أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - مقاربة بين مسرحيات سترندبيرغ وأبسن















المزيد.....



مقاربة بين مسرحيات سترندبيرغ وأبسن


صباح هرمز الشاني

الحوار المتمدن-العدد: 6216 - 2019 / 4 / 30 - 01:24
المحور: الادب والفن
    



يكبر أبسن سترندبيرغ إحدى وعشرين سنة، ذلك أن الأول من مواليد عام 1828، والثاني عام 1849. وتكاد تشترك بعض الخصائص في مهنة والديهما، فوالد الأول كان تاجرا للأخشاب، والثاني وكيلا للشحنات البحرية. وإذا كان والد أبسن قد أشهر إفلاسه، وأبسن في الثامنة من عمره، فأن والد سترندبرغ، أشهر عن إفلاسه في وقت ولادة سترندبيرغ. ومثلما كانت والدته خادمة، كذلك فقد نشأت علاقة غير شرعية بين أبسن وخادمته. وكلاهما أبسن وسترندبرغ كانا في العشرين من عمرهما، عندما كتبا مسرحيتهما الأولى، كتب الأول مسرحية (كاتيلين) 1848، والثاني مسرحية ( هبة عيد ميلاد ) 1869.
إذا كان أبسن، قد بدأ كتابته بالمسرحيات التأريخية، شروعا بمسرحيتي (كاتيلين) 1848 و( قبر الجندي) عام 1850، فأن أوغست سترندبرغ، لم يكتب مسرحيته الأولى، إلآ بعد مرور واحد وعشرين عاما على كتابة أبسن لمسرحيته الأولى، أي في عام 1869 التي جاءت تحت عنوان (هبة عيد الميلاد).
ومثلما مر أبسن بالمرحلة التأريخية والواقعية والرمزية، كذلك مر سترندبيرغ بنفس المراحل الثلاث، ولكن بأضافة مرحلتي مسرحيات (الغرفة) و(الأحلام). كما نشأت علاقة غير شرعية بين أبسن وخادمته التي تكبره بعشرسنوات، لتتمخض عنها إنجاب أبنا، وتؤدي الى تخلي أهله عنه، وبالتالي شعوره بالذنب، وظهور هذا الموضوع في أعماله، كذلك، مر والد سترندبيرغ بنفس المعاناة، وتجرع سمومها سترندبيرغ، ليتصدى لظلم المرأة للرجل في معظم أعماله، بفعل ما لقيه من عذاب جسدي، وإضطهاد نفسي على يد زوجة أبيه.
يقول الأراديس نيكول:( فمن سكريب أستوحى أبسن الكثير عن الشكل المسرحي. وفي مرحلته التجريبية، تأثر الى حد كبير بالأتجاه الرومانتيكي السائد في ذلك القرن، ووضع نصب عينيه مهمة أبتكار لون مسرحي يتناسب مع المسرحية التأريخية التي تدور حول التقاليد النرويجية.)1 .
(وأثمر هذا الأتجاه، ما أثمر، مسرحيتيه كاتيلين وقبر الجندي عام 1850، أعقبتهما مسرحيات أخرى كمسرحية: الليدي أنجر من أوسترات 1855، ووليمة في سولهوج 1856، وأولاف ليلجركرانز 1857، والمطالبان بالعرش 1864، الخ. . . .
بينما أتسمت مؤلفات سترندبيرغ الأولى بالطابع الرومانسي، متخذا من معالجة تأريخ السويد، كما فعل أبسن، نهجا لكتابة مسرحياته التأريخية الأولى التي أثمرت المسرحيات التالية: هبة عيد الميلاد 1869، السيد أولوف 1872. سر النقابة 1880، سيدة سير بنجت 1882، وتحولات المحظوظ بير. وتمثلت مؤلفاته التأريخية الأخيرة التي بدت كما لو أنها تكملة لمسرحياته السابقة، بمسرحية جوستاف فاسا 1899، وأريك الرابع عشر 1899، وقصة الفوكنر 1899، وجوستاف أدولف 1900، وأنجيلركت 1901، وجوستاف الثالث 1903، الخ. . قبل كتابة مسرحية الأمبراطور والمسيح أو الجليلي، كانت هناك شواهد تدل على أن أبسن يعد العدة لتجربة أسلوب مسرحي جديد، تجربة الخوض في كتابة المسرح الواقعي. متمثلا هذا الأسلوب، في بطلي مسرحية (براند) و( بيرجنت)، عبر عرض في المسرحية الأولى بطلا يؤكد فيها ذاتيته حتى ولو على حساب الآخرين، بينما يعرض في الثانية بطلا يتمثل فيه نضوج المعين الروحي وخوران العزم، وهما صفتان ثار أبسن على وجودهما في المجتمع النرويجي) لتنجب هذه التجربة، وهذا الأسلوب، مسرحية ( إتحاد الشباب) 1869، الدائرة حول موضوعات معاصرة. ثم مسرحية ( أعمدة المجتمع) 1877،ف (بيت الدمية)1879، و(الأشباح) 1881. )2.
وعلى الرغم من أن معظم مسرحيات سترندبيرغ، ما هي إلآ إنعكاسا لحياته، أي أنها تتسم بقدر كبير من الواقعية، غير أن هذا الأتجاه، ( لم يظهر إلآ في مسرحياته الأخيرة)3.التي أفرزت المسرحيات التالية:الأب، والرفقاء، والدائنون، وباريا، والأقوى، واللعب بالنار، والسموم.
وكانت الأشباح، وما أفرزته من صراع يبن الجيل القديم والجديد حول تمرد نورا على زوجها، الأنطلاقة الأولى لتبني أبسن الرمزية في مسرحياته، تلتها مسرحية (البطة البرية) فبيت آل روزمر، وهيدا جابلر، وأيولف الصغير، بالأضافة الى سيد البنائين، وعندما نبعث عن الموتى. أما بالنسبة لسترندبيرغ، فتكاد معظم مسرحياته الواقعية والطبيعية والتعبيرية ( الأحلام)، تحمل بين ثناياها قسطا لا بأس به من الرمزية، كمسرحية البجعة، واللعب بالنار، والآنسة جوليا، والأب، والحلم، وسوناتا الشبح، والطريق الى دمشق.
