أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - لبيب سلطان - المنهج العلمي والايديولوجي لحلول التخلف العربي















المزيد.....


المنهج العلمي والايديولوجي لحلول التخلف العربي


لبيب سلطان
أستاذ جامعي متقاعد ، باحث ليبرالي مستقل

(Labib Sultan)


الحوار المتمدن-العدد: 7710 - 2023 / 8 / 21 - 18:27
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


1. حول المنهج العلمي والمنهج الايديولوجي
تمثل قضية تكوين الوعي المعرفي وممارسته العملية لطرح حلولا اجتماعية هو الحد الفاصل بين المنهجين العلمي والايديولوجي، فلكل منهما طرقه واساليبه ومنهجه واهدافه ، وهما في اغلب الاحيان متناقضين ،بل وحتى يمكن القول انهما في صراع دائم.
المنهج العلمي يسعى لطرح حلولا تستند على طرقه في تكوين المعرفة الموضوعية ( اي المعرفة التي يتم استنباطها من معطيات وحركة الواقع) ، ويطلب في تكوينها انه يجب تجربتها في الواقع لأثبات نجاحها تجريبيا فيه ، واذا استحالت التجربة، فيطلب الاثبات الحسي من خلال رصد وتجميع والملاحظات والمعطيات، اوالنظري باستخدام نظريات تم سابقا اثباتها تجريبيا، أو من مناضرة القرائن لتجارب مماثلة تمت في ظروف مناضرة ونجحت ،فيمكن قبولها كي تصبح معرفة علمية موضوعية مسنودة بالقرائن المطبقة الناجحة.
هذه هي طرق المنهج العلمي للتوصل لحقائق موضوعية ، ومثلها وعلى اسسها لصياغة وطرح حلولا مفيدة يمكن اجمالها بنجاح تجربة المقولة في الواقع ، او الاخذ بتجارب نجحت في ظروف مناضرة وتستخدم كقرائن تسندها. ولكن هناك ايضا شرطا ثالثا مكملا للمنهج العلمي اذ يجب اثبات ان هناك فائدة عملية ( اوفوائد) للاطروحات والمقولات والنظريات والحلول عند تطبيقها في الواقع ، وتعريفها بالكم والنوع من الفوائد التي تجلبها.
ان تجربة الاطروحة والنظرية ونجاحها ليس كافيا ، رغم انه شرطا ملزما لاثبات صحتها، بل ان تؤدي في تكبيقها لجلب فوائد ( مثل تشغيل العاطلين ، زيادة الرفاه الاجتماعي، تحسين البيئة ، تحسين الخدمات او طرح خدمات جديدة . الخ) ، وتبيان الجدوى والفائدة العملية منها ( أي يتوجب القيام بدراسة لجدوى اقتصادية واجتماعية للحل المطروح ، وتقييم فوائده كما و نوعا، وكذلك تقييم الافرازات السلبية والجانبية له ،ليكون من يطبقه على بينة كافية بكل جوانبه) . اي ان المنهج يطلب الاثبات بالتجربة لصحة المقولة في الواقع ، ومعرفة الفوائد والمساوئ المترتبة من طرح مقولاته ( نظريات ، قوانين، حلول ) كي تصبح علمية وموضوعية ومفيدة بان واحد. هذه هي باختصار اهم ملامح المنهج العلمي في طريقة انتاجه للمعرفة للحلول العلمية الموضوعية عليها ( الموضوعية تتطلب تناسق معطيات الواقع وحركته مع الطروحات والحلول النظرية عند تطبيقها في ذلك الواقع). ولابد من الاشارة ان تطبيق المنهج العلمي بمتطلباته اعلاه هو واحدا في تناول قضايا العلمين الطبيعي والاجتماعي.
