اللحظة لحظتكم أيها الثوريون لتقودوا معارك النضال والتحرير!


حنا غريب
الحوار المتمدن - العدد: 7952 - 2024 / 4 / 19 - 09:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار شامل مع “صوت الشعب”:
اللحظة لحظتكم أيها الثوريون لتقودوا معارك النضال والتحرير!

على هامش حرب الإبادة الصهيونية التي تجري على طول الوطن الفلسطيني المحتل، وعلى تخوم ما تخطّه المقاومة الباسلة من ملاحم بطولية وأسطورية، تحتل الساحة اللبنانية باعتبارها ساحة اشتباك موقعا حيويا واستراتيجيا لا بحكم حضور فلسطين والفلسطينيين فيها، ولا بحكم الجغرافيا وامتداد الاحتلال إلى الأراضي اللبنانية فضلا عن السورية، بل أيضا إلى وجود شعب لبنان العريق في المقاومة وقواه الوطنية الثورية وفي صدارتها الحزب الشيوعي اللبناني بزخمه وتاريخه الذي يبلغ هذا العام قرنا كاملا من الكفاح من أجل تحرّر لبنان وفلسطين والوطن العربي.
في هذه الحوار الشامل مع الرفيق حنا غريب، الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني الشقيق سنتعرّض إلى مجمل محاور الاهتمام في هذه اللحظة التاريخية الدقيقة والصعبة.

الرفيق حنا غريب، الآن وقد شارف العدوان الصهيوني على فلسطين الستة أشهر. كيف تقيّمون أداء المقاومة؟ وأداء مختلف القوى الفلسطينية؟

بعد مرور ما يقارب الستّة أشهر على بدء العدوان الصهيوني على غزّة، يتبدّى بشكل واضح أن المقاومة الفلسطينية، استطاعت إدخال العدو في مأزق وجودي ككيان استيطاني “إحلالي” في فلسطين عبر فقدانه القدرة على القيام بوظيفته الاستعمارية في المنطقة التي كانت في أساس هذا الوجود باعتباره القاعدة العسكرية المتقدمة للامبريالية، مهمته ليس احتلال فلسطين وتهجير أبنائها فحسب، بل السيطرة على المنطقة العربية وتفتيتها وإضعافها ومنع شعوبها من تحقيق تحرّرها الوطني والاجتماعي. فكم هو عظيم واستثنائي هذا التصدّي البطولي، وهذه المواجهة المستمرة حتى الآن للمقاومة الفلسطينية، التي دفعت بالأصيل الأميركي للمجيء بأساطيله مع حلفائه لإنقاذ الوكيل ووظيفته بالحفاظ على مصالحه.
وكم هو أسطوري هذا الصمود التاريخي الملحمي للشعب الفلسطيني. كيف لنا أن نتخيّل ولو للحظة أن شعبا يقدّم ما نراه يوميا من صمود وبطولات ومن تمسك بالأرض ورفض للتهجير أن لا يخرج منتصرا رغم المجازر والحصار والتجويع والتدمير الممنهج. خمسة وسبعون عاما وهذا الشعب يقاوم عدوّا فاشيّا عنصريا استخدم في تاريخه وحاضره كل أنواع الأسلحة المتطوّرة وأساليب القتل المتعمّد في التجويع وارتكاب المجازر وحرب الإبادة الجماعية لآلاف الأطفال والنساء والشيوخ والعاملين في وسائل الأعلام وموظفي الإغاثة في الأنروا والمطبخ المركزي العالمي. وما كان بمقدور هذا العدو أن يستمر في إجرامه لولا الدعم الأميركي والغربي ولولا أنظمة التطبيع العربي التي تُعتبر شريكة في هذا العدوان.
