|
جذور الاستبداد في العقل السياسي العربي
نضال العبود
الحوار المتمدن-العدد: 1574 - 2006 / 6 / 7 - 10:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ليس من السهولة بمكان التأريخ لأحد أهم المفاهيم الفكرية مثل الحرية و أحد نقائضها "الاستبداد" ، فهو أمر عسير و معقد في جميع الثقافات، إذ أنه يمر بمراحل مختلفة، متأثراً بظروف اقتصادية اجتماعية معينة، ذلك أن المفهوم يتغير متأثراً برؤى دينية و سياسية و اجتماعية متباينة.
تأثر مفهوم الحرية في التاريخ العربي الإسلامي بأمرين أساسيين: 1- بالمذاهب الدينية، فالنصوص القديمة لم تتحدث عن الحرية بالمعنى السياسي للمفهوم، و إنما أسهبت في الحديث عن الاختيار مقابل الجبر، و جاء الحديث عن الحرية باعتبارها نقيضاً للحرية، و لكن ذلك لا يعني غياب الشعور بالحرية في مقاومة مظاهر الظلم و الاستبداد، كما عبرت عن ذلك الانتفاضات الاجتماعية التي تزعمتها طبقة العامة في تاريخ المدينة العربية الإسلامية، فهي انتفاضات ذات محتوى اقتصادي اجتماعي، يعبر عن شكل جنيني من أشكال الصراع الطبقي. 2- ظاهرة العبودية، و هي ظاهرة راسخة في الحضارات القديمة، و في المجتمع العربي قبل الإسلام، و قد سعت الدعوة الجديدة إلى القضاء على هذه الظاهرة، إلا أن ذلك لم يكن ممكن تاريخياً و بخاصة بعد التطور العمراني الذي عرفه المجتمع العربي الإسلامي في القرون الستة الأولى للهجرة. أصبح الرقيق يمثلون وقتئذ قوة منتجة هائلة، و قد حال هذا العامل الاقتصادي إلى جانب عوامل أخرى من التخلص من ظاهرة الرق و العبودية.
دشن معاوية بن أبي سفيان مقولة الإيديولوجية الجبرية الأموية و التي سيكون لها بالغ الأثر في العقل السياسي العربي في المراحل التاريخية اللاحقة و التي ستمتد إلى وقتنا الراهن. فقد زعم معاوية أن الماضي خير من الحاضر، و الحاضر خير من المستقبل. خاطب سكان المدينة قائلاً: " فاقبلونا بما فينا، فإن ما وراءنا شر لكم، و أن معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى، و منكر زماننا معروف زمان لم يأت". و لما قدم زياد بن أبيه إلى البصرة عاملاً لمعاوية عليها ألقى خطبته المعروفة "البتراء" ، قال: " أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة، و عنكم ذادة، سنسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، و نذود عنكم بفيء الله الذي خولنا ...".
حاولت الإيديولوجية الجبرية الأموية توظيف النص الديني توظيفاً سياسياً مكشوفاً لتجريد الإنسان من قدرته على الاختيار، و على التمييز بين القبح و الحسن العقليين، و فرض الطاعة لأصحاب السلطان. و لم يقتصر التنظير للإيديولوجية الجبرية على أصحاب السلطان، بل جند له خطباء المساجد و الشعراء و غيرهم، و بلغ الأمر إلى وضع الأحاديث و نسبتها إلى أساطين رواة الحديث بغية فرض الطاعة للسلطان الأموي و إعفاء الخلفاء من الحساب يوم القيامة، من قبيل الحديث التالي، أن النبي قال : " الأمناء ثلاثة جبريل و أنا و معاوية" ، طبعاً إنه نص مضحك ملفق لا يقبله ذو بصيرة.
لم يقبل كثير من المسلمين مقولات أنصار الجبرية و حججهم و انبرت تيارات مختلفة للرد عليهم، مؤكدة أن الإنسان مخير، و ليس مسيراً، و بالتالي مسؤول عن أفعاله و أبرز هذه التيارات، التيار التنويري المعتزلي الذي أسهم في إعطاء بعد سياسي لمفهوم الحرية بنشره مقولة الاختيار بين الناس، و إقامة الحجة من خلال النص الديني على أن الإنسان مخير و ليس مسيراً.
غاب الجدل حول مسألة الجبر و الاختيار، و التنظير لشرعية السلطة السياسية بعد بروز سلطة الجند، و أصبحت الفرق الانكشارية هي دعامة السلطة، و قد استفحل هذا الأمر مع مجيء السلاجقة، و استمر مع العثمانيين، و رافقتها ظاهرتان جديدتان : - طغيان الإقطاع العسكري في المجال الاقتصادي، - التحام مدرسة النقل : الأشعرية مع السلطة السياسية ذات الطابع العسكري.
