لا يوجد في هذا الزمان الحرج معطى سياسي او اجتماعي واحد على الارض الفلسطينية الا ويؤكد ضرورة الحوار الفلسطيني الداخلي بهدف التوصل الى "قيادة وطنية موحدة" للانتفاضة. ولم يعد بالامكان السيطرة على ديناميكية العلاقة بين الحياة اليومية والمقاومة، وعلى العلاقة بين المقاومة والسياسة دون توفر اطار فلسطيني وحدوي مركزي يتحكم بايقاع النضال ويضع استراتيجية النضال بناء على برنامج حد ادنى سياسي متفق عليه.
هذه ليست قضية رفاهية، اي انه بالامكان الاستمرار معها وبدونها، وهذه ايضاً ليست قضية تكتيكية بمعنى انها تتم كوسيلة لأهداف خارجية من نوع تخويف امريكا واسرائيل من عواقب محاصرة القيادة الحالية.
لا تتوفر لدى القيادة الفلسطينية الحالية وسيلة لارضاء الولايات المتحدة ما دامت اجندة الولايات المتحدة في المنطقة تلتقي مع اليمين الاسرائيلي. كما ان تقزيم الحوار الفلسطيني- الفلسطيني كأداة لاحراج اسرائيل هو تفريغ لهذا الحوار وضروراته.
ويُسأل السؤال كيف بالامكان التوفيق بين الحالة الفلسطينية لارضاء امريكا بواسطة اقامة جهاز امن فلسطيني مركزي يسهل التحكم به في "المعركة ضد الارهاب"، ويطالب اسرائيل ان تعطيه حرية الحركة والعمل، وبين الحوار الفلسطيني الفلسطيني؟
لا يمكن التوفيق بين الامرين. وازاء اعتبار ارضاء امريكا استراتيجية لا يبدو الحوار الا تكتيكياً، ولو كان الهدف الامريكي هو وقف العمليات الاستشهادية لقامت هي بدفع الفلسطينيين بهذا الاتجاه، لأن الوسيلة الوحيدة لوقف هذه العمليات يتم التوصل اليها في اطار الجهد المخلص لوضع استراتيجية نضالية فلسطينية موحدة تشمل الاتفاق على ادوات النضال.
ولا يمكن ادانة هذه الاداة دون وخارج طرح استراتيجية نضالية موحدة. صحيح ان الاستشهاد ليس استراتيجية ولكن ادانتها ايضاً اقل بكثير من ان تعتبر استراتيجية. لقد اثبتت التجربة ان تيارات المقاومة المختلفة تحترم التزاماتها تجاه الوحدة الوطنية اذا تم الاتفاق عليها في هذا الاطار، وان هذا هو الطريق الوحيد اصلاً لكي تلتزم هذه القوى بوسائل نضالية محددة دون غيرها. صحيح ان الحوارات بين التيارات الفلسطينية المختلفة لا تجري بصيغة السلطة والمعارضة وانما تشارك فيها حركة فتح الى جانب بقية الحركات، ولكن لا قيمة لهذا الحوار اذا لم تحترم السلطة الوطنية الفلسطينية نتائجه. وبهذا المعنى يجب ان تقوم الى جانب السلطة الوطنية الفلسطينية قيادة وطنية موحدة، وكنا نتمنى لو قامت في اطار منظمة التحرير الفلسطينية الذي يجب ان يتسع ليشمل كافة الحركات.
ولكي يكون الحوار حقيقياً وجاداً يجب ان يتناول اساليب النضال في اطار البرنامج السياسي. اي يجب ان يتم التعامل مع تحديد اساليب النضال بناء على البرنامج السياسي الموحد بالحد الادنى المقبول على كافة التيارات، فالتيارات السياسية الفلسطينية ليست خصوماً تقوم بتوقيع هدنة فيما بينها من منطلقات سياسية متناقضة. ولا يمكن لنتائج هذا الحوار ان تكون ملزمة اخلاقياً ومعنوياً الا اذا انطلقت من الوقوف على نفس الجانب من المتراس ضد الاحتلال والانطلاق من نفس المسلمات السياسية لتحديد اساليب النضال.
