بشير الوندي
الحوار المتمدن-العدد: 6504 - 2020 / 3 / 2 - 14:49
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
مباحث في الاستخبارات (204)
المعلومات الوصفية
بشير الوندي
-----------
مدخل
-----------
تناولنا في المباحث السابقة بعض انواع المعلومات الاستخبارية حيث تحدثنا عن معلومات الاشارة ومعلومات الاستكمال ومعلومات المعالجة والمعلومات المهمة , ونتناول في مبحثنا هنا المعلومات الوصفية , وهو النوع الخامس من المعلومات الاستخبارية وهو مدار مبحثنا وهو من المباحث التي قلما تم الاهتمام بها لدى الباحثين الاستخباريين .
----------------------
مقاربة التعريف
----------------------
الوصف هو تصوير الأشياء المراد التعبير عنها بأسلوب يصل الى جوهر الموضوع عبر ابسط الطرق واكثرها تمكناً للتخيل والمقارنة والاستنتاج , وهو فعل يتحرر فيه الواصف من قيود النص لينتقل الى ان يجعل عينه عبارة عن كاميرا تلتقط الصورة بذكاء معبر , لاسيما حين يكون التوصيف شفاهاً وليس عبر عبارات جامدة وعبارات منمقة وانما هو كالسهل الممتنع , ولعل تراثنا الشعري مليء بالشواهد الشعرية التي كانت توجز الوصف في بضعة كلمات بدقة بالغة.
ووظائف الوصف قد تكون إخبارية لنقل معلومات وأخبار جديدة، أو لتشخيص حالة بوصفها من جميع جوانبها، أو سردية لإعطاء الأحداث بالتدريج مع الوصف الدقيق لإستنفار التخيل، أو للتقييم .
انواع الوصف منها الادبي والعلمي والظاهري وغيرها , الا ان المقصود لنا هو الوصف الجامع ظاهرا وشكلا وفكرا وبشكل يقرب فهم الاشياء بدقة وبشكل موجز ووافٍ .
---------------------------------------
الشاهد يرى مالايراه الغائب
---------------------------------------
ان توصيف الاشياء مهم جدا في عالم السرية والاستخبارات رغم ان المعلومات الوصفية ليست معلومات سرية بل معلومات عامة مهمة يستطيع ان ينتجها الاستاذ الجامعي والمسؤول والضابط ورجل الاستخبارات والخبير والكاتب وغيرهم .
ان وصف الوضع السياسي والامني واستقراء الموقف كفيل بعلاج المستقبل والنتائج ويعتبر من تصنيف الاستخبارات الاستراتيجية التي تميل الى التنبؤ والاستشراف ووضع الخيارات مسبقاً .
ولعل اهم ما تريده الاستخبارات في التوصيف هو الانسان , فهو الهدف الاول لها , ومن هنا فان وصف امزجة الناس وتفكيرهم وحياتهم اليومية ومعتقداتهم ورضاهم او عدم رضاهم من الحاكم وهويتهم الوطنية والدينية والاحساس بالامان والحرية والدخل والحالة المادية ونسب الفقر والجهل والتعليم والثقافة والتربية ومستوى الذكاء وهواياتهم وادوارهم والنظام الاسري واللغات والطقوس والعواطف والاهتمامات , كلها تعتبر ثروة استخبارية تحصل عليها من العدو تعتبر اهم بكثير من باقي البيانات التي تتكلم عن غير الانسان .
وهو امر التفتت اليه الاجهزة الاستخبارية في الدول الاستعمارية كالاستخبارات البريطانية فكان رحالتها – وهم استخباريون محترفون – يضعون ايجازات وصفية تشمل الانسان والارض وما عليها , فوصفوا الجغرافيا وطباع الناس ونظام الحكم والجيوش والطرق والمعتقد والتجارة والارياف ونظام الري والزراعة والضرائب والدين والطقوس ووصفوا الاشخاص والقادة والملوك دون تزويق وبأوجز العبارات (راجع كتابنا : شخصيات عراقية في ملفات الاستخبارات البريطانية – دار الصفار – 2018).
ان من افضل مبادى علم الاستخبارات وصف الارض وما عليها لاسيما في ارض المعركة , وحين تتهيأ القطعات للهجوم , توفر لها الاجهزة الاستخبارية تقارير وافية عن العدو , من قبيل توصيف الارض الحرام , الموانع الطبيعية والبشرية , خطوط التماس , الاتصالات , القطعات , التموين , نظام المعركة , الاسلحة والاسلحة الساندة , المقتربات , الملاجى , التحصينات , الحالة النفسية , وغير ذلك الا ان التقارير وحدها لاتكفي للقائد الناجح , فتراه يطلب الفريق الميداني الذي كان التقرير الاستخباري مستمد من مشاهداته على الارض وخلف خطوط العدو , فيستمع الى توصيفاتهم الى مارأوه شفاهاً بمعلومات وصفيه تجعله يتخيل ماشاهدوه.
