أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ابراهيم تيروز - صورة الثقافة الحسانية بين الخطابين الاعلاميين: المخزني و الانفصالي















المزيد.....


صورة الثقافة الحسانية بين الخطابين الاعلاميين: المخزني و الانفصالي


ابراهيم تيروز

الحوار المتمدن-العدد: 1977 - 2007 / 7 / 15 - 10:43
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يؤكد مشيل فوكو على نوع من التداخل بين مفهومي السلطة والحقيقة، غير أننا نجده بشكل من الأشكال يغلب حضور السلطة على حضور الحقيقة، بل يجعل من الحقيقة في مجمل تجلياتها مجرد إملاء من إملاءات السلطة إذ يقول : "الحقيقة لاتوجد خارج السلطة ولاتخلو من سلطة .. إنها من هذا العالم تنتج فيه بفعل إكراهات متعددة ولها في هذا العالم سلطة ذات تأثير منتظم"[1]، وإذا تابعنا قول فوكو سنجده يوضح كيف تتدخل السلطة السياسية والاقتصادية داخل المجتمع الغربي في عملية انتاج أو إعادة إنتاج الحقيقة الملائمة والمنتقاة بمعايير هذه السلطة، لكن بالرغم من تلك الاشارة الى هذا التداخل الجدلي خصوصا في القول الذي أوردناه أعلاه لانجده يوضح كيف يمكن أن تصبح الحقيقة سلطة، وبمعنى آخر أن تصبح هذه الأخيرة تابعة للأولى. فإذا كانت السلطة هي تلك العلاقة الممتدة بين جهتين أو طرفين يمارس أحدهما فعل الاكراه الذي يقابل بالخضوع من الطرف الثاني، فإن من الأكيد أن الحقيقة ضمن هذه العلاقة ستكون في اتجاه خدمة الطرف "السيد" ضمن علاقة السلطة، لكن من بين شروط قيام علاقة السلطة وجود نوع من التواطؤ القائم على الجهالة والذي يقول عنه بيير بورديو:"لا تحكم لغة السلطة وتأمر إلا بمساعدة من تحكمهم أي بفضل مساهمة الآليات الاجتماعية القادرة على تحقيق ذلك التواطؤ الذي يقوم على الجهالة"[2] او قوله:"السلطة الرمزية هي سلطة لا مرئية ولا يمكن ان تمارس الا بتواطؤ اولئك الذين يابون الاعتراف بانهم يخضعون لها بل ويمارسونها"[3]، لكن ما أن تنقشع هذه الجهالة ولو لدى فئة محدودة حتى تأخذ هذه الفئة في مناوشة السلطة القائمة ويصبح بمقدور المعرفة أن تكون مصدرا حقيقيا للسلطة، بل تصبح الحقيقة أما للسلطة. لكن لاينبغي أن نتناسى هنا بشكل طوباوي أن الأمر رهين بإرادة هذه الفئة ورهين مرة أخرى -وفي مقابل ذلك- بقدرة السلطة على كل من الجذب (الاذماجي) والنبذ (الاقصائي). هذه الكلمات الأخيرة تشي بضرورة العودة الى مفهوم آخر هو القوة. فاذا كانت السلطة هي تلك الآلية المعول عليها لترسيخ وفرض حقيقة ما ومحاربة غيرها، فإن الحقيقة من شأنها دائما أن تقوي وتدعم حضور سلطة ما وأن تحارب ما عداها. وبهذا الصراع الجدلي تنمو القوة بشكليها الرمزي و المادي عبر التاريخ، غير أن هذا النمو ليس أبدا بالنمو المطرد والتزايدي بل هو مجرد انكشاف مستمر لإمكانات كانت مغفلة، ويعود السبب في ذلك الى كون هذا الصراع الجدلي تقوده ذوات بشرية يختلف تبصرها وتختلف إرادتها عبر الزمان والمكان، وهكذا تصبح "القوة" متعينة ومجسدة ضمن المجتمعات والفئات التي عرفت كيف توجه دفة هذا الصراع الجدلي في اتجاه وأفق اكتمال القوة وليس الارتهان لما هو ظرفي أو مصلحي أو جزئي قد يضيع عليها ما هو أفضل وأضمن...
