أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أدهم مسعود القاق - رواية مجنون الحكم بين إجرام الطاغية الحاكم بأمر الله وسمو الثائر أبي ركوة















المزيد.....



رواية مجنون الحكم بين إجرام الطاغية الحاكم بأمر الله وسمو الثائر أبي ركوة


أدهم مسعود القاق

الحوار المتمدن-العدد: 6568 - 2020 / 5 / 19 - 21:40
المحور: الادب والفن
    


شهدت شخصيات رواية (مجنون الحكم، في مصر القهر والنكتة) لبنساليم حاميش وقائع، وخاضت صراعات إبّان خلافة الحاكم بأمر الله الفاطمي، كما ذكر الرواة عنهم، فأخذ حميش تلك الأخبار، وعدّها منصّة لبناء أحداث تخييلية؛ مضفيًّا عليها جديدًا مستمدًّا من مآسي الحاضر، وكساها ثوبًا فنيًّا معاصرًا، وحمّلها رؤى فكرية وسياسية جديدة، مانحًا التاريخ معطيات جديدة وصياغة متجددة، ساعيًا لإسقاط أحداثه على الواقع الراهن بحرفية عالية المستوى.
رواية مجنون الحكم لها مكانتها الرفيعة ضمن الروايات العربية ذات المصادر التاريخية* التي استلهمت وقائع وشخصيات عربية إسلامية، وتنّبهت لغنى التاريخ العربي وثرائه، ولإمكانية توظيفه نظرًا لطواعيته في يديّ المبدعين.
يتناوب السرد في بنية رواية مجنون الحكم بين سرديّات قصصية، وعبارات مصكوكة على شكل أيقونات، ورؤى جديدة بثّها الكاتب في متن روايته مستمدة من أخبار الماضي المنقولة، ولعلّ في تناوب السرد ما يوحي بأنّ أشكاله مستقلة عن السياق، ولكن سرعان ما يكتشف القارئ ترابطَها المرتكز على شخصية السلطة، شخص الحاكم، الذي لا يزال حيًّا بيننا، وذلك عندما يعيد الكاتب أحداثًا تاريخيّة، ويحمّلها مقولاتٍ معاصرة متغلغلةً في ثنايا نصّه الذي لا يخلو من تسلسل سببيّ ومنطقيّ، على الرغم من تضمّن السياق لوحات وسرديات مستقلة، ومقاطع بأقلام مؤرخي تلك الفترة، التي أضفت على الرواية عبق التاريخ.
ينبّه الكاتب، منذ البدء، إنّه استند في تأليف أحداث روايته على التاريخ، وأنّه ثبّت المراجع، وميّز ماهو منقول بخطّ مائل، ثمّ يجتزئ عبارة للمقريزي تتناول سيرة الحاكم بأمر الله، مستهلًّا بها روايته. وينطلق من التعريف بشخصية الحاكم بأمر الله، نسبه ومولده وسيرته العجيبة وأفعاله المظلمة والظالمة، وإصابته بضرب من المالنخوليا أو جفاف الدماغ، مما حمله على الإسراف في القتل وسفك الدماء، كما يذكر دعاته الذين: "اختلفوا في توقيت إظهار الدعوة وإعلان نقض الشرائع، فتهالكوا وتفاسقوا فخفت ريحهم داخل مصر بعد مقتل الحاكم بإيعاز من أخته ست الملك" ولم ينج منهم إلا أنوشتكين الدرزي، الذي تمكن في بلاد الشام أن يبثّ دعوته، "وما زالت إلى عهدنا هذا تقوم باسمه وتحمل بصماته" ، ثمّ يروي حميش مواقف تكشف عن أحوال هؤلاء الدعاة أيام الحاكم، فكانوا يقتفون أثره سرًّا في جبل المقطّم أو بصحراء النقب، ويتجسّسون على ما يهذي به، ويردّدون عناوينها كالخطرات القهرية والشذور الشعشعانية، ثم يصوغونها في نصوص سريّة بعد تأويلها باطنيًّا، ولا يطّلع عليها غير الأوفياء المؤيّدين لمسلك العقلاء حسب دعواهم.
ويبحر الكاتب في أحداث عهد الحاكم بأمر الله في مصر، وينهل مادة سرده ممن رووا وكتبوا وأخبروا عنه بعد عصره، وهيّ كثيرة، وقد غلب على لغة أولئك المؤرخين لسيرة الحاكم الطرائق السرديّة، مما مكّن الكاتب من امتلاك خطابٍ سرديّ متساوقٍ مع موضوعات الرواية تاريخيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا، مشيّدًا بنية سرديّة متماسكة، محاكيًّا، بلغته الخاصة، لغة المراجع التاريخية، مبرزًا أسلوبه وشخصيته عن طريق لغته المميزة، مشتغلًا في بناء علاقات جدلية بين اللغة وشخوص الرواية التي أراد لها التعبير عن نفسها، من دون تدخله بأفكارها غالبًا.
ولعلّ غنى عناصر رواية حاميش وثراءها مستمدٌ من تعدّد روايات التريخ شكلّا ومضمونًّا، كما تمكّن، باقتدار الروائي المثقف، أن يطوّع الأحداث القديمة؛ بما يواكب الرؤى العصرية في الثقافة والنقد الأدبي، مستخدمًا لغة روائية تحمل فرادة في تناغم ملفت بين خطاب الماضي وراهنية تلقيه لايحدث إلاّ بحالات نادرة في هذاالنوع من السرد الروائي.
ولنبدأ بالاستهلال النصّي، الذي يقصد به: اقتباس الكاتب عبارة أو قولًا بهدف تأكيد قصده من عملية القصّ وإضافة قيم معرفية وجمالية مباشرة، وغالبًا ما يكون الاستهلال في بداية الرواية، أو قبل كلّ فصل أو مبحث أو فقرة.
وفي رواية "مجنون الحكم"، الكثير من الفقرات الاستهلالية منذ مدخل الرواية، وقبل أجزائها، وفصولها، استخدمها الكاتب لإبراز آراء الحاكم بأمر الله، كما نجد أنّ فقرات – بعينها - مأخوذة عن مراجع تاريخية، ليُميَّز، في متن الرواية، حضورًا فعليًّا للمؤرخين، ابتداء من البداية الاستهلالية المعنونة بـ (مدخل الدخان) واستشهاده بخطط المقريزي، مثبّتًا الإحالة، إلى أن يشرع في السرد الروائي، فيعرّف بالحاكم؛ مطوّعًا الاقتباسات بعملية دمج مدروسة داخل بنيّة نصّه الروائي وفضائه.