ويعزز الوصول الى نتائج سياسية متفق عليها بالحوار موقع وموقف السلطة الوطنية الفلسطينية امام المحاولات الامريكية والاسرائيلية لتهميشها. ترغب الولايات المتحدة بوجود سلطة فلسطينية ضعيفة نحو الخارج ترضى باملاءاتها واملاءات اسرائيل إذا امكن وقوية نحو الداخل بحيث تقوم "بمحاربة الارهاب". وهذا هدف استراتيجي، خاصة في ظروف تحرر وطني، لا يتم فيها التمييز بين الداخل والخارج، فالمجتمع وقواه يجب ان تكون مجندة لصالح معركة التحرر الوطني واي محاولة للمس بالوحدة الوطنية تدفع باتجاه الحرب الاهلية المعاكس للهدف الاستراتيجي ويضعف السلطة داخلياً وخارجياً.
الحوار الفلسطيني الداخلي يقوي السلطة الوطنية داخلياً وخارجياً ويفوت امكانية التآمر عليها. فالاتفاق هنا لا يكون حول قيادة او شخصية او مشروعية تاريخية فحسب وانما حول برنامج سياسي مقبول على كافة التيارات في المجتمع الفلسطيني. هنالك حاجة ماسة لانجاح هذا الحوار ودفع كافة القوى الاقليمية ذات العلاقة بقوى فلسطينية لتعزيز هذا الحوار. لا يوجد طريق اخر. لقد حاولت دول عربية ان تتوصل الى تفهم امريكي لاحتياجاتها عبر العلاقة الثنائية وابداء توازن في العلاقة مع اسرائيل تجاه العرب والفلسطينيين، ولكن الموقف الامريكي بعد هذه الاتصالات اصبح اسوأ مما كان. وهو يعتبر القيادة الفلسطينية "العائق والعثرة امام السلام".
وهو يختلف مع اسرائيل بضرورة اجراء اتصالات مع هذه القيادة تكتيكياً. فهو يجزم بالتجربة ان اي محاولة لتغيير القيادة الفلسطينية يجب ان تتم بتعاون من قبل القيادة ذاتها، اي ان القيادة الفلسطينية وبواسطة ديناميكية الاسترضاء سوف تضطر الى قبول اقتراح تلو الاخر دون مقابل واهمة بذلك انها ترضي الامريكان الى ان تهمش ذاتها بذاتها وتخلق بديلاً بذاتها ولذلك يحافظ الامريكان على حياة القيادة، لكي تكون قابلة نقيضها القادم من داخلها.
ولن تدعم امريكا اي انتخابات ولن تسمح اسرائيل بانتخابات قبل ان تتمخض هذه العملية عن بدائل فلسطينية في مواقع اساسية حصلت على شرعيتها من القيادة، وقبل ان تضرب الحركات المعارضة للتسوية بالشروط الامريكية. لن تطالب امريكا بانتخابات تخسرها.
مقابل ذلك فان الحوار الفلسطيني الداخلي يتحكم بايقاع النضال ويمكن القيادة السياسية من توجيه رسائل سياسية واضحة للصديق والخصم، ثم انه بالوحدة الوطنية تنجز السلطة الوطنية تضييق هامش المؤامرة عليها بدون الاسترضاء وتعريض المجتمع للحرب الاهلية. وهو ايضاً يضع في ايدي الدول العربية استراتيجية ووضوح رؤيا تتجاوز استرحام امريكا وتوسلها الذي لم يجلب الا نتائج عكسية حتى الان.
كما تمنح الوحدة الوطنية الفلسطينيين امكانية المطالبة بالانتخابات والمبادرة اليها واجرائها في عملية تشبه الى حد بعيد ممارسة حق تقرير المصير. تلون الوحدة الوطنية كل شيء بلونها وتخضع الخطوة السياسية مهما كانت متواضعة للهدف السياسي المشترك وتحولها بالتالي الى اداة نضالية. ما يبدو نضالياً قد تكون له نتائج معكوسة خارج الوحدة الوطنية، وما يبدو تكتيكياً وتراجعياً قد يكون نضالياً جداً اذا تم بشكل مدروس وفي اطار الوحدة الوطنية.
المطلوب انجاح الحوار الفلسطيني-الفلسطيني فوراً، انه اكثر اهمية ومصيرية من الحوار الفلسطيني- الامريكي.
*عضو البرلمان الإسرائيلي "الكنيست"، رئيس التجمع الوطني الديمقراطي- الناصرة.