الأمم المتحدة أنصفت أهوار العراق وإعتبرتها إرثاً طبيعيّاً للإنسانيّة


كاظم المقدادي
الحوار المتمدن - العدد: 5253 - 2016 / 8 / 13 - 19:22
المحور: الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر     

تكلّلت الجهود الخيرة الدؤوبة لنشطاء البيئة عراقيّاً وعالميّاً، بموافقة «منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم» (اليونيسكو) على وضع منطقة الأهوار العراقيّة ضمن لائحة التراث العالمي، بوصفها محميّة طبيعيّة دوليّة، ما يعني أن الهيئة الأمميّة تعتبر الأهوار إرثاً بيئيّاً للإنسانيّة بأسرها. اتّخذ القرار الذي شمل مدناً أثريّة عراقيّة، بالإجماع في مؤتمر الـيونيسكو الأخير،الذي عقد مؤخراً في اسطنبول.
وتتسم الأهوار وهي مجموعة مسطّحات مائيّة تغطي سهولاً وأراضي منخفضة في جنوب السهل الرسوبي العراقي، بأهمية بيئية كبيرة، إذ تقع عند التقاء نهري دجلة والفرات شمال مدينة البصرة، وهي تلامس الحدود الإيرانيّة في الشرق. ويبلغ إجمالي مساحتها قرابة 20 ألف كيلومتر مربع. وتنقسم الأهوار إلى مجموعات عدّة، تشمل المجموعة الواقعة شرق نهر دجلة، وأهمها هور الحويزة، وتلك الواقعة غرب دجلة وأهمها «هور الحمار»، إضافة إلى مجموعة أهوار الفرات التي تتألّف من أهوار صغيرة.

مزيج التاريخ والبيئة

سكن الإنسان الأهوار منذ فجر التاريخ، وعرفت بيئتها حضارة بشرية مميّزة قبل قرابة 6 آلاف سنة. وجاءت تلك المعلومات من الرُقَيْمات والألواح الطينيّة الموجودة فيها، وهي تشير أيضاً إلى أن سكان الأهوار هم من السومريّين والبابليّين الذين هم جزء من الحضارات القديمة في المنطقة العربيّة، كما عاصرت الحضارتان السومريّة والبابليّة نظيرتهما الفرعونيّة في بلاد النيل.
ويظهِر بعض الألواح الطينيّة من العصر السومري ملامح من الحياة اليوميّة في الأهوار. ويبيّن أن سكانها كانوا شبه رحّل، وأنّهم استوطنوا ضفاف الأهوار. وكذلك تكوّنت بيوتهم من القصب والطين وأوراق البردى. وتعيش في المنطقة أصناف فائقة التنوّع من الكائنات حيّة، كالطيور التي تشمل مايزيد على 80 نوعاً، إضافة إلى الأسماك والمواشي والحيوانات البريّة. وتشتهر الأهوار أيضاً بمحاصيلها الزراعيّة المختلفة، وتكثر فيها الأحراج والنباتات المائيّة.
تحوز الأهوار أهمية بيئيّة فائقة، إذ تؤمن طبيعتها مكاناً مناسباً لتجمّعات مهمة من أنواع الكائنات البريّة المستوطنة والمهاجرة، وهي معبر رئيسي للطيور والأسماك، ما يجعلها حلقة وصل في هجراتها بين القارات. وكذلك تمثّل الأهوار موئلاً غنيّاً يحفظ في جنباته أنواعاً حيّة مهدّدة بالانقراض.
وتؤثّر الأهوار إيجابيّاً في البيئة، كما تساهم في توازن النظام البيئي البحري في الخليج العربي. وتساهم في الحدّ من التصحّر. وتحوز أهميّة كبيرة في الزراعة، كما تعتبر مصدراً ثريّاً للثروة الحيوانيّة والنباتيّة، خصوصاً ما يعتمد منها على ضرورة توافر الماء في شكل دائم، كمحصولي الرز وقصب السكر.
وتعتبر الأهوار أكبر نظام بيئي للمسطحات المائيّة في الشرق الأوسط، وتعد من أغنى مناطق العراق بالتنوع البيولوجي، ما يعني أنها خزان ضخم للتنوّع الجيني والوراثي المتّصل بالكائنات الحيّة التي تحتضنها.

كوارث السياسة

خلّف مخطط تجفيف الأهوار الذي سار به نظام صدام حسين، وكذلك حروبه العبثيّة، آثاراً كارثيّة في بيئة الأهور وسكانها والكائنات الحيّة فيها، علماً أنها كانت تزوّد العراق بما يعادل 60 في المئة من ثروته السمكيّة. وفي ذلك الإطار، يؤكد الأستاذ الدكتور نظير الأنصاري أنّ العمليات العسكريّة في الأهوار تسبّبت بحدوث تلوث كبير فيها، خصوصاً إثر الذخائر العسكريّة والغازات السامة، إذ حرِم ثلثا الأهوار في العام 1993 من المياه، كما تقلّصت مساحتها إلى 10 في المئة مما كانت عليه.
في سياق متّصل، تسبّبت عمليات التنقيب عن البترول في جنوب «حقل الرميلة» النفطي العملاق وشماله (خصوصاً منطقة «هور الحمار») في تجفيف مساحة تقدّر بقرابة 500 كيلومتر مربع. وبلغ الرقم عينه 150 كيلومتراً مربعاً في المساحات القريبة من «حقل القرنة»، و300 كيلومتر مربّع في المناطق القريبة من «حقل مجنون» الشهير. وبذا، تحوّلت مساحات مائيّة شاسعة أراضي قفراً، وعمّ الخراب، وتدهور الإنتاج الزراعي، وانخفض عدد قطعان البقر والجاموس، كما تردّت الحال الصحية والمناعيّة للأعداد المتبقية من الحيوانات تحت تأثير نقص المياه والعلف الأخضر. وانقرضت أنواع كثيرة من الحيوانات والنباتات، كما هاجرت أنواع عدّة من الطيور كالبجع والنوارس. وانعكست تلك الأمور وغيرها بصورة سلبيّة على مناخ الأهوار، إذ اتّسعت ظاهرة ارتفاع حرارة الجو في عدد من مدن الجنوب العراقي التي كانت المسطحات المائيّة الواسعة في الأهوار عاملاً مهماً في تلطيفها، إضافة إلى انخفاض نسب التبخر والرطوبة. وكذلك تغير نظام الأمطار. وانتشرت الترسّبات الملحية في التربة التي تدهورت مواصفاتها، وتفكّكت مُكوّناتها، ما سهّل زيادة هبوب العواصف الترابيّة.

