أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - ابراهيم تيروز - الحريك: المفهوم المفتاح لقراءة الذهنية والواقع المغربي















المزيد.....


الحريك: المفهوم المفتاح لقراءة الذهنية والواقع المغربي


ابراهيم تيروز

الحوار المتمدن-العدد: 1780 - 2006 / 12 / 30 - 12:26
المحور: المجتمع المدني
    


لعل من أكبر مشكلات الفكر المغربي اليوم هي نزوعه المتواصل نحو التجرد من معضلات الواقع المعيش، إذ يبدو أن المفكرين المغاربة ركنوا على ما يبدو إلى أبراجهم العاجية وأخذوا يعملون على إعادة إنتاج ذلك الفكر المنفصم عن واقعه، ونادرا أو طفيفا ما يتناولون قضايا الإنسان البسيط ما عدا أن يتناولوها من منظور تعميمي وشمولي بدلا من ملامستها ومعالجتها عن كثب ولعل ما يظهر اليوم مهيمنا ضمن الساحة الفكرية المغربية هو إما العودة إلى التراث من أجل مساءلته وهي عودة لم تجد رجوعا منها بعد، وإما الإغراق في كتابات يمكن تصنيفها ضمن فكر الفكر مواكبة للتقليد الفكري الغربي، في حين نحن لم نمتلك بعد الفكر ولم نلج بعد المغامرة الفكرية التي يكون واقعنا في صلب موضوعها. على أي قد تكون هذه الأحكام مغالطة كثيرا غير أن هذا لن يحول دون مساءلتنا للفكر المغربي وللجامعات المغربية خصوصا عن ما الذي قدمته بخصوص قضايا من قبيل "الحريك" ومن قبيل "الرشوة" و "الدعارة" و"السجون" ؟ إننا لا نملك هنا سوى القول أننا في أمس الحاجة ليس فقط لسوسيولوجيا مغربية وإنما بالضبط لسوسيولوجيا لدواليب إنتاج الفكر في المغرب ولاشك أنها ستكشف عن تعفنات كثيرة. لقد كان من الأولى للفكر المغربي أن تكون له على الأقل تأملاته الفلسفية حول واقعنا الحاضر هذا وخاصة قضاياه العينية هاته التي ذكرناها سالفا . صحيح أن هنالك محاولات لكنها لازالت محتشمة ولازالت لم تستأثر بالاهتمام الثقافي اللائق أو أنها لم تجد بعد المنطلقات الفلسفية الكفيلة بإنضاجها.وعلى أي سنكتفي بالقول ومجازفة: إن الفكر المغربي يمارس هجرته السرية الخاصة به.
ولعل هاته الورقة تقدم نفسها كخطوة في هذا السياق المفقود إذ نزعم مقاربة ظاهرة الحريك ليس كظاهرة اجتماعية معزولة وإنما الحريك كبنية تتحرك بها دواليب هذا المجتمع ككل.
1 ـ دلالات الحريك.
أـ الدلالة اللغوية والمتداولة : يتخذ "الحريك" لدى غالبية المواطنين المغاربة معنى الهجرة السرية التي يحاول "أبطالها" من شباب هذا الوطن العبور الى الضفة الأخرى بشكل غير قانوني وغير نظامي. أما في القاموس الدارج فإننا يمكن أن نقول أن لفظة "لحريك" مشتقة من فعل أحرق وذلك إشارة إلى عملية حرق كل ما قد يؤدي إلى التعرف على هوية القائم بهذه العملية كبطاقة التعريف، وربما هذا كان صحيحا في البدايات الأولى لعملية "لحريك" لأنه بات من المألوف أن يترك المقدم على هذه المغامرة أوراق تعريفه لدى أهله وذويه قبل أن يشرع فيها. ولعله من المستملح هنا أن نذكر بواقعة تاريخية هامة ألا و هي عبور طارق ابن زياد للبحر الأبيض المتوسط وإقدامه على إحراق المراكب. فهل يجيز لنا هذا اعتباره أول المغامرين بهذا الصدد؟ لا نقصد من هذا مطلقا الاستهزاء بشخصية تاريخية و إنما نود التنبيه الى هذا التشابه المثير.و لعل التساؤل الجدي الذي يمكن طرحه بخصوص هذا المستوى من الدلالة هو كالآتي׃ هل الحريك هو فقط الهجرة السرية؟ ام أن هذه الظاهرة هي مجرد تمظهر من بين تمظهرات كثيرة لهذا التكوين البنيوي داخل المجتمع المغربي ألا وهو الحريك؟ ألا يشي هذا التساؤل بوجود نوع من الاختزال لهذا "المفهوم" ضمن دلالته اللغوية والمتداولة ؟
ب ـ نحو دلالة أعمق وأجدر : تفاديا لأي اختزال ممكن وتلافيا لهذه النظرة التسطيحية للظاهرة الاجتماعية والتي تحلها من عراها، وتجعلها مجرد ظاهرة معزولة فاقدة لدلالاتها الحقيقية وللتمكن من جهة أخرى من كشف الخيط الناظم الذي يقف خلف هذه الظاهرة وظواهر أخرى ذات صلة وثيقة بها فيما يشكل بنية اجتماعية قابلة للتمثل وللفهم ضمن إطار نظري أو باراديغم موحد، سنقول أن الحريك بمثابة ما أسماه "رالف لينتون" بالشخصية الأساسية لأفراد المجتمع المغربي فهو إذن ذلك الشكل المندمج من مختلف العناصر الأساسية المشتركة من سمات الشخصية المغربية وعنه بالطبع تتفرع أنماط فرعية أو شخصيات وظيفية تختلف باختلاف الفئات الاجتماعية. فالحريك واحد ومتعدد في الآن نفسه، واحد من حيث أنه يمارس من طرف المجتمع ككل ومتعدد بمعنى أنه متنوع بتنوع الانتماء الاجتماعي فهو إذن ذو بعدين: بعد أول: جماعي وبعد ثان فردي، لكن ألا نكون هنا قد عرفنا المجهول بمجهول آخر؟ ألايقتضي الأمر أن نحدد مفهوم "الحريك" بشكل نلامس فيه جوهره مما سيسوغ لنا الحكم على مدى عمقه واتساعه ؟ وفي هذا الإطار سنقول أن الحريك هو كل مغامرة (مجازفة) غير مضمونة العواقب بحيث يمكن أن تسفر عن نتائج خطيرة من قبيل الموت و بحيث تكون هذه المغامرة شبيهة بالمقامرة إذ لا توجد ضوابط تؤكد نجاحها. أما عن الهدف المنشود فهو غالبا بلوغ الثروة والرفاه بجميع أنواعهما دون بذل الجهد الذي يقتضيه ذلك، الحريك إذن مقامرة بالحياة من أجل الحياة وسعي نحو بلوغ الثروة والرفاه دون سلك الطريق المؤدي إليهما منطقيا وطبيعيا. والحريك من جهة أخرى تتظافر في الدفع إليه عوامل مادية وأخرى رمزية أو بتعبير آخر عوامل اقتصادية وأخرى ثقافية وقد يتعذر الفصل بين هذين الجانبين خاصة إذا ما استحضرنا مفهوم من قبيل "الرأسمال الرمزي" حيث يمتزج المادي بالرمزي. وعند هذا الحد نكون قد وقفنا عند التقابلات الأساسية المشكلة لهذا المفهوم: واحد / متعدد ـ جماعي/ فردي ـمجازفة بالحياة/ من أجل الحياة ـ سعي وراء الثروة والرفاه/ عدم سلك الطريق المؤدي إليهما ـ مادي /رمزي ـ اقتصادي/ ثقافي.
1) فهل الحريك إذن هو ذلك المقوم الجوهري لمقومات الشخصية المغربية والتي تتوحد من خلاله مختلف أنماطها ؟ أم أنه انماط متعددة ومتباينة تباينا لاسبيل الى ايجاد أساس ما يوحده؟
2) هل الحريك سعي نحو حياة مرفهة كريمة ؟ أم مجرد انتحار وإنهزام ؟
3) هل الحريك تحركه اسباب وغايات مادية واقتصادية محضة أم أن اسبابه وغاياته رمزية وثقافية صرفة ؟
وفي تساؤل إشكالي مركز يمكن القول.