ولو نظرنا بشكل اعمق وادق في المتطلبات الثلاثة اعلاه للمنهج العلمي ، لوجدنا انه يجب ان يكون محايدا ( بمعنى انه يجب ان لا يخضع لتأثير مقولة مسبقة او موقفا منحازا مسبقا (سنجد لاحقا ان تسميته الادق "مؤدلجا" ) يؤثر على تشكيل طروحاته المعرفية وحلوله. فلابد للمنهج كي يكون علميا ان يكون محايدا وبعيدا عن الانحياز لعقيدة والتغطية على بعض الحقائق والتبرير وغيرها من الوسائل التي تؤثر في موضوعيته ( ومنه يتطلب تطابق حلوله وطروحاته مع حركة ومعطيات الواقع لاغير)، فأي انحياز لمقولة او موقف مسبق سيناقض في الجوهر منهجه وبكل متطلباته الثلاث التي تم وصفها اعلاه، ولايمكن وصفه منهجا علميا، بل عندها الاصح تسميته منهجا ايديولوجيا.
المنهج الايديولوجي يقوم على اساس مقولات تطرحها العقائد ( الدينية اوالاجتماعية اوالسياسية او الفلسفية ). فالمنهج الايديولوجي يعتبرمقولاته اساسا في صياغة وطرح حل او حلولا لقضية أو ظاهرة، خصوصا في المجال الاجتماعي حيث تنشط الطروحات والمدارس الايديولوجية ( أي العقائدية) . والفرق هنا واضحا عن المنهج العلمي الذي يجب ان يكون محايدا ولايخضع لتأثير اية مقولة عقائدية ومن اي صنف، غير المقولة العلمية المبرهنة علميا وعمليا في الواقع ، وفق منهجه ومتطلباته الثلاثة اعلاه. وهناك فرقان واضحان بين المنهجين. الاول هو درجة الافتراق مع حركة الواقع ومعطياته ، فنتائج الطرح الايديولوجي ستأتي تحت تأثير وقيادة المقولة العقائدية ان لم تكن هي نفسها المحرك والاساس في طرح وصياغة الحلول، وثانيا الافتراق في الهدف ، سيتجه المنهج الايديولوحي لاثبات صحة المقولة العقائدية هدفا اولا، وترك ورفض اي حل يتناقض معها حتى وان تناقض مع الواقع . فهو سيرفض حلولا علمية اكثر جدوى واكثر منفعة لحل القضية تحت البحث ان خالفت الايديولوجية . فالموقف الايديولوحي هو منحازا من الاساس لعقيدة ومقولاتها، فلا علما ولا واقعا يقف امامه يخطئ مقولات العقيدة ، وسيجري اما تزويق الواقع ليتلائم مع الاطروحة، او الانصراف لنقد الواقع بدل ايحاد حلول له ( ومنه تجد المنهج الايديولوحي غالبا انه نقدي وتحريضي ولايستطيع طرح حلول خارج مقولته عند استحالة تطبيقها في الواقع).
ولعل اهم صفة للمنهج الايديولوجي عند استحالة تطبيق مقولاته او فشلها في الواقع اللجوء للتحريض ، فسيتهم الواقع والعلم ومنهجه واتباعه انهم يأتون بامور مناقضة للقيم والاخلاق والمبادئ الالهية ( وهو كالعادة ما تسمعه من اتباع المنهج الديني ) ، او خونة لمصالح الامة ( من اتباع المنهج القومي ) او خونة وحلفاء للرأسمالية والامبريالية ( من اتباع المنهج الماركسي ) . دوما اعتبرت الايديولوجيات ان اي حل او طرحا لحل علمي بعيدا عن عقائدهم هو عداء الدين ومصالح الامة ومصالح البروليتاريا ، ويوصمون كل مخالف عدوا للنظام وللامة عندما تسود الايديولوجيا وتسيطر على السلطة وحكم المجتمعات.
ومنه يمكن ، وصف المدارس الايديولوجية انها "مدارس سلفية "، أي تأخذ بنص المقولات التي تؤمن بها "كحقائق مطلقة"، مثالية كانت او مادية الأصل ، فهي تضع مقولاتها اساسا لحلولها ، ومنه يمكن تسمية المنهج الايديولوجي انه "منهجا سلفيا "، لهذا السبب، حيث يضع نصوص مقولات عقائدية في صياغة خطابه وطرح حلوله للواقع . ان الالتزام بالنصية السلفية هي صفة ملازمة للمدارس العقائدية ( أي الايديولوجية).

