أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمود بادلي - الحقيقة الغائبة ل - فرج فودة -















المزيد.....



الحقيقة الغائبة ل - فرج فودة -


محمود بادلي

الحوار المتمدن-العدد: 1882 - 2007 / 4 / 11 - 11:24
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الحقيقة الغائبة لـ " فرج فودة "
عرض: محمود بادلي

مقدمة لا بد منها:
ربما يسأل ساءل، لماذا يستعرض هذا الكتاب في هذه المرحلة بالذات، وقد مرّ على نشره سبعة عشر عاماً وأكثر؟ والجواب عليه سهل وممتع للغاية، ذلك يعود إلى أسباب كثيرة أهمها:
1- إن هذا الكتاب الذي بين أيدينا "الحقيقة الغائبة" للدكتور فرج فودة، له أهمية علمية عظيمة، من النواحي التاريخية والسياسية والفكرية، فهو عبارة عن رؤية فكرية جديدة وتحليلية مستحدثة للوقائع والأحداث تستند إلى حقائق التاريخ موثقة ومؤصلة.
2- إنه كتاب علمي ذات فكر تحليلي وتنويري في آن واحد، أشتغل عليه الكاتب بكل صدق وجدية، وبجرأة وشجاعة لا متناهية في تحليله للوقائع وتقديم الرؤى في سبيل إيصال تلك الحقيقة التي كانت غائبة - لا بل كانت حاضرة ولكن كان هناك (جماعات إسلامية الذين لا يرون ولا يسمعون غير أنفسهم وربما لا يرون أنفسهم أيضاً) يعملون جاهداً ليس فقط على تغييبها بل تشفيرها وتشويهها - إلى الأجيال الحاضرة والجيل الذي سوف يأتي في الغد، ومن لا يعرف هذه الحقيقة، لكي يتعرف عليها، ومن أجل فتح باب طالما بقي منغلقاً على نفسه، وعلينا لسنوات طويلة وهو باب الحقائق التاريخية، هذا الباب الذي ما زال الكثير من الإسلاميين المتطرفين التكفيريين،المتشددين والسلفيين، والإرهابيين القديم والجديد منهم، يحاولون جاهداً منع الحديث عنه، أو عدم فتح ملفاته، وعدم التطرق إليه لا من بعيد ولا من قريب، فهو باب محرم على المفكرين والمتنورين والاقتراب منه أو تناوله بيد التحليل والإجتهاد المستنير، ومن يسهم في ذلك عليه أن يحسب حسابه ويحسم أمره، فانه معرض للتهديد والوعيد، مهدد بالنار والجهنم، مهدد بالقتل والذبح في أغلب الأحيان، ومن الواجب علينا أن نذكر القارئ بأن مؤلف هذا الكتاب الدكتور فرج فودة، أستشهد قتيلاً على أيدي هؤلاء التكفيريين والمفسدين، لا لشيء فقط لأنه أراد قول الحق، لأنه أراد وضع النقاط على الحروف، لأنه دعا إلى الإجتهاد العقلاني المستنير، لأنه دعا إلى التفكير لا التكفير، دعا إلى الحوار وإحياء العقل واستعمال أداة تم تجاهلها على مدى قرون بعيدة وهي المنطق، لأنه دعا إلى الديمقراطية والعدل والمساواة، لأنه دعا العودة إلى جوهر الإسلام وروحه الحقيقي، والأخذ بمضونه وجوهره لا بقشوره.
ويجب أن نذكر القارئ أيضاً بأنه تم منع الدكتور حامد أبو زيد من الكتابة، وهو ما صرح بنفسه، بأنه لم يعد يتناول الكتابات المثيرة للجدل والتفكير، نتيجة المضايقة والتهديد من قبل هؤلاء التكفيريين.
3- إنه قراءة جديدة من أجل استنارة العقول حاضراً ومستقبلاً، خاصة وأننا نعيش في القرن الواحد والعشرين، وما زال الكثير من المسلمين ومنهم الجيل الناشئ لم يتعرفوا بعد على تلك الحقيقة الساطعة في ثنايا هذا الكتاب، قراءة جديدة للخلافة في العصور الثلاثة: الراشدين، الأمويين، العباسيين، والتي تم نقلها لهم وفي الكثير من جوانبها، نقلاً مشوهاً ومنقوصاً عبر المناهج المدرسية والإعلام والمنابر المختلفة بكافة أشكالها، إنه كتاب فكر ورؤية وتصحيح ما تم تشويهه باسم الإسلام والعقيدة والأحاديث الوضعية، من قبل تلك الجماعات التكفيرية، والذي أصبح يتسع قاعدتها يوماً بعد يوم، ليس في العالم الإسلامي وحده بل في كل بقاع العالم، حتى أصبحت الإرهاب مشكلة عالمية، إرهاب الناس المسالمين وفزعهم وقتلهم وذبحهم على مرأى العالمين، ونشر أفعالهم الشاذة على التلفاز والإنترنت والصحف، دون ذنب وبلا شفقة ولا رحمة، فما الفائدة التي يجنيها هؤلاء على الإسلام والمسلمين، من قطع الرؤوس وذبح الناس وإعدامهم، وتفجير السيارات، وقتل الكورد على الهوية، وقتل من كائن يكون مسلم أو غير مسلم، باسم الدين والعقيدة والإيمان، أ إلى هذا الحد يخلو الدين الإسلامي من الإنسانية والتسامح والعدل؟!.
إن الإسلام ليس هكذا يا إخوان، فالإسلام وكما يقول الدكتور فرج فودة، أنه دين حق وسماحة، دين حوار وشورى وعدل ومساواة، دين يرفض العنف والقسوة، دين الرحمة والغفران، دين عدم التفرقة ونبذ التعصب، دين يحمل في طياته الكثير من القيم والمبادئ الإنسانية النبيلة.
إن ما يجري اليوم في العراق وفي افغانستان والسعودية ومصر والعالم كله إنما هو جنون ومرض عقلي وتخلف وجهل بقواعد الدين الصحيح وجوهر الإسلام الحنيف.
وفيما يلي عرض الكتاب متوخين منها إفادة القارئ وإشعال الرغبة في داخله لكي يقرأها دون تأجيل أو تردد:
يتحدث د.فرج فودة، شهيد الكلمة الحرة وقول الحق، في بداية فصل الحقيقة الغائبة، متوجهاً بحديثه إلى القارئ، حيث يقول: هذا حديث قصدت فيه أن أكون واضحاً كل الوضوح، صريحاً كل الصراحة، زاعماً أن الوضوح والصراحة في الموضوع الذي أناقشه استثناء، فقد صبت في المجرى روافد كثيرة، منها رافد الخوف، ومنها رافد المزايدة، ومنها رافد التحسب لكل احتمال، وخلف ذلك كله يلوح سد كبير، يتمثل في الحكمة التي يطلقها المصريون، والتي تدعو إلى (سد) كل باب يأتيك منه الريح، فما بالك إذا اتاك إعصار التكفير، وارتطمت بأذنك اتهامات أهونها أنك مشكك، وأسئلة أيسرها – هل يصدر هذا من مسلم؟ -، وواجهتك قلوب عليها أقفالها، وعقول استراحت لاجتهاد السلف، ووجدت أن الرمى بالحجارة أهون من إعمال العقل بالبحث، وأن القذف بالإتهام أيسر من إجهاد الذهن بالإجتهاد..
هذا حديث دنيا وإن بدا لك في ظاهره حديث دين، وأمر سياسة وحكم وإن صوّره لك على أنه أمر عقيدة وإيمان، وحديث شعارات تنطلي على البسطاء، ويصدقها الأنقياء، ويعتنقها الأتقياء، ويتبعون في سبيلها من يدّعون الورع (وهم الأذكياء)، ومن يعلنون بلا مواربة أنهم أمراء، ويستهدفون الحكم لا الآخرة، والسلطة لا الجنة، والدنيا لا الدين، ويتعسفون في تفسير كلام الله عن غرض في النفوس، ويتأولون الأحاديث على هواهم لمرض في قلوبهم، ويهيمون في كل واد، إن كان تكفيراً فأهلاً، وإن كان تدميراً فسهلاً، ولا يثنيهم عن سعيهم لمناصب السلطة ومقعد السلطان، أن يخوضوا في دماء إخوانهم في الدين، أو أن يكون معبرهم فوق أشلاء صادقي الإيمان.
في هذا الحديث يريد الكاتب أن يقول للقارئ بأنه يخوض في موضوع قريب إلى ذهنه، ويشير في ذلك إلى الانتخابات السياسية والنقابية في مصر، حين ارتفعت وما تزال ترتفع،رايات مضمونها (يا دولة الإسلام عودي، الإسلام هو الحل، إسلامية إسلامية)،- ونحن جميعاً شاهدنا وسمعنا مثل هذه الشعارات في الآونة الأخيرة عندما جرت الانتخابات النيابية في مصر-،وهي رايات لا تدري أهي دين أم سياسة،حيث أن مصدّريها ينطلقون من أن الإسلام دين ودولة، مصحف وسيف، والدين والسياسة في نظرهم وجهان لعملة واحدة،وهنا يضعنا الكاتب أمام وجهتي نظر، كل منهما تقبل الإجتهاد، بل وقبل كل ذلك كله، تقتضي الإجهاد، ويقصد بذلك كله إجهاد الفكر بحثاً عن حقيقة غائبة.
حيث أن وجهة النظر الأولى تتمثل في أن المجتمع المصري مجتمع جاهلي أو بعيد عن صحيح الدين، وبين مقولة تجهيل المجتمع، ومقولة الابتعاد عن صحيح الدين، تتدرج مواقف القائلين بين التطرف أصحاب المقولة الأولى، والاعتدال للقائلين بالثانية، لكنهم جميعاً متفقون على أن نقطة البدء بالحل تكمن في التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية، وأصحاب وجهة النظر هذه يطرحون خلف ظهورهم خلافهم حول رأيهم في المجتمع الحالي، ويستقرون عند التمسك بدعوة تطبيق الشريعة، مؤكدين أن هذا التطبيق (الفوري) سوف يتبعه صلاح (فوري) للمجتمع، وحل (فوري) لمشاكله.
أما وجهة النظر الثانية،فهي تتناقض كلياً مع وجهة النظر الأولى، وهنا يبادر الكاتب لكي يطمئن القارئ لها،حيث يستطرد قائلاً بأنها لا تتناقض الإسلام بل تتصالح معه، ولا تأتي من خارجه بل تخرج من عباءته، ولا تصدر عن مارق بل عن عاشق لكل قيم الإسلام النبيلة والعظيمة..
إن وجهة النظر الثانية تستند إلى مجموعة من الفروض يمكن عرضها فيما يلي:
أولاً: إن المجتمع المصري ليس مجتمعاً جاهلياً، بل هو أقرب أحد المجتمعات إلى صحيح الإسلام إن لم يكن أقربها، حقيقة لا مظهراً، وعقيدة لا تمسكاً بالشكليات، بل إن التمسك الأصيل والشديد بالقيم الدينية يمكن أن يمثل ملمحاً مصرياً،والشواهد على ذلك كثيرة، بدءاً من تردد المصريين على المساجد وحماسهم لبنائها، وتنافسهم على مراكز الصدارة في عدد الحجاج من بلاد العالم الإسلامي كله، واحتفائهم بالأعياد الدينية، بل وتحول شهر رمضان إلى عيد ديني قومي لا يمكن تبرير الشغف به، والاحتفاء بحلوله .... وانتهاء بما ساهمت به مصر في مجال العقيدة والإجتهاد، بدءاً بالليث بن سعد، وفقه الشافعي في مصر، وانتهاء بالأزهر الشريف ودوره كمنارة للفكر الإسلامي.
ثانياً: إن تطبيق الشريعة الإسلامية ليس هدفاً في حد ذاته، بل إنه وسيلة لغاية لا ينكرها أحد من دعاة التطبيق وأقصد بها إقامة الدولة الإسلامية...
