في نقد نقد الثورة الرقمية : رأسمالية أم إقطاع تكنولوجي ؟
أحمد زوبدي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8433 - 2025 / 8 / 13 - 04:49
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
من خلال الزخم الذي عرفته الكتابات والدراسات في موضوع الثورة الرقمية و الذكاء الاصطناعي، يلاحظ أن الكثير منها بالغت في التعظيم من شأن هذه الطفرة التكنولوجية على حساب دور القوى الإجتماعية التي تبقى هي المتحكمة في سيرورة التطور وأن التكنولوجية ما هي إلا أداة وليست المحرك في التحولات التي تعرفها المجتمعات. هل يعني ذلك أن الرأسمالية تقتصر على هذه الثورة التكنولوجية وبالتالي فكل التطورات التي عرفها النظام-العالم هي مدينة لهذه الثورة وأن العوامل غير التقنية منها السياسية والاجتماعية والثقافية تم اختصارها في هذه النقلة التكنولوجوية ( saut technologiste ) التي تنتجها الثورة الرقمية ؟ المثير أنه قد أصبح الحديث اليوم عن مجتمع خارج عن إرادة الإنتاج الرأسمالي الذي أخذ حلة رأس المال السحابي(capital cloud) وبالتالي تم اختصار تطور الرأسمالية في ما أفضى له هذا الأخير ( أي رأس المال السحابي) ليرى النور نمط إنتاج إقطاعي تكنولوجي أو تقنو-فيودالي ( techno-féodal) موازي، كما يعتقد ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، Yanis Varofakis، الاقتصادي اليوناني ووزير المالية الأسبق في اتلاف اليسار الراديكالي ( سيريزا) و الاقتصادي الفرنسي Cédric Durand. هل صحيح أن هذا النمط الموازي الجديد هو منفصل عن الإنتاج الرأسمالي وينتج ريعا في إطار بنية تتكون من طبقتين شبيهتين بطبقتي الأقنان و الأسياد التي عرفتها الفيودالية، نمط الإنتاج ما قبل الرأسمالي ؟ أكثر من ذلك، يزعم Varofakis و Durand أن الرأسمالية رجعت إلى الوراء لتتحول إلى نمط إنتاج إقطاعي أو قل فيودالي جديد( néo-féodal ) في حلة جديدة هي التكنولوجية يعني نمط انتاج تقنو-فيودالي، كما تمت الإشارة سابقا.
هذا التصور، في ذهن أصحابه وليس في الواقع، ناتج عن هيمنة شركات الصناعة الرقمية التي أدت بالرأسمالية لأن تأخذ طريقا غير طريقها تذكر بنمط الإنتاج الإقطاعي. فعوض اقتصاد السوق، يعتقد أصحاب هذا التصور، هناك فضاءات كثيرة محاطة بأسوار( enclos) رقمية تنعدم فيها رائحة الضبط الرأسمالي شبيهة بأراضي الإقطاع. يتكون الأسياد ( seigneurs) من شركات شبكات المعلومات والبيانات مثل غوغل، ميكروسوفت، آبل، فاسبوك، انستاغرام، أكس، امازون، تكتوك، إلخ.، أما الأقنان ( serfs) فهم المستعمل لهذه الخدمات. تفكك الاستقلال السياسي تحت تأثير رأس المال الرقمي هو السمة الأولى للإقطاع التكنولوجي، يقول Cédric Durand.
في الاقتصاد الرقمي الرأسمالي، يسترسل Varofakis و Durand، تراجعت تدريجيا آليات الرأسمالية القواعدية(mécanismes canoniques) أي المنافسة والسوق لصالح ميكانيزمات الإقطاع لتوطيد الاحتكار و تحقيق الريوع. هذا الانزلاق يعتقد Varofakis يدشن مرحلة جديدة حيث الرأسمالية دخلت في مجرى التهام نفسها بنفسها، مما يعيق إعادة إنتاجها ويحول دون توفير شروط التمويل والاستثمار للاقتصاد الحقيقي( économie réelle).