هل الحريك عنوان شامل للايديولوجيا المهيمنة ضمن الفضاء الثقافي والوعي الجمعي المغربي؟ أم الحريك ظاهرة اجتماعية عواملها الاقتصادية الموضوعية معروفة ؟

2-علامات على الطريق إلى المقاربة:الحريك أو نمط العيش المهيمن
ا -بعض ضروب الحريك׃ من الواضح أن الحريك لا يخص فقط فئة من الشباب العاطل عن العمل والذي سدت في وجهه جميع الأبواب.اذ بتنا نرصد بشكل لاغبار عليه أنه يشمل فئات متباينة من أفراد هذا المجتمع، إذ لدينا حريك باسم الرياضة وآخر باسم الفن وآخر باسم العلم وهلم جرا، ولعل هذا ما يشجعنا أكثر على توسيع هذا المفهوم، إذ الحريك ليس مرتبطا ضرورة بمغادرة ارض الوطن بل إن هنالك ما يمكن أن نسميه بالحريك الداخلي وعلى سبيل المثال الحريك الدراسي ، الانتقال من مستوى إلى آخر دون بذل الجهد الكفيل بذلك كاعتماد الغش، والحريك السياسي كالانتقال من حزب لآخر بالنسبة للنواب البرلمانيين أو حريك مافيات تخريب الاقتصاد المغربي إلى البرلمان أو بر الأمان السياسي كناية عن الحصانة، ولاحظ معي هنا التشابه المثير بين "برلمان" بمعناه الفصيح و(برلامان) في سياقها الدارج فكل يبحث إذن عن بر أمانه فقط بر أمان "الحارك" بمعناه المتداول هو الضفة الأخرى أما برأمان شراة الأصوات والذمم فهو البرلمان(وقد أدخلت عليه ال التعريف كناية عن غناه عن التعريف). ويمكن أن نضيف إلى هذه القائمة هجرة القرويين إلى المدينة وهجرة ساكنة الأحياء الشعبية إلى أحياء أرقى نسبيا، فالقرويون مثلا يهاجرون بحلم الهرب مما يفرضه شقاء العمل في العالم القروي وما يرافقه من شظف العيش واكراهات الجفاف، من هذا كله إلى (نظافة) وانتظام الحياة المدنية، إلى العمل غير الشاق عضليا، إلى الثياب الأنيق و إلى صخب المدينة ....و ينبغي أن نستحضر هنا أن القروي ترتبط لديه المدينة بالأسواق والمعارض التجارية وما يشكله ذلك من فرص للاقتناء والاستهلاك والأجساد الآدمية المثيرة جنسيا..
ب-ازدواجية الدوافع: نود هنا أن ننبه إلى أن هجرة القرويين إلى المدينة مثلها مثل الهجرة إلى الخارج مدفوعة بشروط ثقافية في الأساس أكثر مما هي مدفوعة باكراهات اقتصادية وحتى نعطي لهذا التساؤل ما يستحقه من نقاش يكون من الأولى أن نتساءل لماذا لا يفكر المقدم على الهجرة السرية عن طريقة ما للنجاح اقتصاديا أسوة بنسبة ليست هينة من الأفراد الذين تمكنوا من ذلك؟ أيعود هذا إلى كون الفرص التي يتيحها نظامنا الاقتصادي والاجتماعي محدودة بخصوص ذلك؟
أظن أن كلا الإجابتين صحيحة، فبالرغم من محدودية الفرص المتاحة للشباب هناك إمكانات اقتصادية كثيرة ببلادنا ليست مستثمرة بعد. ومادام شبابنا يقدم على المجازفة بالوقوع وليمة لحيتان البحر، لم لا يدخل في نضال متعدد الأبعاد والواجهات من أجل تحسين أوضاعه الاقتصادية؟ المشكلة هي أن أيدينا مكتوفة لأننا نؤمن بالحلول السحرية والسهلة والتي في لحظة يمكنها أن تنقلنا من الجحيم إلى النعيم ؟ إننا أمام شكل آخر من أشكال الذهنية الخرافية التي تلقي بمصيرنا في كف الحظ وعلى عاتق الصدفة والمقامرة. إننا بحق أمام تفاعل جدلي بين وضع اقتصادي صعب وبنية ثقافية تبرره وتعززه في الآن نفسه، بل كلاهما يدعم الآخر ويعززه.