وهنا ينتقل النقاش إلى ساحة جديدة، هي ساحته الحقيقية، وهي ساحة السياسة، وهنا يطفو على سطح النقاش سؤال بسيط وبديهي، ومضمونه أنهم ما داموا قد رفعوا شعار الدولة الإسلامية وانتشر أنصارهم بين الأحزاب السياسية يدعون لدولة دينية يحكمها الإسلام، فلماذا لا يقدمون إلينا – نحن الرعية – برنامجاً سياسياً للحكم، يتعرضون فيه لقضايا نظام الحكم وأسلوبه، سياسته واقتصاده، مشاكله بدءاً من التعليم وانتهاء بالإسكان، وحلول هذه المشاكل من منظور إسلامي.
ويبدو أن تقديم مثل هذا البرنامج السياسي للحكم يشمل حلولاً لكافة القضايا والمعضلات الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية والحقوقية..الخ،صعباً ما زال يعانون منه دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية، والسبب كما يوضحه لنا الكاتب، يعود إلى عقم الإجتهاد، وعجز القدرة.
وهناك عشرات الأمثلة على صدق حقيقة فيما يطرحه الكاتب ومنها ما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية وفي ضمنها قضية حقوق المرأة وحقها في العمل وأزمة الإسكان القائمة من حكم الشقة المستأجرة أو (التمليك) وهي كلها أمور أوقعت العلماء في حيص(وهي الاختلاف بينهم)، وفي بيص (وهو الخلاف بينهم من ناحية وبين قطاعات كبيرة في المجتمع من ناحية أخرى)، وفي الأحوال الثلاث أي القوانين الثلاثة، وجد العلماء ضالتهم من الانتقال من مالك إلى أبي حنيفة، فإن لم يجدوا انتقلوا إلى فتاوى فقهاء أقل حظاً من الشهرة من أمثال سهل بن معاوية، وهم في كل الأحوال لم يتجاوزا القرن الثاني الهجري قيد أنملة، أو إن شئنا الدقة قيد عام.
ماذا سيكون الحال إذا تطرق الأمر إلى مجال الاقتصاد، وشغل دعاة الدولة الإسلامية أنفسهم بقضية الإنتاج في المجتمع، وفوجئوا بحجم استثمارات القطاع العام التي تتراوح بين ثلاثين إلى خمسين مليار جنيه، يعتمد تمويلها على مدخرات المصريين في بنوك القطاع العام، والمدخرات في صورة ودائع، والودائع تستحق فوائد، وآخر اجتهادات القرن الثاني الهجري، والتي لم تعاصر قطاعاً عاماً أو بنوكاً أدخلت العائد الثابت للمدخرات في دائرة الربا، وآخر ما وصل إليه الداعون للدولة الإسلامية هو الركون إلى اجتهادات هؤلاء الفقهاء، وكأنها تنزيل من التنزيل، ماذا سيكون الحال؟..
ثم يتطرق الكاتب إلى الأمور التي تتعلق بالحاكم وأسلوب اختياره، ويستطرد قائلاً: لنبدأ بالحاكم، وبديهي أن أول ما سيتبادر إلى ذهنك هو الشروط التي يجب أن تتوافر فيه، وقد تتصور أن الشروط سهلة، وأنها يمكن أن تتمثل في كونه مسلماً عاقلاً رشيداً إلى آخر هذه الأوصاف العامة، لكنك تصطدم بشرط غريب، تذكره كثير من كتب الفقه، وهو أن يكون (قرشياً)، وقد تتعجب من أن ينادى البعض بهذا الشرط باسم الإسلام، الذي يتساوى الناس أمامه (كأسنان المشط)، والذي لا يعطى فضلاً لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وقد يتبادر إلى ذهنك خاطر غريب، وإن كان صحيحاً، يتمثل في أن هذا الشرط قد وضع لكي يبرر حكم الخلفاء الأمويين أو العباسيين، وكلهم قرشي، بل قد يتداعى إلى ذهنك ما قرأته في كتب التاريخ القريب عن الملك فاروق في أول عهده، حين قدمه محترفو السياسة إلى المصريين في صورة الملك الصالح، وظهر في الصورة بلحيته ومسبحته ونصف إغفاءة من عينيه، وتسارع بعض رجال الدين (الطموحين) إلى المناداة به ملكاً (وإماماً) للمسلمين،واجتهاد الأذكياء منهم في إثبات نسبه للرسول، وتبارى الإعلام في الإعلان عن هذا النسب وتأكيده. (منوهاً الكاتب قائلاً على الرغم مما هو ثابت من أن جده لوالده هو محمد علي باشا الكبير (الألباني) وجده لوالدته هو سليمان باشا (الفرنساوي)).
[ ولكن لزاماً علينا أن ننوه أيضاً بأنه هناك خطأ شائع في نسب واصل محمد علي باشا، وترجيح هذا النسب إلى الأصل الألباني، ولكن الأصح وللحقيقة التاريخية نؤكد بان محمد علي باشا هو من أصل كردي، لكنه إبان الحكم العثماني جاء إلى مصر قائداً للحملة على رأس جنود ألبانيين، وبما أنه كان قائداً للحملة فسر على أنه الباني].
ثم يستطرد الكاتب في حديثه إلى القارئ، لعلك مثلي تماماً لا تستريح لهذا الشرط الذي يصنف المسلمين إلى أصحاب دم أزرق وهم القرشيون الحكام، وأصحاب دم أحمر ينتظم الأغلبية، لكنهم يواجهونك بحديث نبوي مضمونه أن الإمامة من قريش، وتتبادر إلى ذهنك في الحال عشرات الأحاديث التي وضعها الوضاعون، والتي وصولوا فيها إلى تسمية الخلفاء العباسيين وتحديد موعد خلافتهم بالسنة واليوم، وهي كلها أحاديث وضعها من لا دين لهم إلا هوى الحكام، ولا ضمير لهم ولا عقيدة، لكنك في نفس الوقت تخشى من اتهامك بالعداء للسنة، خاصة من الذين قصروا دراستهم للأحاديث النبوية على أساس السند وليس على أساس المتن (أي المعنى والمضمون ومدى توافقه مع النص القرآني)، ولا تجد مهرباً إلا بتداعيات اجتماع سقيفة بني ساعدة في المدينة، والذي اجتمع فيه لانتخاب سعد بن عبادة، وسارع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة الجراح إليهم ورشحوا أبا بكر، ودار حوار طويل بين الطرفين، انتهى بمبايعة أبي بكر، وأنت في استعراضك للحوار، لا تجد ذكراً للحديث النبوي السابق، وهو إن كان حديثاً صحيحاً لما جرؤ سعد بن عبادة سيد الخزرج على ترشيح نفسه.. ويكفي أن تعلم أن سعد بن عبادة ظل رافضاً لبيعة أبي بكر إلى أن مات، ولم يجد من يأخذ بيده إلى هذا الحديث فيبايع عن رضى وهو الصحابي الجليل ذو المواقف غير المنكورة في الإسلام....
ثم ينتقل الكاتب في حديثه إلى الخلاف والشقاق الذي جرى في اجتماع السقيفة، لما رفض علي قبول تولية أبي بكر ومبايعته على اختلاف في الرواية بين رفضه المبايعة أياماً في أضعف الروايات، وشهوراً حتى موت فاطمة في أغلبها، بل أن أسلوب السقيفة لو كان هو الأصح، لاتبعه أبو بكر نفسه وترك تولية من يليه إلى المسلمين أو أهل الحل والعقد منهم، وهو ما لم يفعل حين أوصى لعمر بكتاب مغلق بايع عليه المسلمون قبيل وفاته دون أن يعلموا ما فيه، وهو أيضاً ما خالفه عمر في قصر الإختيار بين الستة المعروفين، وهم علي وعثمان وطلحة والزبير وابن عوف وسعد، وهو ما اختلف عن أسلوب اختيار علي ببيعة بعض الأمصار، ومعاوية بحد السيف، ويزيد بالوراثة.
أنت هنا أمام ستة أساليب مختلفة لاختيار الحاكم، يرفض المتزمتون تجاوزها، ويختلفون في تفضيل أحدهما على الآخر، وواقع النظم الإسلامية المعاصرة في عالمنا الحديث دليل دامغ على ذلك، فهناك بيعة أهل الحق والعقد (المختارون) في السعودية مع قصر الترشيح على أفراد الأسرة المالكة، وهناك المبايعة على كتاب مغلق يكتبه الحاكم ويوصي فيه لمن يليه، اشتقاقاً من أسلوب اختيار أبي بكر لعمر، في السودان في عهد النميري، وهناك ولاية الفقيه في إيران، وهناك اعتبار الموافقة في الاستفتاء على الشريعة الإسلامية موافقة ضمنية على الحاكم واختياراً له في الباكستان، وهناك في كل الأحوال مانع جديد يضاف إلى ما سبق، وهو أن مدة تولية الحاكم في كل الأحوال السابقة مستمرة مدى حياته، ولا عبرة في ذلك بأن البيعة على أساس الالتزام بكتاب الله وسنه ورسوله، وأن الحاكم يعزل إذا خالف ذلك، فما أكثر ما خالف، دون أن يعزل أو حتى يعترض عليه قديماً كان أو حديثاً...................
ثالثاً: يثبت الكاتب بأن صلاح المجتمع أو حل مشاكله ليس رهناً بالحاكم المسلم الصالح، وليس أيضاً رهناً بتمسك المسلمين جميعاً بالعقيدة وصدقهم فيها وفهمهم لها، وليس أيضاً رهناً بتطبيق الشريعة الإسلامية نصاً وروحاً، بل هو رهن بأمور أخرى كما يوضحه لنا مستنداً على المنطق كدليل، وعلى وقائع التاريخ، حيث يقول: وليس كالمنطق دليل، وليس كالتاريخ حجه، وحجة التاريخ لدىّ مستقاة من أزهى عصور الإسلام عقيدة وإيماناً، وأقصد به عصر الخلفاء الراشدين.
يستطرد الكاتب في حديثه حيث يقول: أنت أمام ثلاثين عاماً هجرياً (بالتحديد تسعة وعشرون عاماً وخمسة أشهر) هي كل عمر الخلافة الراشدة، بدأت بخلافة أبي بكر (سنتين وثلاثة أشهر وثمانية أيام) ثم خلافة عمر (عشر سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوماً) ثم خلافة علي (أربع سنين وسبعة أشهر).
وحسب الكاتب أنه في العهدين المذكورين كانت هموم الحرب ومشاغلها أكبر بكثير من هموم الدولة وإرساء قواعدها، حيث أن خلافة أبي بكر قد انصرفت إلى الحرب بين جيشه وبين المرتدين في الجزيرة العربية، وكذلك خلافة علي خلال الأربعة أعوام والسبعة أشهر قد انصرفت إلى الحرب بين جيشه في ناحية وجيوش الخارجين عليه والرافضين لحكمه في ناحية أخرى، بدءاً من عائشة وطلحة والزبير في موقعة الجمل، وانتهاء بجيش معاوية في معركة صفين ومروراً بعشرات الحروب مع الخوارج عليه من جيشه.