2. تحديد اسباب التخلف مثالا لطروحات المناهج المؤدلجة
ان دول العالم الثالث ،ومنها الدول العربية والافريقية مثلا، تسمى جميعها دولا نامية “Developing Countries” وهي تسمية ملاطفة ومؤدبة بديلا لمصطلح العالم الثالث ، امام كتلة العالم الاول من الدول المتقدمة " Developed Countries” " الذي تمثله دول اوربا الغربية واميركا واليابان ، والعالم الثاني لما بينهما ( دول اوربا الشرقية والجنوبية وبعض دول اميركا اللاتينية ). ولكن ظهر مؤخرا تصنيف اكثر دقة واقل أدبا ولطافة لتصنيف الدول النامية الى ثلاثة اصناف، الدول الفاشلة Failure” States “ والدول الصاعدة Emerging Countries” " ، ومابينهما هي الدول النامية فقط. وهو تصنيف ادق للتمييز بين دول فاشلة مثل سوريا والعراق وليبيا والسودان والصومال والنيجر وغيرها من الدول الفاشلة ، وبين دول مثل كوريا الجنوبية والهند وتركيا واسرائيل والبرازيل والصين وافريقيا الجنوبية لتتصدر الدول الصاعدة ، والتي مابينهما هي دولا متأرجحة Swing States اي التي ليست فاشلة ولا صاعدة ، انما تسير ببطء مثل المغرب والجزائر ومصر ونيجيريا وايران وعشرات الدول النامية التي لا تسير بخطى سريعة كفاية للحاق بالركب وما زالت ترواغ ، فقسم منها مرشح للصعود والنمو سريعا ( السعودية ، الامارات ، المكسيك ، ماليزيا امثلة) او لخطر الهبوط لمصاف الدول الفاشلة ( الجزائر ومصر وغيرها أمثلة).
ويمكن ان ننتهي لتصنيف ادق الى ثلاثة : الفاشلة ، النامية، الصاعدة . وسنحتاج لهذا التصنيف لاحقا لمعرفة الركائز وعلى ضوئها تحديد العوامل والفواصل التي جعلت بعضها فاشلا وبعضها صاعدا وبعضها ناميا مـتأرجحا، ومعرفة ركائز نجاحها التي دفعتها لأعلى لتصبح "صاعدة "، أو الى اسفل لتجعلها "فاشلة " ، وربما يكفي مثلا ان يحدث انقلابا عسكريا في دولة نامية لتتحول الى فاشلة، وهذا مثالا لاغير كي نوضح معنى الدول المتأرجحة.
تتسابق الايدولوجيات العقائدية في طرح وتشخيص اسباب التخلف، ولنأخذ منها ثلاثة ومن عالمنا العربي مثلا.
التيار العقائدي الديني، بشقيه الاخواني والولائي، يطرح سبب التخلف في ابتعاد دولنا عن الاسلام الصحيح . وعدم الاخذ بتعاليم الله وسنة نبيه والخلفاء والائمة الصالحين من بعده في اقامة نموذج دولة الاسلام الصحيح كما زمن الصحابة لمواجهة اطماع الاستعمار والصليبيين، ولو تجمعنا حول كلمة الله والحاكم المؤمن القوي الصالح لعدنا لمجدنا وتقدمنا وتطورنا ومن وحدة امة الاسلام نقيم خلافة سنية (او شيعية ) او اثنتين متآخيتين، كلاهما يعمل ليعيد مجد الامة ويبني عظمتها. ان المشكلة اذن تكمن في عدم الالتفاف حول الدين ، وحول قادة الاسلام السياسي ، وزعماء الامة الاسلامية لبناء العروة الوثقى والابحار في سفينة التقدم ( وخير مثال هو العراق تحت قيادة الاحزاب الاسلامية فالمال العام نهب ولا سفينة توجد ولا ابحار بل غرق في وحل ).
التيار العقائدي القومي يتبنى مثل طروحات صاحبه الديني ولكن بفرق وضع الابتعاد عن روح القومية العربية هو سبب التخلف ولو كتب للعرب اقامة وحدتهم وجمع كلمتهم وتوحيد طاقاتهم لبرزوا دولة واحدة موحدة هي " الولايات المتحدة العربية" تضاهي " الاميركية" وتجابه مخططات الاستعمار والصهيونية وتستعيد فلسطين اولا ،كونها قضية العرب المركزية ، ومن بعد تحريرها ، سينطلق الشموخ العربي، الذي لايعرف حدودا ، ويقيم دولته من البحر الى البحر، وماعلينا سوى القضاء على النظم الرجعية مابينهما، لنقيم صرح دولة العرب العظمى، وبدونها سنبقى متخلفين منقسمين يلعب بنا الغرب والامبريالية لعبة فرق تسد ومنها تبقى الصهيونية وبسببهم سنبقى دولا متخلفة ومنقسمة وضعيفة ( ولولا الامبريالية لاستطاعت نظم ناصر واسد وصدام ان تبني امة العرب على احسن مايرام ولكنهم وللاسف تآمروا على بعضهم ، طلاب سلطة باسم الامة).
