أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد درير - ذوبان ساعات الحياة.. عند عتبة سلفادور دالي















المزيد.....

ذوبان ساعات الحياة.. عند عتبة سلفادور دالي


سعاد درير
كاتبة وشاعرة وناقدة


الحوار المتمدن-العدد: 6556 - 2020 / 5 / 6 - 12:13
المحور: الادب والفن
    


ذوبان ساعات الحياة!
عند عتبة سلفادور دالي


مِن الجنون ما يَقتل، ومِن الجنون ما يَجعلك تتسلى وتَلْهُو وتَلعب كما لم يَلعب طفل، لكن ليس الأطفال وحدهم يَلعبون، فهذا صاحبُنا سلفادور دالي SALVADOR DALI أَقْسَمَ أَلاَّ يَسمح لنفسه بغير أن يَلعبَ، وأول ما قرر أن يَلعبَ به هُو شاربُه..
مثير حدّ السخرية أن يَكون للإسباني سلفادور ذلك الشارب الغريب الْمُعَلَّق أعلى الشفة بطريقة لافتة للانتباه حدّ التشكيك في سلامة ذوقه وفق ما يَقتضيه العرف ودِين العقل.. أليس من الباعث على الضحك أن يَتعلم أحدُهم فنونَ التخطيط على لَوحة مُحَيَّاه؟!
شاربُ صاحبِنا المسكون بحُبّ الجنون لَعِباً يجعل وجهَه بمنظر الشارب لوحةً تشكيلية سريالية.. ولا غرابة، فالرجُل سلفادور هذا ماذا نتوقع منه أن يَكون إن لم يَكُن حقيقةً قد رضعَ حليبَ السريالية والجنون..
السريالية جعلت سلفادور دالي يُثير ذائقتك الفنية بما كان يَرسمه من لوحات تشكيلية قِمَّة في الغرابة، ومازالَتْ إلى الآن مَضرب المثل في رَسْم مَشاهد مِن الحياة بخطوط وألوان وأشكال وأحجام فوق واقعية على طريقة النموذج السريالي في الفَنّ..
لكن هل كان سلفادور يَكتفي بالإيغال في الحِسّ السريالي فَنّاً فقط؟! من المؤكد لا، والدليل القاطع الذي لا يَتوانى عن لَيِّ عُنُقِ الشك هو زَحْف الْمَدّ السريالي إلى الحياة الشخصية والواقعية لسلفادور..
سلفادور في حَدِّ ذاته يُمكنك أن تَقول عنه إنه لوحة سريالية متحركة، بدءاً من شاربه، مُروراً بملابسه التي كانت تَصدم بذوقها من يَتقاسم سلفادور معهم الزمنَ والمكانَ، وُصولاً إلى مواقفه وأحواله وتصرفاته..
تصرفات سلفادور الصبيانية دفعَتْه مراراً إلى مغادرة صفوف الدراسة بسبب الانطباعات السيئة التي كان يَتركها عند أساتذته نتيجة المشاكل التي كان يَتسبب فيها لزملائه أو تلك المقالب الباردة التي كان يُلَفِّقُها لهم..
أن تَستهويكَ الكتابة التشكيلية سريالياً، هذا أمر مفهوم ولا مَشَقَّة في قبوله، لكن أن تُجَسِّدَ اللوحةَ السريالية على شاكلة الكتابة الفنية بالجسد (جسدك) من باب التمادي في اللعِب، فهذا ما لا يَتفق معه عقل ولا منطق..
اَلْمَنْطِق هنا بَيت القصيد، لماذا؟! لأن سلفادور عُرِفَ بكسره لكل قاعدة ومنطق، فلا قانون يَضبط مزاجَه سِوى الجنون، ولا فلسفة تَكون لطريقه المصباحَ سِوى الخروج عن النص..
النص الغائب عن حياة سلفادور هو الحكمة، الحكمة بما تَفرضه من تخطيط سَوِي وما تَقتضيه مِن هندسة للحياة في مستوى التطلعات التي يَرسمها العاقلُ لنفسه..
نَفْسُ سلفادور كانت بأهوائها المتقلبة والخارجة عن نطاق سيطرة العقل السليم تَستدرجه إلى السقوط في مُسْتَنْقَع الألوان الغامضة للحياة، تِلك الحياة التي كان صاحِبُنا يُفَصِّلُها على مقاسات جُنونه الخَلاَّق..
عَظَمَةُ الجنون (وليس جنون العظمة) أَوْحَتْ لسلفادور بأن يَتَّخِذَ لشخصيته الخارجة عن التصنيف مَساراً يَتجاوز حدودَ الممكِن في الحالة الطبيعية، فالرجُل لم يَكُنْ يُخفي ولعَه بالمغامرة وصعود جَبَل الرغبة، وأيّ رغبة؟! إنها الرغبة المجنونة في الانقياد لسطوة الأفكار المجنونة..
الأفكار المجنونة التي كانت تَدور في فلك رأس سلفادور كانت تَرقص وتُغَنِّي، وتُرَفْرِف وهي تَرى رُؤيةَ اليقين كيف أن ذلك الربان المجنون الذي يَقود سفينتَها (الربان سلفادور) يُطيعها طاعةً عمياء، ويمتثل لأمرها مُسْتَسْلِماً بَاسِم الثغر والعينين، مهما رَمَاه الآخَرون بحجارة الجنون الذي لا يَغيب عن أبله أو سفيه..
هل كان سلفادور مُتَيَّماً بقراءة معنى الاستياء في وُجوه المحيطين به؟!
أم كان عقلُه يُصَوِّرُ له استياءَهم في صورة إعجاب؟!
أم كان يَشعر بنشوة التميز عن غيره بما يُحدثه في شكله من فوضى عابرة لحدود الجسد؟!
أم أنه لم يَكُنْ منبهراً بآيات الجمال في صورة التناسق أو التناغم الذي كان يُغَلِّف كل ما يُوجَد حوله؟!