أما بالنسبة لعهد عمر وعهد عثمان، حيث يقول الكاتب انه يمكن أن تتعرف فيهما على الإسلام الدولة في أزهى عصور الإسلام إسلاماً، وأحد العهدين عشر سنين ونصف (عهد عمر)، والثاني حوالي اثني عشر عاماً (عهد عثمان)، فعمر وعثمان من أقرب الصحابة إلى قلب الرسول وفهمه، والاثنان مبشران بالجنة، وللأول منهما وهو عمر مواقف مشهودة في نصرة الإسلام وإعلاء شأنه، وهي مواقف لاتشهد بها كتب التاريخ فقط، بل يشهد بها القرآن نفسه، وللثاني منهما وهو عثمان مواقف إيمان وخير وجود، ويكفيه فخراً أنه زوج ابنتي الرسول، أما عن المحكومين، فهم من صحابة الرسول وأهله وعشيرته... وهم في قراءتهم للقرآن يعلمون متى نزلت الآية، وأين، ولماذا إن كان هناك سبب للتنزيل، فهم يعيشون في ظل النبوة ويتاسون بالرسول عن قرب وحب، ولا يبقى إلا الشريعة الإسلامية وهي ما لا يشك أحد في تطبيقها في كل من العهدين، بل إنك لا تتزيد إن أعلنت أن هذا العهد أو ذاك، كان أزهى عصور تطبيقها، ومع ذلك فقد كان عهد عمر شيئاً وعهد عثمان شيئاً آخر، فقد ارتفع عمر بنفسه وبالمسلمين إلى أصول العقيدة وجوهرها، فسعد المسلمون به، وصلح حال الدولة على يديه، وترك لمن يليه منهجاً لا يختلف5 أحد حوله، ولا نتمثل صلاح الحكم وهيبة الحاكم إلا إذا استشهدنا به، بينما قاد عثمان المسلمين إلى الاختلاف عليه، ودفع أهل الحل والعقد إلى الإجماع على الخلاص منه، إما عزلاً في رأي أهل الحجى، أو قتلاً في رأي أهل الضراب، واهتزت هيبته في نظر الرعية، إلى الحد الذي دفع البعض إلى خطف السيف من يده وكسره نصفين، أو حصبه على المنبر، أو التصغير من شأنه بمناداته ( يانعثل) نسبة إلى مسيحي من أهل المدينة كان يسمى نعثلا وكان عظيم اللحية كعثمان، أو الاعتراض عليه من كبار الصحابة بما يفهم منه دون لبس أو غموض أنه خارج على القرآن والسنة، ووصل الأمر إلى الدعوة الصريحة لقتله، حيث يروي عن عائشة قولها: اقتلوا نعثلا لعن الله نعثلا.
وعلى الرغم من أن عمر وعثمان قد ماتا مقتولين، إلا أن عمر قد قتل على يد غلام من أصل مجوسي، وترك قتله غصة في نفوس المسلمين، وأثار في نفوسهم جميعاً الروع والهلع لفقد عظيم الأمة، ورجلها الذي لا يعوض، بينما على العكس من ذلك تماماً، ما حدث لعثمان عند مقتله، فقد قتل على يد المسلمين الثائرين المحاصرين لمنزله وبإجماع منهم، وكتب التاريخ تحدثنا برواية غريبة فيما يتعلق بدفنه، فالطبري يذكر في كتابه تاريخ الأمم والملوك ( لبث عثمان بعدما قتل ليلتين لا يستطيعون دفنه ثم حمله أربعة " حكيم ابن حزام وجبير بن مطعم ونيار بن مكرم وأبو جهم بن حذيفة" فلما وضع ليصلي عليه جاء نفر من الأنصار يمنعوهم الصلاة عليه ومنعوهم أن يدفن بالبقيع، فدفنوه في حش كوكب ( مقابر اليهود)،وفي رواية ثانية (أقبل عمير بن ضابئ وعثمان موضوع على باب فنزا عليه فكسر ضلعاً من أضلاعه)، وفي رواية ثالثة أنهم دفنوه في حش كوكب حين رماه المسلمين بالحجارة فاحتمى حاملوه بجدار دفنوه بجواره فوقع دفنه في حش كوكب.
وفي هذا يقول الكاتب، أي غضب هذا الذي يلاحق الحاكم حتى وهو جسد مسجى، وينتقم منه وهو جثة هامدة، ولا يراعي تاريخه في السبق في الإسلام والذود عنه، ولا عمره الذي بلغ السادسة والثمانين، ويتجاهل كونه مبشَّراً بالجنة وزوجاً لبنتي الرسول، ويرفض حتى مبدأ الصلاة عليه أو دفنه في مقابر المسلمين شأنه شان أفقرهم أو أعصاهم.
وهنا مجموعة من النتائج التي توصل إليها الكاتب، وكما يقول سوف نستعرضها كلها عسى أن تحل معضلة التفسير وان تجيب على السؤال الحائر وموجزه لفظ لماذا؟
النتيجة الأولى:
إن العدل لا يتحقق بصلاح الحاكم، ولا يسود بصلاح الرعية، ولا يتأتى بتطبيق الشريعة، وانما يتحقق بوجود ما يمكن أن نسميه (نظام حكم)، وأقصد به الضوابط التي تحاسب الحاكم إن أخطأ، وتمنعه إن تجاوز، وتعزله إن خرج على صالح الجماعة أو أساء لمصالحها، وقد تكون هذه الضوابط داخلية، تنبع من ضمير الحاكم ووجدانه، كما حدث في عهد عمرن وهذا نادر الحدوث، لكن ذلك ليس قاعدة ولا يجوز الركون إليه، والأصح أن تكون مقننة ومنظمة، لها قاعدة ونظام رقابة.
فعهد عثمان اثبت بأنه لا قاعدة ولا نظام رقابة، بقي متمسكاً بالحكم رافضاً الاعتزال عندما طلب منه، فقد أجابهم بقوله الشهير والله لا أنزع ثوباً سربلنيه الله (أي ألبسنيه الله).
وبهذا فقد أعلن عثمان أن نظام الحكم الإسلامي (من وجهة نظره) يستند إلى القواعد الآتية:
- خلافة مؤبدة.
- لا مراجعة للحاكم ولا حساب أو عقاب أن اخطأ.
- لا يجوز للرعية أن تنزع البيعة منه أو تعزله، ومجرد مبايعتها له مرة واحدة، تعتبر مبايعة أبدية لا يجوز لأصحابها سحبها وإن رجعوا عنها أو طلبوا المبايع بالاعتزال.
ولأن أحداً لا يقر ولا يتصور أن تكون هذه هي مبادئ الحكم في الإسلام، قتله المسلمون، لكن السؤال يظل حائراً، ومضمونه، هل هناك قاعدة بديلة؟ أو نظام حكم واضح المعالم في الإسلام؟ هل هناك قاعدة في القرآن والسنة تحدد كيف يبايع المسلمون حاكمهم، وتضع ميقاتاً لتجديد البيعة، وتحدد أسلوباً لعزل الحاكم بواسطة الرعية، وتثبت للرعية حقها في سحب البيعة كما تثبت لها حقها في إعلانها، وتعطى المحكومين الحق في حساب الحاكم وعقابه على أخطائه، وتنظم ممارستهم لهذا الحق؟
النتيجة الثانية:
إن تطبيق الشريعة الإسلامية وحده ليس هو جوهر الإسلام، فقد طبقت وحدث ما حدث، وأخطر من تطبيقها بكثير وضع قواعد الحكم العادل المتسق مع روح الإسلام...
ولعل ما حدث في السودان خير دليل على مغبة البدء بالوجه العقابي للإسلام، وهو ما حدث حين أعلن الحاكم عن تطبيق الشريعة الإسلامية وبدأ في إقامة الحدود في مجتمع مهدد بالمجاعة، الأمر الذي ترتب عليه أن أصبح أنصار تطبيق الشريعة الإسلامية بعد تلك التجربة أقل بكثير من أنصارها قبل التطبيق، فالبدء يكون بالأصل وليس بالفرع، وبالجوهر وليس بالمظهر، وبالعدل قبل العقاب، وبالأمن قبل القصاص، وبالأمان قبل الخوف، وبالشبع قبل القطع.
النتيجة الثالثة:
إنك إن انتقلت من عهد عثمان إلى عهدنا الحاضر، لا تجد شيئاً اختلف أو استجد سواء بالنسبة لحل مشاكل المجتمع، أو بالنسبة لمواجهة السلطة إن انحرفت، من خلال منظور إسلامي..
وذلك بحاجة إلى برنامج سياسي متكامل، ينتظم مفردات المجتمع بما فيها الشريعة في منظومة لا تتناقض مع الإسلام ولا تتصادم مع متغيرات الواقع، برنامج سياسي يقدم الحلول الكفيلة للمشكلات، مثال ذلك الأجور والأسعار والإسكان... ولكن يبدو ذلك صعباً ومستحيلاً إذا تطلب الأمر، لأن الاعتماد على اجتهادات القرن الثاني الهجري يعقد المشاكل بشكل اكبر بدلاً من حلها.
النتيجة الرابعة:
إننا يجب أن نفرق بين الهروب والمواجهة، وبين النكوص والإقدام، وبين المظهرية والجوهر، فالمجتمع لن يتغير والمسلمون لن يتقدموا بمجرد إطالة اللحية وحلق الشارب.. واللحاق بركب التقدم العلمي لن يحدث بمجرد استخدام السواك بديلاً عن فرشاة الأسنان...أو إضاعة الوقت في الخلاف حول طريقة دخول المرحاض وهل تكون بالقدم اليمنى أم اليسرى، وميقات ظهور المهدي المنتظر، ومكان ظهور المسيخ الدجال.. فكل هذه قشور، والغريب أنها تشغل أذهان الشباب وبعض الدعاة بأكثر مما يشغلهم جوهر الدين وحقيقته.. بل دعوة القادة الطامحين إلى إحياء الإسلام، بترك العلوم الوضعية أو الأعمال العلمانية والتفرغ للعبادة.
فيستطرد الكاتب قائلاً: هل هذا هو وجه الإسلام الحقيقي، وهل هذا هو ما سنواجه به القرن الحادي والعشرين، وهل هؤلاء الذين يسيئون قيادة أنفسهم وأتباعهم هم الصالحون لقيادة المجتمع، وهل أقبل منهم أو تقبل منهم دعوتهم للدولة الدينية وهم لا يتمسكون من الدين إلا بالقشور، ولا يعرفون من العقيدة إلا مظهرها الذي لا أصل له في كتاب الله، ولا سند له إلا التأسي بالرسول في مسايرته لعصر غير عصرنا، ولمجتمع يختلف جملة وتفصيلاً عن المجتمع الذي نعيشه، وليتهم تأسوا به وهو يدعو للرحمة، ويستنكر قتل المسلم للمسلم، ويدعو لطلب العلم ولو في الصين، ويستنكر اعتزال العمل للعبادة، ويعدل في قسمته بين الدين والدنيا، ويعلن حكمته الخالدة للأجيال التالية له، ومضمونها أنهم أعلم بشئون دنياهم.
هؤلاء قوم كرهوا المجتمع فحق للمجتمع أن يبادلهم كرهاً بكره، ولفظوه فحق له أن يلفظهم، وأدانوه بالجاهلية فحق له أن يدينهم بالتعصب وانغلاق الذهن، وخرجوا عليه فحق له أن يعاملهم بما اختاره لأنفسهم، معاملة الخارجين على الشرعية والقانون، ووضعوا أنفسهم في موضع الأوصياء على الجميع، وهم أولى الناس بأن يعاملوا معاملة المحجور عليهم، وهم من قبل ومن بعد، أساءوا للإسلام ذاته حين ادعوا عليه ما ليس فيه، وأظهروا منه ما ينفر القلوب، وأعلنوا باسمه ما يسيء إليه، وأدنوه بالتعصب وهو دين السماحة، واتهموه بالجمود وهو دين التطور، ووصموه بالانغلاق وهو دين التفتح على العلم والعالم، وعكسوا من أمراضهم النفسية عليه ما يرفضه كدين، وما نرفضه كمسلمين.
رابعاً: إن الداعين إلى التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية، يضمرون عداء لا حد له للديمقراطية، إما عن قصد نتيجة عدم إيمانهم بها، وإما عن حسن نية من الكثيرين الذين يدفعهم حماسهم للشريعة إلى المطالبة بإقرارها بعرضها على مجلس الشعب، دون أن تناقش على نطاق شعبي واسع، مع تلويحهم بسيف الخروج عن الدين لأعضاء المجلس، إن هم رفضوا أو تأنوا أو ترددوا، ويتجاوز البعض فيحاولون القفز فوق المجلس، متوجهين مباشرة إلى رئيس الجمهورية، ومطالبين له بوضعها – هكذا – موضع التنفيذ الفوري الناجز.
ثم يقول الكاتب أن عداءهم للديمقراطية، واعتراضهم على الكثير من نصوص الدستور، ورفضهم الاعتراف بشرعية جميع الاستفتاءات التي حدثت،وعجزهم عن القدرة في وضع برنامج سياسي كامل، وعدم اللجوء إلى الاجتهاد العقلاني في حل مشاكل المجتمع، ليس إلا وهم وسراب ونوع من الهوى يريدون عبر دعواهم أن يتسلطوا، ويستبدوا، ويغلفوا العقل بغشاء الجهل والتخلف واجتهادات تجاوزها الزمن ولم يعد ملائماً لروح العصر.
فالإسلام كما يقول الكاتب، أعز من أن يهينوه بتصور المصادمة مع العصر، وأن الوطن أعز من أن يهدموا وحدته بدعاوى التعصب، وأن المستقبل يصنعه القلم لا السواك، والعمل لا الاعتزال، والعقل لا الدروشة، والمنطق لا الرصاص، والأهم من ذلك كله أن يدركوا حقيقة غائبة عنهم، وهي أنهم ليسوا وحدهم.. جماعة المسلمين.