التيار العقائدي الماركسي يطرح سبب التخلف لما هو اعظم واكبر شأنا، فمعركتنا الاساس هي مع الامبريالية العالمية فهي التي تقف على رأس الهرم وهي التي تريد لشعوبنا ان تكون متخلفة وضعيفة كي يسهل استغلالها ونهب مواردها ومنه تخلفنا، والحل يكمن في الوقوف والتجمع حول القوى الخيرة ، وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي ( قبل انهياره) ، وحتى بعد انهياره سنستمر في النضال حتى اسقاط الامبريالية ، في التحرك من الاطراف الى المركز ، والتحرر من التبعية، ومنه يمكننا الزحف بسرعة للبناء والقضاء على التخلف وبناء مجتمع العدل ،مجتمع اللاطبقية واللاتبعية ( وفي الستينات والسبعينات تم وقوف القوميين والماركسيين العرب بثلاثة دول مع السوفيت ولكن لم تحصد شعوبنا منه غير الديكتاتوريات والقمع والفساد وتدمير الاقتصاد، ولليوم ورغم التجارب المريرة لم يغير اخواننا من طروحاتهم ، كونها طبعا مقولاتا عقائدية ، مطلقة الحقيقة وغير خاضعة للزمان والمكان، ولا للمراجعة ولا يمكن التراجع عنها وان فشلت في الواقع فالسبب كان تآمر الامبريالية وليس في فشل الحلول المستقاة من وضع الطروحات الايديولوجية لمقولات ادت للفشل والتراجع المستمر، فهن مقولاتا مقدساتا كالدينيات ونستغفر رب العالمين الخروج عن مقدسات مقولاته وتوصياته.

هناك امران في المشتركات بين العقائد الثلاث، الاول ان جميعها تضع حلولا مشتقة من مقولات عقائدها المقدسة فوق معطيات واقع التخلف وطرحت ان سببه هو الابتعاد عن هذه العقائد ، وبالطبع ليس لاسباب موضوعية خارج عقائدها . والثاني هو اتحادها بطرحها ان سبب التخلف هو خارجي ، واسباب التخلف تعود لتآمر الاستعمار والامبريالية ، ومنه فحلولها يمكن ترجمتها ان معركتنا هي في الاساس خارجية ، والانتصار فيها سيحل كل مشاكلنا الداخلية.

3. ما الذي يقوله العلم في اسباب تخلفنا
ربما سيضع اي بحث علمي محايد ان التخلف الحاصل في دولنا يرجع في اصول اسبابه للحلول المطروحة من هذه العقائد ، فهي لاتعالج اسباب التخلف الموضوعية بظواهرها ومعطياتها الداخلية ، السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، بل ترجع اسبابه لطروحاتها العقائدية "الايديولوجية " ، وتوجزها بامرين ، كما رأينا اعلاه، اولهما عدم التفاف المجتمع حول طروحات ومنهج هذه العقائد ، والثاني على الدور التآمري المخرب لقوى خارجية امبريالية على بلداننا لغرض اضعافها والسيطرة عليها.
وأول منهج العلم لمعرفة اسباب التخلف هو معرفة اسباب التقدم ، ويمكن تسميته "بمنهج العكس" وهو منهج القرائن البراغماتي ( الاقصر طرقا ويقول "كي تعرف الخطأ يجب ان تعرف الصحيح " وهو الاقصر قياسا باجراء تجارب لاثبات صحة مقولات ونظريات وحلول من دراسة الواقع بمعطياته ومن خلال التجربة فيه). في الطب مثلا يقول هذا المبدأ انه لتشخيص مرض المرض عليك بمقارنة معطيات جسمه مع معطيات معروفة في الجسم الصحي المتعافي.