ولو حاولنا المقاربة بين هذين الكاتبين العملاقين، من حيث تأثرهما بالكتاب الذين سبقوهما، لوجدنا أن أبسن:( لا يكاد يتأثر بأحد من الكتاب الآخرين، وأول شيء يجب ذكره هو أنه كمخرج وكاتب لمسرح (برجن الصغير) أنهمك الى حد كبير في عرض مسرحيات سكريب)4، بعكس سترندبيرغ تماما:( فأنه لا يكاد هناك من المؤلفين في مستواه من تأثر بالآخرين أكثر منه. ففي الفلسفة تأثر ببوكل وكيركيجارد وسويدنبرج، كما تأثر في فنه بعدد من الكتاب من بيرون الى مترلنك)5.
وإذا كان من مقاربة بين مسرحيات أبسن وسترندبيرغ، فأن أدل نموذج هو بين مسرحيتي أشباح أبسن وبجعة سترندبيرغ، وبين مسرحية الأب للثاني وهيدا جابلر للأول، بالأضافة الى مسرحيتي سيد البنائين لأبسن والآنسة جوليا لسترندبيرغ.
1- الأشباح والبجعة:
إذا كانت مسرحية البجعة، قد كتبت عام 1907، فأن مسرحية الأشباح، كتبها أبسن عام 1881، أي قبل البجعة بستة وعشرين عاما. وكلتا المسرحيتين يدور موضوعهما حول السقوط في أحضان الرذيلة. ففي الأشباح الأب مع الخادمة، وإنتقال هذه اللوثة الى الأبن، وفي البجعة الأم مع صهرها.
وعلى الرغم من أن الرذيلة في البجعة، أقوى من الأشباح، أو هكذا تبدو للوهلة الأولى، لممارستها من قبل شخصين، تحرم عليهما هذه العلاقة، وقوتها تظهر في هذا الجانب فقط الذي لا يخلو من المراوغة والتلاعب بالمشاعر ودغدغة العواطف، فأن هذه القوة في الأشباح، تتسم بمصداقية أكثر، لنأيها عن غلو سترندبيرغ في ربط العلاقات. وتصويرها من قبل أبسن، إتساقا والنهج الذي يتبعه في مسرحياته الأخرى، ألا وهو الأسلوب الأسترجاعي، هذا الأسلوب الذي يعيد الأم والقس الى ماضي الأب، عبر الرذيلة التي يمارسها الأبن ( الآن)، أي ظهور صورة الأب في أبنه.
يقول عبدالله عبدالحافظ بهذا الخصوص: (وقد وضع أبسن هذا الصراع في إطار فني رائع أعتمد فيه سواء في تسلسل الأحداث أو المناظر على الطريقة الأسترجاعية)6.
رجينا:أوزفولد! أجننت! أتركني!
مسز الفنج:( تجفل في فزع) آه!
ماندرز: (غاضبا) ما الذي يحدث يا مسز؟ ما هذا؟
مسز الفنج: (بصوت أجش) الأشباح. الأثنان في المشتل- في المشتل- يسيران!. هذه الواقعة هي ذاتها التي حدثت عندما كان الكابتن الفنج يغازل خادمته (والدة رجينا). كما أن الأب في الأشباح، يأتي ذكره ( بالرغم من عدم ظهوره)، على لسان الشخصيات على إمتداد المسرحية، محتلا مساحة لابأس بها، وموقعا مؤثرا لا، وبل فاعلا وجوهريا في نمو وتطور أحداث المسرحية، بعكس الأب في البجعة، فقد ترك سترندبيرغ هذين الدورين، إحتلال المساحة، والموقع المؤثر للأم.
ثمة تناص بين الأشباح والبجعة، وأن تأثيرات الأولى واضحة في الثانية، وتأتي أولى هذه التأثيرات في حصر شخصيات البجعة بخمسا مثل الأشباح.
وإذا كان قد أجرى سترندبيرغ من تغيير في مسرحيته، مقارنة بالأشباح، فأن هذا التغيير لم يتعد حدود الشخصيات، وذلك بالأستعانة بشخصيتي الصهر والأبنة، بدلا عن شخصيتي القس ماندرز والنجار أنجستراند. لتلعب شخصية الصهر الدور الذي لعبه الأب في الأشباح مع الخادمة جوانا، وهو مع أم زوجته. وإضافة الأبنة في البجعة، لم يأت بجديد، وجاء بسبب إيجاد المسوغ لأقامة الصهر في منزل الأم، وبالتالي ربط علاقة معها. وأقول لم يأت بشيء جديد، ذلك أن دورها لم يقتصر أكثر من شكواها على تصرفات والدتها، وأكتشاف خيانة والدتها لها مع زوجها، وهذان الأمران، أداهما الأبن كذلك، ولكن ليس كشقيقته متأخرا، وإنما رغم المرض الذي يعاني منه، منذ صغره، من بداية المسرحية. وهذا يعني أن إضافة الأبنة، لم يأت إلآ تابعا لزوجها.
أما الأختلاف الجوهري الذي أجراه سترندبيرغ على شخصية الخادمة في مسرحيته عن مسرحية أبسن، في ظهورها بمظهر المربية العجوز، وليس اللاهثة وراء نزواتها، جعلها أقرب الى شخصية القس ماندرز في الأشباح، وهي تبدي حرصها وأهتمامها بصحة وسلامة الأبن والأبنة، وتفضح تقصير الأم تجاههما وتجاه زوجها، مذكرة الأم بين حين وآخر بماضيها الكالح معهم. ولكنها، بعكس القس تغادر المنزل قبل نهاية المشهد الأول، وغادره القس قبل نهاية المسرحية بقليل.
ولكن رغم قصر دورها، فقد أستطاع المؤلف، أن يمنحها التأثير الذي لعبه القس في الأشباح.
وبقدر ما أستطاع الصهر أن يلعب الدور الذي لعبه الأب في الأشباح، بنفس القدر لم يستطع أن يلعب دور الأبن في نفس المسرحية، ذلك أنه مثل الأب، كان غرضه خسيسا، بينما غرض الأبن نبيلا. والأغراض النبيلة، كما يقول غوتيه، لا تؤخذ بالوسائل الخسيسة. لذا فقد أناط سترندبيرغ دور الأب في الأشباح للصهر، ودور الأبن في نفس المسرحية للأبن (فريدريك). ولعل قول الأم لصهرها:( لكم تشبه الآن زوجي، وأنت تجلس على كرسيه الهزاز، أدل نموذج على ذلك، بينما تأتي هذه الجملة، أو ما يقاربها على لسان القس ماندرز وهو يخاطب مسز الفنج، ردا على قول أوزفولد، عثوره على غليون والده:( عندما ظهر أوزفولد في المدخل والغليون في فمه بدا لي وكأن والده عاد الى الحياة من جديد). وكلتا الجملتين، جملة الأم في البجعة، وجملة القس في الأشباح، يستحضران ماضي الأب في صورة الأبن والصهر، أي أن كليهما يسيران على خطاه الآن، في هذه اللحظة.