لقد رفعت فلسطين بطاقتها الحمراء في عملية 7 أكتوبر، وأثبت الشعب الفلسطيني من خلال مقاومته المستمرّة استحالة عزل قضيّته وتهميشها وتصفيتها، فعادت هذه القضيّة إلى الواجهة السياسية إقليمياً ودولياً، وانطلقت حملات المقاطعة ضدّه وجمّدت عملية التطبيع مع المملكة العربية السعودية وطرحت تظاهرات شعوبنا العربية إلغاء اتفاقيات التطبيع وطرد السفراء وإقفال سفارات هذا الكيان، وانكشفت طبيعة هذا الكيان العنصري الذي يحاكم اليوم قانونيا أمام محكمة العدل الدولية، وشعبيّا في ساحات عواصم العالم عبر تظاهرات تضامنية مع الشعب الفلسطيني، وسياسيا في ما أصاب هذا العدو وحماته الأميركيين من عزلة دولية، ومن انقسامات داخلية ومن هجرة لآلاف الصهاينة إلى خارجه وسط تراجع وخسائر كبرى في اقتصاده وبما لحق بجيشه “الذي لا يقهر” من قتلى وجرحى يضطرّ اليوم للتعويض عنها للتجنيد وتوسيع مروحة استدعاء الاحتياط، ما يعد ذلك انتصارا للشعب الفلسطيني ومقاومته لا سيما في بعده الاستراتيجي الواسع.
وكلنا يعلم أن حلقة الضّعف الأساسية في هذه المعركة هي غياب الوحدة الوطنية الفلسطينية التي استفاد منها العدو ولا يزال. إن عناوين هذه الخلافات السياسية كانت موضع نقاش في اللقاءات التي كانت تحصل في مصر وقطر لا سيما بين فتح وحماس وسائر الفصائل وفي غير عاصمة من عواصم العالم والتي لم تصل إلى غاياتها المرجوّة. وإذا كانت خيانة الأنظمة الرجعية وتوقيعها اتفاقيّات العار والتطبيع مع الكيان الصهيوني، وازدياد مخاطر تصفية القضية الفلسطينية قد ساهمت جميعها في توضيح الرؤية ومعرفة من هو الصديق ومن هو العدو والخصم؟ فأنضجت أشكالا معيّنة من التعاون والتنسيق لدى بعض الفصائل على أساس خيار المقاومة بمختلف الأشكال، بما فيها المسلحة، فمن المؤسف القول أن هذا التعاون لم يكن شاملا، وأن لا تقدم السلطة الفلسطينية إلى الالغاء الفعلي والصريح لاتفاق أوسلو، ولا إلى تغيير نهج وأساليب مقاومة الاحتلال داخل الأراضي المحتلة كي تأخذ أشكالها القصوى، ولا إلى إصلاح منظّمة التحرير الفلسطينية وتوسيعها، على أساس برنامج نضالي، تتولّى على أساسه قيادة كفاح الشعب الفلسطيني، وإدارة الصراع، في كل المجالات، من أجل حق العودة وإقامة الدولة الوطنية الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني وعاصمتها القدس.