اختلفت الاستهلالات النصيّة، بحجمها وكثافتها وتعدادها بحسب طبيعة الفصل أو الفقرة التي يريد الاستهلال لها. ففي بداية الرواية في "مدخل الدخان"، استخدم خمسة استهلالات قصيرة، نقل عبرها شذرات من سيرة الحاكم بأمر الله، وأول استهلال كان عن خطط المقريزي، ثمّ عن مؤرخين آخرين، أصولُه، ومولده،... وأحال المتلقي للنجوم الزاهرة لابن تغري بردي، ثمّ جدل بين السرد الروائي ورواية المؤرخين، فذكر دعاته - كما أسلفنا - لينسج في فقرة (أنا الدخان المبين) رؤى الكاتب على لسان الحاكم بأمر الله، وقد نجح في بثّ آراء تتعلق بالتاريخ والطبيعة والمحبة والإخاء ومفهوم الاستبداد، لينطق: "بغير ما ينطق به الليل العربي والمصير" وعن انهزام السلام يتساءل: "أفما اقتنعتم أنّ السلم في التاريخ لا يحكي إلاّ هزائمه وانسحاق الورود والحمام!" ولا يُخفى على القارئ مقصد الكاتب من مزاوجة تاريخ الحاكم مع حاضر الحكّام العرب؛ إذ نجد أنّ: "الموت هو الوجه الآخر للسياسة" ولأنهم مثل الحاكم شعارهم في الاختلاف والسياسة كما قال الشاعر:
"فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر"
ويتابع الكاتب مستنطقَا الحاكم، فيقدّم تصورَه عن سياسته التي أدّت لارتكابه أفظع الجرائم، موضحًا مسوغاته لأفعاله المشينة وفق منطقه التسوغيّ أو التبريري، ويكشف عن آراء الحاكم بأمر الله عن معاني البناء المجتمعيّ المتصدّع، الذي يستدعي هدمًا وتقويضًا في ميدان المعمار والقيم السائدة، قائلًا: "إنّ من لم يهدم لا يعرف معنى البناء، ومن لم يختبر الشر لا يقدر على فعل الخير" ثمّ عن منطقه في فهم الفتن وأسسها، إذ نجد أنّ: "كلّ منّا هرطقي الآخر، كلنا إذن هراطقة وأهل زيغ وبدع. كلنا رؤوس مفتونة بتحرير الدلالات وحملها على وجوهنا. كلنا نتديّن بالخروج" ، وفقرات تتضمن قرب أعداء الحاكم منه، واتهامه للناس بالنهم والجشع، ومخاطبتهم بأن يخالفوه، ويتوقفوا عن الركوع أمامه؛ ليتمكن من رحمتهم وجزل العطاء لهم، طالبًا منهم أن يتطرفوا في كلّ شيء ليكونوا قريبين من قلبه، ثم يطلب منهم الصبر على ما يلاقونه من تسلّطه قائلَا لهم: "فاتقوني ولا تطلبوا خلاصكم مني. إنّي لأفعالكم ونواياكم بالمرصاد، ألتقط بالتجسس والسهر أسوأها وأعتمها، وأمحقها محقّاً" ويستمرّ الكاتبُ بذكر أقوال منسوبة للحاكم بأمر الله، وفقًا لمنطقه في حكم الناس وإدارة مصالحهم، مبرزًا فهمه لآليات الحكم الاستبدادي والقهري، إن كان في الماضي أو في حاضر بلاد محكومة لحكّام متقمّصين شخصية الحاكم بأمر الله الإجرامية.
إنّ ما قدمه حميش في مدخل الدخان التمهيدي هو قناعات الكاتب ذاته بطبيعة الحياة تحت ظل أنظمة حكم قهرية، ولم ينس الكاتب أن يذكّر بفعل النبوة في بلادنا، فقد ذكر أذواق الحاكم بأمر الله المرتبطة وتشبهه بالأنبياء، وبارتداء الصوف وركوب البغال، وإرسال شعره ولحيته، وترحاله إلى جبل المقطّم، وأبرز رأيه بالمؤرخين، الذين لا يعرفون تفسيرًا لأفعاله ووساوسه لأنه يمثل الاستثناء الذي يخترق القاعدة التي صنعها الناس بأيديهم قائلًا: "وما القاعدة إلّا من نسيج عوائدكم وأعرافكم! وما هذا النسيج إلاّ صنيع تشنجاتكم القزمية وغيبوباتكم!" واضح، هنا، إسقاط آراء الحاكم بأمر الله على الحاضر، فقد أراد الكاتب أن يجعل المتلقي بحالة تساؤل عن أحواله مع الحاكم الحالي، وعن مصيره المأساوي فيما لو بقي مستكينًا.
ويسوّغ الحاكم بأمر الله قدرته على ممارسة القتل والشرور بتوحّده مع الله، على الرغم إنّه يبدي الأسى للموت أخيرًا، ومن موضع ألوهيته يذكر مساعيه لرفع الجفاف، ووعوده للناسَ بالفرج بعد الشدة، ويجيب عن وجوده بـ: "الحقيقة ليست مطلقة، بل طليقة، وهي من صنع الأقوى والأقدر على تطليق الفجاجة والعادات، ولا ضرر إن تشعبت وتناقضت أجواء الإرادة ومناحيها" ثمّ يذكر نواياه في تطهيرهم من عاهاتهم، ومن مراميهم التي يضمرونها في نفوسهم.
والحقّ أنّ القارىء لن يلاقي صعوبة في فهم عملية الدمج، التي جدلها الكاتب بين الماضي المستمر في حاضرنا، هذا الحاضر المحكوم لثقافة وقيم الماضي المتخلفة والقهرية، كما لن يلاقي صعوبة بإدراك مقاصده ومواقفه التوّاقة إلى الحرية الطليقة في دروبها المتنوعة.
صرّح الكاتب من خلال الفقرات الاستهلالية التي أودرها بمواقف للحاكم بأمر الله، تفيض عمّا صرحت بها صفحات الرواية، نتلمس مضامينها على شكل فجوات وانحيازات في متن النّص الروائي، وفي تفصيل أحداث الرواية في مجمل فصولها، أراد الكاتب لهذه الفقرات الاستهلالية أن تكون تعميمية، بمعنى عدم اختصاصها فقط بحياة شخصية الحاكم بأمرالله، بل حاول تعميم فكرة الاستبداد وعالم الجريمة المقترن بالجنون والتعصب الأعمى، المنطبق على أوطاننا في الواقع الراهن، ومن ثمّ حاول دفع المتلقي نحو الثورة على هذا الواقع المتخلف الذي لاعلاقة له بعصر التحضّر الكوني الراهن، بمقدار ما يمثل صدى لعصر الحاكم القهري الذي ولّى منذ أكثر من ألف عام، وبقي حيًّا في نفوس أهل السلطة، وبقيت آثاره السلبية تفعل فعلها حتّى الآن.
يستهلّ فصل طلعات الحاكم في الترغيب والترهيب بعنوان عن سجلات الأوامر والنواهي، ثمّ ينقل عن ابن خلكان في وفيات الأعيان: "وكانت سيرة الحاكم من أعجب السير، يخترع كل وقت أحكامًا يحمل الناس على العمل بها" ولا يتأخّر بذكر مقتله لبرجوان والحسين بن عمار كحقائق تاريخية مثبتة، ويحيل القارئ للنجوم الزاهرة لابن تغري بردي مقتبسًا نداء الحاكم للناس بتحذيرهم من مخاطبته بغير الحضرة المقدسة، ويذكر أن دماء كثيرة أهرقت في تلك السنة، إلى أن يذكر السجلات التي أصدرها، وهي سجل ضد الكلاب، سجّل قلب الأوقات، سجّل ضد أهل الظاهر، وسجل لإبطال الزكاة وكبح التفاوتات، وسجل ضد العصاة، وسجل إقرار الحقّ في التأويل، وسجل إطلاق الأرزاق وإبطال المكوس، وسجل الطي والنسخ، سجل الزلفى وطلب المنافع، وسجل التوحيد ضد حملة الصليب، وسجل ضد المنجمين والمغنين، وسجل في تحصين النساء، وأنهى الكاتب هذا القسم عندماعاودت الخليفة نوبات المالنخوليا، فأكثر من التطواف والسهر والتوقف عن الاستحمام، وزاد سلوكه غرابة عندما شجعه رهط من دعاة متطرفين عام 408هـ على ادعاء الألوهية، وسمّوه: (قائم الزمان وناطق النطقاء) وأوّلوا الكتب والرسائل والمراسيم، بما يناسب أهدافهم التي حاولوا تمريرها عبر تنزيهه وتأليهه وعبادته، فاستقطبوا الأتباع تحت ظلّ دعمه لدعوتهم، وأخذوا المواثيق والأتاوات من مريديهم، وتصادموا مع أهل السنّة الذين طردوهم من مصر بعد اختفاء الحاكم بأمر الله، فاتجهوا لجبال الشام مدعين اختفاء الحاكم سنة 411هـ، بانتظار عودته.