ومثلما أحدث ستريندبيرغ، تغيرا جذريا في شخصية الخادمة، كذلك فقد أحدث نفس التغير في شخصية الأم، من رزينة وهادئة وحكيمة في الأشباح، الى ماكرة ومتهورة وخائنة في البجعة. وجعلها أقرب في نرجسيتها، وأستبدادها برأيها، الى شخصية (هيدا) في مسرحية (هيدا جابلر) لأبسن. وهي بعد أن تبلغ درجة اليأس، تطلب من أبنتها أن تعيش معها ومع شقيقها كخادمة، ويعد هذا الأنحدار السريع والمباغت من برجها العالي، بمثابة إنتحار هيدا، إن لم يكن أسوأ منه، بعد إنسداد كل الأبواب بوجهها.
وليس من باب الصدفة، أن تبدأ كلتا المسرحيتين بجو عاصف وممطر. وتوحيان من خلال جوهما العاصف والممطر الى نفس المعنى. فأذا كان في الأشباح، توحي جملة رجينا: ( أنه مطر شيطاني لعين)، الى موقفها السلبي من زوج أمها ( أنجستراند)، ولا تطيق رؤيته، لما يرافقه من شر. فأن جملة:( أغلقي الباب رجاء، من الذي يعزف الموسيقى؟) التي تلفظها الأم في البجعة، توحي هي الأخرى الى موقفها السلبي من أبنها، ولا تطيق رؤيته. ليعمد المؤلفان هنا الى التعبير عن نزعة الشخصيات من وراء الكلمات. فهدف رجينا من إيقاف أنجستراند، حيث هو، ليس لتساقط المطر منه على أرضية الغرفة، وإنما لعدم إزعاج أوزفولد، لأيقاظه من نومه، وهو يحدث صوتا نشازا بقدمه العرجاء، وهذا الصوت النشاز يوازي صوت الموسيقى الذي تسمعه الأم في البجعة، الصادرة من عزف الأبن، والمنبعثة من رائحة الكربونيك والأغصان المحروقة التي تكرهها، لا لأنها قد حرمتها على أبنها وأبنتها فحسب، وإنما أيضا في نهاية المسرحية، تختنق برائحة الكربونيك والأغصان المحروقة.
وتمتد هذه المقاربة الى إصابة كلا الأبنين، في الأشباح والبجعة بلوثة الأب، وليس من باب المصادفة أيضا، مثل بداية المسرحيتين بجو عاصف وممطر، أن يعاني كلاهما من هذا المرض، بعد عودتهما من الخارج. نادبا فردريك حظه العاثر الذي بفعل الخلافات العميقة بين أبيه وأمه، ساقه هذا الحظ الى مربية، يرافقها الى منزل أختها التي كانت تتعاطى الدعارة، ليشاهد هناك كل شيء بأم عينيه. وأوزفولد مثل فردريك، بعد عودته من باريس، يشكو من نوبة صداع في رأسه.
فردريك: أنا لم أرضع أبدا من حليب الأم، كنت بعهدة إحدى المربيات، وكان علي أن أرضع من قنينة. وحينما كبرت قليلا، صرت أرافقها الى منزل أختها التي كانت تتعاطى الدعارة، حيث رأيت مشاهد حافلة بالأسرار يستبيحها للصغار مربو الكلاب فقط. . .
أوزفولد: بعد زيارتي الأخيرة هنا وعودتي ثانية الى باريس بفترة قليلة – عندئذ بدأت أشعر بآلام غاية في العنف في رأسي – غالبا في مؤخرة رأسي، على ما يبدو، كما لو أن حلقة حديدية محكمة قد ثبتت بمسمار حول عنقي وفوقه تماما.
ونتيجة الخوف الذي يقع فيه أوزفولد، جراء تحذيره الطبيب من مواجهته للنوبة مرة ثانية، لأنها ستؤدي الى نهايته، يفضي به هذا الخوف الى الجنون. وفردريك لا يقل جنونا عن جنون أوزفولد، ولكن لأفساح أبسن مساحة أوسع لحركة أوزفولد، قياسا بحركة فردريك المحدودة، حدا لأن تبرز هذه العاهة لدى الأول أكثر من الثاني. وعلى الرغم من ذلك، فأنها تظهر من بداية المسرحية لدى فردريك، ويتأخر ظهورها لدى أوزفولد.
وعملية التناص بينهما هذه، تتضح أكثر، في إقتباس البجعة جملة من الأشباح، تعبر عن لب المسرحية، إن لم تكن هذه الجملة كل المسرحية، وهذه الجملة تأتي في الأشباح على لسان مسز الفنج، وفي البجعة على لسان الأم. ومع أن الجملة الأولى طويلة، والثانية قصيرة، غير أن كليهما يعبران عن نفس المعنى، وما يضاعف ذلك هو بالأضافة الى ذلك ورود كلمة الأشباح على لسان الأم في مسرحية سترندبيرغ، مع أن هذه الكلمة هي عنوان مسرحية أبسن.
مسز الفنج: أنني خائفة لأنه في أعماق نفسي شيء أشبه بالشبح لا أستطيع الفكاك منه أبدا.عندما سمعت رجينا وأوزفولد هناك بدا لي وكأنني أرى أشباحا. أنني أكاد أظن إننا جميعا أشباح. . .
الأم: أحذري (بعد برهة) أثمة شخص يمشي هناك؟
مارجريت(الخادمة): لا ليس هناك أحد.
الأم: أترينني كمن يخاف الأشباح؟
والأشباح هنا، وفي كلتا المسرحيتين، رمز للماضي الذي تخشى منه مسز الفنج، وكذلك تخشاه الأم، لأنه أمتداد للحاضر، فما كان يحدث بالأمس، يحدث اليوم. وكلاهما يشاهدان صورة أبنيهما في شبح أبويهما، وقد عادا الى الحياة من جديد. ويهدف أبسن من الماضي، كل تراكمات العادات والتقاليد البالية السائدة في المجتمع النرويجي.