الحرية في العصر الحديث إن مفهوم الحرية بمعناه السياسي، و الذي استعمل نقيضاً للحكم المطلق الاستبدادي لم تتضح سماته، و لم يستعمله رواد حركات التنوير العربي لمقاومة النظم الاستبدادية إلا في بداية النصف الأول للقرن التاسع عشر. حاول هؤلاء الرواد اقتفاء آثار حداثة عصر الأنوار في أوروبا و التي يمكن تلخيصها في أربع مقولات: 1- مقولة "لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه". 2- المقولة الثانية تدمج العقل في ثالوث يقوم على العقلانية، الحرية و العدل السياسي. 3- المقولة الثالثة: تحرير التاريخ و الإنسان من أسطورة الحتمية. 4- المقولة الرابعة: تتعلق بشرعية السلطة و كان السؤال الذي طرح هو: من أين تستمد السلطة السياسية شرعيتها للتحكم في رقاب الناس و مصالح المجتمع ؟ هذا السؤال الذي برز من خلال صراع الفكر مع الواقع المعقد التي سيطرت عليه في أوروبا قوتان رجعيتان: قوة الكهنوت الكنسي و قوة النظم السياسية الاستبدادية.
فحداثة عصر الأنوار هي الحداثة التي دشنت عصر الإنسان، و حررت إرادته ليعي أنه صانع تاريخه، و هي التي أزالت طابع القداسة عن الحكم، فالسلطة شأن إنساني دنيوي لا علاقة له بالسماء، فالإنسان وحده و عبر نضاله الطويل له الحق في اختيار أفضل أنماط الحكم لتسيير شؤونه، و له وحده الحق في تغييرها، إذا لم تستجب لمصالحه، و الحداثة المطلة من عباءة فلسفة الأنوار تعني العلاقة الوثيقة التي لا انفصال لها بين مفهومين: العقلانية و التحرر ، فالعقلانية لا معنى لها دون أن تكون في خدمة التحرر، و يضحي التحرر، و ما يقارن به من حريات و حقوق و ديمقراطية، دون عقلانية مستحيلاً .
بين الماضي و الحاضر لم يتقدم المجتمع العربي السياسي قيد أنملة منذ زمن معاوية بن أبي سفيان، فقد أعيد إنتاج الاستبداد تحت أشكال و مسميات شتى، كلها استلهمت أفكارها من النظرية الدينية أو النظرية القومية الثورية أو من تحالفهما معاً، و ظهرت أنظمة فاقدة للشرعية، أمعنت في قمع الإنسان العربي ، اغتالت عقله و حالت دونه و دون حريته المستباحة ، و أباحت ثرواته و نهبتها، فكانت بمثابة الاستعمار الداخلي، متلفعة بشعارات جوفاء لا تسمن و لا تغني من جوع، استخدمتها لممارسة أبشع أنواع التضليل الفكري، و كانت أحد الأسباب الرئيسية لتخلف المجتمع العربي الراهن عن اللحاق بالركب الحضاري.
#نضال_العبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المثقف و الميكيافيلية
-
التخلي عن القطاع العام تفريط بحقوق العمال و إضعاف للسيادة ال
...
-
ما هو السبيل للوصول إليها ؟
-
أنا و الآخر، صدام الحضارات ... الاستبداد و الشعوب العربية
-
الناس لا تأكل شعارات
-
لماذا فشل القطاع العام في سوريا؟
-
خصخصة القطاع العام في سوريا
-
منظمات المجتمع المدني و آفاق الإصلاح
-
حماس و روسيا
-
القوة العالمية الثالثة
-
البحث العلمي بين الشعار والتطبيق
-
هل المرأة حقاً هي شرف الرجل؟
-
حماس تلج المجتمع الدولي من البوابة الروسية
-
مديرية حقول الفساد
-
الشفافية في مواجهة الفساد
-
تهميش حملة شهادات الدراسات العليا و تداعي القطاع العام في سو
...
-
إصلاح العلاقة بين الدولة و المجتمع
المزيد.....
-
مصر.. ساويرس يرد على مهاجمة سعد الدين الشاذلي وخلافه مع السا
...
-
تصريحات لواء بالجيش المصري تثير اهتمام الإسرائيليين
-
سيدني.. اتهامات للشرطة بازدواجية المعايير في تعاملها مع حادث
...
-
ليبيا وإثيوبيا تبحثان استئناف تعاونهما بعد انقطاع استمر 20 ع
...
-
بحضور كيم جونغ أون.. احتفالات بيوم الجيش في كوريا الشمالية ع
...
-
بلينكن يأمل بإحراز تقدم مع الصين وبكين تتحدث عن خلافات بين ا
...
-
هاريس وكيم كارداشيان -تناقشان- إصلاح العدالة الجنائية
-
ما هي شروط حماس للتخلي عن السلاح؟
-
عراقيل إسرائيلية تؤخر انطلاق -أسطول الحرية- إلى غزة
-
فرنسا تلوح بمعاقبة المستوطنين المتورطين في أعمال عنف بالضفة
...
المزيد.....
-
في يوم العمَّال العالمي!
/ ادم عربي
-
الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي
/ رسلان جادالله عامر
-
7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة
/ زهير الصباغ
-
العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني
/ حميد الكفائي
-
جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|