ولغرض تحقيق هذا المنهج علينا معرفة "الصحيح " ويمكن استخلاصه من معرفة العوامل التي ادت لتقدم الامم والمجتمعات ، ولناخذ تجارب الامم الاوربية اولا ، وبعدها الدول التي اخذت بنماذجها ، هل هي نجحت ايضا ؟ وان وجدناها هكذا ، فنكون قد وضعنا الاصبع على " الصحيح" وبمبدأ المقارنة يمكننا تعريف مكامن الخلل والتخلف عندنا وفق هذا المنهج الذي هو احدى طرق المنهج العلمي ( وصفناه اعلاه بمبدأ "مناضرة القرائن المماثلة " لتجارب ونتائج تمت في ظروف مماثلة ونجحت ويمكن قبولها كي تصبح معرفة علمية موضوعية مسنودة بالقرائن المطبقة الناجحة).
ومما يساعد ويسند هذا المنهج في بحثنا عن اسباب التقدم ان احوال وظروف الدول والمجتمعات الاوربية قبل 300 عام هي تقريبا نفس ظروف مجتمعاتنا اليوم ، ومنه لننطلق ونحاول التعرف مالذي عملته المجتمعات الاوربية كي تتقدم.
ان اية مراجعة موضوعية لتاريخ اوربا على مدى ثلاثة قرون ستفرز لنا ثلاثة نقلات شكلت اسس تقدمها وتطورها التي بدأت منذ بداية القرن الثامن عشر، وهذه النقلات الثلاثة اتت مترابطة ومتتابعة وخلال نفس القرن تحديدا، وهي "النقلة العلمانية" و " الثورة الصناعية الاقتصادية " و " النقلة الدستورية نحو الديمقراطية ". هذه هي أهم النقلات والعلامات البارزة التي وقفت وراء تقدم اوربا ، ولازالت تقف وراء تقدمها حتى اليوم، والدليل على ذلك ان ازالة اي منها ، حتى اليوم، يجعل من المستحيل على بلد منها ان يستمرفي التطور، ومنه يمكن الاستنتاج انها فعلا شكلت وتشكل اليوم ركائز التقدم الذي تسير عليهمنذ ثلاثة قرون ، اي منذ اتخاذها واقرارها ركائز للبناء ولتقدم مجتمعاتها.
ان هذه الركائز الثلاثة مترابطة، ولتوضيح ترابطها لنراجع وبشكل مختصر تفاعلاتها.
العلمانية لم تظهر دعوة للالحاد كما يعتقده الكثيرون ولم تكن دعوة ضد الدين ، بل هي دعوة لفصل الدين عن التدين ( اي ادلجة الدين سياسيا) ومنه تم فصل العلم عن اللاهوت وفسحت المجال للعلم ان يتطور،ليخرج من نطاق اللاهوت ، ويحرر العقل ليصيغ نظرياته في الفيزياء والميكانيكا مثالا ، ومنه تشكلت الاسس المعرفية للانطلاق لتصميم الالات والمكائن لزيادة الانتاج ، وجاءت الماكنة البخارية في القرن الثامن عشر لتعلن بدء الثورة الصناعية، وبدون نقلة العلمانية بفصل العلم عن اللاهوت ، لما امكن حتى تصور ان العلوم ستنتقل بهذه السرعة لما وصلت اليه بنفس القرن.
ورافقت الثورة الصناعية الثورة الاقتصادية ،مجتمعين، حيث صاغ العلم مبادئ النمو الاقتصادي وكيفية ادارة المرافق الاقتصادية وادارة زيادة الثروة الاجتماعية من خلال استثمار الاموال المدخرة في الانتاج الصناعي ، وكلما ازداد الاخير ازداد المجتمع ثروة ورفاها، ودورالاقتصاد في ادارة انجاحه.
ادت كلا العلمانية والثورة الصناعية الى الثورة الدستورية والاخذ بالحقوق الديمقراطية لتصيغ قوانين حقوق المواطنة والتملك والرأي والحريات، وفصل السلطات واقامة البرلمانات لتسن القوانين ، ولكي تضمن هذه القوانين مصالح الطبقة المدينية ( التي اخذت تتكون في المدن) . لقد نجحت هذه النقلة في تحويل الحكم المطلق الى حكم مقيد بدستور ينص على قوانين تقيد الحاكم وسلطاته وان يتم انتخابه الحكومات ديمقراطيا وتسن القوانين من ممثلين منتخبين من الشعب.