انطلاقا من هذه الأرضية النظرية أود الخوض في مسألة هي من أمهات المعضلات الراهنة، والتي يشكل الوعي اليقظ بها على الأقل شرطا ضروريا من شروط انقشاع وضعية التواطؤ القائم على الجهالة التي ذكرناها سالفا، وإحلال تواطؤ واعي و استراتيجي ينشد في افقه البعيد اكتمال وتعين القوة محليا و وطنيا. المعضلة التي أود المساجلة فيها هي معضلة تدبير الشأن الثقافي وتضاؤل وانطفاء قوى التجديد والإبداع، وباستعمال واضح لمفهومي الحقيقة والسطلة سنقول:غلبة حقيقة السلطة على سلطة الحقيقة، وإذا كان لا يسعنا هنا أن نبقى في سماء التجريد هاته حتى نستطيع أن ندلل على هذا الحكم، فإنني سأقصر حديثي هنا على الشأن الثقافي الحساني الصحراوي في أفق اعتباره ماسماه "ماكس فيبر" بالنمط المثالي (l’idéal type (الذي يمكن أن نقيس عليه وأن نقرأ من خلاله التحول الثقافي العربي ككل، خاصة وأن الثقافة الحسانية الصحراوية حديثة العهد في انتقالها من نمط بكر يرتبط بموروث تغلب عليه البداوة إلى ما يمكن أن نطلق عليه بحذر التدبير المؤسساتي. ولاشك ستحاصرنا هنا مجموعة من الأسئلة الإشكالية: أي ثقافة نملك؟ وأي ثقافة نريد ونطمح ؟ وأي ثقافة نستطيع؟ ما هي القوى المتدخلة في الدائرة الثقافية الحسانية ؟ و ما المنطق الذي يتحكم في تقدمها و تأخرها أو حركتها عموما؟ لاشك أن معالجة هذه التساؤلات ليس أبدا بالأمر الهين لكننا نزعم أن هذه الورقة خطوة ما في هذا الاتجاه.
1- الصورة الراهنة للثقافة الحسانية :
أكيد أن تشخيص أوضاع الثقافة الحسانية المحلية لن يخلو من استصدار الأحكام وإلصاق النعوت والصفات. تلك الأحكام وتلك النعوت ستكون دوما مملاة من منظورات تسهل موقعتها وتحديد انتمائها الإيديولوجي و من ثمة تبين محدوديتها.لهذا سأختار منذ البداية تحديد المنظور الذي سأعتمده في هذا التشخيص، والذي سأموقعه ضمن خانة السلب في مقابل خانة الإيجاب التي يبدو أن مختلف الأصوات التي أريد لها أن تملأ فضاءنا الثقافي ضجيجا تندرج داخلها، وحتى تلك الأصوات المتعارضة منها. أقصد هنا بالضبط الصوت الرسمي المخزني والصوت الرسمي الانفصالي، فكلا الصوتين يميلان إلى مغازلة الثقافة الحسانية المحلية واستجداء ودها. ولهذا السبب أعتقد أن حركة سلب جديرة، إزاء مد الإيجاب هذا، ربما ستمكن قارئنا من أن يخطو خطوة تركيبية إلى الأمام لعلها تكون أكثر اتساعا وأشد عمقا...
ا- الثقافة الحسانية من خلال الإعلام المخزني :
بداية أود أن أوضح هنا أن كلمة المخزني إنما أردت أن أوظفها لاعتبارين أساسين، يتمثل الأول في أنني سأقصر حديثي على صورة الثقافة الحسانية في الإعلام البصري المغربي الخاضع كليا لوصاية الدولة، وثانيا لأن واقع هذا الإعلام يؤكد بالفعل هذا النوع من التدبير المخزني خاصة فيما يتعلق بالقناة الأولى وسليلتها الجهوية.
