفاء نحو الماضي، برجاء أن يعود كل شيء إلى ما كان عليه في وقت مضى. في تاريخ سورية السياسي غير مثال على الإنكار والماضوية، ويبدو أن غير قليلين منا أقرب إلى هذا الشرط، الذي ينذر بخروج تام من عالم الفكر والفعل.
وفي الختام، قد يجد الكاتب أو لا يجد حلولاً لأزمة التغير العام في عالمه على مستوى الأدوات والأفكار. لكن إذا كانت الأزمة عامة، بمعنى أنها تشمل الجميع، ومنهم بخاصة الشركاء في التوجهات والقيم من كتاب وفنانين ومعتقلين سياسيين سابقين، تعين أن تكون المعالجات والحلول عامة بصورة ما، تتجاوز الفرد وقدرته أو انعدام قدرته على التغير، إلى ما بين الأفراد من روابط محتملة أو ضرورية الإنشاء، إلى مبادرات وأنشطة مغايرة، إلى جمعيات ومنظمات وشبكات جديدة. وهذا كي نخرج من مناجاة الذات إلى الحوار والتفاعل مع الغير، ومن الدوران حول النفس إلى احتمالات الفعل المؤثر.