ويعلق عبدالله عبدالحافظ على حوار مسز الفنج قائلا: (هذه صرخة عقل يحتج على كل أشكال الأعتقاد التي لا تقوم على المنطق، وعلى الأشباح التي تعيش في الظلام وتبطش بالضحايا الأبرياء)7.
ويستطرد:( ولعل هذا التزمت في هذا المجتمع النرويجي الصغير هو الذي دفع كثيرا من النرويجيين الى الهجرة لباريس والى أمريكا حيث جو الحرية وحيث ينعم الأنسان ببهجة الحياة)8.
في كلتا المسرحيتين إيحاءات كثيرة، تأتي في البداية، وتتحقق في النهاية، وأبرزها ما يحل بفردريك وأوزفولد، لأصابتهما بمرض الزهري الذي ينتقل بالوراثة الى الأبناء عن طريق الأب. ولكن كليهما لم يلقيا حتفهما، أو بقيا على قيد الحياة، فسيان كلا الأمرين، عن طريق هذا المرض، وإنما كان هذا المرض سببا لجنونهما، وهذا الجنون هو الذي آل ما آل إليهما . فردريك بأحراق المنزل، وأوزفولد سعيه في شرب السم. إذن أن هذا المرض، وأن يبدو وراثيا، غير أنه لايخص فردا واحدا، وإنما كل المجتمع. بدليل أن كل الناس من وجهة نظر مسز الفنج والأم، تتحول الى أشباح، لذا فأن هذا المرض، ما هو إلآ وسيلة لبلوغ الغاية الأسمى، وهي رفض كل الأفكار والعادات والتقاليد البالية للمجتمع النرويجي جملة وتفصيلا. هذا بالنسبة لمسرحية الأشباح. أما بالنسبة لمسرحية البجعة، فأن الغاية الأسمى، هي التصدي لخيانة المرأة لزوجها وأبنتها، وظلمها لأسرتها ككل، وإبراز هاتين الحالتين، عبر حرمان أبنها وأبنتها وقبلهما والدهما من الأكل والملبس الجيدين، ودفء الحطب في برودة الشتاء الجليدية، وتوظيفهما في إحراق المنزل.
وبالتعويل على وصف الفصل الأول لمسرحية الأشباح، والمشهد الأول لمسرحية البجعة، وبتفكيك رموز هذين الفصلين، لوجدنا بدلا من أن يسود التقارب بينهما، يشطرهما التباعد الى خطين متوازيين، يبدو من الصعب سوقهما في إتجاه واحد، الأول بأنفتاحه على المستقبل، يشوبه بقسط وافر من التفاؤل، والثاني بالولوج في دهاليز الأغصان المحروقة ورائحة الكربونيك الطافحتين بالتشاؤم. فغرفة حديقة فسيحة لها باب في الحائط من جهة اليسار، وبابان في الحائط من جهة اليمين، بالأضافة الى إنفتاح الغرفة على مشتل للزهور، وله حوائط زجاجية كبيرة، وفي الحائط الأيمن للمشتل باب يفضي الى الحديقة، فمثل هذا المنظر المنفتح بأبوابه ونوافذه على العالم الخارجي، لا بد أن يحتوي، أو يريد أن يحتوي على شخصيات، تتسم ولو بجزء ضئيل من الأمل في الحياة. وشخصية أوزفولد هو هذا النموذج. بدليل أن الكلمة الأخيرة التي أطلقها في نهاية المسرحية، كانت : الشمس.
بينما المنظر الذي يتكون من باب واحد للشرفة، وصالة جلوس تفضي الى صالة أخرى للطعام، وأريكة مغطاة بغطاء أحمر، وكرسي هزاز... فكل مفردة من هذه المفردات، تشكل بحد ذاتها علامة من علامات التشاؤم التي تنتظر مستقبل شخصيات المسرحية. ولعل إحتراق الثلاثة في نهاية المسرحية، الأم وأبنها وأبنتها في آن، يؤكد ذلك. لنفهم أن أبسن يتبع في الفصول الأولى في مسرحياته طريقة العرض، مع تقنية إقتران البداية بالنهاية. وسترندبيرغ يتبع التقنية الثانية أيضا، ولكن ليس بتجزئة العناصر الدرامية الثلاثة كلا على حدى، كما يفعل أبسن، وإنما بخلطها في تركيبة متماسكة معا.
وفي المنظر الثاني للأشباح، تجري الأحداث في نفس الغرفة. إلآ أن تعزيزه بجملة ( لا يزال الضباب يخيم على المنظر العام)، جعل المؤلف أن ينحو هذا الفصل في منحى (العقدة)، وأغلب الظن، أن هذه الجملة جاءت، إمتدادا للفصل الأول، حيث كان المطر يهطل.
بينما يخلو المشهد الثاني للبجعة من أي وصف أو شروحات. وهذا يعني أنه كالمشهد الأول، أن عناصره الدرامية تسير على نفس الوتيرة. ولكنه في المشهد الثالث، ومع صوت أرتجاج الباب، وطرقات متسارعة عليه من قبل الصهر، هذه الطرقات التي تذكرنا بمسرحية ماكبث لشكسبير، نفهم من خلالها، أن عقدة مسرحية البجعة قد بدأت. وفي المشهد الرابع أن هذه العقدة تتطور، عبر هبوب رياح عاتية، يسمع صفيرها من النوافذ والمدفأة، والباب الخلفي ينصفق، ليذكرنا هو الآخر بمسرحية الملك لير لشكسبير أيضا. وفي المشهد الخامس والسادس، عزف موسيقى في الخارج، وفي السابع، يدخل الصهر وفي يده عصا غليظة، إشارة واضحة الى أنه سيتعامل مع أم زوجته بشكل فظ. وفي المشهد الثامن، توقف الأم الكرسي الهزاز، ويدخل الأبن ثملا، لتوحي المفردة الأولى على القلق، والثانية على جرأة التطرق للمواضيع الحساسة، وتوجه الأم نحو النافذة في المشهد التاسع، وتفتحها تنظر بعيدا، تتراجع بعد وهلة الى الغرفة حيث تأخذ مسافة إستعدادا للقفز، لكنها تعدل عن قرارها حين تسمع ثلاث طرقات على الباب، وإذا كانت النافذة تشكل عالمها الخارجي الذي تتوق من خلاله أن تعيش بحرية، فأن الغرفة التي هي في داخلها ، تشكل عالمها المحاصر بقيود محكمة وهي بين ألأثنين، بين ضميرها الذي يؤنبها، ويدفعها الى الأنتحار، وبين توقها للحرية، المتمثلة بطرقات على الباب، لتنقذ هذه الطرقات حياتها، تختار الأخيرة.