وحتى لايبدو من جهة أخرى أن الأمر يتعلق بنوع من الخلط حيث توجهت نحو صورة هذه الثقافة في الإعلام بدل تسليط الضوء عليها مباشرة. فأود أن أورد هنا مقولة ل "غاي ديبور" صاحب كتاب مجتمع المشهد أو مجتمع الاستعراض حيث يقول "عندما يتغير العالم الواقعي ويصبح صورا بسيطة، فإن هذه الصور البسيطة تصبح هي الكائنات الواقعية"[4]، ويعني هذا الكلام أن الواقع لم يعد هو الأساس الذي تستقى منه الصورة بل صارت الصورة هي الأساس الذي يحاول الواقع محاكاته. و أكثر من ذلك أصبح الواقع شاحبا وأقل إغراءا من الواقع الذي تنقله لنا الصورة الإعلامية. غير أن هذا القول الأخير ربما يصح في حق تلك القنوات التي تجيد مهنتها على اعتبار أنها مشروع اقتصادي تنافسي، وهو ما لا يصح حتما إزاء الصور الشاحبة والباهتة التي تقدمها لنا القناتين سالفتي الذكر، ربما لأنهما تمثلان ريعا إعلاميا بلغة الاقتصاد، حيث تنشط كل أشكال المحسوبية والزبونية وما يجران معهما من أوبئة إعلامية... لقد كان بإمكان هذه الأداة الإعلامية أن تكون مصدر اجتذاب حقيقي لمقاومة التيار الإنفصالي. لكن يبدو أن الشروط الموضوعية التي تفسح هامش مرونة العمل الإعلامي وحريته داخل دولة تقليدانية ليست هي نفسها بالنسبة لجبهة تزعم التحريض الثوري والانتفاضة...
يبدو أن الإعلام المغربي في عمومه يعادي ظهور الطاقات المبدعة الحقيقية وما يجعلني أرجح هذا القول، هو أن المجال الإعلامي هو مجال لصناعة الكاريزمية لمختلف المنتجات المادية والبشرية، فمن الطبيعي وفي ظل دولة تقليدانية لازال فيها الإعلام قطاعا ريعيا وحكرا على السلطة أن يكون مقصورا على صناعة كاريزمية السلطة وللأسف بشكل تقليدي. وهذه المعاداة للطاقات المبدعة هي ما سأسميه بظاهرة الإخصاء الثقافي وكان إعلامنا يعمد دوما إلى تتويج الخصاء والى تخليده وجعله دائم الظهور، إعلاميونا أنفسهم يتم إظهارهم ككائنات منهزمة وكأنما أريد منها إشاعة روح الانهزام، ولنا أن نقارن بهذا الصدد بين صورهم وصور نظرائهم في قنوات أخرى كالجزيرة على سبيل المثال، لنلاحظ أي انطباع سنقرأ من صورة وصوت الطرفين. ولنلاحظ مثلا مدى هيمنة الأغنية الموريتانية على الوصلات الغنائية بالقناة الجهوية وما يعنيه ذلك من تهميش لمبدعي المنطقة...
ربما مرة أخرى أطلت في الحديث عن صورة الإعلام نفسه بدل الصورة التي يقدمها عن الثقافة الحسانية المحلية، ولكن يقال ذاك الشبل من ذاك الأسد وهذه الصورة التي يقدمها الإعلام المغربي التلفزيوني عن هذه الثقافة وغيرها من الثقافات المغربية _الأصيلة والتواقة الى الإبداع والى التوحد الفعال وليس المفعول به_ تعكس حقيقة هذا الإعلام نفسه ووظيفته الخفية.