قراءة جديدة في أوراق الراشدين

في قراءته الجديدة لأوراق الراشدين، يسرد لنا الكاتب الكثير من الأحداث والوقائع ذات الصلة بالفكر والسياسة والتاريخ، بدءاً من عهد أبي بكر إلى آخر عهد خلفاء الراشدين، ويطرق أبواب كثيرة حول كيفية مبايعة أبي بكر، واجتهادات عمر بن الخطاب ومقتله، وقتل عثمان بن عفان، وقتل علي، لا بل قتل المسلمين بسيوف المسلمين، وهلك الصحابة بسيوف الصحابة، حيث يقول الكاتب أن دلالات تلك الحوادث بقيت تؤرق أذهاننا حتى اليوم، وأختلف الفقهاء حتى يومنا هذا مع ما لم يتمن أحد أن يناقش، ناهيك عن أن يحدث، وهو (شرعة قتال أهل القبلة)، أي مشروعية قتال المسلمين للمسلمين، وقتل المسلمين للمسلمين، ويحلو للبعض أن ينسب نشأة هذه الظاهرة إلى أوائل عهد عليّ، كنا نعود بها إلى عهد أبي بكر، حين نتوقف أمام حروب الردة متأملين، مفرقين بين قتال أبي بكر للمرتدين عن الإسلام، وبين قتاله للممتنعين عن دفع الزكاة له أو لبيت المال، ولنا في التفرقة بين الفريقين منطق بسيط، يسلم بارتداد الفريق الأول، ويتحرز في وصف الفريق الثاني بالردة، فقد كانوا ينطقون بالشهادتين، ويؤدون الفرائض جميعاً دون إنكار، ويؤدون الزكاة نفسها لكن للمحتاج وليس للخليفة أو لبيت المال، وكانت حجتهم في ذلك أن الآية الكريمة (خذ من أموالهم)، منصرفة إلى الرسول، موجهة إليه، ولا يجوز أن تتصرف لغيره، لأنها لم توجه لغيره، حتى لو كان هذا الغير خليفة الرسول، ولعلنا ونحن نتأمل ونفرق، وربما نتعاطف، نستحضر في أذهاننا موقف عمر من أبي بكر، وهو يسأله عن حجته في قتل من ينطق بالشهادتين، فيجيبه أبو بكر بما يعني أن للشهادة (حقها)، يقصد بهذا الحق أداء الزكاة لبيت المال، وهو اجتهاد مجهد وجهيد، ولعل عمر كان يستحضر في ذهنه وهو يحاور أبا بكر حديث الرسول عن أن المسلم لا يقتل إلا لثلاث، إن زنى بعد إحصان، أو ارتد بعد إيمان، أو قصاصا لقتل النفس بغير حق، ولعله كان يرى أن نفي الإيمان عن ناطق الشهادتين ، مؤدي الصلاة، صائم رمضان، حاج البيت إن استطاع لذلك سبيلا، مؤدي الزكاة إلى المحتاج دون وساطة........
ثم يستطرد فيما يخص اجتهاد أبو بكر، بأنه على حق إذا ناقشنا الأمر من باب السياسة، فلولا ما فعل ما أصبح للإسلام دولة ثابتة الأركان، متينة البنيان، تفتح البلدان، وتنشر العقيدة وتثبت دعائمها...ونؤيد ما يراه البعض من أن قرار أبي بكر كان سياسياً وليس دينياً، وبمعنى آخر كان علمانياً يفصل بين السياسة والدين.
ثم يذكرنا الكاتب بحديث الرسول الكريم، عن أن عمار بن ياسر سوف تقتله الفئة الباغية، وهو حديث ثابت وصحيح،لأن الجميع تذكره حين قتل عمار، تذكره جيش علي فتهلل، وتذكره جيش معاوية فتزلزل، ولم يهدئ روعه إلا رد معاوية المحنك "قتله من أخرجه"، فيقول الكاتب لا شك فأن أحدى الفئتين باغية حسب حديث الرسول، ولو سلمنا بظاهر الحديث لحكمنا على جيش معاوية بالبغي، ولأصبح معاوية باغياً..الخ، ولو سلمنا بتفسير معاوية، لأصبح البغاة فريقاً من كبار الصحابة لا نجرؤ على ذكر أسمائهم مقترنة بالبغي، ويتوقف عند اجتهاد أبي بكر، من أن بعضاً من كبار الصالحين مثل واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، كانا أجرأ منا حين أطلقا لعقولهم العنان، فأنكرا فعل الفريقين في أصحاب الجمل، وأصحاب صفين، وذكرا انه "لا تجوز قبول شهادة علي وطلحة والزبير على باقة بقل"، وأوضح من قول واصل وعمرو، قول عبد الله بن عباس لبعدا لله بن زبير (لو كان جيش الإمام على حق فقد كفر الزبير بقتاله، ولو كان جيش عائشة على حق فقد كفر الزبير بتخليه عنه).
ثم يذهب بنا الكاتب إلى اجتهاد عمر، ويصف أن اجتهاده لم يكن قاصراً على التفسير أو التعديل، بل أمتد إلى التعطيل والمخالفة، وفي هذا يستند إلى ما جاء في كتاب (الاجتهاد)، للدكتور عبد المنعم النمر، وجاء كما يلي (سهم المؤلفة قلوبهم: وهو سهم قد نص عليه القرآن الكريم في آية توزيع الزكاة " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم" التوبة / 60 – وكان الرسول "ص" يعطيهم – وهم الكفار – أو ليسوا على إسلام صحيح صادق بل متأرجحين، ليتألف بالعطاء قلوبهم – وطالما استعبد الإنسان إحسان – فيكفوا عن المسلمين شرهم، وليكسب ودهم أو لسانهم، وربما حبهم وإسلامهم، يروي سعيد بن السيب عن صفوان بن أمية قال: "أعطاني رسول الله وإنه لأبغض الناس إلي، فمازال يعطيني حتى أنه لأحب الخلق إلي"، وسار أبو بكر رضى الله عنه في خلافته على ما سار عليه الرسول، حتى جاءه عينية بن حصن، والأقرع بن حابس، فسألا أبا بكر: ياخليفة رسول الله، إن عندنا أرضاً سبخة ليس فيها كلأ، ولا منفعة، فإن رأيت أن تعطينا؟ فأقطعهما أبو بكر إياها، على أنهما من المؤلفة قلوبهم، وكتب لهما كتابا بذلك، وأشهد عليه، ولم يكن عمر حاضراً، فذهب إلى عمر ليشهد، فعارض عمر ذلك بشده، ومحا الكتابة.. فتذمرا وقالا مقالة سيئة، فقال لهما: "إن رسول الله كان يتألفكما، والإسلام يومئذ قليل، وإن الله قد أغنى الإسلام. إذهبا فاجهدا جهدكم لا يرعى الله عليكما إن رعيتما".
والشاهد هنا، أن عمر أوقف حكما كان مستقراً في أيام الرسول، وجزء من خلافة أبي بكر، بناء على اجتهاد له.. لم يقف جامداً عند حدود النص وظاهره ولا حدود الفعل، بل غاص إلى سببه وعلته، وحكم اجتهاداً منه في فهم الحكم، على ضوء ظروف الإسلام، حين صار قوياً في غير حاجة إلى تأليف قلوب هؤلاء)..
كلام منطقي، وواضح، وصريح، يترتب عليه سؤال منطقي، وواضح، وصريح أيضا، مضمونه: هل يجوز لنا أن نتأسى بعمر، فنعطل نصاً، أو نجتهد مع وجوده، ويصل بنا الاجتهاد إلى مخالفته، إذا انعدمت علته أو تغيرت أسبابه؟
ثم يأتي الكاتب بمثال آخر لاجتهاد عمر، عطل فيه حدا من الحدود الثابتة، وهو حد السرقة، إذا كان السارق محتاجاً، ثم أوقف تنفيذه في عام المجاعة، ولنقرأ ما أورده الدكتور النمر في كتابه بشأن هذا الاجتهاد من عمر (عدم إقامة الحد على السارق: وهذا اجتهاد جديد في إقامة الحد، اجتهد عمر في ألا يقيمه بعد ثبوت السرقة على السارقين.. ووجوب الحد عليهم، في الحضر لا في السفر، ولا في الغزو. فقد روى مالك في الموطأ، أن رقيقاً لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فانتحروها، فأمر عمر بقطع أيديهم، ثم أوقف القطع، وفكر في أن يعرف السبب الذي من اجله سرق هؤلاء فلعلهم جياع، وجاء حاطب فقال له عمر، إنكم تستعملونهم، وتجيعونهم، والله لأغرمنك غرامة توجعك، وفرض عليه ضعف ثمنها، وأعفى السارقين من القطع لحاجتهم.. ولم يقف عمر بهذا عند ظاهر النص جامداً، بل غاص إلى ما وراءه...."
كما أن عمر عمل على إيقاف الحدود في السفر مثل ما فعل حذيفة أيضاً، فأوقف الحد على شارب الخمر..).
وهكذا يتضح لنا أن عمر قد اجتهد فألغى سهم المؤلفة قلوبهم مخالفاً للنص القرآني، وأوقف حد السرقة على المحتاج، ثم عطله في عام المجاعة، وعطل التعزيز بالجلد في شرب الخمر في الحروب، ونضيف إلى ذلك أنه خالف السنة في تقسيم الغنائم فلم يوزع الأرض الخصبة على الفاتحين، وقتل الجماعة بالواحد مخالفاً قاعدة المساواة في القصاص، ولا نملك ونحن نستعرض ما فعل، في ضوء الملابسات المحيطة بكل حادثة، إلا أن نكتشف حقيقتين هامتين، أولهما أنه استخدم عقله في التحليل والتعليل، ولم يقف عند ظاهر النص، وثانيهما أنه طبق روح الإسلام وجوهره مدركاً أن العدل غاية النص، وأن مخالفة النص من أجل العدل، أصح في ميزان الإسلام الصحيح من مجافاة العدل بالتزام النص، وهذه الروح العظيمة في التطبيق، تخالف أشد المخالفة روح القسوة فيمن نراهم ونسمع عنهم، وتتناقض مع منهجهم المتزمت، وتوقفهم أمام ظاهرة النص لا جوهره...
ثم يقول الكاتب في سيرة عمر انه كان رجل دين ورجل دولة بامتياز، أخذ بالاجتهاد المستنير في التحليل والتعليل للآيات والنصوص القرآنية، وهذا ما ميز عهده عن غيرهم من الخلفاء من بعده، حيث يقول في عثمان وما فعل غداة ولايته، انه أطلق الصحابة يذهبون حيث شاءوا وزاد على ذلك بأن أجزل لهم العطايا، وهذا ما لم يفعله عمر في عهده، بل فعل العكس، حيث ألزم الصحابة بالبقاء في المدينة، خشية من أن يفتتن الناس بهم، أو أن يفتتنوا هم أنفسهم بالناس، وأجرى عليهم أرزاقاً محددة ومحدودة، ألزمهم بها..
حيث أن الفتن الكبرى حدث في عهد عثمان، وانتهت بمصرعه، على يد المسلمين، واستمرت طوال عهد علي وانتهت بمصرعه أيضاً، ولا أريد أن أستعرض التفاصيل هنا، بل سوف أذهب مع الكاتب إلى نتيجتين استخلصهما لنا وهي:
أن من يتصورون أنه من الممكن إعادة طبع نسخة كربونية من عصر الراشدين، في عصرنا الحديث، إنما يركبون شططا من الأمر، وقد يصلون بأنفسهم وبنا إلى نتائج مؤسفة، فليس كل ما كان مقبولاً في عهد الصحابة مقبولاً وصحيحاً في عصر غير العصر، ومع قوم غير قوم، وحتى في أفعال الرسول نفسه..
وفي هذا ينقل لنا الكاتب واقعتين شهيرتين:
الأولى في حاثة الإفك المعروفة، حين اتهم البعض عائشة فدعا الرسول علياً لاستشارته ( فقال يا رسول الله إن النساء لكثير وانك لقادر على أن تستخلف وسل الجارية فإنها تصدقك فدعا رسول الله "ص" (بريرة) يسألها فالت فقام إليها (علي) فضربها ضرباً شديداً وهو إيذاء بدني من علي للجارية بقصد الحصول منها على اعتراف ولم ينكر الرسول شيئاً مما فعله علي، والتفسير (الكربوني) هنا يصل بنا إلى أنه من (السنة) أن يعذب المتهم للحصول على اعترافه ويصبح ما يثار حول تعذيب أعضاء الجماعات الإسلامية في السجون أمراً مشروعاً، وشرعياً بل ومحموداً لأنه تأس بالسلف الصالح..
بينما وجهة النظر المقابلة، المتسعة الأفق الملتصقة بروح العقيدة، تستنكر التعذيب، وترى ان هذا حتى لو كان أمرا مقبولا في عصر الرسول، لا ينسحب على غيره من العصور، وإذا كانت الحضارة قد أضافت فيما أضافت، مفهوما واسعا لحقوق الإنسان، يرفض فيما يرفض أن يعذب متهم للحصول على اعتراف، فإننا نقبل هذا المفهوم من منطلق إسلامي، ولا نرفضه لمجرد التأسي بعصر أيا كان هذا العصر، لسببين بسيطين واضحين، أولهما أننا في عصر غير العصر وثانيهما أن الإسلام لا يتنافى مع روح العصر، أي عصر، في كل ما هو إنساني وسمح وعادل..
الواقعة الثانية: بعد وفاة الإمام علي بن أبي طالب بطعنات من عبد الرحمن بن ملجم (دعا عبد الله بن جعفر بابن ملجم، فقطع يديه ورجليه وسمل عينيه فجعل يقول: " إنك ياابن جعفر لتكحل عيني بمُلْمُول مض " أي بمكحال حار محرق" ثم أمر بلسانه أن يخرج ليقطع، بجزع من ذلك، فقل له ابن جعفر: قطعنا يديك ورجليك، وسملنا عينيك، فلم تجزع، بكيف تجزع من قطع لسانك، قال: إني ما جزعت من ذلك خوفا من الموت، ولكني جزعت أن أكون حياً في الدنيا ساعة لا أذكر الله فيها. ثم قطع لسانه، فمات)، والرواية يذكرها ابن سعد مضيفاً إليها حرقه بعد موته ويذكرها ابن كثير دون ترجيح ويقتصر الطبري وابن الأثير على الحرق بعد القتل.
والرواية لا تعبر في رأينا عن روح الإسلام أو تعاليمه، حتى لو اقتصرت على حرق الجثمان بعد القصاص، فقد نهى الرسول عن المثلة ولو بالكلب العقور، ونهى (علي) قبل وفاته في رواية لابن الأثير عن المثلة بقاتله، لكنها تعبر من وجهة نظرنا عن روح عصر، سادته القسوة، وتحجر القلب.. غير أن لكل حقيقة وجهين، وما أيسر أن يجد أنصار (الكربون)، تبريراً لفعل عبد الله بن جعفر، وللإقتداء به، بإلصاق تهمة الإفساد في الأرض بابن ملجم، والتأسي بالحسن والحسين، حيث لم يذكر عنهما أنهما أنكرا التمثيل بالجثمان بحرقه بعد القصاص. ولعلنا نتساءل ونحن نتأمل صمود عبد الرحمن بن ملجم، وصبره على قطع أطرافه وسمل عينيه بالحديد المحمى، ثم جزعه عند قطع لسانه ( حتى لا تمر عليه لحظة لا يذكر فيها الله)..
هل هناك مثال أبلغ من هذا المثال، على ما يمكن أن يؤدي إليه التطرف عندما يتسلط على الوجدان، فلا يميز المتطرف بين الكفر والإيمان، ويصل به الأمر إلى قتل علي ابن أبي طالب، والتلهي عن المثلة به بقراءة القرآن والجزع فقط عند قطع اللسان، حتى لا يحرم لحظة من ذكر الرحمن؟.
لا جديد إذن تحت الشمس، وقد لا نجد في زماننا نظيرا لعلي، لكننا نجد كثيراً من أمثال عبد الرحمن..
وهنا يقول الكاتب لنعود إلى هواة الكربون.. ويستطرد في حديثه، أليس الأجدر بهم، رحمة بنا، وبالإسلام، أن نلتزم بالقرآن، وبالسنة في شئون العبادة، وأن نترك في نفس الوقت، مساحة من أذهاننا للتعرف على العصر والالتقاء معه، وقبول ما يأتي به من قيم تتناسق مع جوهره، ولا تتناقض مع الإيمان والعقيدة، وأن نقبل ما نقبل، ونترك ما نترك، بقلب مؤمن وفكر مفتوح، فلا نرفض حقوق الإنسان لأنهل أتت من الأعاجم، ولا نرفض الديمقراطية لأنها بدعة، ولا نرفض عصرنا على إطلاقه، ولا نقبل عصر الراشدين على إطلاقه، ونستخدم العقل في النقل، والكربون في طبع مستحدثات الحضارة، تلك التي لا علاقة لها بالفكر أو العقيدة، وإنما علاقتها وطيدة بالتقدم، ذلك الذي أزعم أنه ليس ركنا من أركان الإسلام، بل هو الإسلام.
النتيجة الثانية:
أن قواعد الدين ثابتة، وظروف الحياة متغيرة، وفي المقابلة بين الثابت والمتغير، لا بد وأن يحدث جزء من المخالفة، ونقصد بالمخالفة أن يتغير الثابت أو يثبت المتغير، ولأن تثبيت واقع الحياة المتغير مستحيل، فقد كان الأمر ينتهي دائماً بتغير الثوابت الدينية، وقد حدث هذا دائماً ومنذ بدء الخلافة الراشدة وحتى انتهت، وتغيير الثوابت هو ما نسميه بالاجتهاد، وقد اتفقنا على أنه ليس مطلقاً، لكنه قائم ومتاح، واجتهادات عمر خير دليل على ما نقول،غير أنه في بعض الأحيان تفرض تعقيدات الحياة نوعا من المخالفات الحادة ليس فيه شيء من تناغم الاجتهاد في ربطه بين الأسباب والنتائج، فتصبح المخالفة صريحة وواضحة لا يمكن تبريرها بالاجتهاد لافتقاد أسبابه، وإنما تبرر فقط بان عدم المخالفة مستحيل أو في أحسن الأحوال غير ممكن، وقد حدث ذلك في عهد الراشدين كما يحدث في كل عهد، ومثاله ما حدث عقب مقتل عمر ابن الخطاب، حين انطلق ابنه عبيد الله أبن عمر، وقتل ثلاثة ظن فيهم التآمر على مقتل والده، ولم يثبت ذلك في حق أحد منهم، وكان احدهم الهرمزان، الذي أسلم وصح إسلامه، وقد واجه عثمان هذا الموقف في بدء ولايته وكان رأي الدين فيه واضحا، أعلنه علي وأصر عليه، وهو أن يقتل عبيد الله بدم من قتل، لكن عثمان لم يملك إلا المخالفة لأسباب (إنسانية)، فقد تساءل الناس في شفقة، أيقتل عمر بالأمس، ويقتل ابنه اليوم؟، ألا يكفي آل عمر قتل عمر؟، أيفجعون فيه ثم في ولده قبل أن تجف دموعهم عليه؟... منطق، وإنسانية، وظروف متغيرة.. لكن حكم الدين ثابت وواضح ولا لبس فيه..حكم الدين هو القصاص، ولا بد من قتل عبيد الله..
ويقال أن عمرو بن العاصى أفتى بفتوى بالغة الذكاء والمهارة عندما تولى عثمان، وسأل عمرو أن يخرجه من المأزق الصعب، فقال عمرو بما أن الهرمزان لم يقتل في ولايتك، إذن يتولاه الله.. والشاهد هنا أن عثمان حاول التخلص من المأزق بدفع دية الهرمزان من ماله، ولكن علي ظل يتوعد عبيد الله كلما لقيه بأنه إذا تولى فسوف يقتله بدم الهرمزان، وما أن تولى علي حتى هرب عبيد الله إلى جيش معاوية، وحارب عليا إلى أن قتل في معركة صفين..
ويشاء القدر أن يقع علي في نفس المأزق، بل رما بصورة أعقد، فقد ولى ولم يقدر على قتلة عثمان لأنهم كانوا مسيطرين على المدينة.. وعندما أعلن معاوية أن مطلبه الوحيد أن يدفع علي إليه قتلة عثمان، فوجئ علي بجيشه يهتف في صوت واحد، كلنا قتلة عثمان، فزاد الموقف تعقيداً، وأصبح مستحيلاً على الإمام علي أن يثأر من القتلة أو حتى يحاسبهم..
هي الحياة وليس الجنة، والبشر وليس الملائكة، وخلا عصر النبوة لا يوجد عصر للنقاء المطلق، أو انعدام المخالفة المطلق وكلما تغير العصر أو تقدم، تعددت المتغيرات وزادت المخالفات، وإذا كانت الاجتهادات واسعة، والمخالفات واردة، قبل أن يمر ربع قرن على وفاة الرسول، وفي عهد معاصريه، فكيف بنا بعد أربعة عشر قرنا من وفاة الرسول، ألا نتوقع أن يزداد حجم (المخالفات الاضطرارية)، وأن تتوسع في (الاجتهادات الضرورية)، وأن نقبل بحد أدنى من تطبيقات الدين، أقل بكثير مما قبله سلف أصلح، في عصر أكثر تخلفاً، وأقل تعقيداً، وأحكم انغلاقاً، وأكثر اتفاقاً..