وعنون القسم الثاني من الفصل الأول بالعبد مسعود أو آلة العقاب اللواطي، واستهلّه بمقطع لابن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور، مخبرًا فيه عن عبد أسود طويل عريض يمشي في ركابه، فإذا صادف أحد الغشّاشين: "أمر العبد مسعود أن يفعل به اللواط، فيفعل به في دكانه وأمام الناس" ، ويمطّط الكاتب فكرة العبد مسعود ويسرد عن حياته وعذاباته، بما يخدم البنية السردية للرواية، وبما يجعل من سيرته المسرودة جزءًا فاعلًا من أحداثها، كاشفًا ظلم الحاكم واستبداده عن طريق معالجته لهذه الشخصية العجيبة، وبنفس الوقت مظهرًا عدم تهاون الحاكم مع المستغلّين لقوت الشعب هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، فإنّ الكاتب وظّف شخصية العبد مسعود بمنحى آخر، وذلك حين عجز عن تلبية رغبات امرأة امتحنت رجولته، بعدما استدرجته بأنوثتها على الرغم من قدرته على فعل الفاحشة مع من يؤمر بفعلها معهم، إنّ عجزه هو المعادل الموضوعي لعجز السلطة على تحقيق أماني الشعب وحلّ مشاكله، وما الهزيمة التي مني بها على أيدي المرأة، إلّا معادلًا موضوعيًّا آخر لبقاء الأوطان، تتوالد، وتمنح الحياة للأجيال، كما هي المرأة أمام عقم العبد مسعود رمز جلادي الحكّام وشبيحته. لقد رمز الكاتب بالعبد مسعود لفعل السلطة السياسية على مرّ التاريخ، وفسّر أبعاد سلوك متنفذيها والقائمين عليها وجلّاديها، وأكّد على أنّ آليات التسلّط والقهر لازالت فاعلة منذ تلك العصور وحتى واقع الأمة الراهن، ولكن لم يغلق الكاتب الباب أمام عملية تغيير شاملة، فلابدّ أن ينتهي الزمن العربي الردىء كما انتهى الحاكم، وكما كانت نهاية العبد مسعود معزولًا في زنزانة مضربًا عن الطعام طالبًا الجحيم، "متوعدًا الحراس بنتانة جثته إن لم يضعوه في تابوت ويقبروه إقباراً" ثم مات منتحرًا أو مقتولًا، ولكن أخفي الخبر عن الناس. إنّ هذه السردية هي صدى لحياة الحاكم بأمر الله، وهي تربط بين العجز والمرض وقدرة صاحبهما على الاستبداد والتنكيل بالناس والقيام بجرائم قتل، وما جثة مسعود النتنة المعزولة، إلّا جثة الحاكم المعجونة بأركان السلطة الراهنة التي تزكم الأنوف بانتظار من يواريها الثرى.
الفصل الثاني، في المجالس الحاكمية
استهلّ حميش قسم (الجلوس في دهن البنفسج) بمقطع للمؤرخ الأنطاكي، صلة تاريخ أوتيخا المتعلق بـ: "مرض الحاكم بيباس في الدماغ، الذي أصيب به منذ حداثته، وإنّ كثرة سهره – أيضًا - وشغفه بمواصلة الركوب والهيمان الدائم؛ مما يقتضيه هذا السوء المقدّم ذكره. فوضعوه في دهن البنفسج بغية ترطيبه به، وتسامحوا معه في شرب النبيذ وسماع الأغاني، حتّى انصلحت أخلاقه وترطب مزاج دماغه واستقام أمر جسمه" ثم نسج أحداث هذا الفصل تناصيًّا مع أخبار المؤرخين، منطلقًا من عام 399هـ، بعد أن جلس في جفنة دهن البنفسج وشرب نبيذًا، وسمع أعذب الأغاني، فأمر بانصراف الحرّاس، وبإحضار غلام القلم، ولمّا حضر طلب منه التعرّي والتهيّؤ للكتابة، وأملى عليه هذيانات أقرب للشعر، وأسرارًا لايمكنه الكشف عنها، إلا عندما يكون قريبًا من الموت، وعند الفجر أُرهِق الحاكم، فنظر في عورة الغلام، وغادر، وتسابق الدعاة لنسخ الأوراق، التي بين يدي الغلام، دلالة على بلاهتهم، ثم أشار الكاتب في هذا الفصل لأدلة وشواهد ودلالات على إصابته بمرض المالنخوليا النفسيّ، ومنها هذياناته التي أملاها على الصبي مثل: "محنة الرأس في الغياب وراء حجمه، وحجمه في قياس الشعريرة واكتئاب العين،..." وتضمن إملاءاته للصبي عبارات لها علاقة بمتاعب السياسة والحكم، وبتكالب من يسعى على احتلال السلطات، وعبّر عن تعبه منها، وعن العتمات والطرق المسدودة، والكاتب لم يخف طرح آرائه على لسان الحاكم - كما أسلفنا - منذ بداية الرواية، كاشفّا موقفه من أي سلطة حكم قهرية وها هو ذا يتساءل: "أين الملاذ وكيف المخرج؟" عارضًا لهواجس الحاكم المتعلقة بإذعان الشعب للسلطة، التي تبدو كالأحلام المرعبة دائرة في حلقات، حتى تظهر على الحاكم علامات الأرق والتعب، فغادر قاصدًا قصره.
في فقرة الجلوس لطلب الدهشة من هذا الفصل يقتطع الكاتب صفحة من بدائع الزهور لابن إياس، يذكر فيها وقوع نكتة أمام الحاكم عندما كان حاضرًا من وراء ستارة، لطلب الدهشة لدى قاض يلبس طرطورًا فيه قرنان، وينطح الخصم المعتدي الذي يجور على صاحبه، ولما سمع الحاكم حماقة الخصم: "لم يملك عقله وخرج من خلف الستارة، وقال للقاضي: انطح هذا النجس الشيطان، وإلا فأنا أنطحه" ثم ذكر العالم ابن الهيثم، الذي كان سجينًا نتيجة تهربه من تكليف الحاكم له ببعض المهام؛ إذ تظاهر بالجنون والخبال، ولما أجاب ابن الهيثم؛ بما أضحك الحاكم أبدى إعجابه، وأطلق سراحه، ثم أمر الحاكم بإحضار الشاعر القرمطيّ الصعصاع، الذي ذكر له أنّ عليًّا قاتل القوم الذين ألهوه، وبعد ردود الشاعر الذكية على الحاكم اغتبط وقال له: "أدهشتني يا فتى، أعجبتني! فانصرف حرًّا طليقًا قبل أن تصدق رؤياك على حدّ سيفي.." كما أطلق الحاكم صوفيًّا، قوّله الكاتب بما يشي بآرائه الفلسفية، وقدّم صورًا لسماعه قصص السجناء، وعندما أدهشوه، وأضحكوه أطلق سراحهم، وانصرف، والضحك يغلب على كلماته، التي تدعو للصفح والسماح لكلّ من يدهشه.
فقرة جديدة بعنوان الجلوس للإلهيات بين الدعاة يستهلها الكاتب بعبارة لابن الصابي، كتاب التاريخ التي تتحدث عن ادعاء الحاكم بالربوبية، و"تقريب الأخرم منه، وجماعة من الجهّال فكانوا إذا لقوه قالوا: السلام عليك يا واحد أحد يا محيي يا مميت" ثمّ ينقل عن القلقشندي، صبح الأعشى، بعد أن أشار إلى سلوك الأخرم وجماعته في دار الحكمة، خبر حمزة بي علي هادي المستجيبين ذي الهامة العريضة الحافظ لأحاديث الشيعة الصحيحة وغير الصحيحة، الذي "قال مكسرًا بهامته صمت التواجه المهيب.. " بعد البسملة والصلاة على النبي، وذكر علي بن أبي طالب وجعفر الصادق، ثم ذكر" مولانا الحاكم الذي قال: خذ العهد على كلّ مستجيب راغب، وشدّ العقد على كل منقاد ظاهر..." ثم تناول الكاتب عون الهادي الداعية حسن بن حيدرة الفرغاني الملقب بالأخرم، وسفير القدرة التميمي، ونقل حوارًا بينهما أمام حضور، ونقلا ما تحدث به الحاكم، مرفقين مع اسمه "مولانا جل ذكره، أو له الحمد" وكلها ترهات وهذيانات حتى ذكر: "ترنحَ الجالسون المنجذبون القانتون الخاشعون وتهامسوا طلبًا للمزيد، فسأل التميمي، سفير القدرة: "وحين عاد مولانا من غيبته العالية، بماذا نطق فمه الجليل؟" أجابوه مستمرين بنقل الترهات المنقولة عن لسان الحاكم، ثمّ نقل فقرة عن القلقشندي حينما عاد حمزة إلى تناول الكلمة مستأنفًا كلام الهذيانات المعروفة عن الحاكم وعن الدعاة المتطرفين من حوله، ثمّ حثّ حمزة النقباء والنواب وخاصة الخواص على تبليغ الدعوة، ويطلب منهم الانصراف، ويلقي عليهم ألف سلام من مولانا الحاكم ومن الدعاة.