وهنا يلجأ سترندبيرغ الى إستخدام تقنية الأسترجاع كأبسن، من خلال إستحضار صورة الأبن على هيئة والده، وهي تقول: من هناك؟ ما الذي يجري؟ ( تغلق النافذة) أدخل ! هل هناك أحد . إنه نفسه وهو يعدو في حقل التبغ، ألم يكن ميتا؟
. . . .
وفي منظر الفصل الثالث للأشباح، يعود المؤلف، مانحا إياه مواصفات الفصل الأول نفسها تقريبا، أقول تقريبا لأن شابته بعض روح التشاؤم، ولكن ليس بغلبة هذه الصفة على التفاؤل، بل بالعكس، بغلبة الأخيرة على الأولى. وجاء هذا الفصل كذلك، إتساقا مع تطورات أحداث المسرحية التي قادت أوزفولد المحب للحياة، التفكير في الأنتحار. مثله مثل الأم في البجعة، واقعا تحت وطأة الشعور بتأنيب الضمير في أصابته بهذا المرض، ظنا منه أنه المسؤول الوحيد عنه والذي ألحق الأذى، ليس برجينا فقط، وإنما بالمجتمع ككل.
وتكمن روح التشاؤم في هذا الفصل فقط في جملة ( في الخارج ظلام)، وتعقبها جملة، تحتوي على قدر ضئيل من الأمل: (بأستثناء وميض خافت من النار ينبعث من خلفية المسرح).
أما التفاؤل فيمكن ملاحظته في هاتين الجملتين: ( كل الأبواب مفتوحة) و( لا يزال المصباح مضيئا على المنضدة).

2- بين سيد البنائين والآنسة جوليا:
إذا كانت تجمع بين هاتين المسرحيتين بعض الصفات، فهي أثنتين . جنوح الشخصيات فيها لحب العظمة.. والحلم.
ولنبدأ من الصفة الثانية التي هي الحلم. إذ بدون إستثناء تحلم كل الشخصيات في كلتا المسرحيتين، إبتداء من سولنس وهيلدا وآلين والطبيب والمهندس وراجنر وكايا ، في سيد البنائين لأبسن، الى الآنسة جوليا وجان الخادم وكريستين الطباخة، في الآنسة جوليا لسترندبيرغ. وإذا كانت كريستين تحلم الزواج بخطيبها جان، فأن جوليا تحلم بالرقص معه، وجان الطائش ببلوغ المرتبة الأجتماعية التي تتبوأها جوليا. وسولنس ببناء الأبراج في أعلى البنايات، وهيلدا في تحقيق حلم سولنس، وراجنر في إيجاد عمل مستقل، يقوم هو بأنجازه، وهكذا بالنسبة للشخصيات الثانوية الأخرى.
وحلم جوليا وجان، يناقض الطبقة التي ينتميان إليها، ذلك أن جوليا الأستقراطية لا تستمتع بأي سلام، ولن تحس بأي راحة إلآ بعد أن تستقر على الأرض، بعكس جان الخادم الذي يريد أن يصل الى أعلى، الى القمة تماما حيث يمكنه أن ينظر متطلعا الى الريف تحت نور الشمس. ما معناه أن جوليا، ترغب أن تنسلخ من طبقتها وترتمي في أحضان الطبقة الفقيرة، وجان أن ينسلخ هو الآخر من طبقته، ويرتمي بعكسها في أحضان الطبقة الأرستقراطية . وهذا الحوار الدائر بينهما حول الحلم أدل نموذج على ذلك.
الآنسة جوليا: ها أنا أثرثر معك عن الأحلام! تعال – لنصل الى الحديقة.
جان: يجب أن ننام على تسع زهرات من أزهار منتصف الصيف الليلة يا آنسة جوليا وحينذاك ستتحقق أحلامنا.
وسولنس البناء قبل أن يمتلك مكتبا لرسامي الخرائط، لم يكن ثريا، عندما كان يعمل في نفس هذا المكتب، تحت أمرة المهندس المعماري (بروفك)، والد راجنر الرسام الذي يأبى سولنس أن يبني (راجنر) البيت الريفي للأسرة التي راقت لها الرسومات التي أعدها لهذا الغرض.
إن منحى سولنس الطبقي، يختلف هنا كليا عن منحى جان وجوليا، ذلك أنه في الوقت الذي كان يحلم فيه أن يتخلى عن طبقته، وينتمي الى الطبقة البورجوازية، وتحقق له ما أراد، يقف كالمرصاد أمام راجنر، حائلا دون تحقيق هدفه الحلمي، بشطريه المهني – التقني – والأقتصادي. خوفا من أن تهيمن الأفكار الحديثة في الفن المعماري على الأفكار القديمة، وهو بذلك سوف يفقد الموقع والمكانة اللذين كان يتمتع بهما، لأصحاب الفكر القادم. ويتضح هذا المعنى أكثر في هذه الجملة التي يطلقها سولنس لهيلدا التي تمثل الجيل الجديد: ( لا، لا، لا، الجيل الجديد ، أنه يعني القصاص، أنه يأتي كأنه يمشي تحت راية جديدة، مبشرا بتحول الحظوظ).
ولكن سرعان ما أنفرط عقد هذا الوئام بين جان وجوليا ليتحول الى صراع الدم الأرستقراطي، ضد دم العبيد. مثله مثل الصراع القائم بين سولنس وبروفك حول منح الأول، حرية العمل لراجنر أن يشتغل بصورة مستقلة، ولم يدع أن يتحقق حلم الأثنين معا، حتى عندما كان الأب يلفظ أنفاسه الأخيرة.
ومثلما تتجاوز هذه الأحلام حدها عند جوليا وجان الى ممارسة العملية الجنسية، بتقديم جوليا ذراعها الى جان، ويسيران بأتجاه الحديقة، في إشارة الى حدوث هذه العملية، وتعزيزها بدعوة جوليا لترى ما في عيني جان، كذلك يحدث نفس الشيء بالنسبة لسولنس وهيلدا.