للحرب العدوانية تداعيات على مجمل المنطقة بما فيها لبنان، كيف ترون وعي مختلف القوى اللبنانية بهذا الأمر؟

إن إنشاء القوى الامبريالية للكيان الصهيوني انطلاقا من فلسطين باتّجاه بقية الدول العربية، قد ترافق أيضا مع إنشاء أنظمة رجعية على رأسها سلطات مرتهنة وخاضعة لإستراتيجيّتها، فضلا عن تثبيت أنظمة قائمة على سلطة الجيوش في عدد كبير من الدول لكبح مسار الحركة الشعبية التحررية، وبخاصة حيثما نمت حركات شيوعية ويسارية جماهيرية صاعدة. ومن هذا المنطلق احتلّت القضية الفلسطينية في حزبنا تاريخيا مركزيتها بوصفها قضية مواجهة مع الإمبريالية، قضية تحرّر وطني واجتماعي لشعوبنا العربية كافة. فكان تأسيس الحرس الشعبي وقوات الأنصار وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي حرّرت ثلثي الأراضي اللبنانية وأسّست ثقافة المقاومة، فكان من الطبيعي أن تصبح جبهة الجنوب مع العدوّ الصهيونيّ، جبهة مفتوحة فلا يبقى الشعب الفلسطيني وحيداً في المعركة، وأن ينخرط حزبنا في مقاومة العدوان والاحتلال بما لديه من إمكانيات وطاقات، وقد أعلن موقفه هذا منذ اليوم الأول لعملية 7 أكتوبر داعيا في بيانه إلى التجمع في 8 أكتوبر والانتصار لفلسطين ومقاومتها الباسلة مؤكدا ذلك في نداء لجنته المركزية بالتزام تنفيذ هذا الموقف تحت راية جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية مع العمل الدؤوب لتوفير المستلزمات الضرورية لذلك، داعيا لعدم إعفاء السلطة السياسية ودولتها من مسؤولياتها في حماية السيادة اللبنانية وفي عدم تسليح جيشها خضوعا لموقف أميركي وأطلسي، مكرّرا إدانته الشديدة لهذه السلطة بعدم توفير مقوّمات الصّمود الشعبيّ للأهالي الصامدين في القرى الحدوديّة بمواجهة العدو الصهيونيّ، ولترك النازحين (مائة ألف نازح) لمصيرهم المتردّي في عدم تقديم ما يلزم لهم من حاجات إغاثة وإيواء وخدمات صحيّة وتربويّة وغيرها، خاصة مع استمرار أمد النزوح وشلل النشاط الاقتصادي والزراعي والصناعي والخدماتي في معظم مناطق الجنوب اللبناني. وهو ما يدعونا للتأكيد بأن مقاومة هذا العدو يجب أن تكون مقاومة وطنية شاملة عبر مشروع سياسي وطني للتغيير الحقيقي بإقامة دولة وطنية علمانية، دولة ديمقراطية، دولة مقاومة على أنقاض الدولة الطائفية وسلطتها السياسية التي أفقرت اللبنانيين ونهبت أموالهم وهجّرت شبابهم وضربت حركتهم النقابية ونفّذت ولم تزل تنفّذ تعليمات صندوق النقد الدولي الذراع المالي للامبريالية، فمجمل مفاصل هذه السياسة السلطوية المستمرّة لا تخدم إلا العدو الصهيوني، والانتصار عليه يستوجب مشروعا سياسيا يتجاوز تحرير الأرض من الاحتلال إلى تحرير الإنسان من الاستغلال الطبقي، وبالتالي تجاوز شعار الجيش والشعب والمقاومة إلى مشروع قيام الدولة الوطنية الديمقراطية المقاومة بكل أشكال النضال بالسياسة والاقتصاد والاجتماع والمقاومة المسلحة.