الثقافة الحسانية المحلية في هذا الخطاب الإعلامي تكاد تختزل إجمالا في التراث وفي الماضي أما الحاضر والمستقبل فهو الثقافة المخزنية الرسمية المتسمة بمسوح حسانية... يركز هذا الخطاب على التأكيد على ضرورة الحفاظ على هذا التراث وعلى تخليده، في حين إنما يعمل في الغالب الأعم على تحنيطه في صور ماضوية طواها الزمان ونساها، أما أن يصبح هذا الفضاء السمعي البصري مجالا لتنافس حر و نزيه وخلاق يسهم في تطوير هذا الموروث وجعله مواكبا لأسئلة الحاضر و لإنتظارات المستقبل، فذلك هو ما يمثل اللامفكر فيه أو المغفل ضمن هذا الفضاء.
الثقافة الحسانية باتت بالفعل مختزلة أيما اختزال ضمن هذا الخطاب وتكاد تحدها مفردات محدودة: الدراعة ـ اللحاف ـ الشاي ـ الإبل ـ الخيمة ـ الهول... تلتحم فيما بينها لتشكل صورة نمطية عن حاضر هذه الثقافة وماضيها، وكأن الأمر يتعلق بإغراء سائح من السياح، أما أن يكون هذا الخطاب الإعلامي تلك المرآة الحقيقية، التي تكتشف من خلالها منظومة الثقافة الحسانية المحلية نقاط ضعفها وقوتها في الآن نفسه، عن طريق التشريح العلمي (العلوم الإنسانية عموما: علم النفس ـالاجتماع ـ الانثربوبوجيا ـ العلوم السياسية...) وعن طريق التواصل الجاد مع المشاهد علما وفنا وإبداعا فذلك هو الغائب الأكبر.
صورة الثقافة الحسانية المحلية إذن مختزلة ومفككة كما لو أريد لها أن تكون مجرد بطاقة بريدية يقتنيها المشاهد السائح والعابر في حين نحن مقيمون هنا وهمومنا مقيمة معنا ، وعاداتنا وتقاليدنا بسلبياتها لم تعبر أو تزل بعد.
الخطاب الإعلامي المنسوب للدولة إذن يبدو أنه غير مؤسس على فلسفة حقيقية للنهوض بالثقافة المغربية ماعدا اخصاء مختلف الأشكال الثقافية المغربية وتوظيفها كأثاث فولكلوري لتزيين حواشي الثقافة الرسمية( لما تبديه من غرائبية واختلاف على مستوى الشكل، أما المضمون الموحد فهو مغيب). ونقدي هنا ليس نقدا أخلاقيا محضا بل نقدي هنا في الأساس مادي أو اقتصادي إن شئنا القول فالأمر يتعلق برأسمال رمزي- إذا ما استعملنا لغة بورديو - يتعرض للهدر والتآكل وأعتقد فيما أعتقد أن بالإمكان إيجاد قواعد لعبة ثقافية جديدة كفيلة بتحويل هذا الهدر إلى استثمار يعود بالنفع على الفاعلين وعلى المنفعلين، وتوفر بالأحرى شروط استمرارية أطول وأفضل...
ب- الثقافة الحسانية المحلية في الخطاب الاعلامي السمعي الانفصالي:
على النقيض من الصورة المنهزمة التي يقدمها الإعلام البصري المغربي، نجد إعلام الجبهة يقدم صورة وردية عن الثقافة الحسانية، بل يعتبرها ثقافة أمجاد وثقافة بطولات، ليغازلها باستعمال وتر آخر إضافة الى وتر التراث الأصيل الذي يقتصر عليه الإعلام المغربي، بل أكثر من ذلك يحاول إعلام الجبهة تحويل تمايز الثقافة الحسانية المحلية عن باقي المكونات الثقافية المغربية إلى عقيدة فاشية يضمن من خلالها استقطابا أكثر فاعلية لتوجهه السياسي. ويبدو بالفعل أن إعلام الجبهة قد نجح على مستوى الأغنية