لِنَقُلْ إنها لعنة الجنون وكفى، تلك اللعنة التي قد يَطيب لك يا صديقي أن تُسميها لعنة مقدسة، لماذا؟! لأن صاحبَنا سلفادور المسجون خلف قضبان سرياليته كان يَتَلَذَّذ بلعنة الجنون..
درس في الجنون يُعَلِّمُك إياه سلفادور مِن مدخل اللذة الفنية التي تُشبِعُها الممارسةُ السريالية، سواء في حدود الإطار التشكيلي للإبداع على الورق، أم على امتداد أرض الواقع التي لا تَنفي تأثر سلفادور بِـ «عَبْقَر» السريالية على مستوى تَجربة الحياة الشخصية..
هذا سلفادور، الفنان التشكيلي والمفتون بالصورة المجاوِرة عشقاً وممارسةً لصُنَّاع السينما، وأيّ صورة؟! لقد كان يُخطط لتجسيد صور تَتخلل مَشاهد سينمائية مُخْتَلَسَة من حقيبة الأحلام الْمُهَرَّبَة من بلاد اللامعقول..
في تجربة سلفادور يَتوقف الزمنُ، وتتعطل ساعاتُ الحياة، لكن هل تُصَدِّقُ يا صديقي أَنْ يَقوى سلفادور على تجسيد إحساسه هذا بذوبان الحياة؟! يَقوى يقيناً، ولهذا ظَلَّتْ إلى الآن لوحةُ «إصرار الذاكرة» التي رَسَمَها سلفادور وفق ما تَسمح به بنود المدرسة السريالية من أروع لوحاته وأكثرها جودة وشهرة..
إنه مَشهد قد لا يَتحقق إلا على سرير الحُلم، فهل تَصَوَّرْتَ يَوماً أن تَزورَك صورة كهذه في غير مدينة الأحلام؟! طبعاً لا، ولهذا يَشعر الرائي بعين التأمل بنشوة فنية قَلّ نظيرها وهو يُبْحِر في قراءة لوحة الساعات الذائبة تِلْكَ..
لَعَلّه من الحيف حقاً أن نَتَوَاطَأَ مع الباطل ضد حكمة الرجُل هذا، لماذا؟! لأن مَن يَغوص بريشته وأقلامه في بحر الإبداع التشكيلي بهذه الروعة وتلك الدقة لن يكون إلا سَيِّدَ الإبداع..
إنه جنون الإبداع الذي يَرفَع مًنْجَزَكَ في عيون مَن يُقَدِّرُ جمالَ الإبداع، جنون يَرتقي بك إلى معارج التميز مهما بَدَوْتَ للآخَرين غريبَ الأطوار فوضوي الشكل شارد الذهن تَحضر وتغيب كأنك الضوء الشارد الذي لا تُغريه محطة بين سماء الزمن وأرضِ المكان..
الفنان المبدع بحق والسابق بخطواتٍ ضوئية لزمنه لا يُقَدِّرُه إلا شبيه له أو مُتَذَوِّق لِفَنِّه بِعَينِ إحساسِ المجنون بإبداعه، لذلك كان من حُسْن حَظّ سلفادور أن يزفّ إليه القَدَرُ زوجةً متفهمة لمزاجه الإبداعي، ومن هنا كان من الطبيعي أن تُعينَه زوجتُه على جنونه..
زوجة سلفادور الروسية المعروفة بِـ «غالا» (مع أن اسمها الحقيقي إيلينا) قَدَّمَتْ له خدماتٍ جليلةً بسهرها على رعاية إبداعه وإدارة علاقات الترويج له، ولذلك كان من غير العدل ألا يَحزن سلفادور على موتها وقد تَرَكَتْه كالنخلة اليتيمة المشنوقة في صحراء قاحلة..
صحراء قاحلة هي الحياة التي مِن النادر أن تَجد فيها من يَشعر بشهوة رغبتك الإبداعية الجميلة ويَتعاطف مع خيوط إحساسك بما تُشَكِّلُه مِن فَنّ رقيق وعابر للقلوب الذَّوَّاقة للفَنّ الحقيقي..
بِرَحيل زوجته كان في انتظار سلفادور مَوْعِد مع الحُزن الذي جَعَلَه يَرى الحياةَ بألوان كئيبة تَقتل رغبتَه في الاستمرار بعيدا عن شمعة الأنثى التي كانت تُعَبِّدُ طَريقَه إلى النجاح..
زوجة مثالية تلك التي تَستجيب لرغباتك الدفينة وتُنَفِّذُ دون أن تَطلبَ منها، تُضيءُ غرفةَ حياتك وتُزَوِّدُها بما يَكفي من حرارة العاطفة التي تَتَّخِذُ منها أنتَ مَصْدَرَ طاقة، طاقة مُحَفِّزة على العَطاء ومُحَفِّزَة بالْمِثل على البَقاء..
ما جدوى البَقاء بعد رَحيل الغالية؟! هكذا نُقَدِّرُ السؤالَ الذي ربما كان يَسأله سلفادور لنفسه مراراً، لكن القَدَرَ كان رحيماً هذه المرة أكثر مما يُمكن لامرئ أن يَتصور، ببساطة لأن الحياةَ في قلبه غادَرَت حالفَةً ألاَّ تَعودَ..
كان سُكوتُ ساعةِ قلبِ سلفادور يؤذن بالرحيل إلى ما لا رجعة، وهكذا أَنْقَذَتْهُ أزمتُه القلبية من جحيم حياةٍ أَصْبَحَتْ قاسيةً بعد غياب نِصفه الثاني وتَوأم روحه..
بَيْنَ روح الإنسان وروح الفن مسافةُ صِفْر. لهذا لم يَطُلْ عذابُ سلفادور، وسرعان ما سكتَتْ ساعةُ حياته التي كانت تَذُوب شيئا فشيئا، إلى أن تَبَدَّدَتْ كُلِّيا فتَلاشَتْ معها صرخَةُ الحياة..
صحيح أن سلفادور قد رَحَلَ، لكن ساعاتِه الفنيةَ مازالَتْ حاضرةً بقوة، ساعاته تَشْهَد بها لوحاتُه الفنية التي طَفَقَتْ تَقول: مِنْ هُنا تَاريخُ عبقريةٍ مَرَّ، مِن هُنا مَضَتْ حِكاية..