قراءة جديدة في أوراق الأمويين

حسب الكاتب أن الحديث عن ما يلي عهد الراشدين، والمقصود عهد الأمويين والعباسيين، حديث كله أسى مغلف بالدعابة، أو دعابة مغلفة بالأسى، أما المجون فأبوابه شتى، وأما الإستبداد فحدث ولا حرج.
وفي ذلك ثلاث قصص موجزة يقصها لنا الكاتب، وهي بليغة في تعبيرها عن تطور أسلوب الحكم، واختلافه في عهود ثلاثة، أولها عهد عمر بن الخطاب، درة عهود الخلافة الراشدة، وثانيها عهد معاوية ابن أبي سفيان مؤسس الخلافة الأموية، وثالثها عهد عبد الملك ابن مروان، أبرز الخلفاء الأمويين بعد معاوية، وأشهر رموز البيت المرواني، الذي خلف البيت السفياني بعد وفاة معاوية بن يزيد، ثالث الخلفاء الأمويين.
القصة الأولى:
عام 20 هـ وقف عمر خطيباً على منبر الرسول في المدينة، وتحدث عن دور الرعية في صلاح الحاكم وإصلاحه فقاطعه أعرابي قائلا: والله لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا، فانبسطت أسارير عمر، وتوجه إلى الله حامدا وشاكرا، وذكر كلمته المأثورة المشهورة: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر، من يقومه بحد السيف إذا أخطأ..
القصة الثانية:
عام 45هـ قال ابن عون: كان الرجل يقول لمعاوية: والله لتستقيمن بنا يا معاوية، أو لنقومنك فيقول: بماذا؟ فيقول: بالخشب فيقول: إذن نستقيم.
القصة الثالثة:
عام 75هـ خطب عبد الملك بن مروان، على منبر الرسول في المدينة، بعد قتل عبد الله بن الزبير قائلا (والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه)، ثم نزل.
فالقصة الأولى نموذج لصدق الحاكم مع الرعية، وصدق الرعية مع الحاكم.. أما القصة الثانية، فهي نموذج رائع لخداع الكلمات حين يصبح للعبارة ظاهر وباطن، وللكلمة مظهر ومخبر، فالرجل في تهديده أقرب للمداعبة، وأميل إلى الرجاء، ومعاوية في رده عليه يحسم الموقف بتساؤله (بماذا)؟ وهو تساؤل يعكس ثقة عالية في النفس، وهي ثقة تهوى فوق رأس الرجل ثقيلة وقاطعة، شأنها شأن السيف الحسم البتار، وما أسرع ما ينسحب الرجل سريعا محولا الأمر كله إلى دعابة، وهنا يدرك معاوية أن الرجل قد ثاب إلى رشده، فيعيد السيف إلى غمده الحريري، وينسحب هو الآخر في مهارة وخفة.....
وننتقل إلى القصة الثالثة، وهي أقرب إلى القصة الأولى في وضوحها وصراحتها واستقامة ألفاظها، غير أنها هذه المرة تعلن عكس ما أعلنه عمر، وتهدد بالقتل في حسم وصراحة، ليس لمن يخالف الأمير أو يعترض عليه، وليس لمن يرفع في وجهه السيف أو حتى الخشب، بل لمن يدعوه إلى (تقوى الله)، وقد خلَّد عبد الملك نفسه بذلك، فوصفه الزهري بأنه أول من نهى عن الأمر بالمعروف.
هذه قصص ثلاث توضح كيف تطور الأمر من خلافة الراشدين إلى خلافة معاوية ومن بعده، فهي تنتقل بنا بين حالات ثلاث، أولها العدل الحاسم، وثانيها الحسم الباسم، وثالثها القهر الغاشم، وكل ذلك خلال نصف قرن لا أكثر...
وفي هذا العهد هناك الكثير من التفاصيل الدقيقة حول أسلوب الحكم وسيرة الخلفاء وحياتهم، لكني سوف انتقل إلى نتيجتين استخلصهما الكاتب من ذلك العهد وهي كما يلي:
النتيجة الأولى:
أننا نشهد في الدولة الأموية عهداً مختلفاً كل الاختلاف عن عهد الراشدين، أضاف إلى فتوحات الإسلام الكثير حتى امتدت الدولة الإسلامية من الهند شرقاً إلى الأندلس غرباً، وأضاف إلى سلطة الدولة وهيبتها وتماسكها الكثير، حيث لم يخرج فيها أحد من الأمويين على آخر، إلا في نهاية الدولة حين خرج يزيد على الوليد، ثم خرج مروان على يزيد فكان ذلك نذيراً بالنهاية..
نرى ان الدولة الأموية على قصر عمرها قد حفلت برجال الدولة العظام، وعلى رأسهم معاوية، ورجل الدولة الأول في تاريخ الدولة الإسلامية كلها، ولكنه ليس رجل دين، وهو هنا يختلف عن عمر، فعمر كان رجل الدين والدولة معاً هو الوحيد الذي يمكن أن نطلق عليه هذه الصفة، أما البقية فمنهم كانوا رجال الدولة مثل معاوية، وعبد الملك بن مروان، والوليد بن عبد الملك، وهشام بن عبد الملك، ومنهم كانوا رجال الدين مثل علي ابن أبي طالب (رابع الراشدين)، وعمر بن عبد العزيز (الأموي)، والمهتدى (العباسي)..
حيث يقول الكاتب أننا حين نلقب الخلفاء الأربعة برجال الدولة، نضع في اعتبارنا هيبة الحكم، وفتح الثغور، وعمارة البلدان، وفي تقديرنا أن نجاح هؤلاء الخلفاء، قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بفصلهم بين الدين والدولة عند قيامهم بأمانة الحكم، ولعل موقف (معاوية) من (علي) مثال واضح على ذلك، ولعل موقف عبد الملك بن مروان من المصحف عندما بلغه نبأ ولايته مثال أوضح، يذكرها السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء (قال ابن أبي عائشة: أفضى الأمر إلى عبد الملك، والمصحف في حجره فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك)، وقد أجاد الخلفاء الأربعة اختيار معاونيهم، فكان منهم عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، ومسلم بن عقبة، والحجاج بن يوسف الثقفي، وهم بموازين السلطة والسطوة رجال، وبمقاييس عصرهم قادة، وهم أهل الدهاء لا النقاء، والسيف لا المصحف، وقد ارتأوا جميعاً أن أسهل السب لإسكات المعارض قطع رأسه، وأن الخوف إذا تمكن من النفوس توطن فيها..وحذوا حذو مؤسس دولتهم معاوية، حيث يروي عنه أنه كان يضع السم لمعارضيه في العسل، وأنه هكذا كانت نهاية الحسن، والأشتر النخعي وغيرهم.....هذا يعني أنهم احتكموا للسيف، وهو دستور عصرهم، فدانت لهم الدولة، وسهل حكمهم، ولو أنهم احتكموا للقرآن والتعاليم الدينية الحقة، لانتهى حكمهم قبل أن يبدأ، ولأخلى معاوية مكانه لحجر بن عدي، ولتنازل عبد الملك عن منصبه للحسن البصري..
ثم يستطرد الكاتب، ليس لحاكم في عصرنا، أو لنظام حكم في عالمنا المعاصر إلا أن يستوعب درس السابقين، بأسلوب العصر لا بأسلوبهم، وليس له أن يحاور الخارجين في ساحتهم، أو بسلاحهم أو أن يرقص على أنغامهم، وإنما عليه أن يلزمهم بالمحاورة في ساحته، فليس أمامه ولا أمامهم ساحة غير ساحة الدستور، وليس هناك من سلاح إلا القانون، وليس هناك من أنغام إلا الديمقراطية والشرعية.....
النتيجة الثانية:
إن الشعر والأدب وفن العمارة والغناء بل وأكثر من ذلك مذاهب الفقه واجتهادات الفقهاء، قد بدأت في الظهور والتألق مع نهاية الدولة الأموية، ومع انحسار القيود (الشكلية) للدولة الدينية، ووصلت للغاية في العصر العباسي الأول.. ذلك لأن الفن حرية، والحرية لا تتجزأ، والفنان لا يتألق إلا إذا أحس بفكره طليقاً، وبوجدانه منطلقاً، وبوجدان الآخرين مرحبا، وبأذهانهم سعيدة بإبداعاته، مستعدة أن تغفر له شطحاته، مقبلة على الحياة لا على الموت، متفتحة للنغم لا للوعيد، ولا أحسب أن ذلك كله جزء من طبيعة الدولة الدينية، بل هو متنافر معها كل التنافر، متناقض مع قواعدها، أشد التناقض، ولعل إحدى مشاكل الداعين للدولة الدينية أنهم يدركون أنها تحجر على كل إبداع أو تفتح أو إجهاد للعقل....