ان هذه السلسلة من النقلات الثلاث قد اتت متزامنة اومتتابعة وكونت الركائز الثلاثة لتقدم وتطور اوربا من دول اقطاعية زراعية متخلفة ذات حكومات ديكتاتورية مطلقة ( أي كحال بلداننا اليوم تقريبا) الى امم شقت طريقها الحضاري كما نراه اليوم. والامر واضحا في سبب تقدمها انها النقلات الثلاث.
اضافة لتجارب اوربا ،هناك تجارب ناجحة خارجها ، اخذت بنموذجها في القرن العشرين ، واغلبها في اسيا ، بدءا من اليابان الى كوريا وماليزيا والهند وتركيا والصين ، واثبتت نجاحها ، ولوتمعنا في الامر واسبابه ، لوجدنا نفس الركائز الاوربية ، او نسخا معدلة منها ، تقف خلفه وتم الأخذ بها في اقامة دعائم تطورها ( ربما يعترض البعض ان الصين لم تسر بنموذج اوربا وهذا صحيح فقط من ناحية عدم الاخذ بالدستورية الديمقراطية ولكن قادتها ولوطنيتهم وحرصهم على بلدهم وضعوا مصالحه فوق المقولات والشعارات العقائدية ، المُتهِمة بتخلف الصين ووضعه على الامبريالية ، ومنه اجتهدوا بضرورة التخلي عن نموذج الماركسية الاقتصادي، ووضعوا مقولاتها العقائدية جانبا، واخذو بالنموذج الاوربي لادارة الاقتصاد دون مساس كبير بنظامهم السياسي الذي يبررونه انه يوفر ظروف الاستقرار الاجتماعي لبلد كبير مثل الصين ، ويوفر قوانين ضمان للاستثمار والنمو الاقتصادي معه ، ويبدو انهم قد نجحوا بذلك وربما تكون الخطوة القادمة امام الشعب الصيني خوض معرمة التحول نحو التعددية والديمقراطية وفرض توسيع الحريات ،وهي معركة داخلية هو يقرر متى وكيف يخوضها) .
4. ملخص لمنهج علمي للخروج من التخلف في بلدان التخلف
من القراءة اعلاه ، والتي لَخَّصَتْ طروحات احد المناهج العلمية الممكنة ، مقابل اخرى ثلاثة ايديولوجية ، يمكن الخروج بصورة عن اهم الركائز ،على الاقل ، لرسم الطريق لبدء الزحف البطيئ ، ولكنه الصحيح ، للخروج من قاع التخلف لمجتمعاتنا العربية ومثيلاتها الافريقية ، ويمكن ايجازه بثلاثة نقاط.
الاولى : ان الطروحات الايديولوجية الثلاثة لم ولن تتمكن ان تطرح او تشكل حلا لمشكلة التخلف، بل هي في الواقع تمثل الجزء الاعظم من هذا التخلف ، كونها تحجب عن المجتمع ان معاركه هي داخلية، وليست خارجية مع الامبريالية مثلا، وثانيا ان معاركها الحقيقية ليست هي معارك ايديولوجية ، بل تنموية اقتصادية في محتواها وجوهرها، وتوفير ظروف وشروط النجاح في المعركة التنموية هو اولى الاولويات.
الثانية : ان اهم شروط نجاح معركة التنمية ، ومن خلال قراءة تجارب لقرائن تمت بنجاح في عشرات الدول النامية والصاعدة ،الاسيوية والافريقية ، تتركز على امرين :
الاول :اقامة حكم سياسي مستقر على اسس الوطنية العلمانية ( بمعنى فصل الدولة ومؤسساتها عن العقائد، باشكالها الثلاثة ، وليس فقط عن الدينية ، بل عن جميعها القومية اوالماركسية ، اي ان معنى العلمانية تحديدا هو الاخذ بالدولة الوطنية ) ، واستقرار الدولة يترسخ باقامة مؤسساتها على اسس الوطنية ، والانتقال السلمي لتداول السلطة على اسس تضمن ابعاد مؤسساتها عن العقائدية الايديولوجية .