الحسانية في شد إنسان المنطقة إلى منتوجه. لا نملك هنا إلا أن نتساءل كيف يملك شباب مخيمات تندوف كل هذا التألق والتفوق فيما يخص الأغنية الحسانية على نظرائهم داخل المدن، حتى باتت الأغنية القادمة من تندوف النموذج الذي تعمل الفرق الغنائية في المدن على محاكاته وتقليده. لاشك أن المعاناة داخل مخيمات اللجوء هي السر في هذا النفس الإبداعي الدافق، لكنه نفس مستلب بشكل متقن للغاية من طرف توجهات الجبهة السياسية، ناهيك عن أشكال التهميش و الإقصاء التي قد يواجه بها إذا ما تضمن أي نقد أو تشكيك في هذه التوجهات أو في خدمتها لتوجهات أطراف خارجية. لقد نجح إعلام الجبهة في إظهار الثقافة الحسانية في صورة ممتلئة وكفيلة بتجييش وجدان الشباب، عكس الإعلام المغربي الذي نجح في إظهار الثقافة في صورة مفرغة خالية من أي مضمون تثويري وكفيلة ببعث الفتور والبرود الانفعالي، وحتى نشخص هذه الصورة أكثر لنتوقف عند البيان الذي عملت الجبهة على توجيهه إلى شباب المنطقة ويتعلق الأمر بظاهرة الهجرة السرية، حيث نلاحظ كيف قزمت هذه الظاهرة الإجتماعية بأن عزتها إلى أسباب سياسية محضة يتحمل النظام المغربي المسؤولية عنها. في حين أن الملاحظ الفطن لهذه الظاهرة لا يسعه إلا أن يقف على تجدر هذه الظاهرة واتساعها لتشمل ليس فقط الشباب العاطل والمضيق على حريته الاقتصادية والسياسية، لتشمل شرائح أوسع وأعرض بل يمكن القول أن الحرﭕﮔ أصبح المنطق الدينامي لمجتمع برمته[5]، حيث يشمل مختلف مجالات الحراك الاجتماعية الداخلية، كالمجال السياسي والاقتصادي والفني والعلمي وهلم جرا ( الحرﭕﮔ الدراسي/ الحرﭕﮔ إلى البرلمان من طرف مخربي الاقتصاد الوطني....) ما يهمنا هنا هو أن خطاب الجبهة إنما يستغل اختزال هذه الظاهرة في بعدها السياسي لخدمة أهدافه في التجييش الإيديولوجي، بدل مقاربتها تلك المقاربة العلمية التي ترجح صوت العلم والمنطق على صوت العاطفة الانفعالية. بل إن اعتناق نسبة ليست هينة من شباب الأقاليم الصحراوية لإيديولوجيا الانفصال، لا يعدو أن يكون شكلا من أشكال الحرﭕﮔ السياسي الداخلي فبدل الانخراط السياسي الفاعل في هموم المنطقة داخل الهياكل السياسية والمدنية المتوفرة داخليا، اعتنقت هذه الشريحة أوهام وأحلام الجبهة الوردية معوضين الفعل الواقعي بالحلم الوهمي، الذي حتى وإن تحقق فإنما سيعيد إنتاج نفس الأوضاع ونفس المعضلات و بشكل أسوأ. ذلك أن المعول عليه هو الثروات الطبيعية المحتمل وجودها بالمنطقة و الأدهى أن نجاح اسثتمارها والاستفادة منها رهين بالثروة البشرية وفي حال غيابها لن تكون إلا ذلك السبب الكافي لمزيد من الإستهداف الخارجي ومزيد من الأطماع الخارجية.
إن الصورة التي تحاول الجبهة تقديمها عن الثقافة الحسانية شبيهة بالبالون الممتلئ ولكن الممتلئ خواءا في حين أن الصورة التي يقدمها الإعلام المغربي هي على الأرجح شبيهة بإطار لوحة مزخرفة غير أنه لايحمل في داخله أية لوحة أو مضمون حقيقي.
