جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء التاسع بعد المائة)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8337 - 2025 / 5 / 9 - 00:47
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

السخرية الأبدية من المجتمع
ننتهي في النهاية إلى "صراع" فيه ينتقم الوعي الذي يعتبر نفسه قد عانى من الإساءة من القانون المعارض. بكل ألم تتلقى أنتيجون القرار الظالم الذي أصدره كريون، الذي رفض دفن بولينيسيس وحكم على كل من يتحدى حظره بالموت. في مسرحية سوفوكليس، لم تتحد الفتاة حظر عمها فحسب، بل تحملت أيضا مسؤولية أفعالها، وارتكبتها مرة أخرى، وتم القبض عليها. في مواجهتها لكريون، الذي حكم عليها دفنها بين الجدران حية، تكشف بوضوح عن الصراع بين القانونين الذي يمزق مدينة طيبة، ثم يأتي تيريسياس الذي يتولى زمام أمور هذه الشخصية الأنثوية من خلال وعد كريون بالانتقام من الآلهة إذا لم يدفن بولينيسيس ويطلق سراح أنتيجون.
يؤكد هيجل في عدة مرات على مفردات الإساءة، الضمير الجريح، الانتقام، والقتال، مقيما على هذا النحو علاقة بالفصل (4-أ)، حيث تلا القتال حتى الموت رفض الاعتراف لأن الوعي شعر بأن شرفه قد انتهك. تحدث عن "جوهر جريح [verletztes] ومعادٍ من الآن، يطالب بالانتقام [ Rache ]" (550/255)، ويعيد تمثيل الصراع الناتج عن عدم الاعتراف على نطاق جماعي:
"لكن إذا كان الكوني بهذه الطريقة يضعف قليلاً النقطة الخالصة لهرمه ويفوز بالتأكيد بالنصر على مبدإ التفرد المتمرد، على الأسرة، فإنه بذلك يكون قد انخرط فقط في صراع [كفاحي] مع القانون الإلهي، وهو صراع بين الروح الواعية بذاتها والروح بلا وعي؛ لأن هذه هي القوة الجوهرية الأخرى، ولهذا السبب، لا يتم تدميرها بواسطة القوة الأولى، بل يتم الإساءة إليها فقط [beleidigte] بواسطتها". (555/257)
إن البعد المجرد للصراع بين الوعي في الفصل (4-أ) يختفي الآن؛ لم يعد الأمر يتعلق بمواجهة ذاتيتين معزولتين، ضائعتين في منتصف اللا مكان في فضاء فكري بحت، بل أصبح الأمر يتعلق بتجربة فكرية أو تجربة بدائية ما قبل تاريخية أكثر مما بتعلق بتجربة اجتماعية ملموسة. ومن الآن فصاعدا، فإن الصراع بين الضمائر يشمل المجتمعات والمؤسسات، أي أن الصراع من أجل الاعتراف يجري في عالم تاريخي ملموس ومعقد، حيث تكشف الضمائر المتناحرة عن البعد المتناقض للتنظيم الاجتماعي.