إحباط في العراق «الجديد»

أخطر ما أصاب الأهوار هو تهجير مئات الآلاف من سكّانها، إضافة إلى مقتل واختفاء عشرات الآلاف منهم على يد الأجهزة القمعيّة لنظام صدام. وحاضراً، يقطن الأهوار قرابة 200 ألف نسمة، بعد أن كان سكانها قرابة مليون نسمة.
عقب غزو العراق في عام 2003 وطيلة عقد من الزمن، لم تحظَ الأهوار بالاهتمام الذي طالما ارتجاه أهلها، لا من المحتل ولا من الحكومات العراقيّة المتعاقبة. وأدّى ذلك إلى إحباط واسع، ترافق مع شلل في المبادرات الدوليّة التي حاولت تجديد الأهوار وإنعاشها. وحاق الفشل ببرنامج الأمم المتحدة لـ «إعادة تأهيل الأهوار العراقيّة»، في العام 2004، الذي سعى إلى إعادة المياه إلى الأهوار مع تحسين التحكّم في إدارتها، وتوفير المياه الصالحة للشرب، ومعالجة المياه العادمة وغيرها. ولم يسلم من ذلك المسار القاتم مجموعة من حملات التوعية والتثقيف التي مولتها حكومة اليابان و «الوكالة الكنديّة للتنمية الدوليّة»، ووزارة البيئة الإيطاليّة، و «الوكالة الأميركيّة للتنمية الدوليّة»، وهي حملات رافقت البرنامج الأممي المذكور. وكذلك لوحِظ أن ذلك البرنامج الطموح اصطدم بالتلكؤ والتعامل غير المسؤول من المسؤولين المتنفذين والفاسدين. واختنق البرنامج تحت ضغط مشاكل متنوّعة، ما فوّت فرصة كانت مواتية في شأن الاهتمام الدولي بالأهوار، كما «تبخّرت» أحلام إعادة تأهيل الأهوار وإنعاشها.

تحت رقابة عالميّة

تغيّرت صورة الاهتمام الدولي بالأهوار العراقيّة في مؤتمر الـ «يونيسكو» الذي استضافته مدينة إسطنبول التركيّة أخيراً.
وتحقّق للعراق مكسب مهم تمثّل في قرار يلزم منظمة الـ «يونيسكو» بحماية مناطق الأهوار والمدن الأثريّة، مع تطويرها وضمان استدامتها. ويشمل ذلك الأمر توفير المياه اللازمة لإدامة التنوّع البيئي في الأهوار، وتوفير خبرات وأموال لصون الجمال الطبيعي للأهوار والحفاظ على تنوّع الحياة الطبيعيّة والحيوانيّة. كما شمل القرار ضرورة العمل على تشجيع عودة سكان الأهوار إليها.
وبمقتضى القرار، أصبحت تلك المنطقة خاضعة لرقابة عالمية فلا يحق للدول والحكومات التجاوز عليها. كذلك وضع القرار الحكومة العراقيّة أمام التزامات كبيرة لتنفيذ ما تعهدت به دولياً.
واستناداً إلى ذلك، انطلقت أصوات خيرة وحريصة، تدعو السلطات التشريعيّة والقضائيّة والتنفيذيّة في العراق، إلى تشكيل لجنة عليا لمتابعة ملف الأهوار. وحضّت على البدء بمشروع طموح واسع، بالاستعانة بالخبرات العالمية، لبناء بنية تحتية متطوّرة في الأهوار، مع الاهتمام بالمواصلات، والمناطق السياحيّة، وأماكن الإقامة، ومراكز الخدمات، إضافة إلى تعزيز الأمن فيها.
وكذلك حذّرت تلك الأصوات من امتداد أيدي الفاسدين إلى المشاريع القادمة، مع ضياع فرصة نادرة للحصول عليها. وفي ذلك السياق، حذّر د.حسن الجنابي، المسؤول عن ملف يتناول الأهوار والمواقع الأثريّة من إمكان إزالة تلك المواقع العراقيّة من التصنيفات العالميّة، في حال عدم تطبيق برنامج إداري كفوء يتطابق مع المعايير المعتمدة دوليّاً في التعامل مع تلك المواقع. وفي السياق عينه، من المتوقّع أنّ يناقش «ملف الأهوار» في منظمة الـ «يونيسكو» العام المقبل للتأكد من مدى التزام العراق بالمتطلبات التي تضمّنتها قرارات تلك المنظمة في شأن الأهوار ومجموعة من المدن الأثريّة العراقيّة.

هل تفي الحكومة العراقيّة بالتزاماتها، أم تضيّع الفرصة، كما حدث سابقاً، فتحل بالعراق خسائر كبرى متنوّعة؟

• د. كاظم المقدادي، أكاديمي عراقي مقيم في السويد