ثمّ يخبر حميش عن الدعاة البارزين، وينقل مخاطبة الحاكم لهم بعد تعرضهم لأذى الناس، الذين لم يقبلوا بدعواهم فخاطبهم الحاكم: "...إذا أردتم يا دعاتي أن تدعوا الناس إلى تأليهي، عليكم بجبال الشام، لإنّ أرضها بكر، وأهلها سريعو الانقياد والتعصب. وما عدا هذا الصقع، ما أصعب ربوبيتي على الناس! وما أدعاها إلى تزنيد الفتن الكبرى بينهم" واستمر حميش في نقل خطاب الحاكم للدعاة، مما يؤكد على قبوله بالربوبية، حتّى بدأت الحمّى تظهر عليه، وصار يتمتم بكلمات غير مفهومة، فدثّره الدعاة بأغطية، وطلب منهم أن يعطوه ورقًا ليكتب وصاياه الأخيرة، ثمّ نقلوه إلى القصر.


فصل زلزال أبي ركوة، الثائر باسم الله
ذكر الكاتب في مستهل هذا الفصل خبر أبي ركوة الذي أقام في برقة، وفرح جند مصر وأعيانها بثورته، واستدعاه الناس، فسار إلى الصعيد: "... وعلم الحاكم به فاشتد خوفه، وبلغ الأمر به كلّ مبلغ..." نقلًا عن ابن الأثير، الكامل في التاريخ.
وسرد أحداث ثورة أبي ركوة في برقة الصحارية، وأعطاها أهمية حتى كادت أن تشكّل بنية سردية كبيرة مستقلة عن سياق الرواية، لولا تموضعها ضمن أحداث وتوجّهات الرواية التاريخيّ.
وصف حمّيش وادي برقة، وشظف العيش فيه وسط غارات كانت تقع بين القبائل للحصول على الغنائم بسبب ندرة الأقوات، إلى أن وصل أبو ركوة عام 395هـ على هيئة متصوّف، وحاور أبا المحاسن شيخ قبيلة بني قرة، الذي عرف مقصده بالثورة؛ فاسبتشر به خيرًا، لاسيّما أنّه من ذرية هشام بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر سليل بني أمية في الأندلس، ثمّ بلّغ أبو ركوة عرب بني قرة بقصته بعد أن طرده البغي من أرض الأندلس، وتنسكه وتعليم الناس الصلاة والصبر وتمجيد الحبّ، بين الشام ومصر، وظهر الشاب شهاب الدين بن المنذر مخاطبًا الناس مذكرًا بأحوالهم البائسة، فطالب الحضور أبا ركوة بالبقاء بينهم، وتمت الدعوة لوحدة قبائل الصحراء المتصارعة بمواجهة الحاكم الفاطمي، الذي رمى بهم في عرض الصحراء شحيحة القوت والماء، وطمأن أبو ركوة بني قرّة أن بني زناتة ينتظرون مبادرة الصلح، قائلًا لهم: "إن جنحتم للسلم مشيًّا، جنحوا إليه هرولة، وإن طلبتموه محددًا، طلبوه مؤبّدًا" وأمّ بهم صلاة الظهر بعد إلحاحهم عليه، وأقام في خيمته، حتى فوجئوا بغيابه مع فرسه، تاركّا بطاقة يبرر بها تغيبه بمغادرته نحو من يعادونهم قصد مصالحتهم، وبعد بضعة أيام من ترقّب الناس، استغلّها حماد الماضي للتشكيك بأبي ركوة واتهامه، بأنه غريب وبائع أوهام، وصار حمّاد يثنيهم عن محاربة جيش الفواطم الجبار لضعفهم ولعدم صلاحيتهم، إلا للحروب الصغيرة، التي اعتادوا عليها مع القبائل المحيطة، وعلى الرغم من تطمينات الشيخ أبي المحاسن وشهاب الدين للناس، فبعضهم كادوا يعلنون الردة، لولا وصول أبي ركوة برفقة شيوخ قبائل زناتة ولواتة ومزاتة، فاستبشر بنو قرة خيرًا، وفي اليوم التالي لوصولهم بدأ أبو ركوة يوصّف لهم أحوال بؤسهم وسط جفاف وقحط وتحت حراب وأسلحة جند الحاكم، إلى أن أعلن شيوخ القبائل القبول بالصلح، فأعلن أبو ركوة حينها هدف حربهم مع الفاطميين قائلًا: "برقة معبرنا ومصر والشام غايتنا" ثم نحروا جملًا بهذه المناسبة، وأقاموا وليمة تبادلوا فيها النوادر، وبعد الانتهاء من الطعام صلّوا الظهر، وانصرفوا إلى خيامهم، وقبل رحيل الضيوف سلّم أبو ركوة مواثيق الصلح بينهم.
بعد أيام أصبح أبو ركوة يعلم أطفال بني قرة نهارًا ويسهم بالتدريب والتنظيم استعدادًا للمعركة القادمة ودخول برقة، وعندما جالس شهاب الدين الذي برع بتدريب فرسان القبيلة ورجالها وسأله مبتغاه بالوصول للزعامة اجابه: "هذه القبائل لا تروم السموّ إلّا بفعل مهديّ يأتيها من خارجها، متحدثًا بلسان شعورها الباطن، واعظًا بالتقوى والتطهير، داعيًّا إلى الخير وقلب الدنيا والموازين" وتبادلا أطراف حديث الروح والودّ، وتعاهدا على أن يكون الفارس شهاب السيف البتار، وبضم التربة إلى التربة بالردع والوعيد، وأبو ركوة الردع الواقي، والساقي للتربة بالوعد والتيسير، ورتبا فضاء حلمهما في الحصول على الدولة، واتفقا على مدّ هذا الحلم بأسباب التحقيق، ثمّ تعانقا عناقًا حارًّا، وافترقاعلى أمل اللقاء سرًّا.
بعد الانتهاء من التدريب والاستعداد لخوض المعركة ذهب أبو ركوة مع شيوخ بني قرة إلى قبائل زناتة، وتشاوروا حول كيفية فتح برقة، وبعد اختلافهم بالرأي، استقروا على رأي أبي ركوة بفتحها سلمًا توافقًا مع قبائل كتامة المغربية.