بالمقابل، يقول Durand تجب مكافحة هذا الشكل من الإقطاع التكنولوجي، هذا الشكل من الإستعمار، من خلال العمل على تشجيع أشكال جديدة من المجموعات البديلة تمشي عكس سياسة شركات البغ-تيك (Big Tech) منها تشجيع الحمائية الرقمية لخدمة السيادة و إعطاء البورجوازية الوطنية الدور المنوط بها لمواجهة الشركات الرقمية العملاقة، هذا فضلا عن إعطاء هذه البدائل بعدا شعبيا أي مشاركة الجماهير لمواجهة الإقطاع التكنولوجي. كما يجب، يسترسل Durand، بناء قدرات إدارية وسياسات صناعية لتوجيه الاستثمار عبر البناء الديمقراطي وبناء السلطة المضادة لمراقبة الموارد من خلال الدور الريادي لتدخل الدولة لحماية الملك العام.
حقيقة، هذا التحليل غير مقنع. من ناحية، يزعم أصحاب هذه الأطروحة أن هناك إقطاع تكنولوجي في ظل الرأسمالية أو قل داخل الرأسمالية، ومن ناحية أخرى، العمل على اجتثاث بنيات هذا الإقطاع التكنولوجي !
أزعم أن الشيء الأكيد هو أن الثورة الرقمية هي امتداد للإنتاج الرأسمالي وبالتالي فالإنتاج الرقمي أو ما أطلق عليه الرأسمال السحابي هو طور جديد في الإنتاج الرأسمالي ما بعد الصناعي (capital post-industriel) أي الرأس المال المعرفي ( capital cognitif). كل هذا سيسمح بتطوير الكثير من الفرص لتحقيق مجتمع الوفرة بفضل تطور مسلسل العمل أي فتح المجال لتحرر اليد العاملة من استغلال رأس المال وبالتالي توسيع دائرة إنتاج الأملاك المشتركة (biens communs) مثل المعرفة والماء والهواء ( المكيف) وكل ما تنتجه الطبيعة كالفواكه والخضر و الكلأ والغابات التي لا تدخل في إطار الملكية الفردية، لكن تتم السيطرة عليها من طرف مالكي رأس المال. ولهذا، من غير الصحيح تجزيء الإنتاج الرأسمالي الذي يتطور مع الحفاظ على وحدة قوانينه.
للتذكير كان هناك نقاش موضوعاتي مستفيض في السبعينيات و الثمانينيات عن التشكيلة الاجتماعية والاقتصادية( F.E.S) وهي البنية التي تتكون من مجموعة من أنماط إنتاج متعايشة يكون نمط إنتاج واحد مهيمن، كما هو الحال عليه اليوم في الرأسمالية التي يتعايش معها نمط إنتاج عبودي و إقطاعي واشتراكي/مشاعي( socialiste/communautaire). انطلاقا من هذه الأكسيوماتيكية أو الآلية يمكن الحديث عن وجود بنيات إقطاعية تتعايش مع الرأسمالية التي قطعت أشواطا كبيرة وهي الآن في طور الرأسمالية الرقمية. لكن وجود الإقطاع الجديد كالإقطاع التكنولوجي من منظور أنه يسعى إلى إزاحة الرأسمالية وبالتالي الرجوع بالبشرية إلى الوراء، كما يعتقد ذلك على الخصوص Yanis Varofakis، فهذا لا يتقبله لا العقل ولا العلم لأن المجتمعات تتطور في اتجاه وضع شروط التقدم ولو أنها تعرف نكسات و أزمات أحيانا تدمر الكثير من الانجازات، لكن ليس في اتجاه الاسترقاق في نسخته التكنورقمية.
فالحديث عن فيودالية جديدة بحلة تكنولوجية موازية لرأسمالية في طريق التفكيك لأجل مجتمع متقدم يتحاوزها في اتجاه الاستراكية العالمية الآفاق، هي أطروحة لا تتكىء على تاريخ ولا على أفكار رصينة.
كل هذه العناوين والاستفهامات المثيرة تستحق دراسة متعمقة، أتمنى أن أقوم بها لاحقا.