إن التناقض المتأصل في المجتمع القائم على الترابط بين القانون البشري والقانون الإلهي هو أن القانون البشري يحتاج، من ناحية، إلى القانون الإلهي لكي يوجد ــ يجب على النساء أن يلدن ويربين الشباب حتى يتمكنوا بعد ذلك من مغادرة المجال الخاص للأسرة، ودخول المجال العام للمداولات السياسية وشن الحرب ــ ولكن من ناحية أخرى، لا تحظى النساء بأي اعتراف حقيقي ويشعرن بالقمع من جانب القانون البشري، بحيث يخاطرن بمحاربته وتقويض وجود المجتمع ككل. وبعبارة أخرى، فإن المجتمع الذي وصفه هيجل متناقض لأنه يقمع ما يحتاج إليه من أجل البقاء، لأنه يحول ما يقوم عليه إلى عامل تدمير للنظام الاجتماعي. وهذا هو معنى "السخرية الأبدية من المجتمع":
"بقدر ما يعطي المجتمع نفسه قوته فقط من خلال تعطيل سعادة الأسرة وتحلل الوعي الذاتي في الكوني، فإنه يثير نفسه، في ما يقمعه [ يقهره ] والذي هو في نفس الوقت ضروري له، في الأنوثة بشكل عام [الذكاء]، عدوه الداخلي. إن هذه الأنوثة - السخرية الأبدية من المجتمع - تغير عن طريق المؤامرة الهدف الكوني للحكومة المذكورة إلى عمل هذا الفرد المعين، وتحول الملكية الكونية للدولة إلى ملكية وزينة للعائلة". (557/258-259)
إن مفهوم السخرية عند هيجل له معنى تقني: فهو يشير إلى السلبية التي لا تثيرها الإيجابية، وهو شكل من أشكال الجدلية دون تركيب. لكن هيجل يميز بين المعنى الحديث الرومانسي للسخرية وبين معناها القديم. في محاضراته حول تاريخ الفلسفة، ينتقد فريدريش فون شليغل على وجه الخصوص لأنه جعل من السخرية مبدأ للذاتية الباطلة، التي ترفض جدية العالم وتختزل كل شيء إلى لا شيء أمام الحياة الداخلية للذات. ولكنه على العكس من ذلك، فهو يقدر السخرية السقراطية، بقدر ما تشير إلى حركة عقلانية وموضوعية: ثم إنها تتسبب في انهيار التعارضات العقيمة التي يفرضها الفهم وتشير إلى ضرورة تحاوزها. وبعبارة أخرى، فإن السخرية السقراطية تشير إلى ما سوف يطلق عليه في الموسوعة "اللحظة الجدلية"، أي اللحظة العقلانية السلبية، للعملية المنطقية.
وبهذه المفارقة، وليس بالمفارقة الرومانسية، ينبغي لنا أن نربط المفارقة الأبدية للأنوثة في "ظاهريات الروح". ونجد أيضا في "دروس في تاريخ الفلسفة" عبارة مشابهة جدًا للإشارة إلى السخرية السقراطية، حيث يتحدث هيجل عن "السخرية الكونية من العالم [allgemeine Ironie der Welt]". وعلى وجه التحديد، في الفصل (6-أ) من كتاب "الظاهراتية"، لا يتعلق الأمر فقط بتأكيد ذاتية باطلة، بل يتعلق أيضاً بتأكيد ذاتية تكشف عن حركة موضوعية، كما هي الحال في السخرية السقراطية. إن ما يتم الكشف عنه في الواقع من خلال السخرية الأنثوية هو التناقض الخاص بالتنظيم الاجتماعي، وليس الغرور الذاتي المحض الخالي من أي أساس موضوعي. لا شك أن ثورة النساء المتجسدة في شخصية أنتيجون الفريدة تسترشد بالذاتية الانتقامية التي تبدو أنانية في علاقتها بالصالح العام للمجتمع، لكنها ذات أسس موضوعية وتكشف عن شيء حقيقي في العالم: التناقض الذي يتلخص في حقيقة أن المجتمع (Gemeinwesen) يضطهد (unterdrückt) جزءً من نفسه ضروريا له، وبالتالي يؤدي إلى دماره، كما سنرى في القسم التالي. إن هيجل لا يهتم بنقاء الدوافع الذاتية، ولا يهمه كثيراً أن تعمل السخرية الأنثوية بدافع الانتقام، لأنها تكشف، رغم عدم نقائها، عن المشكلة الموضوعية التي تسببت فيها. إن أنتيجون وسقراط يجسدان، بالنسبة لهيجل، صورتين تخريبيتين بلسخرية، حيث حُكم على كل منهما بالموت باسم الدفاع عن قوانين المدينة، ولكن من خلال تضحياتهما، كشفا عن الحدود الحقيقية للمجتمع الذي عاشا فيه.
(يتبع)
نفس المرجع