حوصرت برقة، وأوتي بوالي برقة التركي ينال الطويل أسيرًا، وبعد استجوابه وظهور وقاحته، تناول أبو ركوة سيف شهاب الدين وحزّ رأسه أمام ذهول الحاضرين وذعرهم. وبعد أن أرسل رأسه إلى الجنود الفاطميين، أقبلوا رافعين الرايات البيضاء طالبين الأمان. وفي اليوم التالي دخل أبو ركوة على رأس مقاتلي القبائل وشيوخهم برقة آمنين، وعند دخولهم دار الأمارة استقبلهم شيخ من مزاتة ودعاهم لأكل التمر وشرب اللبن، قائلًا لأبي ركوة: "أنا زيدان المزاتي، من البرابرة المعربين، وبرقة مكان ولادتي ومقامي، وإني أفتي بين سكانها بالمذهب الحنفي، وأرسّخ ذكر الله رغم أنف الحاكم الفاطمي وشيعته المردة..." وفي اليوم التالي نودي بالإمام أبي ركوة بديلًا عن الحاكم الفاطمي، ودعوا له بالنصر المكين، ثمّ اقتعد الإمام أبي ركوة المنبر وخطب بالحضور وحثهم على قتال الحاكم الظالم وشيعته، وأشاد بقبيلة كتانة المغربية وتضرع بين يدي الله طالبًا منه العون والهداية والغفران، وبعد الصلاة شقّ طريقه بين الناس وتوجّه نحو مقرّ الأمارة، وأقرّ امام شهاب الدين أنه لا يبتغي إلّا خيمة على سطح دار الأمارة، ولا يريد تغيير نوعية تناوله لطعامه البسيط، وطلب من شهاب الدين تلقيبه بالثائر باسم الله، وجعل دار الأمارة مسكنَ من لا مسكن له.
بعد شهرين من الانتظار وصل الجيش الفاطمي إلى شرق برقة، وتمكّن جيش القبائل من إخفاء عيون الماء عن العساكر الفاطمية، وسلطوا عليهم العطش المرير قبل مواقعتهم، وفي ساحة المعركة أوقع أتباع أبي ركوة بالعدو وهزموا جنوده، فمنهم من فرّ، ومنهم من استدرج إلى الماء وأسر، ومنهم ينال الطويل القائد التركي، الذي خدعهم بإرسال جندي بائس عند أسره قبل دخول برقة، وقتله على يد أبي ركوة، ثم أبلغ عن جرح أبي المحاسن، الذي استشهد بين يديّ أبي ركوة، وهما متعانقين.
بعد أشهر من الانتظار، حضر بين يدي أبي ركوة في خيمته علي بن الحسين بن جوهر الصقلي قائد قواد جيش الحاكم، بعد تخفيه في برقة على هيئة شحاذ بغية اغتيال أبي ركوة، وامتنع عن ذلك بعد خطبة الإمام بعد فتح برقة، حيث نزلت عليه دفئًا وسلامًا، وسلّمه كتابًا من أبيه ومن قاضي القضاة عبد العزيز بن النعمان؛ يستعجلانه به فتح مصر.
وبعد لقائه شهاب الدين بعد قتل الأخير ينال التركي، جالس الشيخ المزاتي وفي أثناء تجاذبهما أطراف الحديث كانا يختلفان، وتأسف الشيخ المزاتي لتوزّع أهل السنة على مذاهب قائلًا له: "الأئمة يا أبا ركوة رجال مثلنا ولنا أن نجتهد كما اجتهدوا، ولأنّ أبا حنيفة النعمان قال هذا فأنا معه..." وعاهد أبو ركوة الله والشيخ ان يبقى على قتال الحاكم الذي عكر صفو الحياة ونكّل بالنفوس، والجهاد ضد بدعه حتى تخليص العباد من شروره، ثم تحادثا عن خيرات برقة، التي ينهبها جند الحاكم بأبخس الأثمان أو غصبًا وعدوانًا.
ثم نقلنا الكاتب نحو اجتماع شيوخ القبائل في خيمة أبي ركوة، بحضور علي بن الحسين الصقلي، وقرأ عليهم رسالة والده المتضمنة كلامًا عن طغيان الحاكم، وعبثه بالبلاد والعباد وعن أهل مصر الطيبين، طالبًا منه القدوم على رأس جيشه إلى مصر؛ لأن الناس تعوّل عليه معزّزًا بالله، لاسيّما أنّ الحاكم يصطنع العدل مبتغيًّا المكيدة بأبي ركوة، مستقدمًا جيوش الشام من المرتزقة؛ ليحتمي بها، كما ينفق الكثير من الأموال، وطلب منه الإسراع بالتحرك من غير تلكؤ، لأنهم بانتظاره مع الزاد والعتاد على أبواب مصر الغربية، ثم تدارسوا سبل وصولهم إلى الإسكندرية، وباركها الشيخ المزاتي، الذي كان قد أعطى أبا ركوة خارطة تدلهم على الطريق الأسهل للوصول، وقرروا موعد انطلاق قوافلهم لخوض الجهاد المقدّس.
انطلق جيش القبائل، يتقدّمه أبو ركوة الذي كان يرى أحلامًا تنبئه بهزيمة، وبعد شهر من المسير وصلوا إلى وادي الإسكندرية، وعلى مقربة من هدفهم أقاموا للراحة والاستعداد، وبعد تقسيم الجيش إلى فيلقين، توجّه أحدهما نحو الجيزة، والآخر نحو الفيوم، والتقيا عند الهرمين قبل دخولهم القاهرة، وتحقق نصرهم على الجيش الفاطمي بعد انضمام الجنود المغاربة والصقليين لجيش أبي ركوة، وبعد التشاور مع شهاب الدين والقادة الذين ارتأوا أن يُضرب الحصار حول القاهرة، حتّى يتم استدراج الحاكم وجيشه على الخروج للقتال خارج القاهرة، ولكن علي بن جوهر العارف بالقاهرة خالف هذا الرأي لأن الحاكم محميّ بعبيده الأوفياء، وتخوّف من جحافل الترك والبدو والمرتزقة، الذين يلمّون شملهم في صحراء الفيوم بقيادة الفضل بن صالح ومن المخبرين والجواسيس، وفي أثناء ذلك قيد رجل جاسوس يحوز على ذهب ونقود ووثائق، وعرف أنّه من رجال حمّاد الماضي، الذي يعمل لحساب الفضل بن صالح، وهو مكلف لنقل اخبارهم، والتغرير بالجنود للغدر والالتحاق بجيش الحاكم، وساومه أبو ركوة على حياته إن هو أخبرهم عن الجواسيس وعن جيش الفضل، فأخبره عن جيش الحاكم الذي يزداد عدده مع الوقت، وكثرة الجواسيس في صفوفهم، ثم فكّوا يدي الجاسوس، وأطلقوه بعد أن لقّنوه خبرًا بأنهم مستمرون في حصار القاهرة حتى الظفر بها، ثم أقرّوا ضرورة مباغتة العدو فجر اليوم التالي، وبعد هواجس ووساوس أصابت أبا ركوة، أخبره شهاب الدين وحمو بفرار بعض الجنود إلى معسكر العدوّ، فعرف أن خيانات نفذت بين جيشه؛ نتيجة الرشوة، وقال حمو أن جلّهم من بني قرة، فغضب شهاب الدين، ولم يقرّه، وصرخ بهما أبو قرة مؤنبًا تنازعهما في وقت الشدّة، ثمّ تقدم أبو ركوة جيشه وانقضوا على معسكر الأعداء، وأوسعوا فيهم قتلًا، ولكن وصلهم أنباء عن تعزيز جيش الحاكم.