هيلدا: هل جئت وطوقتني بذراعيك؟
سولنس: نعم جئت.
هيلدا: ثم أدرت رأسي للخلف؟
سولنس: للخلف جدا.
هيلدا: وقبلتني؟
سولنس: نعم. . لقد فعلت.
هيلدا: مرات كثيرة؟
سولنس: كما تشائين.

وكما إن سولنس لم ينتبه الى هيلدا في أول لقاء بها، لأنها كانت صغيرة وفي الثانية عشر من عمرها، كذلك لم تنتبه جوليا الى جان، عندما كان يأتي مع والده الى مزرعة والدها التي كان يعمل فيها، لأنه كانت صغيرة كهيلدا أيضا. وكلاهما جان وهيلدا يذكران شيئا عن جوليا وسولنس، ولكنهما لا يبوحان به.
سولنس :هل تحلمين كثيرا؟
هيلدا: نعم ! ! أكاد أحلم على الدوام.
سولنس : وبماذا تحلمين أكثر الليالي؟
هيلدا: لن أنبئك هذا المساء . . . وربما نبأتك عن ذلك في وقت آخر.
جوليا : أوه قل لي – أريدك أن تقول لي.
جان: لا، لعلي لا أستطيع. في وقت آخر ربما.
ومرض جان بسبب عدم إستطاعته نيل الفتاة التي أرادها مرة، تتقارب حكاية هيلدا التي راحت تلوح بعلمها المرفرف لسولنس، وهو في أعلى البرج، حتى أوشكت أن تسبب أختلالا في توازنه. وجوليا لأنها لا تعرف الفتاة التي مرض جان من أجلها، وعندما تسأله عنها، يرد : أنت. وتباغت هيلدا سولنس بنفس إجابة جان، بأنها كانت هي تلك الفتاة الشيطانة التي كادت تفقد توازنه.
كما تتقارب شخصية سولنس مع شخصية الأب في مسرحية بنفس العنوان لسترندبيرغ، من حيث ذكائهما، ودفع زيجاتهما لهما نحو المرض، أو سعيهما ليشعرا بذلك، ولكن زوجة الكابتن (الأب) بطريقة خبيثة، وزوجة سولنس بحسن نية. وبقصد إشعاره بأنها ليست غبية وعلى علم بكافة علاقاته. أما زوجة الكابتن فبدافع سوقه الى الجنون، لفرض سطوتها مثل هيدا جابلر لأبسن على أفراد أسرتها والمحيطين بها. وكلتا الشخصيتين يتمتعان بذكاء خارق في المهنة التي يمارسانها، سولنس في بناء الأبراج للبنايات العالية، والكابتن كرجل من رجال العلم الموهوبين.
ولعل الذكاء الذي يتمتع به سولنس، مقابل الشيطنة التي يتحلى بها جان، يقودانا الى السمة المشتركة الثانية التي تجمع بين مسرحيتي سيد البنائين والآنسة جوليا، ألا وهي سمة العظمة. (والقرن التاسع عشر كان زمن العظمة الفردية، كما يقول صلاح عبدالصبور، والرجل العظيم هو الذي يمتاز على الآخرين . .)9.
وقد أكتسب الأثنان هذه العظمة من خلال قدرة سطوتهما على الآخرين، سطوة سولنس على المكتب الهندسي لبروفك الذي كان فيما مضى، يعمل مساعدا له، ثم سطوته على مشاعر ( كايا) خطيبة راجنر أبن بروفك، ومن بعدها على هيلدا. لتدفعه كل هذه النجاحات، لأن يضاعف تفوقه، في المجال الذي يعمل فيه، وهو بناء الأبراج في البيوت ألأكثر إرتفاعا من السابق.
أما جان عبر سطوته على جوليا، هذه السطوة التي لم يتخيلها حتى في ألذ وأمتع لحظات أحلامه، لا لأنه خادمها ويطيعها كالكلب فقط، وأنها تنتمي الى الطبقة الأرسقراطية، وهو الى العبيد، وإنما أيضا، وكما يصفها سترندبيرغ: ( بأنها نصف إمرأة، وكارهة للرجال، إنها فتاة عصبية، تشعر بكبرياء وإن كانت على إستعداد لكبت هذا الشعور في سعيها المحموم وراء إشباع ولعها بالأثارة الحسية)10. وهاهي تقر نفسها بذلك في إجابتها على سؤال جان: ألم تحبي أباك يا آنسة جوليا؟
جوليا: نعم كثيرا جدا. لكن كان علي أن أكرهه أيضا، لا بد أنني كنت أكرهه دون أن أدرك هذا. أنت تعلم أنه علمني أن أكره جنسي – أن أكون نصف إمرأة ونصف رجل.
فسطوة جان على مثل هذه النمرة، ليس بالأمر الهين، وأي كائن كان سوف يشعر بالتفوق، وتميزه عن الآخرين، سيما إذا عرفنا بأنها هي التي تقوده الى مغازلتها وممارسة الجنس معها.( وأحد الخدم هو الذي أوحى لسترندبيرغ بشخصية جان، لأنه أظهر له بوضوح بأنه لا يفكرفيه كشخص أفضل منه شخصيا)11، موظفا إياها على لسان جان وهو يخاطب جوليا على هذا النحو: نعم، بالنسبة إلي. فأصلي أفضل من أصلك . .
وسطوة سولنس على هيلدا، تتقارب مع سطوة جان على جوليا، لأن كلتا السطوتين، أقترنـتا بالأعجاب والذكاء.أعجاب هيلدا وجوليا بسولنس وجان، وذكاء سولنس وجان، إلآ أن رد فحوى هذا الأعجاب يختلف بين سولنس وجان، فأتسم من جانب سولنس برد الجميل، لأن هيلدا هي التي دفعته الى بناء البرج على قمة أعلى البنايات، بينما للطبيعة العدوانية لجوليا، وبالمقابل طيش جان، فقد أتسم بالتحدي. ويتقارب تعامل سولنس مع بروفك وراجنر، في تعامل جان مع جوليا، ولكن إنطلاقا الأول من عدم الأهتمام بجهود العاملين معه، ولربما أيضا بناء على العامل الأقتصادي. والثاني إستنادا الى الصراع الطبقي.