وإذا كان الإعلام المغربي قد ركز على تميز الشكل وغرائبيته، فإن إعلام الجبهة ركز بالأحرى على اختلاف ماهية الثقافة الحسانية بشكل صميمي بإلصاق كل النعوت الايجابية بالأنا المستحضر داخلها ومغيبا تماما أي ضرورة لحضور "الغير" وإسهامه الجدلي في انبثاق هذا الأنا. إننا بتعبير أبسط أمام خطاب يحاول أن يستثمر انتفاخ الأنا الحساني l égocentrisme في اتجاه فصله وقطع صلته بالغير، بغية الانفراد بالهيمنة عليه سياسيا واقتصاديا و من ثمة ارتهانه لقوى وأطماع أجنبية و التي ستكون وبالا عليه مقارنة مع تلك الحاصلة حاليا. في حين أن التاريخ قد أثبت بما لا يترك أي مجال للشك أن الثقافات التي تحاول الانغلاق على نفسها إنما قد أعلنت وفاتها قبل الأوان، و إنه لمن الاستراتيجي حقا أن تتلاقح الثقافة الحسانية مع باقي الثقافات المغربية حتى تضمن التقدم والتطور. بل إن هيغل حسم القول فيما يتعلق بدور الآخر في انبثاق و استقلالية الأنا. وإن سمح لنا بالمقارنة مثلا بين ثقافتين اليوم، هما المغربية ونظيرتها الموريتانية فمن الواضح وبجلاء مدى التقدم الحاصل في الأولى، ولعل ذلك ما ضمنه التنوع الثقافي الداخلي، وعلى الأغلب ستسير الثقافة الحسانية الصحراوية في نفس المسار الموريتاني إذا ما تمكنت الجبهة من تحصيل مرادها.
2- الثقافة الحسانية: الواقع والآفاق
ليست الثقافة معطى ثابتا أو موروثا جاهزا، بل الثقافة هي محصلة إبداع الإنسان الذي لا ينبغي أبدا أن يتحول إلى قوالب تستلبه وتكرهه على التمسك بها، لأنه إنما أبدعها لتكون أداة تحرره و انعتاقه وأداة تحصيله لمزيد من القوة ومن إرادة الحياة. ولعل أهم سمة ينبغي أن نقر بانطباقها على الثقافة الحسانية اليوم هي خلوها التام من النقد الذاتي، ذلك أن الوضع السياسي الخاص الذي تعيشه المنطقة جعل منها ثقافة مدللة تستعطفها مختلف الأطراف المتصارعة في محيطها، بل إن مايصطلح عليه بالثقافة الشعبية في العالم العربي عموما ينظر اليها اليوم كمجال رمزي معزول تماما عن ثقافة النخبة، وكأن الهدف من عزله هذا هو الإبقاء على ترديه وهشاشته. وحتى يتضح الأمر الأكثر، يتم التعامل مع الثقافة الشعبية إما بشكل وصفي محض يرصد جوانبها الغرائبية والجمالية ودون تجاوز ذلك تحت ذريعة التخوف من الإنسياق خلف مؤديات التمركز الثقافي الغربي، وإما التعاطي معها بشكل جزئي باستحضار تأثيرها في ظواهر اجتماعية أو اقتصادية. أما أن يخصها الأكاديميون بالدراسات القمينة برصد أسباب تعثرها، و تحديد الكيفيات الكفيلة بالنهوض بها، وبمضامينها التي يمكن التعويل على احيائها لتدشين النهوض الثقافي المنتظر، فهذا مالا يعار أي اهتمام.
إن السلطة المهيمنة اليوم داخل الثقافة الحسانية هي سلطة الأصالة، والأكيد أن هذه السلطة لن تصمد كثيرا أمام ما يعرف اليوم باسم الغزو الثقافي أو الهيمنة الثقافية التي حملها المد الإعلامي الجارف معه، خاصة وأن سلطة الأصالة إنما تركز على الشكل أكثر من تركيزها على المضمون، وإن ركزت عليه فارتباطا بالماضي وبالموروث، وهكذا تتعارض هذه السلطة مع سلطة التجديد التنافسية. هذه الأخيرة هي بحق ما يضمن للثقافة استمراريتها، بدل تيبسها الذي لن تكون محصلته إلا الانكسار عند أولى الضربات. من جهة أخرى نجد أن الثقافة الحسانية تحمل مضامين عميقة في بعدها الإنساني غير أن العين الناقدة التي يمكن أن تسلط الضوء عليها وأن تعمل على حمايتها غير موجودة أو غير آبهة لما يحدث. فعلى سبيل المثال لنلاحظ المضمون التشاركي الموجود في صناعة الشعر والأغنية الحسانية حيث يكون المجال مفتوحا في ما يعرف بالهول أمام الحاضرين للمساهمة بأبيات في هذه القصائد المغناة. لاحظ معي كذلك رقصة "الكدرة" وكيف يشارك فيها جميع الحاضرين إما بترديد المواويل وإما بإبداعها وإطلاقها من اجل الترديد.