نقل حميش خبرًا عن ابن الأثير يدور حول كيفية هزيمة جيش أبي ركوة، حين اكتظت أرض السبخة بالجثث والجرحى من الجيشين: "إلى أن شقّ أبو ركوة مخرجًا ضيقًا وأمر أتباعه بالانسحاب منه تباعًا، فمنهم من استطاع ومنهم من عجز ومات أو سجن في الكمين، "إلى أن وصل مع أتباعه الذين لم يبلغ عددهم المائة، ثم كتب وصيته الأخيرة، قبيل وصول حمو وشهاب الدين قائدا جيشه، وطلبا منه العودة إلى برقة لإعداد العدّة لحرب أخرى ضد الطاغية الحاكم بأمر الله الفاطمي، ولكن أبا ركوة أدرك خطر عودته معهم على حياتهم، فآثر البقاء وتوجّه نحو ملك النوبة بعد أن سلمهم وصيته المتضمنة انتصارًا للحق وانحيازًا للعدل، ووثيقة إخلاص بينه وبينهم. عانق جميع الجنود ثمّ انطلق بفرسه نحو بلاد النوبة. وبعد موت ملك النوبة سلم ابنه أبا ركوة لجنود الفضل خوفًا من جبروت الحاكم، وجرت محاورة بين الفضل وأبي ركوة، قال فيها أبو ركوة: "إنّي أستقرىء مما أعرفه وتعرفه عن مولاك أنّه لن يترك لك فرصة الانتشاء بغلبتك عليّ،..." ثمّ سار الموكب يتقدمه أبو ركوة على ناقة والفضل على فرس ووصلوا إلى أبواب القاهرة في عام 397هـ وقد جحظت عينا أبي ركوة من هول ما شاهده من آلاف الرؤوس يطاف بها في الأزقة، وعندما استعظم الأمر وتنبأ بنهاية الحاكم على أيدي هؤلاء المغاربة، صفعه الفضل، وأمر العبيد بتصفيده وإلحاقه بقوافل المعذبين، ولكن لم ينج الفضل من بصقة فاجأه بها أبو ركوة في وجهه. وحين لمح الشيخ زيدان المزاتي، وهو ينزف وقد أضحى ضريرًا، صرخ أبو ركوة سائلًا: "هل نلام يا زيدان على أننا رمنا محاربة الشرّ، فكانت قوى الشرّ فوق ما فهمنا وتوقعنا؟" ثمّ ثبّت الكاتب نصّا لابن تغري يصف فيه ذاك اليوم المشؤوم بتعذيب أبي ركوة، إلى أن دبّر الفضل مقتل أبي ركوة قبل أن يطأ أعتاب الحاكم، ولما وصل إلى قصر الحاكم، كان قد لفظ أنفاسه الأخيرة، فتنهّد الحاكم غاضبًا على الفضل ومتحسرًا وقال: "وعدت نفسي بمجادلته ووعدتها بذبحه، فاستحال وعد وتيسر آخر، والآن.. يا فضل، قرّبه مني، وناولني خنجرك"
لقد تمكنت ثورة أبي ركوة من تهديد جيش الحاكم بأمر الله، وكادت أن تنهي عهده وتسلطه، لولا أنّ الحاكم استنفر جنده من الأتراك والمغاربة والعبيد، واستنزف كل خزائن دولته، وقضى عليها، وذلك بعد أن توجّه أبو ركوة للاعتصام في مكان اختاره في الصحراء زاهدًا، وبعد ان وصلت جثته إلى القصر: "أخذ الحاكم من الفضل خنجره فأحنى على جثة أبي ركوة وشقّ حلقومه حتى سال منه الدم، ثمّ استقام ومسح يديه في ثياب الفضل، وردّ إليه خنجره قائلًا سلاحك متآكل يا فضل، إياك وأن تعوّل عليه عند الشدّة، فاشحذه أو بدّله" كما أن الفضل عرف مصيره، فجمّد كالصنم ثم انهار، فحمله العبيد إلى منزله، وأقعده المرض الفراش فعاده الحاكم، وأقطعه إقطاعات كثيرة، ثمّ عوفي من مرضه، وبعد أيام قتله شرّ قتلة.
أعلن الحداد على مقتل أبي ركوة في برقة لمدة أسبوع، وسط تنفيذ وصيته التي أكّد فيها تهالك الدنيا في ناظره، ووجه وصيته لكل بلد مقهور وكان ميراثه هو:
"يا قرر عيني!
إن شاهدتم عنف الطغاة في حاضركم، وتهتم في تجاويف الظلام، ورأيتم الناس في الأصقاع المغلوبة على أمرها يخرجون من سجن ويدخلون آخر، ورأيتم مصرع الفقير والثائر، فلا تنهاروا، لأنكم الوعد.. لا تنهاروا، ولا تقيدوا أنفسكم في طرق الحيرة والتخلّي، ولا في فيالق الفتك والطغيان" ويوصيهم بالمستضعفين والجياع حيث تكبر النفوس ويكبر الغضب، وأن يجعلوا حياتهم منبعًا متدفقًا، ومقاومة للجبروت، لأنّ النصر سيكون لذريتهم وذرية الفقراء ولحقهم في حياة كريمة.
فصل من آيات النقض والغيث
استهل الكاتب بين النكتة والانتقام: مصر تحترق بمقطع نقله عن ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة يخبر فيه عن أوامر الحاكم للقادة بضرب مصر بالنار ونهبها وقتل أهلها، فاستمرت الحرب بين العبيد والعامة والرعية ثلاثة أيام "والحاكم يركب في كلّ يوم إلى القرّافة، ويطلع إلى الجبل، ويشاهد النار ويسمع الصياح ويسأل عن ذلك، فيقال له: العبيد يحرقون مصر وينهبونها، فيظهر التوجّع ويقول: لعنهم الله! من أمرهم بهذا"
وشرع حميش في سرد أحداث الشهور الأخيرة من حياة الحاكم، فقد تناوبت عليه الانهيارات النفسية وحالات الاكتئاب، وبالمقابل بدأ بركان الرعية في مصر يثور؛ فازدادت الرقاع والعرائض، وألّفوا النكت عليه، وطعنوا بنسبه، وكان الأهالي يوزعون البطاقات التي تستخفّ به، وبسلفه واستشهد الكاتب بـ ابن تغري بردي للطعن من نسبه حيث لاعلاقة للخلفاء الفاطميين بعلي بن أبي طالب، وكانت البطاقات توزع في الدور والسطوح وعلى الجدران والبوابات، و: "سمّى الأهالي في مصر مقاومتهم لطغيان الحاكم بالمقاومة الساخرة" ، كما وبّخ الحاكم القائد لؤلؤ قائد الشرطتين، ووجّه له أغلظ السبّ وأفحشه، وكاد أن يقتله لأنّه عجز كبح جماح الرعاع، وبعد يومين أحضر لؤلؤ بين يدي الحاكم، وعندما استقام بعد تقبيل الأرض بين قدميه قال له: "إنها والله لحرب خاسرة يا مولاي، لا تلوي على رأس إلّا وتخلفه رؤوس،.." وصرخ الحاكم آمرًا بقطع لسانه، وتمزيقه إربًا، وبعد مقتله أمر بدفنه مع التكريم.