انطلاقا من هذا المنظار السياسي انخرط حزبنا في هذه المعركة بما لديه من طاقات وإمكانيات وهو موجود في مختلف قرى الجنوب رفضا لفصل هذه الجبهة عن جبهة غزّة، ومن أجل وقف العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، حيث يوسّع العدو من اعتداءاته على القرى الجنوبية، ويمارس عمليّة التدمير الممنهج لكلّ أوجه الحياة فيها، مع تهجير الغالبية العظمى من سكّانها، وصولاً إلى ارتكاب المجازر بحقّ المدنيّين والصحفيّين والمراكز الصحيّة وطواقم الإسعاف، في ما يشبه ما يرتكبه في قطاع غزّة وفي الأراضي الفلسطينيّة، كما جرى في بلدات الهبارية والناقورة وطير حرفا أخيراً، وهو يوسّع استهدافاته لمناطق لبنانية بعيدة عن جبهة الإشتباكات عبر عمليات الاغتيال للمقاومين، ويجري كل ذلك في ظلّ التهديدات المتكرّرة التي يطلقها قادة الكيان الصهيونيّ، وينقلها معظم الموفدين وعلى رأسهم الصهيوني هوكشتين لغرض فصل جبهة الجنوب عن جبهة غزّة، عبر ترتيبات معيّنة متعلّقة بتنفيذ القرار 1701 بما يسمح بعودة المستوطنين الصهاينة إلى مناطق شمال فلسطين المحتلّة. ويتبيّن أن الهدف الأساسي من وراء هذه الخطة الأميركية هي توفير الأمن للكيان الصهيونيّ على حدوده الشمالية، والإستفراد بالمقاومة الفلسطينيّة وفرض التطبيع بين لبنان والكيان الصهيونيّ.
إن الفراغ الذي يعيشه لبنان والتأخير في انتخابات رئاسة الجمهوريّة وتشكيل الحكومة ليسا مفصولين عمّا يجري في المنطقة، وقضية لبنان مرتبطة أشدّ الارتباط بما يحدث فيها من أحداث مصيريّة ووجوديّة، تحت وقع ما يجري من تصعيد وتوسيع في المواجهات. فالموضوع ليس موضوع التوافق على إسم رئيس الجمهوريّة، بل على المشروع السياسيّ الذي على هذا الرئيس أن ينفّذه مع الحكومة المطلوب تشكيلها، والحصص المستجدّة بين القوى السلطويّة التي أوصلت البلد الى الانهيار وتحاول إعادة تجديد سلطتها، رغم كلّ ما ارتكبته من جرائم بحق الشعب اللبنانيّ المحاصر اليوم من عدوّ صهيونيّ يعتدي عليه من الخارج، وسلطة سياسيّة ترفض القيام بأبسط واجباتها في الدفاع عنه في الداخل، لا بل تزيد في نهبه وإفقاره وتهجيره.
ويبقى في هذا المجال القول أن أطراف السلطة السياسية جميعها متمسّكة بترسيخ النظام السياسي الطائفي ورأسماليته التابعة من أجل حصر الحياة السياسية في ما بينها وإعادة إنتاج سلطتها من جديد تبعا لتسوية جديدة ومحاصصة طائفية جديدة يجري الخلاف حول الطرف الطائفي المهيمن فيها، لذلك أكّد الحزب موقفه برفض تكرار التسويات الطائفية التي أوصلت لبنان إلى هذا الخراب الفظيع. كما أعلن موقفه أيضا من المفاوضات الجارية الآن بين السلطة السياسية وهوكشتين بأنّ الحدود البرّية بين لبنان وفلسطين المحتلة مقرّرة منذ عام 1923، وجرى تثبيتها في خط الهدنة عام 1948، محذّرا من التفريط بسيادة لبنان في مفاوضات ترسيم الحدود البرّيّة كما حصل في ترسيم الحدود البحريّة، إذ لا مبرّر لمناقشة ترسيم الحدود بل المطلوب انسحاب المحتلّين الصهاينة من الأراضي اللبنانية المحتلّة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشماليّ من بلدة الغجر، إضافة الى تطبيق القرار 194 القاضي بحقّ العودة للشعب الفلسطينيّ إلى أرضه.