ج-بين الحريك و الهدر׃ من جميل الصدف أن تترادف لفظة الحريك خاصة مع توسيع معناها بلفظ آخر يوظفه مصطفى حجازي في كتابه" سيكولوجية الانسان المهدور" ألا وهو مصطلح "الهدر" فالحريك يذكرنا بحرق الطاقة وهذا الأخير يصبح هدرا إذا أحرقت الطاقة في غير الوجهة الصحيحة أو بطريقة ذهبت معها( الطاقة) سدى ،وبالفعل كثيرة هي المناحي التي تهدر فيها طاقات البلاد والعباد وعلى رأسها الهجرة السرية، وتفشي الرشوة وانتشار الدعارة وتردي أوضاع السجون وغير ذلك كثير.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا لا يتعلق بتشخيص هذه الأوضاع فقط وإنما بإيجاد تصور ما للخروج من هذه الدوامة التي يبدو أنها عسيرة التوقف. اعتقد أننا أمام نمط اقتصادي واجتماعي وثقافي أو بالأحرى أمام نمط وجود عنوانه الكبير هو الهدر أو الحريك خاصة إذا قسنا الأمور من منظور جمعي وليس من منظور فئوي أو فرداني. إن جوهر معضلتنا مادي واقتصادي وحل هذه المعضلة أيضا مرتبط بهذا الجوهر، إننا في حقيقة الأمر وإذا ما استعملنا مرايا مكبرة لا نملك اقتصادا وإنما "افتسادا"، ذلك أن امتلاك الثروة في بلادنا ودون تعميم، مشروط بسلك سبل ملتوية كالتهرب من الضرائب وكنهب المال العام والغش في الجودة وكل ما يدخل في دائرة مانسميه ب«التخلويض» . وحل مثل هذه المشكلات يرتبط أساسا بالخروج من نفق المقاربات الأخلاقية والقانونية الأحادية البعد وما يدخل في اطارهما، و يقتضي مقاربة يجب أن تكون في اساسها اقتصادية و مادية إذ بالمنطق المادي الذي يدفع هؤلاء إلىنهج أسرع الطرق إلى الثروة يمكن ان ندفعهم الى سلك طريق القانون، و بمعنى آخر علينا ان نحل منطق المردودية. إذ كيف نتصور ان تكف يد موظف يتقاضى أجرا ثابتا عن الرشوة و عليه ما عليه من ضغوط وأمامه ما أمامه من اغراءات. ألا يقتضي الأمر هنا إيجاد نظام للأجور يتغلب على نظام الهدر هذا، نظام يعمل على تحفيز الموظفين لتحقيق أكبر مردودية وأكبر ترشيد لنفقات خزينة الدولة و مواردها. علينا أن نعترف بظاهرة الرشوة كمكون بنيوي وأن نعمل على استبداله بنظام تحفيز يكون أكثر اقتدارا على محاربة هذا التكوين البنيوي بحيث يصبح القانون أكثر إغراءا من مخالفته.
د-الحريك الطبقي׃ يمكننا أن نتفحص شكلا آخر من أشكال الحريك ويتعلق الأمر بالحريك الطبقي أو مايسمى أيضا بالتسلق الطبقي غير أن هذا التسلق البائس ينتهي بالكثيرين إلى الانحدار الطبقي ليصبح التسلق الطبقي انتحارا طبقيا ... وهذه الظاهرة يبدو أنها هي الأخرى غير مقصورة على فئة ما من فئات المجتمع المغربي، إذ الكل تحدوه الرغبة في الترقي الطبقي، المشكل فقط هو أن الغالبية خاصة كلما انحدرنا في طبقات السلم الاجتماعي تنتهج أسلوبا مفارقا، أي أنها تنخرط في المجازفة بأهم ما تملك علها تظهر تقدما في مستواها الاجتماعي وهنا يمكن أن نوضح بجلاء هذا الأمر من خلال ظاهرتين بارزتين بهذا الصدد. ظاهرة القروض وظاهرة التكاليف الباهظة للأعراس، و الأدهى أن هاتين الظاهرتين كثيرا ما تلتقيان. وبشكل منفصل نلحظ أن صغار الموظفين كثيرا ما يغرقون في تبعات القروض غير أن الإشكال يبرز في كونها كثيرا ما تنفق في أمور كمالية أكثر منها أساسية(الأثاث، المناسبات العرضية...) فبخصوص الزواج مثلا وهذه حالة من الحالات التي يضطر الكثير من أبناء الفئات الدنيا للاقتراض بشأنها نجد نوعا من التنافس الاجتماعي تجهد فيه الأسر المعنية طاقتها لإظهار جاهها ويسرها المادي ، ونلحظ هذه الظاهرة بشكل أوضح مثلا لدى المجتمع الصحراوي والأسر القاطنة في الأقاليم الجنوبية. إننا بالفعل إزاء تمظهر من تمظهرات هدر الطاقة الاقتصادية وحرقها سدى لكن السؤال الذي يطرح نفسه ها هنا هو ما الذي يرغم الإنسان المغربي على إهدار موارده من أجل تزييف انتمائه الطبقي؟ لماذا يجمع أبناء المجتمع المغربي على هذا الانخراط الجنوني في حب الظهور هذا ؟ لماذا هذا الإجماع على تبادل النفاق الطبقي ؟ لاشك أن شواهد هذا النفاق كثيرة كأن نلاحظ شخصا مايرتدي بذلة فخمة ويقطن في "براكة" وكأن تلحظ أن أغلب تلاميذ الاعداديات والثانويات وحتى المعوزين منهم يملكون هواتف نقالة وكأن تلحظ أن أسطح كاريان بكامله تعلوه صحون هوائية.