الثاني : تكريس سياسة وموارد الدولة على التنمية الاقتصادية وسن قوانين ومبادرات جذب الاستثمارات والخبرات الخارجية، وتشجيع المحلية ، والعمل بقوانين الاقتصاد ونماذجه المجربة في العالم وليس بطروحات ايديولوجية فاشلة ،كما طرحتها الماركسية بادارة الاقتصاد المركزي من الدولة واجهزتها ، بل بجعل الدولة هي التي تخطط وتدعم وتستثمر، ولكن لاتدير كما طرحت نماذج فشلت اينما طبقت من الماركسية .
الثالثة : ان اقامة الركائز الثلاثة ليست عملية اوتوماتيكية (بمعنى نقل التجربة الاوربية والاسيوية بحذافيرها ومعاركها التاريخية ) بل ان تقوم ببناء نفس هذه الركائز ولكن وفق هندستها الاجتماعية والبيؤية، اي الاخذ بنظر الاعتبار عوامل داخلية ، دون تغيير في جوهر هذه الركائز المبرهنة من التجربة ، بل في الاجتهاد في صياغة شكلها لتتلائم مع الظروف الداخلية، وهنا هي التحديات الحقيقية امام خبرائنا ومثقفينا ، وليست المباراة في سب واتهام الامبريالية ، وغيرها من الخزعبلات والطروحات الايديولوجية. فمجتمعاتنا بحاجة لحلول داخلية ، وليست معارك وهمية ، حلولا عملية علمية قابلة للتحقيق لانقاذها من الفقر والتخلف وتسلط الجهل والسلفية.
د. لبيب سلطان
21/08/2023



#لبيب_سلطان (هاشتاغ)       Labib_Sultan#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فهم نظرية تعدد الاقطاب وانعكاسها على العالم العربي
- معركة اليمين واليسار في الهجرة الى الشمال
- فهم اليمين واليسار في عالمنا المعاصر
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
- فهم تجربة الصين وأهميتها للعالم العربي (فهم العالم المعاصر ـ ...
- فهم الرأسمالية وعلاقتها بالليبرالية ( فهم العالم المعاصر 2)
- في فهم العالم المعاصر1 علاقة الايديولوجات بالاقتصاد ونظم الح ...
- لائحة اتهام 3
- لائحة اتهام لثلاثة ايديولوجيات دمرت اربعة دول عربية ـ2
- لائحة اتهام لثلاثة ايديولوجيات دمرت اربعة دول عربية ـ1
- القوانين الثلاثة لبناء الدول المعاصرة والامم الناجحة
- جذورتحول الجمهوريات الثورية الى ميليشياوية
- في علاقة النظم السياسية بنظم الذكاء الاصطناعي
- الغزو الاميركي للعراق ـ3
- الغزو الاميركي للعراق 2
- الغزو الاميركي للعراق ـ1
- في رحيل الاخ الصديق ابراهيم الحريري
- نحو خلق ثقافةعربية علمانية جديدة متحررة -2
- نحو خلق ثقافة عربية علمانية جديدة متحررة من العقائدية
- فهم الله وألدين والعلمانية اولى خطوات الاصلاح العلماني العرب ...


المزيد.....




- موافقة حماس على اقتراح مصر وقطر لوقف إطلاق النار.. مراسل CNN ...
- -الكرة في ملعب نتنياهو-.. إسرائيل وأمريكا تدرسان رد حماس على ...
- بهتاف -الله أكبر-.. شاهد احتفالات سكان غزة بموافقة حماس على ...
- مصدر مصري رفيع يحدد 3 مراحل لتنفيذ الاتفاق بين حماس وإسرائيل ...
- بعد 130 عاما  فلسطيني يحتل مقعد بلفور!
- أراضٍ سكنية وملايين الدينارات.. مكافآت للمنتخب العراقي بعد ت ...
- هل بدأ الهجوم على رفح؟ غارات إسرائيلية واستنفار مصري
- بعد أسابيع من الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين.. جامعة كولومبي ...
- شولتس يزور القوات الألمانية في ليتوانيا ويتعهد بتقديم دعم عس ...
- شي جين بينغ: الصين ضد تحويل الأزمة الأوكرانية إلى ذريعة لحرب ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - لبيب سلطان - المنهج العلمي والايديولوجي لحلول التخلف العربي