إننا نقف عند معطى شديد الأهمية ولا احد يعيره اهتماما ألا وهو عدم وجود ذلك المتفرج السلبي في هذه الأمثلة فالكل مدعو للمشاركة وللإبداع الجماعي والجمالي... وهذا بالفعل ما يمكن أن نقول عنه الوسط الكفيل بخلق الكفاية الإبداعية الفنية لدى إنسان الصحراء، لكن وللأسف أدت مجاراة التنافس في إظهار التميز المادي والاقتصادي خاصة في الأعراس، وأدت أيضا مواكبة التجديد والموضة إلى التفريط في هذه الروح الجماعية للإبداع الحساني...
في الختام لا أملك إلى أن أقر أنني انعطفت في منعرجات عدة بصدد مقاربة هذه الظاهرة الثقافية وإشكالاتها، ولا أجد ما أعزو إليه هذا الأمر سوى القول بأن العمق يقتضي في غالب الأحيان الاتساع وفتح نوافذ على عدة مجالات أخرى، ولعل إحدى النوافذ التي لا محيد عن فتحها هي النافذة السياسية لما يربط المجالين معا من تبادل للتأثير والتأثر...
ذ.ابراهيم تيروز كلميم


--------------------------------------------------------------------------------

[1] مأخوذ من حوار له نشر بمجلة l’arc عدد 70 . 1977
[2] الرمز و السلطة. ترجمة عبد السلام بن ع العالي.ص67
[3] الرمز و السلطة. ترجمة عبد السلام بن ع العالي.ص52
[4] سلسلة عالم المعرفة:" ثقافة الصورة"
[5] راجع مقالا لي نشر بيومية الناس و هو متوفر بموقع الحوار المتمدن تحت عنوان: الحريك: المفهوم المفتاح لقراءة الذهنية و الواقع المغربيين.






#ابراهيم_تيروز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإرهاب بالإرهاب
- وجه الحقيقة المسكوت عنه بخصوص مستقبل الصحراء
- خطاب البوشيزمية
- هكذا -الأمر- و -كان-
- ; الصحراويون والصحراء
- الحريك: المفهوم المفتاح لقراءة الذهنية والواقع المغربي


المزيد.....




- تركيا تعلن وقف التعاملات التجارية مع إسرائيل.. ووزير إسرائيل ...
- صحيفة أمريكية تتحدث عن انتصار السنوار في الحرب وهدفه النهائي ...
- الإعلان عن بطلان محاكمة أمريكية في دعوى قضائية رفعها ضحايا - ...
- تكريم سائق الفورمولا واحد الأسطوري آيرتون سينا في إيمولا وفي ...
- حانة -الكتابات على الجدران-.. أكثر من مجرد بار في بودابست
- لمواجهة الاحتجاجات.. الحكومة الفرنسية تمنح رؤساء الجامعات ال ...
- شاهد: مظاهرة وسط العاصمة الباكستانية كراتشي للمطالبة بوقف ال ...
- اليابان في مرمى انتقادات بايدن: -كارهة للأجانب- مثل الصين ور ...
- مسؤول أمني إسرائيلي: بايدن -يحتقر- نتنياهو وواشنطن تقف إلى ج ...
- ألمانيا: تراجع عدد المواليد والزيجات لأدنى مستوى منذ عام 201 ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ابراهيم تيروز - صورة الثقافة الحسانية بين الخطابين الاعلاميين: المخزني و الانفصالي