إذن كلتا الشخصيتين اللتين تشعران بالعظمة، أستخدمتا كلا المفهومين لهذه الفلسفة، فالمفهوم الأول نجده ممثلا في فلسفة نيتشيه ( التي تومن بأن هناك أخلاقا للأقوياء وأخلاقا للضعفاء، وتؤمن بأن الخلق الذي يجدر بالرجل العادي هو الضعف واللين والتسامح، بينما القوة والأستعلاء والسيطرة هي فضائل الرجل العظيم. ولا ضير إذا أستلب حياة أو دمر بنيانا أو طغى على المجتمع لأن ذلك هو الثمن الحتمي لعظمته.)12. ويؤمن المفهوم الثاني بالأنسان في نطاق المجتمع، ويعرف أن خير الناس هو أكثرهم نفعا وتطبق مقاييس الفضيلة والرذيلة على الجميع)13.
ويبدأ الصراع بين جان وجوليا، شروعا من قولها له ( أعتقد أنك أرستقراطي!)
ورده عليها مؤكدا ذلك. ورجوعها واصفة خطوتها هذه بالهبوط، معارضا جان هذا الوصف، ليطلق عليه بالسقوط. ذلك أنه خان إنتمائه ولا يريد أن يعود الى الطبقة التي كان ينتمي إليها، وأن أرتماء جوليا في أحضان هذه الطبقة ما هو إلآ سقوط بالنسبة إليها من وجهة نظره، ولعل ظفره بهذا الأمتياز من قبلها كأرستقراطي، هو الذي منحه الشعور بالعظمة، وجعله أن يسعى للسيطرة عليها وقيادتها لتحقيق مآربه.
أما الصراع بين سولنس وبروفك، فبالرغم من أنه، يبدأ من بداية المسرحية، إلآ أنه لا يرتقي الى الصراع الدائر بين جان وجوليا، ذلك لعدم التكافؤ بين الفريقين، بالأحرى، أن أبسن بالرغم من أنه يرغب في إظهار كلا الجانبين في عظمة سولنس، السلبي والأيجابي منهما، غير أنه يؤاثر أبراز الجانب الثاني أكثر من الأول، وحتى أن جاء على حساب الجانب السلبي. ومن هنا أقترن مطلب بروفك لعمل أبنه مستقلا عن سولنس وبدون إستشارته، بصورة باهتة، باحثا المؤلف في الوقت نفسه عن خط ثان في المسرحية، يسير بعكس الخط الأول، متمثلا بهيلدا، مانحا إياه رقعة مديدة من المسرحية.
ولأن إهتمام سترندبيرغ:( كما يقول الأراديس نيكول ينصب كلية على عالم الروح وأن حوادثه روحية لا بدنية، بعكس أبسن الذي للأشياء المادية قيمة كبيرة في مسرحياته، لذلك نجد أن أبسن يبدأ بوصف دقيق للمناظر الداخلية، بينما سترندبرغ تسير حوادث مسرحياته بلا توقف ودون الحاجة الى مشاهد منفصلة)14. أي أن مناظر مسرحياته، بعكس أبسن تخلو من الوصف.
ففي مسرحية الآنسة جوليا، يصف المنظر العام للمسرحية فقط، وهذا الوصف للأشياء الذي يحتويه المطبخ، لا علاقة بطبيعة شخصيات وأحداث المسرحية، بقدر ما لها علاقة بالمدرسة الطبيعية في الدراما لمشاهدي مسرحيات سترندبيرغ (الذين أعتادوا على رؤية أشياء كخزانة المطبخ وآنيته وقد رسمت كلها على الستارة الخلفية)15.

3- بين هيدا جابلر والأب:
إذا كانت سيد البنائين والآنسة جوليا، يجمعهما سمتي الحلم والعظمة، فأن مسرحيتي هايدا جابلر والأب، يشتركان معا في أهم عنصرين من عناصر الميلودراما وهما الأثارة والمؤامرة، واللذين كما يقول علي الراعي ( يندمجان معا)16.
وتشي ولادة الميلودراما في هيدا جابلرعن نقص أنوثة هيدا، في دفع ( لوفبورج) بأتجاه الموت بأهداء المسدس له، وفي الأب بدفع لورا زوجها الكابتن نحو الجنون. متمخضا عن الأول ( أستمتاع الجمهور بالنار تلتهم شيئا عزيزا، ويرى رمز الشر تلقى ترانيمها السحرية حول النار، وتكاد ترقص رقصة وحشية تمجد الأنتصار)17. ويضرب علي الراعي كذلك نموذج الخالة العجوز المشلولة، وأختها مسز تسمان، المثال الثاني لأندماج هذين العنصرين، الأثارة والمؤامرة معا، وذلك من خلال (عدم مفارقة مسز تسمان لأختها المشلولة والمشرفة على الموت، والتي تظل مخلصة للجميع، فأذا ماتت أختها، سعت الى أن يحل محلها بشر آخر محتاج للعطف والرعاية)18.
وفي الأب عن أندماج إرسال الزوجين أبنتهما للدراسة، بعيدا عنهما، وفي مدينة أخرى، وبين كونها أبنة الكولونيل من عدم كونها. بالأضافة الى ميلودرامية مشهد إنتزاع المربية المسدس من يد الكابتن، ومقارنة هذا المشهد بمشهد إنتزاع السكين من يده وهوطفل صغير، لتخدعه وتمنعه من صنع الحذاء .
وكما أن لورا زوجة الكابتن في الأب، لم تحب زوجها كعاشق، وإنما أحبته كطفل، كذلك فأن هيدا لم تحب زوجها كعاشق، وإنما تزوجته رغما عنها، وبدلا من أن تصبح عانسا. ورغم أن الكابتن لم تفته هذه الحقيقة، إلآ أنه لم يعرف السبب، ذلك أنه بات يحس أنها تكرهه، لعدم رجولته، طفق بالسعي لأن يفوزها كأمرأة بالتقرب إليها كرجل. أما جورج تسمان زوج هيدا المفعم طيبة لسذاجته المفرطة، لا يعرف بأنها لا تحبه، وربما لا يريد أن يعرف أصلا، وهو لا يعرف أيضا بعلاقاتها السابقة مع براك ولوفبورج، صديقيه المقربين إليه. ويقول علي الراعي بهذا الخصوص:( تزوجت هيدا من شخص تحتقره من صميم فؤادها، وتراه غير كفء لها حسبا أو ذكاء)19.