إلى أن يذكر حميش سلوكه الحاكم غير السوي مع الصبي، الذي قال له: "أرني قمرك، فتعرّى الصبيّ، وسجد أمام مولاه، الذي بادر عورته ببصقة، ثمّ تركه على صخرة ثابتًا في هيئته..." واستمر حميش بعرض حياة الحاكم المضطربة، إلى أن طلب مؤرخه مختار المسبّحي، ولمّا حضر وجده يرغي بهذيانات، ولمّا استغفره المسبّحي، عارضًا تنفيذ أوامره، انتصب الحاكم على قدميه، ومزّق أوراق المؤرخ، وخاطبه بحزن وكآبة: "اتق الله يا مختار، واسجد له وحده وليس لمن تروي عنه وتحكي، ثمّ كفّ عن بلاغة لا تنفع اليوم ولا تشفي. الغمّة أمست عظيمة والمصيبة زباء، ولا من تاريخ يفيد أو حيلة تجدي" واستمر الحاكم بإبداء حالته الحزينه وكربه، ولكنه استقام حالًا مع انسدال ظلمة الليل، وفي خلوته قال لمؤرخه: "لو نطقتُ بما يسكنني ويهزّ عقلي وكياني، ولو كشفت عن مناجاتي مع ربي، وولهي بالسلطانة أختي، ولو أنفقت في تيسير نطقي وكشفي بلاغة ناصعة وبيانًا قصيًّا، لما اقتحمت على مؤرخي دوائر وعيه وفهمه.. باطنيّ مزيّف هذا المؤرخ، ونهّاز يكثر من زلفاه وخفض الرأس" ويخبر المسبحيُّ الحاكمَ بتاريخه المؤلف من أربعين مجلدًا المتضمن أحكام الحاكم بالعلل الدامغة والشريعة الرادعة، فيستذكر الحاكم جرائمه، ويبحث عن مبررات اقترافه لها، ويستمر الحوار والتذكر لأحداث رهيبة، فيصادق المسبحي على تبريراته بغية الاستمرار في تأريخها، كما أنّ الحاكم يطلب من مؤرخه أن يدوّن في تاريخه: "... ولكن سجّل عليّ في تاريخك قولي: لا إمامة إلّا للأجدر، لا إمامة إلّا للأصلح" ويخبر الحاكم مؤرخه بوقائع وأخبار وآراء أقرب أن تكون اعترافات من يودّع دنياه، معتبرًا أنّ فعل عموم الناس يهزأ مما يجري له ويبدو مقدار عجزه امام بطائق المصريين، الذين يجعلون منه ومن حكمه مهزلة، على الرغم من إصرار المؤرخ المسبّحي على التزلّف للحاكم قائلًا: "التاريخ يا مولاي، لا يكتب ببطاقات الدهماء وعرائضهم، ولا يستوي بأعمالهم وترهاتهم، التاريخ هو ما أكتبه وتمليه عليّ بتوجيهك ووحي من استخلفك في الأرض على العالمين" ، ثمّ صعد إلى مرصده باحثًا عن نجمه المشؤوم من دون أن يجده، وحينما ارتفع شخيره حاول المسبّحي الهرب، ولكن الحاكم زأر فيه، وبدأ يهذي بأفكار صوفية متهمًا مؤرخه، بأنه وأهل الظاهر لا يفلحون إلّا بالصدأ والنفايات. ويستمر حميش في تصوراته عن حوار الحاكم مع المسبحي؛ ليكشف عن طريقه مسوغات الحاكم لأفعاله الإجرامية، وحتى يوجّه الأضواء على مرحلة غامضة من تاريخ مصر من وجهة نظره، مستعينًا باستحضار نصوص من تاريخ الرواة كالمقريزي الناقل عن المسبّحي، الذي لم يصلنا تاريخه، والكرماني وابن تغري، ليؤكّد على جموح الحاكم للسيطرة على الحكم، وولعه بالقتل وسفك الدماء وهتك الأعراض، وصولًا لاكتمال حالة الجنون لديه.
وهكذا استدعى الحاكم إلى جانب المسبّحي داعي الدعاة الكرماني، والتقاهما في صحراء النقب، وكان يميل إلى الهدوء، ونقل حميش من رسالة مباسم البشارات للكرماني ما جرى بينهما، ثمّ تصور حميش ردود الحاكم المليئة بالتناقض والندم على سياساته، وقدّمه للمتلقي مستذكرًا كيف كان يصطاد الطيور بالدبق، حينما كان في العاشرة من عمره، وكيف كان يخنقها أو يذبحها أو يمحقها بهساردة غليظة، ويرميها لقطط القصر، وكيف كان يقتل القط المغالي في الأكل والسطو. ثمّ استذكر الحاكم كيف ودّع مملكته من الطيور والحشرات، وتنازل عنها مكرهًا لحظة تولى الخلافة، وأخضع لمراسيم التنصيب بعد موت أبيه، وبذلك تحوّلت الرعية لطيور وقطط بين يدي الحاكم الخليفة، ودارت حوارات بينهم، "كان الحاكم شارد الذهن وبرمًا بما يسمعه، وقال مقاطعًا: "إن الأخرم مات مقتولًا وحمزة والدرزي فرّا بالعقيدة إلى بلاد الشام" كما أعلن تخوّفه من الرعية، التي تستعجل العزة والإنصاف، وتطلب التمتع بالإنعام حالًا، وهو لا يستطيع أن يواجه الناس، كما واجه عيسى الناس ولا يهددهم صائحًا: "أنا الطور، والكتاب المسطور، والبيت المعمور. أنا صاحب البعث المنشور. أنا إمام المتقين، والعلم المبين، ولسان المؤمنين، وسند الموحدين...؟" لأنه لو فعل ذلك لواجهته الناس بالتطبيل والتغيط، ورددوا كلامه بلحن الاستهتار والتنكيت، ثم يأسف لعجز الكرماني في إراحة عقله، ويغادرهما متوجهًا نحو القصر.
في اليوم التالي حضر إلى جبله، وتوعّد فسطاط مصر وهمْهَمَ بنيته على السكر، ولما نزل الظلام كان الحاكم ثملًا، وبدا عليه السوداوية والتعب في نفسيته، وردّد مع نفسه:"فرّق تسد، واضرب فريقًا بفريق يدعوك كل الفرقاء إلى حضرة التحكيم، فالحكم بأمر الله وأمرك، ثم صاح بأعلى صوته: يا أيها العبيد، مهدوا لي مصر، وسووا اعوجاجها، فهي اليوم لكم لكي تحرقوها وتنهبونها، انتقاماً لما اقترفته في حقّي من فادح الهزء والسخرية، ولا خلاص لها مني ومنكم وقد تفرعن أهلها عليّ وتطاولوا. ولو قدرت لأرسلت عليها الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، أو لتركت جلودهم كلما نضجت بدلتهم جلودًا غيرها.." ثم أمر عبيده باستباحة القاهرة وحرقها، واستعان حميش بنصّ لابن تغري بردي، ليصف كيف احترق ثلث القاهرة، ونهبت لأيام، وبيعت المصريات سبايا، وكيف دافع الترك والكتاميون عن القاهرة بمواجهة العبيد، حتى تمكنوا منهم، فنزل الحاكم، وأمر العبيد بالابتعاد، وأقسم كذبًا أن لا علاقة له بما جرى، واعتذر من الناس وكتب أمانًا لأهل مصر.
قضى الحاكم أثناءها قرير العين ظاهريًّا، ولكن من دخانها ومن تحت أرمدتها، ومن ذاكرة الهوان وتضييق الجراح، تحررت من جنونه...
استهل حميش السلطانة ست الكل بعبارة لابن الصابي ذكر فيه ست الملك بالعارفة والمدبرة وغزيرة العقل، التي حكمت أربع سنين بعد مقتل الحاكم، أعادت فيهم الحكم لنضارته، ويستشهد بابن القلانسي كيفية تدبر ست الملك لإخفاء جريمة قتله، وكيف قال المغالون في المذهب: إنّه غائب في سره، وسيرجع إلى منصبه.
ثمّ قدّم رؤيته عن ست الملك، التي احتلت قلب أبيها محبة وصفوًا وصدارة، وكانت ملاذَه ودرعَه، وكيف اهتمت بكل الناس عند موت أبيها، فكانت: "محبوبة كل طبقات الشعب التي أحبتها وسمتها: ست الملك والسلطانة وسيدة الكلّ" وتحدّث عن جمالها الذي قال الشعراء به شعرًا ردّده السمّار، وعن قدّها وعينيها وعنقها ومنكبيها، وعن نفحات الطيب والمسك، التي تفيض على مجالسيها، ثم كتب عن عقلها ورزانتها، وعن اهتمامها بأخيها الحاكم، وهداياها له حينما بويع بالخلافة، إلى أن شهدت على جرائمه ونزوعه للقتل ونشر الكراهية، فاتخذت منه موقفًا؛ منعاً لتلف الدولة واندحارها، ونقل حميش عنها مخاطبة الحاكم: "خلاصة عهدك يا بن أبي مقبرة شاسعة الرحاب: الخصاصة وضيق الحال، والقتل يا مولاي والإرهاب." ثم تحدث عن ليالي الأرق والشكّ والتخمين، التي قضتها ستّ الملك مترافقةً مع ظهور طيف فاطمة الزهراء لها كقوس قزح وكبشارة الهناء والخير، التي تكلّل حضورها.