ه- نحو تشخيص أدق׃ إننا بالفعل إزاء انحراف واسع الانتشار انحراف تهدر فيه طاقة مجتمع بكامله في ما هو تكميلي بدل ما هو أساسي وهذا الانحراف يقف خلفه عامل أساسي تظهر مصداقيته إذا ما قارنا بين المجتمع المغربي في سنوات الأربعينيات والخمسينيات ومجتمع اليوم. فمن الواضح أن النزوع نحو حمى إنفاق الإهدار تفاقم وتضاعف مرات عديدة اليوم. ولعل ذلك يعود إلى صيرورة تاريخية أحدثت تغيرات جدرية فيما يخص الرأسمال الرمزي للمجتمع المغربي حيث نحا المجتمع المغربي نحو التخلي عن الكثير من ضوابطه القيمية بتعويضها بضوابط فكرية وعلمية وذلك تحت تأثير وتحفيز قوتين: قوة أولى تتمثل في تأثير المشهد الإعلامي وقوة ثانية تتمثل في الجهاز التربوي التعليمي غير أن التفاوت الحاصل بين فعالية خطاب الصورة وسحره و مردودية الجهاز التعليمي الذي يعاني من كثير من التعثرات والتي تدل على تأخره، جعل من المجتمع المغربي يتخلى عن رأسماله القيمي دون أن يعوضه بالرأسمال المعرفي المكافئ وهذا بالضبط ما جعله ينخرط في تناقضات اجتماعية وثقافية لاسبيل إلى حصرها. صحيح أن المجتمع المغربي لم يتخلى عن مجمل رأسماله القيمي لكنه بالفعل تخلى عن كثير من منابع القوة في هذا الرأسمال القيمي ودون أن ننسى التباين الحاصل جغرافيا بهذا الخصوص فإذا ما توجهنا مثلا إلى سوس وارتباطا بموضوع الهدر نجد أن إنسان هذه المنطقة يمتاز قيميا بترشيد إنفاقه غير أن التحول نحو المجتمع الاستهلاكي والاستعراضي جعل هذا الرأسمال القيمي يأخذ في التضاؤل، وإذا ما توجهنا إلى إنسان المنطقة الصحراوية سنجد التكافل الاجتماعي كرأسمال قيمي أخذ هو الآخر في التضاؤل والتناقص وإن نحن توجهنا إلى الريف سنجد أيضا رأسمالا قيميما يتمثل في الأنفة والتمسك بالكرامة يعرف نفس المصير، وأود أن أنبه هنا الى أن الوقوف عند هذه المناطق بعينها وبخصوص رأسمال قيمي معين إنما لأخذها كنماذج وجدتها أكثر وضوحا من غيرها، وعودة إلى المعضلة التي نحن بصدد معالجتها أريد أن أؤكد أن فصلنا هنا بين ما هو قيمي وما هو معرفي هو مجرد فصل منهجي فالمعرفة نفسها قيمة والقيمة القويمة لاتستطيع أن تتحصل الا عن طريق المعرفة، فمشكل الانسان المغربي هو أنه أراد أن يتخلى عن موروثه القيمي بإعادة تأسيسه وبنائه انطلاقا من قيم الحداثة فإذا به نجح في التخلي ولم ينجح في إعادة البناء لأن المساءلة النقدية والعلمية والفكرية لنسقنا القيمي إنما استغلت في تبرير و استدخال قيم استهلاكية واستعراضية وراءها ما وراءها من قوى اقتصادية، بذل جعل هذه المساءلة منطلقا لإعادة حقيقية لعملية البناء. وهكذا وجدنا أنفسنا أمام نسق قيمي هجين يمتزج داخله مكونين أساسيين : مكون أدعوه المكون المابعد حداثي ومكون ثان أطلق عليه المكون المابعد انحطاطي أقصد بالأول حركة السلب الفكرية والثقافية التي يعرفها الغرب والتي يحاول من خلالها خلخلة وثوقياته الحداثية فيما يخص مركزية العقل ومركزية الإنسان ومركزية المؤلف... وهو