#سعاد_درير (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وهم
- أقمرت في ليلي لِمَ؟!!!
- الطريق إلى العروبة، شقرة الشعر وزرقة العينين والمدينة الجديد ...
- خيانة
- الكتابة المتملقة والكاتب المغرور
- المرأة والكتابة
- على هامش يوميات منسي، السيد حافظ بين سندان الثقافة ومطرقة ال ...
- السيد حافظ رسالة إلى المثقف العربي الناشئ
- أحضان
- المرأة والعنف


المزيد.....




- إطلاق جائزة فلسطين العالمية للشعر في ختام مهرجان ميديين الدو ...
- رئيس الممثلية الألمانية لدى السلطة في مقابلة مع -القدس- قبل ...
- جدل في أوروبا بعد دعوة -فنان بوتين- إلى مهرجان موسيقي في الج ...
- -المدينة ذات الأسوار الغامضة- رحلة موراكامي إلى الحدود الضبا ...
- مسرحية ترامب المذهلة
- مسرحية كوميدية عن العراق تعرض على مسارح شيكاغو
- بغداد تمنح 30 مليون دينار لـ 6 أفلام صنعها الشباب
- كيف عمّق فيلم -الحراس الخالدون 2- أزمة أبطاله بدلا من إنقاذه ...
- فشل محاولة إقصاء أيمن عودة ومخاوف استهداف التمثيل العربي بال ...
- “أخيراً جميع الحلقات” موعد عرض الحلقة 195 من مسلسل المؤسس عث ...


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد درير - ذوبان ساعات الحياة.. عند عتبة سلفادور دالي