ثمّ نقل لنا الكاتب حوارًا حادًّا بين ست الملك والحاكم ينبئ بالسوء، وذلك بعد أن اقتحمت عليه خلوته في قصره، فجابهها الحاكم غاضبًا متهمًا إياها بالعقوق والعصية، وأنها عار الدولة، فتردّ عليه باتزان قائلة: إن الصمت في دولة الطواغيت عبادة...، وتحذّره من خراب الدولة والإسلام على يديه، فيتهمها بشرفها، ولكنها تذرف دموعًا، وتفضّل موتها على تدنيس شرفها، فأبدى وقاحة، وقرّر أن يرسل لها القوابل لاختبار بكارتها، وطرَدَها مهددًا بقتلها، فما كان منها إلّا أن قصدت ابن دوّاس الكتامي قبل انبلاج الفجر، وأمرته بتنفيذ خطتها لقتل الحاكم، وخاطبته بسيف الدولة، ثم وضعت على أذنه قبلة، وسلمته سكينتان ماضيتان، لإعطائهما لعبدين بغية تنفيذ جريمة قتل الحاكم.
انتقل حميش؛ ليصف الحاكم بعد تجواله حيث صار يهذي، ويتراءى له أنّ الأشجار جنود تحاصره، وغصونها سيوفٌ تبغي تمزيقه، فعاد إلى القصر، وقضى ليلته بمعية حماره قمر، ومع الفجر أدخلوه إلى فراشه، ثم نهض ونادى على المنجمين، وبعد أن نظر إلى السماء ظهر له النجم المشؤوم، فقصد أمّه وحدثها عما يجري معه، فطلبت منه، ألّا يخرج في تلك الليلة نحو جبل المقطّم كعادته، ثمّ نقل حاميش عن المؤرخين كلام أمه وتحذيرها له من أخته، ولكن الحاكم أصرّ على خروجه، وعندما خرج "صاح مكررًا: لابدّ لكم من موتي، ثمّ أفاق وقال: بصوت يتأرجح بين الصياح والخفوت: هذه الليلة ليست كمثيلاتها، إنها العمق اللامتناهي الذي يجذبني إليه عبر جماله الطافح!" وأخبر الكاتب أنّ الحاكم كان يعي مقتله على يد أخته، وأنّ ابن دوّاس تنبأ بموته على يد أخته.
مات الحاكم في عام 411هـ وعمره كان 36 سنة ونصف، وعندما سأل الناس عن غيابه بعد إخفاء جثته وجثة حماره، كانت ست الملك تردّ بهدوء عن علمها أنّه سيغيب مدة، ثم يرجع. ولكنها تمكنت خلال أسبوع من غيابه أن تدبّر شؤون الدولة، فأسرّت لخطير الملك بموته، ثمّ تعاونت معه وتخلصت من عبد الرحيم بن الياس مسمومًا، ولما تساءلت العامة والقضاة، وتناقلت الإشاعات بحقّ ست الملك جمعتهم، وأعلنت براءتها وطهارتها، وأنهت خطابها لهم بـ: "ارجعوا عن غيّكم، ارفعوا عني شبهاتكم، وتطهروا بماء الفضيلة وحفظ الأعراض، وإلّا فانتظروا لعنة الله وعقاب امرأة من وراء حجاب" ثمّ نصّبت في عيد النحر ابن أخيها علي الملقب بالظاهر لإعزاز دين الله، وأسرّت لابن دوّاس بأن يتعهده بالرعاية, وبعد أن تشكّك بعض المطلعين ووجدوا لباس الحاكم مليئًا بدمه، وبدأ الشكّ بست الملك يساور الناس وخوفًا من سذاجة مريدين، لدعاة يتربصون بالإسلام أشاعوا في الأصقاع خرافة الغيبة والخفاء، استدعت ست الملك نسيم الصقلي، صاحب الستر، واتفقت معه على قتل ابن دوّاس وخطير الملك الوحيدين المطلعين على قتل الحاكم، ثم يصور الكاتب حزن ست الملك على التصفيات الجسدية الضرورية؛ لتدبير شؤون الدولة، وخضوعها لجملة من العلاجات الجسدية التي جعلتها تولد من جديد، فصارت تشرف على شؤون الدولة بنفسها مدربة الخليفة الظاهر كيفية ارتقائه لمستوى المسؤولية، وذلك بعد إقراره بضرورة نقض سياسة أبيه الظالمة، إلى أن شعر الناس بالفارق، فخرجوا إلى الشوارع، وهللوا، وكبّروا للخليفة وعمته، ودعوا لهما بالنصر.
عادت الحياة الطبيعية لأنحاء مصر وتمكنت النساء من التجوال على ضفاف النيل، وفتحت الملاهي أبوابها، وشرّعت الأعياد من جديد، وعمّت الأفراح والمسرات في صفوف الأهالي، وتوقف الاعتقال، ثمّ يذكر الكاتب الدرزي الذي استقرّ في جبال الشام مدعيًّا ألوهية الحاكم قانعًا أتباعه انتظار رجعته، فبادرت ست الملك؛ لتشكيل مجموعة للتفكير، بما يتوجب عمله، وكانوا يجمعون على مواجهة الدرزي بجيش، إلا أنها خالفتهم الرأي منعًا لإهراق دماء جديدة، واكتفت بإرسال رجل قتل الدرزي وثلاثة من المتعصّبين له في مخبئهما، وتمّ عقد صلح مع إمبراطور بيزنطة، لمنعه من مساعدة المناوئين للدولة الفاطمية، فتغيّرت أحوال الناس، ثمّ قدّم لنا الكاتب صورة عن حياة ست الملك التواقة للجمال والمتعة، وبحلم تنازع فيه موتها، إلّا أنها تسلّم روحها في نهاية الأمر، وتموت وهي بكامل جلال هيبتها، وتنكشف وصيتها، التي تتضمن دفنها بقبر صغير فتحزن القاهرة عليها، ويخرج الناس في جنازتها حزانى، ويبقون أسبوعًا يمشون حفاة تعبيرًا عن حزنهم، ينهي حميش الرواية باستشهاد للمقريزي واصفًا شغف الخليفة باللهو والشرب والغناء، فتأنّق الناس أيام علي الظاهر بمصر، ولكنه مات عام 427هـ وعمره 32 سنة.
أدهم مسعود القاق، 31/ 12/ 2015



#أدهم_مسعود_القاق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إدارة جيل الألفيّة الإدارة التشاركية، للدكتورة: هانم العيسوي ...
- شهيد الإقصاء، لطف الله مزهر، ومسيرة الكفاح المتعثّرة
- وترجّل فارس آخر، عبد الله هوشة شهيد القهر
- هيثم عبيد، عبرت حرًّا، وبقينا عبيدًا
- وداعًا مي سكاف، وداعًا.. سلامًا عى موتك المشتهى
- مقدمة في علم المخطوطات
- وداعًا نبيل فهد العباس، شهيد التهجير والغربة القسريّة
- النقد التاريخي وقراءة الحاضر
- في ذكرى 5 يونيه / حزيران، 1967: صبرًا شعب سوريا على مأساتكم ...
- أوهام عبد الإله بلقزيز في استعادة الممانعة بمواجهة الثورة ال ...
- الدراسات الثقافية والتغيير المجتمعيّ
- في الذكرى السادسة لانطلاقة ثورة شعب سوريا العظيم
- أين رياض الترك ومنتهى الأطرش الآن؟
- العيوب النسقية الثقافية
- المقاومة الثقافية وشباب الربيع العربي
- الثوّار السوريون يكذّبون رؤية نوال السعداوي في الحاكم بأمر ا ...
- مؤتمر مراكز البحوث العربية والتنميّة والتحديث بالقاهرة: -نحو ...
- الثورة السورية بؤرة ثورات الربيع العربي، ومؤتمر الرياض
- وفاة الأستاذ منذر الشمعة، في غربته القسرية
- التنوخيون الدروز وسط التنوع الجغرافي والمجتمعي في بلاد الشام


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أدهم مسعود القاق - رواية مجنون الحكم بين إجرام الطاغية الحاكم بأمر الله وسمو الثائر أبي ركوة