مايمكن أن يسير في اتجاهين : اتجاه نحو إعادة بناء هذه المركزيات بناءا يخول تجديرها بشكل أكثر عمقا وأشد اتساعا وشمولا وتلافي ما كان يعتريها من نقائص وتناقضات واتجاه عدمي يسير بالسلب الى منتهاه بحيث تم تعويض المركزيات أو الأصنام أعلاه بمركزية وصنم جديد هو السلب نفسه و ذلك مما افضى الى القول بموت الانسان ونهاية التاريخ... وهكذا سيجد الإنسان الغربي نفسه خاليا من أي مرتكزات يمكنه الإستناد عليها مع هذا التوجه الثاني لما بعد الحداثة والذي يجد تكاملا له مع النزوع الاستعراضي والإستهلاكي للمجتمع الغربي والذي يتماشى مع النمط الاقتصادي الراسمالي المحض والسائد، وهذا التوجه الثاني هو الذي سيصدر لنا فائضا ثقافيا وماديا عنوانه الكبير׃"شطحات وصيحات مابعد الحداثة الاستهلاكية والاستعراضية". سيمتزج هذا الفائض بفائض آخر هو فائض ورثناه من تركة الإنحطاط و المتمثل في سلطة تقاليد مهترئة وهشة، وهكذا بقيت ظلال هذه السلطة مخيمة على كل مالم يطله دفق مابعد الحداثة العدمي ليكون الإنسان العربي والمغربي بالخصوص شخصية فصامية تتجاذبها قوتين قوة مابعد الحداثة التي لم يجتز بعد مرحلة الحداثة لينخرط فيها بشكل سليم، وقوة ما بعد الانحطاط التي لم يؤصل لديه بعد قيم المعرفة والعقلانية لتخطيها.
و- في السبيل الى التنمية البشرية: هكذا إذا أردنا أن نفكر في التنمية البشرية فعلينا أن نفكر بهذا العمق المتراكب أي الغوص الكفيل بجعلنا نرصد التمفصلات البنيوية لظواهرنا الاجتماعية والكفيل بجعلنا قادرين على بلورة مشروع شمولي وتكاملي، مشروع يضع الإنسان في الغاية وفي الأساس ويوظف العقل والعلم بشكل جدري لغربلة الموروث والوافد أو المستورد والاحتفاظ بما يخدم صالح الإنسان المواطن أولا وأخيرا وذلك من منطلقات مادية من حيث الأولوية، وبان يكف خصوصا الفكر المغربي عن ممارسة الحريك بعيدا عن قضاياه الحقيقية.
اهداء الى جميع تلاميد الباكالوريا...
ابراهيم تيروز . ذ الفلسفة .كلميم



#ابراهيم_تيروز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مغني راب إيراني يواجه حكماً بالإعدام وسط إدانات واسعة
- -حماس- تعلن تسلمها ردا رسميا إسرائيليا حول مقترحات الحركة لص ...
- تحتاج 14 عاماً لإزالتها.. الأمم المتحدة: حجم الأنقاض في غزة ...
- اليمنيون يتظاهرون في صنعاء دعماً للفلسطينيين في غزة
- عائلات الأسرى تتظاهر أمام منزل غانتس ونتنياهو متهم بعرقلة صف ...
- منظمة العفو الدولية تدعو للإفراج عن معارض مسجون في تونس بدأ ...
- ما حدود تغير موقف الدول المانحة بعد تقرير حول الأونروا ؟
- الاحتلال يشن حملة اعتقالات بالضفة ويحمي اقتحامات المستوطنين ...
- المفوض الأممي لحقوق الإنسان يعرب عن قلقه إزاء تصاعد العنف فى ...
- الأونروا: وفاة طفلين في غزة بسبب ارتفاع درجات الحرارة مع تفا ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - ابراهيم تيروز - الحريك: المفهوم المفتاح لقراءة الذهنية والواقع المغربي