عملية طوفان الأقصى خلقت وضعا جديدا في فلسطين والمنطقة وهو قيادة حركة التحرّر من قبل قوى ذات مرجعية دينية محافظة. كيف تتعاطون مع هذا الوضع بما في ذلك في لبنان؟

على خلفية أزمة حركة التحرّر الوطني العربية وأزمة قيادتها، قفزت إلى الواجهة قوى تستظلّ بالفكر الديني، أو بالموروث القومي، كخلفية فكرية، وانخرطت في مواجهة العدوّ الصهيوني والتدخّل الإمبريالي في بلادنا، من دون أن يكون لديها مشروع تحرّري وإجتماعي مختلف جوهريا عن الأوضاع االقائمة.. ورغم تقديرنا للدور الإيجابي الذي تقوم به في مجال المواجهة المسلّحة، إلّا أنها لا تطرح بديلاً سياسياً اقتصادياً واجتماعياً متميزاً عن الرأسمالية، بل أن ما تستهدفه هو تحقيق “استبدال طبقي”، من طبيعة النظام نفسه، مع توسّل العامل الطائفي والدّيني للتّحشيد والتعبئة، بما يُسهم في تعزيز الانقسامات المذهبيّة.
لكن ما تقدّم لا يمنع التقاطع مع هذه القوى في موضوع المقاومة ضدّ العدو الصهيوني، مع التأكيد على الإستقلالية وعلى مفهومنا للمقاومة وللصراع، حيث لا فصل بين مهام التحرّر الوطني والتحرر الاجتماعي ونرى التكامل بينهما في الظروف التاريخية لبلداننا، مع تأكيدنا على مركزية القضية الفلسطينية، بكل مضامينها ومندرجاتها، كركن أساسي في عملية تجديد حركة التحرّر الوطني العربية، وصولاً إلى وضع حدٍّ نهائي للاحتلال الصهيوني، بالتّرابط مع فكّ التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية للإمبريالية.

ألا تعتقدون أن الشارع اللبناني وعلى خلاف العادة كان هذه المرّة أقلّ زخما وحيوية؟ ماهي أسباب ذلك وماهي خطة الحزب الشيوعي والقوى الوطنية لاستنهاضه؟