قراءة جديدة في أوراق العباسيين

ليست الدولة العباسية في حاجة إلى تقديم، كما يقول الكاتب، فقد قدمت نفسها بنفسها على يدّ مؤسسها، السفاح، أول خلفاء بني عباس، المعلن على المنبر يوم مبايعته (أن الله رد علينا حقنا، وختم بنا كما افتتح بنا، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح، والثائر المبير)، وقد أثبت السفاح أنه جدير بالتسمية، فقد بدأ حكمه بقرارين.. ليس لهما سابقة في التاريخ كله.. والقرار الأول هو أمره بإخراج جثث خلفاء بني أمية من قبورهم، وجلدهم وصلبهم، وحرق جثثهم، ونثر رمادهم في الريح، وتذكر لنا كتب التاريخ ما وجدوه، مستنداً في ذلك ما جاء في كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير، وما رواه المسعودي في مروج الذهب عن الهيثم بن عدي الطائي، عن عمرو بن هانئ...
ثم يستطرد قائلا في أي نص من كتاب الله وسنة رسوله وجد العباسيون ما يبرر فعلتهم، وأين كان الفقهاء والعلماء من ذلك كله، أين أبو حنيفة وعمره وقتها قد تجاوز الخمسين، وأين مالك وعمره وقتها قد تجاوز الأربعين، ولم لاذوا بالصمت ولم لاذ غيرهم بما هو أكثر من الصمت، أقصد التأييد، والتمجيد، والأشعار، ورواية الأحاديث المنسوبة للرسول والمنذرة بخلافة السفاح ومنا ما أورده ابن حنبل في مسنده مثل (يخرج رجل ما أهل بيتي عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن، يقال له السفاح، فيكون إعطاءه المال حثيا)، ومثل ما ذكره الطبري من (أن رسول الله أعلم العباس عمه أن الخلافة تؤول إلى ولده، فلم يزل ولده يتوقعون ذلك)، وأما القرار الثاني فهو قرار قتل الأمويين والانتقام منهم أينما وجدوا، ذلك بعد تأمينهم وتمطينهم، كما فعل مع سليمان بن هشام بن عبد الملك، عندما يبالغ في تأمينه وطمأنته بدعوته إلى الطعام وإكرامه – يدخل شاعر(سديف) على السفاح ويبدو دخوله وكأنه مفاجأة – ينطق الشاعر بأبيات تدعو للانتقام من الأمويين وتستنكر معاملتهم بالرفق أو اللين – يصرخ الأموي قائلا: قتلتني ياشيخ – ينفعل الخليفة بقول الشاعر فيقتل الأموي – ينتهي المشهد، حسب ما جاء في كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير.
وفي رواية أخرى أيضاً من نفس المصدر يرويها ابن الأثير، تبدأ بتأمين السفاح للأمويين الذين زاد عددهم هذه المرة إلى تسعين، والمأدبة هي نفسها وما دام المضيف هو الخليفة فالكرم وارد، والطمأنينة لا حد لها، وفجأة يدخل الشاعر(شبل بن عبد الله مولى بنى هاشم)، وفي رواية أخرى سديف، على عبد الله بن علي، وفي رواية أخرى على السفاح، ويستنكر إكرامهم، ويدعو للثأر منهم، فيتغير وجه الخليفة، ويقوم إليهم ثائراً..
فقد يأمر السفاح بضرب رؤوسهم بأعمدة حديدية، بحيث تتلف بعض مراكز المخ، ويبقى الجسد حيا،ثم يأمر بوضع مفارش المائدة فوقهم، ثم يجلس فوق هذه المفارش، ويأمر بالطعام فيوضع أمامه فوق الأجساد المتألمة..ويبدأ بتناول الطعام على بركة من الدماء، بساطها أجساد يصارعون الموت..
يقول الكاتب نحن هنا أمام تساؤل تطرحه هذه الحادثة، وأمثالها كثير، قبل السفاح وبعد السفاح، ربما ليست بهذه الروعة في الإخراج..أو السادية في التعبير.. لكنها في النهاية تجمل نفس الدلالة، وتنقل إلينا نفس الرسالة، يتساوى في ذلك مقتل حجر بن عدي على يد معاوية أو الحسين على يد يزيد أو ابن الزبير على يد الحجاج أو (زيد بن علي) على يد هشام، والتساؤل عن كنه الخلافة التي يدعون أنها إسلامية وينادون بعودتها من جديد، هل هي إسلامية حقا فنزنها بمقياس الإسلام، فتخرج منه، وتنبو عنه، وينتهي الحوار حولها إلى موجز مفيد، فحواه أنهم ادعوا أنها إسلامية فأثبتنا أنها لم تكن، وكفى الله المؤمنين شر (الخلافة)، أم أنها كانت حكما استبداديا يتستر برداء الدين، فنثبت عليهم الحجة...
وإذا كان السفاح قد وصف نفسه على المنبر بأنه السفاح المبيح، فإن رياح بن عثمان والى الخليفة المنصور على المدينة قد وصف نفسه على منبر الرسول بما هو أنكى حيث قال: (يا أهل المدينة، أنا الأفعى ابن الأفعى)، وإذا تباهى الخلفاء بأنهم سفاحون، وتباهى الولاة بأنهم أولاد الأفعى، أيبقى من يدعى أن الاستبداد باسم الدين هم غرب، وأن العلمانية كخلاص منه فكر غربي وافد لا علاقة له بواقع الشرق وهمومه؟.
إذاً هكذا بدأ عهد السفاح، دون أي اعتبار أو احترام للعهود والمواثيق التي تنادى بها، ووعد المسلمين بها، كما في خطابه الشهير على المنبر:( الحمد لله الذي اصطفى الإسلام وشرفه وعظمه واختاره لنا وجعلنا أهله..والزمنا كلمة التقوى..إني لأرجو أن لا يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله)، ولأنه كان متوعكا فقد أكمل داوود بن علي الخطبة فقال ( لكم ذمة الله تبارك وتعالى وذمة رسوله صلى الله عليه ولآله وسلم وذمة العباس رحمه الله...ألا وأنه ما صعد منبركم هذا " يقصد منبر الكوفة" خليفة بعد رسول الله إلا أمير المؤمنين علي وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد " وأشار بيد إلى أبي العباس" فاعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم).
وأصبحت أفعال السفاح، قاعدة لمن تلاه من خلفاء بني عباس، من الفتك بالأنصار قبل المناهضين، وقد فعل السفاح ذلك في واقعتين شهيرتين الأولى حين أعطى ابن هبيرة قائد جيوش مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين، كتاباً يحمل إمضاءه ويتعهد له بالأمان، ثم قتله بعد أيام من استسلامه، والثانية حين قتل وزيره أبا سلمة الخلال أحد مؤسسي الدولة العباسية في الكوفة، وتعمد أن يتم ذلك على يد أبي مسلم الخرساني، المؤسس الأول للدولة، حيث لا يعرف تاريخ الدولة العباسية في عهد السفاح فضلا إلا لرجلين، أولهما أبو مسلم الذي أسس الدولة في خراسان وسلم الخلافة إلى السفاح، وثانيهما عبد الله بن علي عم السفاح وقائد جيوش العباسيين في موقعة الزاب التي انتصر فيها على الأمويين انتصارا نهائياً، ويقال أن السفاح كان يسعى لقتل الاثنين، وهو ما لانجد دليلاً عليه في كتب التاريخ، غير أن أبا جعفر المنصور، ثاني الخلفاء العباسيين، والمؤسس الحقيقي للدولة العباسية.. قام بذلك الواجب خير قيام، فسلط أولاً أبا مسلم لقتل عبد الله بن علي ثم تولى هو بنفسه قتل أبي مسلم، ولم يشفع له صياح أبي مسلم: استبقني ياأمير المؤمنين لعدوِّك، بل رد عليه: وأي عدو لي أعدى منك؟ هذا الرجل الذي لم يفعل للسفاح ثم المنصور إلا كل الخير، لكن لماذا قتله المنصور؟ والسبب بالتحديد واضح في كلامه، لما دخل عليه ولى عهده (عيسى بن موسى) فوجد أبا مسلم قتيلا، (فقال: قتلته؟ قال: نعم، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، بعد بلائه وأمانته؟ فقال المنصور: خلع الله قلبك! والله ليس لك على وجه الأرض عدو أعدى منه، وهل كان لكم مُلكْ في حياته؟).
هذا نموذج مثالي لما عرف باسم الميكافيلية، نسبة إلى (ميكيافيلي)، والتي توجز في تبرير الوسيلة بالغاية، وتُفصَّل في تطبيق ذلك على شئون الحكم وسيرة الحكام، وتبدو جلية على يد المنصور، الذي وطأ بأقدامه أعناق الرجال، وتفرد بأسلوبه المميز في الحكم، فهو يبدأ أولا بالتخلص من أصحاب الفضل عليه ثم يتحول إلى المعارضين وهو لا يعرف إلا القتل وسيلة للقضاء على معارضيه، ولا يعرف للعواطف سبيلا..ولأنه قوي لم يحترم إلا القوة، ولعل هذا ما يفسر إعجابه بهشام بن عبد الملك، ووصفه له بأنه (رجل بني أمية)، ثم إعجابه الشديد بعبد الرحمن بن معاوية بن هشام، الخليفة الأموي في الأندلس، على الرغم من هزيمة جيشه على يديه في أشبيلية.. بل يقال أن المنصور سمى عبد الرحمن بصقر قريش، ولما فشل في استمالته بالتودد، تحالف مع (شارلمان) ثم مع (ببين) ملكي الفرنجة، ضد عبد الرحمن الخليفة الأموي المسلم، وهو التحالف الذي فشل في هزيمة عبد الرحمن..
ومن أعمال المنصور أيضاً قتله لمحمد العلوي المشهور باسم (النفس الزكية)، وأخيه إبراهيم من ناحية أخرى، بسبب مناهضة هؤلاء لحكمه، ومطالبتهم بالخلافة، فما دام النسب هو الفيصل، فهم أقرب إلى الحكم، وأحق بالخلافة، ولم يكن المنصور في ذلك كله مدافعاً إلا عن الملك..ولا بأس أن ننهي حديث المنصور، بحديث ابن المقفع الذي أرسل للمنصور كتاباً صغير الحجم، عظيم القيمة أسماه (رسالة الصحابة)، نصح فيه الخليفة بحسن اختيار معاونيه، وحسن سياسة الرعية، وكان في نصحه رفيقاً كل الرفق،رقيقاً غاية الرقة، ولعله كان ينتظر من المنصور تقديراً أدبياً ومادياً يليق بجهده، ولعله لم يتصور أن مجرد إسداء النصح للمنصور جريمة، وأن غاية دور الأديب في رأي المنصور أن يمدح، ومنتهى دور المفكر أن يؤيد، وأن عقاب من يتجاوز دوره كما فعل ابن المقفع، أن يفعل به كما فعل بابن المقفع، الذي قطعت أطرافه قطعة قطعة، وشويت على النار أمام عينيه، وأطُعِمَ إياها مجبراً، قطعة قطعة، حتى أكرمه الله بالموت في النهاية، ولعله تساءل وهو يمضغ جسده بأمر أمير المؤمنين، أي أمير وأي مؤمنين....
ويستطرد الكاتب، أن المنصور وإن دخل التاريخ من باب الجبروت إلا أنه تركه من باب رجال الدولة العظماء، فقد رفع من هيبة الدولة وبناء أركان الحكم بمقاييس عصره، فقد بنى بغداد والرصافة وحمى ثغور الدولة الإسلامية، وأعاد التماسك إلى بنيانها، وكانت حكمته البليغة نصب عينيه: "إذا مد عدوك إليك يده فاقطعها إن أمكنك، وإلا فقبلها"، وقد كان الرجل من القوة بحيث لم يقبِّل يد احد، وأورث ولده المهدي رعية مطيعة، وثغوراً منيعة، وأورثها المهدي إلى ولديه الهادي ثم هارون الرشيد وأورثها هارون الرشيد لأولاده الثلاثة الأمين فالمأمون فالمعتصم وأورثها المعتصم لولده الواثق، وبحكم الواثق انتهى ما يعرف بالعصر العباسي الأول، أكثر عصور الدولة الإسلامية نهضة وحضارة، ولو توخينا الصدق لزدنا (وفقهاً وطهارة)، ولو أردنا استكمال الصورة لأضفنا وفسقاً ومجوناً، وهذه هي الحقيقة لا أقل ولا أكثر، فقد اجتمع كل ذلك معاً، ففي النهضة والحضارة يزهو عصر المأمون ويتألق المعتزلة، وتزدهر الترجمات، ويكفي أن نذكر في العصر العباسي الأول من أسماء اللغويين: سيبويه والكسائى ومن أسماء الأدباء والمؤرخين والشعراء: حماد الراوية والخليل بن احمد، والعباس بن الأحنف، وبشار بن برد، وأبو نواس، وأبو العتاهية، وأبو تمام وغيرهم، وفي الفقه والطهارة فهناك أبو حنيفة ومالك، والشافعي، وابن حنبل ..الخ، أما الفسق والمجون فأبوابهما كثيرة، وفنونها شتّى، وهناك في البداية ما يمكن أن نسميه بالمناخ العام، وهو الإطار الذي يسمح بالفسق، ولا يستنكف المجون أو ما هو أكثر، فقد امتلأت عاصمة الخلافة بالحانات، وانتشر شرب الخمور والغناء في مجالس الرعية.. فقد اشتهر عن فقهاء الحجاز إباحة الغناء، واشتهر عن فقهاء العراق من أتباع أبي حنيفه إباحة الشراب..أن أبا حنيفة قد أباح أنواعاً من الخمور..فيقول الكاتب لنتوقف قليلاً أمام فتاوى الخمر (الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، وأبا حنيفة)، متأملين، متعجبين من تشدد المعاصرين، فالبعض منهم يصر على أن عقوبة الخمر أحد الحدود، وهو في ظني يتجاوز الحقيقة مندفعاً بحسن النية، والأرجح في تقديرنا أنها عقوبة تعزيزية، نشترك في هذا مع رأي الشيخ محمود شلتوت (الإسلام عقيدة وشريعة) وغيره، ومن الواضح في فتوى أبي حنيفة، ومذهب ابن مسعود، أن العقوبة قاصرة على السكر البين، أما شرب القليل من أكثر أنواع الخمور فلا عقوبة عليه، وهنا يبدو منطقياً أن تسقط عقوبة البائع والمشتري والناقل والصانع... ثم يستطرد في حديثه، وقد سقنا في الأمور المشتبهات رخصة التنقل بين فقه الحجاز وفقه العراق، ونسوق أيضاً ما كان منتشراً حتى عهد أجدادنا القريب، وهو تعدد الزوجات، الذي لم ييسره الدين فقط، بل يسرته أيضاً سبل الحياة، وتوسع البعض فيه مثل الحسن بن علي، الذي ذكر أنه تزوج سبعين وقيل تسعين، وأنه كان يتزوج أربعا ويطلق أربعاً.. وبجانب ذلك كان هناك بابان للتمتع بالحياة، والحياة في المتع، باب منهما لم يختلف أحد عليه، وإن جهله بعض المعاصرين أو صعب عليهم تصوره، وباب آخر أثار ولا يزال يثير كثيراً من الخلاف، أما الباب الأول فهو التسري بالجواري، وهو جانب من جوانب نظام الرقيق، الذي ظهر الإسلام وهو جزء من إطار الحياة، فلم ينكره أو يُدنْه، وإنما حث على العتق، وهو باب من أبواب الخير العظيم، وجانب ذو شأن جليل من جوانب روح الإسلام، تلك التي نجدها اليوم متناسقة مع عالم المساواة بين الجميع، ومتناغمة مع إلغاء الرق عالمياً، بينما أو توقفنا عند ظاهر النص لأنكرنا المساواة، ولاستنكرنا الإلغاء، ولأننا من أنصار الروح والجوهر، فإننا نفسر موقف الإسلام من الرق بما نكرره ونعيده دون أن نمل، وهو أن الدين لم ينزل من أجل عصر واحد، وأن القرآن لم يتنزل لكي يناسب زمناً معيناً، وإنما نزل الدين وتنزل القرآن لكل عصر ولكل زمان، وهو وإن سمح بالرق فقد تسامح مشجعاً العتق، ومال إلى الحرية، ولم يكن له أن يضيق بعصر أو يتوقف عند زمن، وهو في سماحه بالرق أباح للمالك أن يتمتع بالجارية الأنثى، وأن يتسرى بها (يعاشرها)، وراعى أن ينسب الأبناء لآبائهم في الفراش، وكان للجواري مصدران، أولهما الشراء، وثانيهما غنائم الفتح.. وحتى ذكر المؤرخون أن الإمام (علي)، وهو أحد أكثر الخلفاء زهداً قد (مات عن أربع نسوة وتسع عشرة سرية رضي الله عنه)، وقد زاد هذا الرقم حتى أصبح بالعشرات في عهد أوائل خلفاء بني أمية، ثم بالمئات في عهد يزيد بن عبد الملك، ثم بالآلاف في عهد الخلفاء العباسيين..يقول الكاتب أن هذا الباب الذي وصفناه بأنه متفق عليه بلا خوف، ومباح بلا شبهة.. أما الباب الثاني المختلف عليه، فهو زواج المتعة، ذلك الذي أباحه الرسول في غزوتين، ثم حرمه في حجة الوداع، وكانت إباحته لما يمكن أن يطلق عليه اسم (الضرورة القصوى) في ظروف الغزو،وكان تحريمه لكونه إذا أبيح بإطلاق كان أقرب للزنا منه للزواج.. فإباحته للضرورة في واقعتين (في زمن خيبر وفي عام الفتح) أمر لم يختلف عليه أحد، وتحريمه في حجة الوداع أيضاً لا خلاف عليه، ووصفه باقترابه من الزنا أكثر من كونه زواجاً رأي ابن عمر حين ( قال – فيما أخرجه عنه ابن ماجة بإسناد صحيح - : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أذن لنا في المتعة ثلاثاً ثم حرمها، والله لا أعلم أحداً تمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة ").