والواقع ان تلك المقابلة هي ليست ترفاً , فهي في كثير من الاحيان تشير الى معلومات بالغة الاهمية والى استنتاجات مهمة , كما ان الاسترسال الشفهي يكون التعبير فيه اقوى بشكل يعطي التقرير الاستخباري روحاً ويكون بمثابة وسيلة ايضاح تلقي الضوء على الحالة المطلوب جمع المعلومات عنها , فشتان مابين تقرير استخباري يتضمن ارقام واحداثيات واسماء وصور بلا وصف , وبين معلومات وصفية شفاهية توصف الاشخاص والمنطقة بشكل يجعل من التقرير بمثابة فيلم تسجيلي يوضح الامور .
------------------
عين وذاكرة
------------------
ولعل من اشهر التدريبات ان يتم إدخال عنصر الاستخبارات إلى غرفة محددة للحظات , ويتم إخراجه منها , ويطلب منه ان يصف محتوى معين منها بدقة , من اجل ان يكون مستعداً دائما لملاحظة كل شيء في لحظات قليلة , وان يرتب الخزين الصوري في ذاكرة منظمة ومرتبة .
كما ان على رجل الاستخبارات ان تكون له ذاكرة صورية مسبقة جاهزة للاستخدام , فمثلا هو يحفظ صوراً عن الأسلحة والطائرات والتجهيزات الخاصة بالعدو لكي يستطيع أن يطبق صورة مشاهداته على ذاكرته الصورية , فضابط مراقبة علنية يشاهد فيلماً في تلفزيون العدو , فحينها يستطيع من خلال لقطات عابرة ان يعرف طبيعة تجهيزاته اعتماداً على المطابقة الصورية , بل ان مران الذاكرة يجعله يعرف نوع السلاح من خلال استنطاق الشاهد الذي رأى السلاح.
ان المشاهدة الدقيقة مهمة في الاستطلاع والاستكشاف الميداني في الجبهات وفي مناطق أرض الحرام وفي مسرح الجريمة وفي حركات العدو ونشاطه الاقتصادي والسياسي والعسكري والمناورات ومجريات الحالة العامة الاجتماعية والأمنية والتعبوية وفي المشاهدة الدبلوماسية ونشاطها والتصريحات والمؤتمرات والبيانات والحفلات الاجتماعية.
وكلما كانت مشاهدة رجل الاستخبارات دقيقة , سهلت عملية التوصيف بدقة أكبر, فلابد ان يمتلك رجل الاستخبارات الميداني صفتين مهمتين هي المشاهدة الدقيقة والتوصيف الدقيق, فالمشاهدة ملكة والتوصيف ثقافة وحذق.
فعملية التوصيف الاستخباري , هي مَلَكة تتطور بالمران حتى يصل بها التدريب الى مراحل تصبح بها العين بمثابة كاميرا تلتقط ويتحول العقل الى حافظة صور يتم استعادة اللقطات منها , وهو امر يختص به رجال الاستخبارات الميدانيين والجواسيس , ويمارسونه في اماكن لايمكن فيها استخدام الكاميرا او الورقة والقلم (انظر مبحثي المشاهدة والتوصيف ١١٥, الاستنطاق ١٣٦).
ولاشك من ان تناول المعلومات الوصفية امر يحتاج الى مران في قابلية الوصف لدى ضباط الاستخبارات مع التشديد على عدم المواربة والتملق , فالتملق والتزييف قد يرضي غرور المسؤول حين يستمع اليه لكنه آفة تبتلع قيادته وحكمه لانه يجعله يعيش في وهم القوة والمجد.
وقد تكون التكنلوجيا غطت كثيرا على المعلومات الوصفية وحولتها الى الرقمية والاحداثيات والتربيعات والجداول الا ان الحاجة الاستخبارية تبقى قائمة لتوصيف السلوك والاخلاق والدين والمزاج وغيرها .
-------------
خلاصة
-------------
كان عناصر الاستخبارات البريطانية ابان الاحتلال الامريكي البريطاني للعراق حين يلتقون بشخصية عراقية في منزله اومكتبه يعرفون حراجة تسجيل اللقاء بآلة تسجيل فيستعيضون عليها بأربعة اشخاص , المسؤول الذي يتحدث واثنان يكتبان مايدور في اللقاء خشية السهو , وثالث مهمته توصيف المكان وسكنات وتقاطيع وردود افعال الشخص الذي يزورونه بمعلومات وصفية تعطي التقرير البعد الهام للقاء , فالمعلومات الوصفية – لاسيما الشفاهية منها - هي انعاش للذاكرة الاستخبارية وتعطي التقرير الاستخباري روحاً وحيوية وكثيراً ماتضيف اليه جوانب غفل عنها التقرير , ومن هنا تهتم الاجهزة الاستخبارية عند تلقيها التقارير من عملائها وجواسيسها , ان تستكمل الصورة من خلال اللقاء بهم واستنطاقهم حول الظروف المحيطة بمعلومات التقرير ويلحون في طلب المعلومات الوصفية , وهو امر لايمكن الاستعاضة عنه بالتكنلوجيا , والله الموفق.
#بشير_الوندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
اليوتيوب
لينكدإن
تيلكرام
تمبلر
بلوكر
الموبايل