صحيح القول بأنّ الشارع اللبناني كان أقل زخما وحيوية عمّا كان عليه، ولهذا أسبابه، لعلّ معظمها يعود إلى المرحلة التي سبقت عملية 7 أكتوبر والظروف التي حكمت تنفيذ العملية بحدّ ذاتها على النحو الذي حصلت فيه. فالشارع العربي عامة واللبناني بخاصة شكّل حلقة الضعف الكبرى في هذه المعركة خلافا لما حصل ويحصل في بقية شوارع وعواصم دول العالم حيث تمكّنت القضية الفلسطينية أن تتحوّل إلى قضية أمميّة، في حين لم تصبح قضية العرب المركزية. لقد فعلت فعلها السلبي اتّفاقيات التطبيع وتواطؤ النظام الرسمي العربي وقمع أنظمته للقوى اليسارية والتقدمية ولشعوبنا العربية ولانتفاضاتها وحركاتها النقابية والشعبيّة بما فيها انتفاضة الشعب اللبناني في 17 أكتوبر عام 2019، بينما بالمقابل كانت معظم الأنظمة العربية تدعم أو تغضّ الطرف عن القوى الطائفية المتطرّفة والظّلامية التي كانت استغلّت المؤسسات والجمعيات الدينية وجعلت من بعضها منابر لترويج أفكارها الإرهابية وتنظيم صفوفها.
إن ما حصل ويحصل من تحرّكات شعبية تضامنية مع الشعب الفلسطيني ومقاومته في بعض البلدان العربية كان بهذه النسبة أو تلك فعل مواجهة جدّية ضدّ أنظمة هذه البلدان وسلطاتها المتخاذلة والمتفرّجة على العدوان، بحيث كان حكّامها يمنعون الاحتجاجات ويقمعونها. ليس تفصيلا تأثيرات المعركة العسكرية المفتوحة على جبهة الجنوب اللبناني، فالجانب الأمني له تأثيره حيث أن الاعتداءات الصهيونية طالت العديد من المناطق في العمق اللبناني… ولا يجوز إغفال واقع الانهيار الشامل الذي يعيشه شعبنا اللبناني جرّاء نهب أمواله وودائعه الصغيرة وتعويضات العمال والموظّفين والمهنيّين وإفقارهم وفرض الضرائب غير المباشرة عليهم والإمعان في تهجير الشباب واستمرار الطبقات العاملة والمتوسّطة حتى الآن في تحمّل تبعات تراجع دخلها الحقيقيّ ومدّخراتها نتيجة التضخّم وانهيار سعر صرف العملة وعدم تصحيح الأجور. هكذا تطحن الأزمة الاجتماعية ومشاكلها اللبنانيين لجهة تراجع القدرة الاستهلاكية لهذه الطبقات، وعدم تمكّنها من الحصول على احتياجاتها من خدمات التعليم والسّكن والصحة والنّقل وسواها، فالهم المعيشي وتحصيل لقمة العيش اليومية تأخذ حيّزا كبيرا من اهتمامات هذه الفئات الشعبية. ولا نعفي اليسار بطبيعة الحال من المسؤولية عن هذا التراجع بحيث لم يتمكّن حتى الآن من بلورة مشروعه السياسي الوطني للتغيير الحقيقي رغم كلّ المحاولات التي قام ولا يزال يقوم بها حزبنا في هذا الجانب.
ونحن نرى أن النظام السياسي الطائفي في لبنان هو عدوّ المقاومة والحركة الشعبية والتمسّك به إضعاف للمقاومة وللتحرر الوطني والاجتماعي، فهو يلعب دورًا مزدوجًا: فمن جهة، يشكّل أداةً للهيمنة الإمبريالية على لبنان عبر بنية علاقات الإنتاج الرأسمالية التبعية، ومن جهة ثانية، هو أداة للاستغلال الطبقي الذي تمارسه البرجوازية المحلية بأطرافها كافة التي لا تزال تتمسك به. ورغم كل التجارب والإنجازات التي تحقّقت بتحرير الأرض بدون قيد أو شرط، فلم ننجح في عملية التغيير السياسي، أي مواجهة الإمبريالية ورأسماليتها المحلية التابعة لها، فهناك قوى مقاومة لا تزال تفصل بين التحرير والتغيير رغم التجارب الفاشلة والنّكسات، ونخشى ما نخشاه أن تتكرّر مثل هذه التجارب اليوم ولطالما نبّهنا ولا نزال ننبّه من مخاطره. من هنا نعود ونؤكّد على أهمية استنهاض الشارع اللبناني عبر مشروع سياسي واضح ينطلق من تغيير النظام السياسي الطائفي وتبعيته الرأسمالية لتحديد وظيفة الدولة وهويتها كدولة مواطنة وعدالة اجتماعية ومقاومة، الأمر الذي يوفر شروط الالتزام بالقضية الوطنية والقضايا الاقتصادية والاجتماعية ومحاربة الفساد والتغيير السياسي عامة عبر القوانين الانتخابية النيابية والبلدية على أساس النّسبية وخارج القيد الطائفي والأحوال الشخصية وسلطة قضائية مستقلة والحريات العامة وحقوق المرأة والتعليم الرسمي واستقلالية الحركة النقابية وسائر الحقوق الاجتماعية والثقافية والفنية. وفق هذه العناوين البرنامجيّة يناضل الحزب مجدِّدا دوره في تفعيل جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضدّ العدوان والاحتلال الصهيوني وفق ما أعلنته اللجنة المركزية للحزب في ندائها الذي أطلقته بعد عملية 7 أكتوبر، مشدّدا على مواجهة الطروحات الطائفية والمذهبية لدى بعض القوى السلطوية صاحبة نظرية “قوة لبنان في ضعفه” وأن “العين لا تقاوم المخرز” والتي تدعو للحياد وعزل لبنان وضرب انتمائه القومي وموقعه الوطني في الصّراع الدّائر ضدّ الامبريالية والصهيونية والرجعية، وهي طروحات تقسيميّة تستدرج ردود فعل من ذات الطبيعة وتتّخذ في الغالب شكل اصطفافات طائفية تعمل القوى المسيطرة في النظام السياسي على إظهارها وتشجيعها لتعزيز حضورها في التسويات التي تنتظرها وتراهن على نتائجها.