وفي قول علي: لولا تحريم المتعة مازني إلا شقى، وفيما نقله البيهقى عن جعفر بن محمد انه سئل عن المتعة فقال: هي الزنا بعينه، أما الحل فهو منهج شرعي مقبول شريطة أن يكون تقدير الضرورة صحيحاً، وليس أكثر من الرسول قدرة على التقدير أو صواباً في الحكم فهو الذي لا ينطق عن الهوى، وزواج المتعة باختصار شديد هو أن يعقد الرجل على المرأة لزمن محدد يتمتع فيه بها (يوماً أو أسبوعاً أو شهراً..)، وذلك لقاء مبلغ معين من المال، وبمجرد انتهاء الأجل ينتهي العقد تلقائياً، وفقهاء السنة جميعاً يجمعون على تحريمه تحريماً قاطعاً مستندين إلى حديث الرسول في حجة الوداع (يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع، ألا وإن الله قد حرمها إلى يوم القيامة).. غير أن الأمر اختلف بالنسبة لأغلب فقهاء الشيعة حيث أباحوه، وفسروا نصاً قرآنيا بما يفيد الإباحة، حيث تمتلئ كتب التاريخ عن أواخر العصر الأموي وأغلب العصر العباسي بأحاديث المغنيات والقيان والغلمان، وهو ما نطرحه جانباً مقتصرين على الحلال، متسائلين في هدوء، هل هناك ضرورة للزنا في مثل هذا المجتمع؟، وهل يعقل أن يدعى أحد في مثل هذا المناخ أن العقاب بالرجم فيه قسوة؟، وفي حال حدوث فعل الزنا، هل يمكن تطبيق حد الرجم، وهو ما لم نعثر عليه في كتب التاريخ ولو إشارة من بعيد على تطبيقه، بل إن المرة الوحيدة التي كاد يطبق فيها الحد في عهد عمر، انتهت، بجلد الشهود، بسبب عدم توافر الشروط في الشهادة، لكن وربما تيقن عمر من الفعل، بدليل أنه عاقب الفاعل بنزعه عن الولاية هو (المغيرة بن شعبة)، والي البصرة في عهد عمر.
وهناك الكثير من الأسئلة يطرحها الكاتب على هؤلاء الذين يطالبون دون كلل أو ملل بتطبيق حد الزنا في عصرنا الراهن، وكأن الإسلام لا يكون إسلاماً في عرفهم إلا إذا جلد وفضح ورجم ودمر..
ثم يقول الكاتب، وما كان أغناني عن هذا الحديث، لولا أنني مؤمن بأن الإسلام على مفترق طرق، وأنه لا بد سائر إلى حيث يريد الله الرحمة لعباده، والانتصار لإسلامه، والاستمرار لعقيدته، وأن الإسلام لن يضار بالمتعصبين إلا إلى حين، ولن يتخلف بالجامدين إلا إلى حين، ولن يشارك في الحياة أبداً بالمرتعدين عن قصور في الفهم أو عجز في الاجتهاد أو جمود في التفكير، وأننا في حاجة إلى أن نقبل على الحياة بالإسلام، لا أن نهوى عليها بالإسلام، وأننا في حاجة إلى أن نحافظ على الإسلام العقيدة، لا أن نكتفي بحفظ الإسلام النصوص، وأننا في حاجة إلى أن نخترق الحياة بالإسلام، لا أن نحترق الحياة بالإسلام، والإسلام بحمد الله أقرب إلى الحياة من يبتعدون عنها بالقول، وينهلون منها بالفعل، ويحملون بها طوع بنانهم بالحكم، ويفزعونها ويفزعون إليها بخلط أوراق الدين بالسياسة، والسياسة بالدين، والعنف بالموعظة، والموعظة بالطمع، والطمع بالمزايدة، والمزايدة بشراء الذمم، وأبواب شراء الذمم في حياتنا المعاصرة شتى....
ثم يستطرد الكاتب في حديثه عن (الواثق) آخر خلفاء العصر العباسي الأول، فيقول أنه فتح بابا جديدا من أبواب الخلافة (الإسلامية)، وسلك مسلكا فريدا من مسالك الخلفاء أو أمراء المؤمنين، وخلد سيرته نثراً وشعراً، وحكم قرابة الست سنوات متنقلاً من غلام إلى غلام، فقد كان عاشقاً صبا للغلمان، ملكوا عليه وجدانه، وأذابوا مشاعره تولها وصبابة، وكان منهم غلام (مصري للأسف)، اسمه (مُهَج)، لعب بعواطف الواثق كما شاء، وتملك مشاعره وتلاعب بوجدانه كما يريد، إن رضي عنه استقامت أحوال الدولة واستقر شان الحكم، وإن تدلل عليه أو صده فالويل كل الويل للمسلمين، والثبور وعظائم الأمور لمن يشاء حظه العاثر أن يلقى الواثق أو يقف أمامه أو يحتكم إليه.
ولعل من يرددون دون وعي أو ملل، أن حضارة الغرب قد أباحت الشذوذ الجنسي، يتيهون الآن بان دورنا لم يقتصر أبداً على النقل من الغرب..وهل لدى الغرب حاكم مثل الواثق، وهل في تاريخهم كله خادم مثل مهج، يخلب لب الخليفة، فيصرفه عن شئون الدنيا، ناهيك عن شئون الدين، فينصرف إليه، وتجود قريحته بالشعر عليه، فيردد على إيقاع أيدينا وهي تضرب كفاً بكف:
مهج يملك المهج بسجى اللحظ والدعج
حسن القد مخطف ذو دلال وذو غنج
ليس للعين إن بدا عنه باللحظ منعرج
وهناك أشعار كثيرة نشدها الواثق في مهج، لدرجة يتصور البعض أن عمر خلافة الواثق قد ضاع على مهج وأمثاله، ومع ذلك فقد كان للواثق وجه آخر حسب الكاتب، يحلو له أن يخرج به على الرعية، ويبدو فيه حامياً لذمار العقيدة، ومناضلا من اجل صحيح الدين، فقد انتصر للمعتزلة كما فعل والده المعتصم، الذي عذب ابن حنبل لقوله بأن القرآن ليس بمخلوق، وفي رواية أخرى أنه احضر أحمد بن نصر الخزاعي أحد كبار رجال الحديث في التاريخ الإسلامي، من بغداد إلى سامراء، مقيداً في الأغلال، وسأله عن القرآن فقال: ليس بمخلوق، وعن الرؤية في القيامة، فقال: كذا جاءت الرواية ( فثار الواثق، ودعا بالسيف.. ثم ضرب عنقه، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد، فصلب بها وصلبت جثته في " سر من رأى ".......)
ثم يقول الكاتب، وإذا كان الواثق قد تألق في صولاته بين الغلمان، وإذا كان يستحق بجدارة أن يوصف في جولاته بأنه فارس الميدان، فإنه – إنصافاً له لم يكن فارس الميدان الوحيد، فقد ذكرنا طرفاً عن التلوط في عهد الوليد بن يزيد، ولم نذكر شيئاً عن عهد الأمين (ابن الرشيد) الذي ( ابتاع الخصيان وغالى بهم وصيرهم لخلوته ورفض النساء والجواري)، وكما تعلق قلب الواثق بمهج تعلق قلب الأمين بكوثر، وقال بعض الشعراء عن عصره:
( أضاع الخلافة غش الوزير وفسق الأمير وجهل المشير
لواط الخليفة أعجوبة وأعجب منه خلاق الوزير
فهذا يدوس وهذا يداس كذاك لعمري خلاف الأمور )
ثم ينتقل الكاتب في حديثه إلى الخلفاء في العصر العباسي الثاني، ويقول سوف يستنكره الكثيرون، لأنه حديث خلفاء إمعات، لا يملكون من أمرهم شيئاً، وقد يفسره البعض بأنه تصيد للأخطاء أو اصطياد في الماء العكر، وهو ما ليس في طبعنا أو من طبيعتنا، ويكفي أن ثلاثة منهم، خلعوا وسملت أعينهم وعاصروا بعضهم البعض، (وهم القاهر والمتقى والمستكفي)، ووصل الأمر أن شوهد أحدهم (القاهر) وهو يشحذ على باب أحد المساجد، مسمول العينين، مناديا: ( تصدقوا علي فأنا من عرفتم)، وهو نفسه من ( أمر بتحريم القيان والخمر، وقبض على المغنين، ونفى المخانيث، وكسر آلات اللهو وأمر ببيع المغنيات من الجواري على أنهن سوادج، وكان مع ذلك لا يصحو من السكر، ولا يفتر عن سماع الغناء)....
****
أهم النتائج التي توصل إليها الكاتب، سوف نستعرضها فيما يلي:
أولاً: أن الخلافة التي نعتوها بالإسلامية هي في حقيقتها خلافة عربية قرشية، وأنها لم تحمل من الإسلام إلا الاسم، وان دعوى إحياءها من جديد تبدو أكثر تناسقاً مع منهج القومية العربية والدعوة للوحدة بين أقطار العرب، منها إلى الدعوة لدولة دينية إسلامية، وبهذا المنطق نقبلها على أساس كونها دعوة سياسية بحتة، إن استهدفت التوحد فعلى أساس المصلحة، وإن توجهت للتكامل فعلى أسس حضارية عقلانية، وإن استلهمت التاريخ فعلى أساس وطيد من (الجغرافيا).
ثانياً: أن الإسلام دين لا دولة، وعلى المحتج علينا بالعكس، أن يرد علينا بحجة التاريخ، وليس أقوى من التاريخ حجة، أو أن يعرض علينا منهجه في إقامة الدولة على أساس الإسلام، وليس أقوى من تهافت ما قدم إلينا حتى الآن من أفكار حجة على المدعين أن الإسلام دين ودولة، ومصحف وسيف، ليس هذا فحسب بل أننا نعتقد أن الدولة كانت عبئاً على الإسلام، وانتقاصاً منه وليست إضافة إليه..
ثالثاً: إن الفرق بين الإنسان والحيوان، أن الأول يتعلم من تجاربه، ويختزنها مكوناً ما نعرفه باسم (الثقافة) ويبدو أن المنادين بعودة الخلافة يسيئون بنا الظن كثيراً، حين يدعوننا إلى أن نجرب ما جربناه من قبل، وكأن تجربة ثلاثة عشر قرناً لا تشفع، أو كأنه يفزعهم أن نسير على قدمين، فيطالبوننا بالسير على أربع.
رابعاً: إن الثابت لدينا من قراءتنا للتاريخ الإسلامي أننا نعيش مجتمعاً أرقى بكل المقاييس، وعلى رأسها مقاييس الأخلاق، وهو مجتمع أكثر تقدماً وإنسانية فيما يختص بالعلاقة بين الحاكم والرعية، وأننا مدينون في ذلك كله للثقافة الإنسانية التي لا يرفضها جوهر الدين، ولحقوق الإنسان التي لا تتناقض مع حقوق الإسلام.
خامساً: إن التاريخ يكرر نفسه وكأنه لا جديد، غير أننا لا نستوعب دروسه، ونركز في دراستنا له على أضعف جوانبه، وهو جانب الفكر الديني، ونحن في دعوتنا لدراسة التاريخ والاستفادة من دروسه، لا نكرر خطأ المتطرفين حين يدعوننا إلى منهج النسخ الكربوني، وإنما ندعو إلى ترجمة حوادث التاريخ بمصطلحات العصر الحاضر، وإلى الاستفادة من دروسه بأسلوب العصر، ولكي نؤكد للقارئ أن التاريخ يعيد نفسه، ندعوه إلى قراءة ما ذكره ابن الأثير "الكامل في التاريخ" تحت عنوان (ذكر فتنة الحنابلة ببغداد) حيث قال: (وفيها – يقصد سنة 323هـ في خلافة الراضي – عظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم وصاروا يكسبون من دور القواد والعامة، وإن وجدوا نبيذاً أراقوه، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء، واعترضوا في البيع والشراء، ومشي الرجال مع النساء والصبيان، فإذا رأوا ذلك سألوه عن الذي معه من هو؟ فإن أخبرهم وإلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة فأرهجوا بغداد)، ولنا أن نسأل القارئ: ماذا لو استبدلنا بغداد بأسيوط، والحنابلة بالجماعات الإسلامية، وعام 323هـ بعام 1986م، ثم قرأناه من جديد؟، غير أن ذلك كله كان في خلافة الراضي، حين اهتزت هيبة الحكم، وعجز عن استخدام أدواته، التي كانت نطعاً وسيفاً في عصره. بينما أدواتنا اليوم هي الدستور والقانون والديمقراطية الكاملة، وهي أدوات لا يعيبها إلا عدم الاستخدام في أغلب الأحيان.
سادساً: إن تنامي الجماعات الإسلامية وتيارات التطرف السياسي الديني في مصر، يعكس تأثير التربية والتعليم والإعلام في مجتمعاتنا، حيث التفكير دائماً خاضع للتوجيه، والمنهج دائماً أحادي التوجه والاتجاه، والوجه الواحد من الحقيقة هو الحقيقة كلها.. الأمر الذي يدعو إلى التفكير، وهو أمر جد مختلف عما يدفع إليه المنهج السائد إعلامياً، والذي لا يعرض من الحقيقة إلا الجانب المضئ، ولا يعلن من الآراء إلا رأياً واحداً، ولا يدفع المواطنين إلا إلى اتجاه واحد، وهو من خلال ذلك كله يهيئ الوجدان لقبول التطرف، ويغلق الأذهان أمام منطق الحوار.
سابعاً: إن الإسلام على مفترق طرق، وطريق منها أن نخوض جميعاً في حمامات الدم، نتيجة للجهل وضيق الأفق وقبل ذلك كله نتيجة لانعدام الاجتهاد المستنير، وطريق آخر أن يلتقى العصر والإسلام، وذلك هين يسير، وسبيله الوحيد هو الاجتهاد المستنير، والقياس الشجاع، والأفق المتنور، ولست أشك في أن البديل الثاني هو الوحيد، وهو الذي سيسود رحمة من الله بعباده، وحفظاً منه لعقيدته، غير أن أخشى ما اخشاه أن يطول الانتظار، وأن يحجم الأخيار، وأن يجبن القادرون، وأن ينجح المزايدون في دفع العجلة إلى الوراء، ولو إلى حين، لأن المجتمع كله سوف يدفع ثمن ذلك، وسوف يكون الثمن غالياً.
ثامناً: إن ما عرضناه من تفاصيل وما ناقشناه من وقائع لم يكن هو القصد، بل كان قصدنا أن نعرض منهجاً للتفكير، يسمح باستخدام العقل في التحليل، والمنطق في استخلاص النتائج، والشجاعة في عرض الحقيقة دون زيادة أو نقصان، ولا نحسب أننا في هذا مبتدعون بل نحن متبعون لما أملاه علينا إخلاصنا للعقيدة، وولاؤنا للوطن، وانتماؤنا للمستقبل.

