أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - تسرب المعاني














المزيد.....

تسرب المعاني


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 6259 - 2019 / 6 / 13 - 20:30
المحور: الادب والفن
    


لسنوات طويلة عبرت ساحة الشيخ ضاهر في اللاذقية متجهاً إلى دوامي اليومي في المشفى الجامعي، وحين طلب صديقي مني، ذات يوم، أن أحضر معي شيئاً من معجنات "العم حمزة" في الشيخ ضاهر، لم أعرف المحل. قال مستغرباً، إن من لا ينتبه إلى شيء فإنه سوف ينتبه إلى آرمة ذاك المحل لدى مروره هناك. المفاجأة كانت أن آرمة "العم حمزة" كانت بالفعل مرفوعة عالياً بأحرف كبيرة مجسمة وبلون أحمر لا يمكن لمن يمر في الساحة أن لا يراها. لا شك أنني رأيتها مئات المرات لكنها لم تعن لي شيئاً سوى كونها شكلاً في ساحة مليئة بالأشكال، وإن كانت هي الشكل الأبرز، أو ربما لأنها الشكل الأبرز. كانت عيني تمر عليها كشكل لا ككتابة، تراها ولا تقرؤها لأنها أبرز من أن تقرأ، كانت بارزة إلى حد يشل الانتباه، أو كما هي دلالة المثل العربي القديم: "اضطره السيل إلى العطش". احتفظت في نفسي بتلك المفارقة: البروز الزائد يجاور الإهمال، كما أن التكرار الزائد يضيع المعنى.
استعادت تلك المفارقة ذاتها حين خرج السوريون في الشوارع يهتفون "حرية". بدا كما لو أن السوريون يكتشفون هذه الكلمة للتو، رغم أنهم كانوا لعقود وأجيال طويلة يرددونها كل صباح أمام المدارس منذ بداية تفتح وعيهم. التركيز الشديد على تلك المفردة جعلها غير مرئية، أو غير محسوسة، أو طقوسية بلا معنى. "الحرية" التي اكتشفت في الشوارع والمظاهرات كانت مفردة لاذعة وحية وممتلئة بالمعنى، فيما شبيهتها المحنطة في الشعارات الرسمية، ليست سوى لفظة فارغة أو ميتة. هل هي وسيلة لتسريب المعاني من الكلمات أن تبالغ في تكرارها والتشديد عليها، كما تتسرب ملامح اللوحة حين ندنو منها أكثر مما يجب؟
السلطات ذات المصلحة في إفقار اللغة، تستولي أولاً على الكلمة أو المفردة المقصودة والمحمودة المعنى بالطبع، أن تستحوز عليها أو تحتكرها معنوياً، بأن تتبناها وتبالغ في إبرازها بقوة ما لديها من وسائل، ثم تنشئ عازلاً بين الكلمة ومعناها بأن تحتجز الكلمة في مجالها اللغوي وتفصلها عن مدلولها الواقعي، فيبدأ المعنى بالتسرب. هكذا يكتمل الاعتداء على اللغة. مثلاً أن تكون الحرية شعارك الذي تردده ليلاً نهاراً، وأن يكون لديك من السلطات ما يجعلك تمارس الاستبداد بحق غيرك ليلاً نهاراً. أن تقتل باسم السلام، أو تستبد باسم الحرية. هكذا تصبح الضحية (ضحيتك) مجردة ليس فقط من الدفاعات بل حتى من اللغة. كيف يطالب بالحرية من يسجن باسم الحرية؟ كيف تكون الحرية خصمه وخلاصه؟ بماذا يستجير كي يعبر عن حاله وعن حرمانه من "الحرية"؟ ألم يحدث في "سوريا الأسد" أن حوكم الشيوعيون بتهمة معاداة الاشتراكية، والقوميون بتهمة معاداة الوحدة، و"سجناء الرأي" بتهمة معاداة الحرية؟
هناك مسافة فاصلة بين اللغة والواقع تعيش فيها السلطات المستبدة، تلك المسافة هي ما يجعل اللغة وسيلة إيهام بقدر ما هي وسيلة إفصاح. لا يتوانى النظام السياسي الذي يقول "أنا أو لا أحد"، أو التنظيمات السياسية الإسلامية التي تشرع قتل المرتد، عن الحديث باسم الحرية. المسافة الفاصلة بين اللغة والواقع التي هي الرحم المنتج لجماليات الأدب، تتحول إلى جيب معتم تتلطى فيه صنوف الاستبداد وتصنع لنفسها فيه عباءات حديثة وزاهية الألوان. هذا ما يجعلنا نرى الجلاد يصارع ضحيته حتى على اللغة. المستبد الواقعي يرفع راية الحرية كطريقة عصرية في الاستبداد، والضحية الواقعية ترفع راية الحرية كوسيلة مأمولة ووحيدة للتحرر.
هذا الإفقار بالمعنى هو ما قاد إلى ظاهرة لغوية عربية لافتة هي الإكثار من إلحاق المفردات بوصف في محاولة لشحنها بالمعنى المفقود، لإنقاذها من فقرها أو موتها، فتسمع مثلاً "حرية حقيقية" أو "عدل حقيقي" ..الخ، ما يشير إلى شيوع الكلام عن حرية وعدل فاقدين للمعنى "الحقيقي"، مستولى عليهما معنوياً ولغوياً من سلطات عامة أفقرتهما من المعنى قصداً.
بعد أن أصبحت الثقافة أوسع انتشاراً في المجتمع العربي، سواء بفعل انتشار التعليم أو بفعل وسائل الإعلام والتواصل، صارت السيطرة على اللغة نفسها حاجة حيوية للسلطات المستبدة في كل المستويات. سوف تبدو السلطات المستبدة النصيرة الأولى للحرية والتحرر حتى لو كانت ممارساتها هي التعريف المضاد مباشرة للحرية. وسوف يبدو من يتكلم باسم الحرية من خارج مدجنة السلطات المكرسة "مندساً" أو عميلاً أو ربما مزاوداً.
شباط 2018



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأصل السياسي لمجزرة السويداء
- تواطؤ الثقافة
- كابوس دانيال
- عين واحدة تكفي (إلى منير شعبو)
- عن كتاب -حكم العنف- لسلوى اسماعيل، مركزية الذاكرة في تكوين ا ...
- ادلب، من المستبد إلى المستعمر
- بلا اسماء
- شباب من سورية في باريس
- المدن كوجبات سياحية
- بين فرنسا وسورية
- السترات الصفراء، بين الشعب والمؤسسة
- أفعال مشينة
- مراجعة في الثورة
- الحرب في إدلب، لا عزاء للسوريين
- الطائفية و-الرماد الثقيل-
- اللجوء بوصفه تهمة
- متحف للدم الحار
- أخرج من سوريا كي أعود إليها
- مواطنون وأعداء
- فلاحو سوريا، التاريخ ما وراء حجاب السياسة 2


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - تسرب المعاني