إن كلتا الشخصيتين، لورا وهيدا، عاشا وتربيا منذ طفولتهما على إلغاء وجهة نظر الآخر، وبالمقابل أستبدادهما برأيهما، بدليل أن لورا منعت زوجها من أن يبعث أبنتهما للدراسة في مدينة أخرى، وبالتالي وضعته في موضع شك، في كونها أبنته ، ونعت زوجها لها بالنمرة يؤكد الغنج الذي عاشته في كنف عائلتها . وهذا ما ينطبق على زوج هيدا أيضا، بل أكثر مما يشهده الكابتن من إضطهاد على يد زوجته. كذلك فأذا كان الكابتن يجد في نفسه الجرأة لأن يعارض نورا، فأن تسمان كالكلب المطيع لا يستطيع أن يلفظ غير كلمة نعم، لأنها أبنة الجنرال جابلر، كما تقول مسز تسمان في حوارها مع الخادمة برتا، فكري في العيشة التي تعودتها على حياة أبيها . . ألا تذكرين كيف كنا نراها تركب الخيل الى جنب الجنرال؟ في ذلك الزي الأسود الطويل والريش في قبعتها.
وبالمقابل فأن الكابتن وتسمان، عاشا وتربا، في أجواء تكاد أن تكون أقرب الى الأستسلام، منه الى التحدي. وثمة أكثر نموذج في كلا المسرحيتين، يدل على ذلك.
وتوظف المسدس في الأب للأنتحار، لأنهاء الكابتن حياته من الجنون الذي دفعته إليه زوجته، وفي هيدا جابلر كذلك،( ليموت لوفبورج بالمسدس الذي أعارته له هيدا، كما يقول علي الراعي، ميتة جميلة، فمات ميتة الأنذال، في مشاجرة مع مومس كان قد قضى في بيتها الليلة السابقة)20.
هيدا: لا أنتظر! يجب أن أهديك تذكارا لتحمله معك ( تذهب الى المكتب وتفتح الدرج وصندوق المسدسات وتعود الى لوفبورج وبيدها أحد المسدسين).
لوفبورج: ( ينظر إليها) هذا؟ أهذا هو التذكار؟
هيدا: ( توميء ببطء) أعرفته؟ لقد صوب إليك مرة.
لوفبورج: كان ينبغي أن تستخدمه آنذاك.
هيدا: خذه- وأستخدمه الآن.
لوفبورج: ( يضع المسدس في جيب صدره) شكرا لك.
هيدا: عدني بذلك.
وتبلغ درجة تقارب شخصيات أبسن وسترندبيرغ حتى في توجاهتهم وإهتماماتهم، كتقارب الكابتن وجورج تسمان في منحاهما الثقافي. ولكن بتفوق الأول في بحوثه العلمية، وفشل الثاني. كما وتتقارب العمة تامسن في طيبتها وحبها للآخرين، للمربية في الأب.
ومسرحية الأب كمسرحية الآنسة جوليا، أو أية مسرحية أخرى لسترندبيرغ، تخلو من وصف المناظر، وقد يكون الشيئان الوحيدان، كما يقول الأراديس نيكول (اللذان أستغلهما سترندبيرغ من الناحية المسرحية هما المصباح الذي يلقيه على زوجته والوثاق الذي ربط به في نهاية المسرحية. وفي الحقيقة أن مسرحية الأب يمكن بكل سهولة وربما بكل نجاح، أن تمثل على مسرح خال تماما من أي مهمات مسرحية)21.

المصادر:
1- المسرحية العالمية:الأراديس نيكول، ترجمة الدكتورعبدالله عبد الحافظ.
2- المصدر السابق نفسه.
3- المصدر السابق نفسه.
4- المصدر السابق نفسه.
5- المصدر السابق نفسه.
6- مختارات أبسن، المجلد الثاني، الأشباح، الطبعة الأولى2006.
7- المصدر السابق نفسه.
8- المصدر السابق نفسه.
9- مختارات أبسن، المجلد الثالث، سيد البنائين، ترجمة صلاح عبدالصبور2006.
10- المسرحية العالمية: الأراديس نيكول، ترجمة الدكتور عبدالله عبدالحافظ.
11- الآنسة جوليا، أوغست سترندبيرغ، ترجمة سمير عزت نصار2007.
12- مختارات أبسن، المجلد الثالث، تقديم عبدالله عبدالحافظ2006.
13- المصدر السابق نفسه.
14-الآنسة جوليا، أوغست سترندبيرغ، ترجمة سمير عزت نصار2007.
15- مختارات أبسن،المجلد الثالث، هيدا جابلر، تقديم علي الراعي2006.
16- المصدر السابق نفسه.
17- المصدر السابق نفسه.
18- المصدر السابق نفسه.
19- المصدر السابق نفسه.
20- المسرحية العالمية: الأراديس نيكول، ترجمة الدكتور عبدالله عبدالحافظ.
21- المصدر السابق نفسه.



#صباح_هرمز_الشاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جدلية الانتماء والخيانة في مسرحيات يوسف الصائغ
- مسرحيات توفيق الحكيم....والمسخ
- مقاربة بين روايتي الكافرة و حجر الصبر
- الرجع البعيد بين تقنية الأيحاء وعملية التطهير
- وحدها شجرة الرمان . . بين تقنية المكان. . وعملية التناص
- الآنسة جوليا.. وحلم التحرر من السلطة
- السمات المشتركة في مسرحيات ابسن
- مناطق التغريب في مسرحيات بريخت
- تينيسي ويليامز.. والكوميديا السوداء
- هل مسرحية ايفانوف فاشلة...؟..!
- مسرحيات محي الدين زنكنة في توظيف الرمز للبناء الدرامي
- مسرحيات جليل القيسي : الانتظار + الحلم + اليأس = الموت او ال ...
- الغواية بين روايتي عزازيل و الوسوسة الاخيرة للمسيح
- قراءة في صنعة مسرحيات تشيكوف الاربع الطويلة
- قراءة في صنعة مسرحيات تشيكوف
- (الخال فانيا...بين برودة الحدث...وغلبة النماذج) الرديئة على ...
- في بغديدا الخطيئة الاولى ...بين الامكانيات المحدودة ..وعدم ت ...
- النص المسرحي.. (الشبيه).. وتوظيف الرموز والدلالات
- الملجأ ......... بين التمرد والغموض
- شلومو الكردي... بين توظيف الاسطورة.. وعنصري...التوقع والربط


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - مقاربة بين مسرحيات سترندبيرغ وأبسن