كيف تقرؤون تداعيات العدوان على مستقبل القضية الفلسطينية، وأوضاع المنطقة في ظلّ الاستقطابات الإقليمية والدولية الحاصلة؟

قد يكون الأفق القادم للحرب العدوانيّة على غزّة أكثر خطورة مع استمرار النهج الإجرامي وارتكاب المذابح بحق الشعب الفلسطيني عبر قرار نتنياهو باقتحام رفح، رغم وجود 1.1 مليون فلسطينيّ في هذه الرّقعة الجغرافيّة الصغيرة، وذلك بهدف تهجيرهم إمّا إلى مصر، أو عبر البحر، مستفيداً من الميناء العائم الذي تقيمه الولايات المتّحدة على شاطئ غزّة، ومن الضوء الأخضر الذي أعطته له باستمرار الحرب لتحقيق انتصار لا يزال يفتّش عنه حتى الآن، كي يندفع بعد ذلك باتجاه استكمال تنفيذ مشروع حكومته في الترانسفير الكامل للشعب الفلسطينيّ، وإقامة دولة التطهير العرقيّ، الدولة القوميّة الصهيونيّة، كهدف أوّل، فإذا ما تعذّر ذلك ولم يتحقّق بالتهجير، فالهدف الثاني هو استكمال إقامة دولة الفصل العنصريّ كما كان عليه الحال في دولة الابارتايد في جنوب أفريقيا. أمّا الكلام عمّا يسمّى “حلّ الدولتين” على لسان الرئيس الأميركيّ فهو لذرّ الرّماد في العيون، إذ لم يعد هناك من مقوّمات للدولة الفلسطينية على أرض الواقع، فالدولة الفلسطينية التي نراها هي دولة تتحقق بالكفاح والنضال المتعدّد الأشكال، دولة تأتي بالمقاومة وبالتحرير.
فالخطّة الأميركية واضحة في استهدافاتها، فهي ترى أن مستقبل كيانها الاستيطاني يتمّ من خلال إعادة مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني وتحقيق أمن الكيان الصهيوني عبر إمداده المستمر بشحنات الأسلحة المتطورة والذخائر وكل ما يلزم، وتشكيل فريق إقليمي من تركيا، السعودية، الأردن، قطر، مصر، الإمارات والأردن، مهمّته الإشراف على العملية السياسية والأمنية والإعمارية لما بعد حرب غزة، مع وقف المساعدات إلى الاونروا، لإلغاء صفة اللّاجئين عن الشعب الفلسطيني. وقد أعلنت الولايات المتحدة والعديد من الدول الحليفة لها تحويل المساعدات الإنسانية عبر قنوات أخرى بهدف خلق سلطة بديلة أيضا عن حماس في غزّة (إدارات محلية، مؤسسات دولية وجمعيات أهلية، و”عشائر”) تعمل تحت إشراف هذه الدول، مع إجراء تغييرات في قيادة السلطة الفلسطينية، وهو ما جرى عبر تشكيل حكومة جديدة تضمّ عناصر منفّذة للخطة الأمريكية ليتمّ تسليمها مواقع القرار الرئيسية، مع استئناف المفاوضات للإفراج عن الأسرى والمعتقلين على دفعات في ظلّ استمرار العدوان على غزّة والسعي لإخراج قيادة حماس منها أو تصفيتها، مقابل انسحاب جيش الاحتلال من القطاع. ما يعني أن “الدولة الفلسطينية الموعودة” في أحسن الأحوال، ووفق الخطة الأميركية تقوم على فبركة سلطة ودولة مرتهنة لواشنطن وتل أبيب وحلفائهما، فيتحقّق للعدو الصهيوني ما لم يستطع تحقيقه في الحرب على غزّة.
وعلى خطورة هذه الخطّة الأميركية تكمن أهمية الصمود البطولي والأسطوري للشعب الفلسطيني ومقاومته طوال الأشهر الستّ الماضية فالمعركة مستمرة وطويلة، وبقوة أكبر تصعيدا وتوسّعا بدون أن نُسقط من حساباتنا احتمال الحرب الشاملة، وهو ما يسعى إليها نتنياهو عبر الضّربات العدوانية التي يوجّهها وآخرها قصف القنصلية الإيرانية في سوريا وتدميرها وقتل من فيها من القيادة العسكرية لفيلق القدس.
كل ذلك يجري في ظلّ عدم وجود موازين قوى تفرض وقف إطلاق النار، وكسر الحصار الخانق على غزّة، ومشاركة أنظمة التطبيع العربي في هذه الجريمة، وصمت بعضها الآخر، فإن مسؤولية تاريخية تقع على عاتق كل أحرار العالم، وبخاصة على القوى الوطنية والتقدمية واليسارية العربية وهي تتمثّل بضرورة إثبات حضورها في هذه المعركة باعتبارها معركة تحرّر وطنيّ تستوجب استخدام كل أشكال النضال، بما فيها المقاومة المسلّحة، تحقيقًا لمتطلبات إسقاط الخطة الأميركية – الصهيونية، وخروج المقاومة الفلسطينية منتصرة في المعركة. وهذا يعني استنهاض دورها، وتوحيد طاقاتها، في مقاومة العدوان والاحتلال وكسر الهيمنة وفكّ التبعية بالترابط مع مواجهة نظم التبعيّة والتطبيع والقمع والاستبداد السياسيّ والاجتماعي، والمساعدة على تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية من خلال إصلاح منظّمة التحرير الفلسطينية وتوسيعها، وفق برنامج نضالي وإشراك كل الفصائل الوطنية الفلسطينية، كي تقود المواجهة وقيادة الصراع مع العدو، فلا حلّ أمام الشعب الفلسطيني إلا النضال المتعدّد الأشكال على درب التحرير من أجل حقّ العودة وإقامة الدولة الوطنيّة الفلسطينيّة، العلمانيّة والديمقراطيّة، لجميع المواطنين، على كامل التراب الوطنيّ الفلسطينيّ وعاصمتها القدس. ومن واجب اليسار العربيّ العمل على تأمين الدعم المتعدّد الأشكال للانخراط في العمل المقاوم مشاركةً ودعماً ووفق الظروف، ذلك أن تجديد حركة التحرّر الوطنيّ العربيّة، وحلّ أزمتها وأزمة قيادتها، لا بدّ أن يولد من رحم “مقاومة عربيّة شاملة”، آن أوان الاستفادة من ظروفها المتاحة على المستويين الوطني والقومي.

يحيي الحزب الشيوعي اللبناني هذا العام مائويته. كيف تنظرون إلى دور الحزب في ظلّ التحولات الجارية على مختلف الأصعدة؟