وماذا بعد؟!!
ونحن في استعراضنا لهذا الكتاب، لم نشك ولو للحظة، بان ما تطرق إليه الكاتب مخالف للحقيقة، أو أنه يأتي بالباطل لإساءة الإسلام والمسلمين، بل أن العكس هو الصحيح، فقد لمسنا ومن خلال استطراد الكاتب للأحداث والوقائع، ومن خلال دلالاتها، بأن الكاتب على حق في كل ما عرض علينا، ولعله صاحب ضمير وعقيدة وإيمان، همه هم المجتمع والإنسانية وهم كل إنسان مسلم صالح ومتنور، يريد أن يعيش في سلام واطمئنان وأمان، بعيداً عن التكفير والإرهاب، همه أن يكون المسلم أبناً لعصره، يعيش التقدم والديمقراطية والحضارة والإنسانية في كل مناحي حياته، همه الارتقاء بالدين الإسلامي نحو التطوير وبالتوافق مع روح العصر، حاضراً ومستقبلاً، وقبول متغيراته، وتقدير ظروفه، بالاجتهاد المستنير، وبالتأسي بعمر في اجتهاده، وهمه أيضاً الحوار العقلاني، وفرض الرأي على الآخرين لا يجوز، وأن التفكير يسبق التكفير، وأن العقل يسبق النقل، والسماحة تسع الجميع، وأن التشريع للبشر، وأما مبادئ التشريع وأصول العقيدة فهي لله.
وهمه أيضاً يريد أن يؤكد لنا حقيقة بقيت غائبة في أذهاننا وفي أذهان الكثيرين من المسلمين، بأن الإسلام الحق في الدين وليس في الدولة، وأن الإسلام الدولة كان انتقاصاً من الإسلام الدين، وعبئاً عليه، لأن الإسلام كما شاء له الله دين وعقيدة، وليس حكماً وسيفاً، وأما الحقيقة فهي أن البشر هم البشر في كل العصور، يستوي في ذلك عصر الراشدين أو الأمويين أو العباسيين أو عصرنا الحديث.. وانه يؤكد على الفصل بين السياسة والدين، وحجته في ذلك ما يلي:
أولاً: أن البينة على من أدعى، وإذا كنا ندعو للفصل فحجتنا جلية فيما هو قائم، أما دعاة الوصل فعليهم أن يوضحوا لنا كيف يكون، ولا مناص عن صياغة برنامج سياسي كامل، وهو في تقديرنا أمر عسير عليهم..
ثانياً: إننا نقبل بمنطق الصواب والخطأ في الحوار السياسي، لأن قضاياه خلافية، يبدو فيها الحق نسبياً، والباطل نسبياً أيضاً، ونرفض أن يدار الحوار السياسي على أساس الحلال والحرام، حيث الحق مطلق والباطل مطلق أيضاً، وحيث تبعة الخلاف في الرأي قاسية لكونه كفراً، وتبعة الاتفاق والمتابعة قاسية أيضاً لمجرد كونها في رأي أصحابه حلالاً، حتى وإن خالفت المنطق، بل حتى وإن خالفت الحلال ذاته، ولم تكن أكثر من اجتهاد غير صائب تسانده سلطة الحاكم باسم الدين، ويؤازره سلطان العقيدة في ساحة غير ساحتها بالقطع، ولعل ممارسة النميري في السودان لا زالت في الأذهان، ولعل مباركة علمائنا الأفاضل لما فعله النميري وقت أن كان في السلطة لا زالت في الوجدان، ولعل نقدهم المرير له ونكيرهم اللاذع عليه بعد أن ترك السلطة واضح للجميع..
ثالثاً: إن وقائع التاريخ التي سردناها في الكتاب، تنهض دليلاً دامغاً على ضرورة الفصل، وعلى خطورة الوصل، وعلى سذاجة المتنادين بعودة الخلافة.
رابعاً: إذا تجاوزنا وقائع التاريخ، وانتقلنا إلى ممارسات نظم قائمة ترفع شعار الإسلام، وتتبنى مفهوم الحكم به، فإننا نرى أنها جميعاً حجة في صالح الفصل، ودليل جديد على خطورة الفصل...
خامساً: يبقى السبب الأخير والأهم، وهو أن الفصل هو السبيل الوحيد للحفاظ على الوحدة الوطنية، وأن الوصل هو السبيل الأكيد لهدم صرحها العتيد....
وفي الختام يقول الكاتب: يا عقلاء مصر.. هل نلتقي سويا على كلمة سواء؟
وللأسف الشديد مات الكاتب قتيلاً على أيدي هؤلاء التكفيريين والإرهابيين، دون أن يسمعوا كلمته، ولا أتوقع بأنهم من السامعين، طالما بقوا في تفكيرهم متجمدين، وفي منطقهم سيف يلوحون به تهديداً وقتلاً،أينما وجدوا وفي أي مكان كانوا، وساحة العراق في يومنا الحاضر خير دليل على ما نقول، فهم أعداء الحرية والديمقراطية والتقدم، وأكثر من ذلك فهم أعداء الإسلام، لا بل أعداء أنفسهم.


الهامش:
د.فرج فودة ، الحقيقة الغائبة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع – الطبعة الثالثة عشر 1988م، القاهرة ـ باريس، تصميم الغلاف للفنان يوسف عبدلكي.





#محمود_بادلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المراهقة إشكاليات المرحلة وأساليب التعامل معها
- لنذهب معاً
- المراهق يولد مرتين


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن ضرب -هدف حيوي- في حيفا (في ...
- لقطات توثق لحظة اغتيال أحد قادة -الجماعة الإسلامية- في لبنان ...
- عاجل | المقاومة الإسلامية في العراق: استهدفنا بالطيران المسي ...
- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...
- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال قيادي كبير في -الجماعة الإسلامي ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمود بادلي - الحقيقة الغائبة ل - فرج فودة -