يصادف الرابع والعشرون من أكتوبر 2024، الذكرى المائوية لتأسيس حزبنا الشيوعي اللبناني. مائة عام من الكفاح المتواصل على مختلف الجبهات والساحات النضالية اختزل بها حزبنا تاريخ هذا الوطن، ورسم بدماء مناضليه وبعرقهم وجراحهم وتعبهم وعذابهم، عمالاً ومزارعين، طلاباً ومثقفين ثوريين، نساءً وشيباً وشباباً، خريطة هذا الوطن، الوطن، الذي أُريد له وظيفةً ودوراً ملحقاً بمصالح القوى الإستعمارية، وممرًّا لمشاريعها التّفتيتيّة والتقسيميّة المدمّرة منذ استقلاله المنقوص، فأرخت بظلالها على اللبنانيين نظامًا ارتكز على ميثاق طائفي مذهبي حكم حياة الشعب اللبناني حتى اليوم، مفجّراً قنابله الطائفية الموقوتة في كلّ محطّة تاريخية في وجه الحلم ببناء الوطن الذي نريد، وطن الإنسان، وطن المواطن، وطن العدالة، وطن المساواة، الوطن الحرّ والشعب السعيد، من أجل الدولة العلمانية الديمقراطية، على طريق بناء الإشتراكية كخيار نهائي ووحيد للخروج من جحر أزماتنا المتواصلة، ومن الحروب المدمّرة للبنى الإجتماعية والإقتصادية والسياسية لشعبنا، وفي مرحلة بلغت فيها أزمة الرأسمالية ذروة تفاقمها، وفقدت القوى الإمبريالية إمكانية التحكم بتناقضات نظامها الأحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة، ولم تعد قادرة على فرض سياساتها على العالم كما في السابق.
إن رؤيتنا للإحتفال بذكرى المائوية تتكوّن من قسمين. القسم الأول، هو الإضاءة على التاريخ النضالي للحزب منذ تأسيسه وتكريم تضحيات شهدائه وأسراه وجرحاه وسائر المناضلين ممّن رحلوا وقدّموا ما قدّموه من تضحيات، والقسم الثاني، هو التطلّع نحو المستقبل من أجل تحقيق الأهداف التي من أجلها قُدّمت التضحيات.
وقد تمّ وضع برامج إحياء المناسبة على أساس هذين القسمين، وفي خدمة المعركة المفتوحة في لبنان ضدّ النظام السياسي الطائفي وتبعيته وسلطته الفاسدة وفي مقاومة الاحتلال وتحرير ما بقي من أراضي لبنانية محتلة من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من بلدة الغجر، وربط هذه المعركة بالصراع الدائر على غير صعيد ضدّ الإمبريالية والصهيونية والرجعية، وستكون مائوية الحزب الشيوعي اللبناني مناسبة تعبّر فيها الأحزاب الشيوعية العالمية عن دعمها وتضامنها الأممي مع الشعب الفلسطيني ومقاومته من خلال اللقاء الذي تمّ إقرار عقده في بيروت بمناسبة المائوية.
وهناك برنامج واسع ومتنوع للمائوية تحت شعار: “مائة عام من النضال : للوطن، للتحرر، للإشتراكية”.
ويبدأ إطلاق هذا البرنامج في الأول من أيار في تظاهرة عمالية وشعبية في بيروت وفي الاحتفال بيوم الشهيد الشيوعي في 21 حزيران وفي 16 أيلول ذكرى انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ويختتم في 24 تشرين الأول مع لقاء الأحزاب الشيوعية العالمية والاحتفال المركزي الذي سيقام بذكرى المائوية، على أن يتخلل هذه المحطات نشاطات مختلفة في القطاعات ومنظمات الحزب في المناطق حيث تحتلّ فيها الندوات والنقاشات أهمية كبرى لتعميق البحث الفكري والسياسي والتنظيمي، في ظلّ التحوّلات الجارية.

الرفيق حنا، ماهي رسالتكم إلى الشارع العربي وقواه الثورية؟

رسالتي إلى الشارع العربي وقواه الثورية: هذا الزمان زمانكم. لا تدعوا الفرصة تفوتكم ولا الوقت يداهمكم. تقدّموا، تقدّموا فالهدف واضح: تحرّر شعوبنا العربية وبخاصة الشعب الفلسطيني، عبر تعزيز دور الأحزاب الشيوعية واليسارية والعربية وبقيادتها في مقاومة العدوان والاحتلال الأجنبي، وفي مواجهة نظم التبعية والقمع والاستبداد السياسي والاجتماعي وإقامة دول وطنية علمانية ديمقراطية مقاومة تفسح بالمجال أمام تحقيق الحلم الذي ضحّى من أجله الشهداء بحياتهم، إنه حلم الاشتراكية المحقّقة على هذه الأرض المضرّجة بدمائهم الذكية.

بيروت، في 6 أفريل 2024