أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد مضيه - ألقهر يحطم الروح والترياق في الفن















المزيد.....


ألقهر يحطم الروح والترياق في الفن


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 6057 - 2018 / 11 / 18 - 16:58
المحور: الادب والفن
    


مع رواية أوبرا القناديل

يبدع الروائي الصديق مشهور البطران، في روايته الجديدة "أوبرا القناديل"، صورا فنية ساخرة للأنظمة الأبوية المتسلطة على العالم العربي، حيث يسرد مكابدة الشعوب العربية مع النظام الأبوي. نظام القمع والخطاب الأوحد ، الاوامري النازل من عل، يرفض الحوار ولا يتقبل النصائح المخلصة ، بل يزج بأهل النصح في أقبية السراي، ويقرب الوصوليين ويصغي لمشوراتهم التي تزكي حماقات النظام وإجراءاته المرتجلة والعقيمة. بموضوعية وواقعية يتجلى تخلف النظام الأبوي في الرواية في خاصيتين متلازمتين هما اللاعقلانية والعجز.الأولى تتجلى في فردية القرار مع فجاجة التدبير وارتجاليته النزقة، والثانية في العجز عن التوصل إلى الأهداف المرجوة، ومن ثم اللجوء الى الخبرات المدعاة في الخارج والسقوط في حبائلها . إلى هاتين الخاصتين تعزى الانكسارات والهزائم وفشل مشاريع التنمية. ومن ثم فما من طريق للخلاص غير الإطاحة بنظام أبوي مهترئ وقاصر.يحتضن النظام الأبوي أصناف العصبيات الطائفية والعرقية لأنها، مثله، تحصر الأتباع داخل بوتقتها وتشترط الحماية بالولاء. وهكذا ما إن تتم الإطاحة بالنظام الأبوي حتى تبزغ الأصولية الظلامية تحصد الثمار المرة لحماقات "الأب" المتسلط، و تتفوق عليها من حيث الإضرار بالناس. يتجلى نبذُ العلم لدى الزعيم بغلبة العفوية والانفعالية في مسلكه ، ومن ثم العجز عن إيجاد الحلول لدى رؤية اول صرصار يلاحقه بالضرب ويهرب الصرصار، لتتكاثر وتغدو مشكلة تشغل حاشية الزعيم التي ينحصر دورها في تأييد موقف الزعيم وتصرفاته.
بالحدس الفني ينجو الروائي من عثرات التزييف المتعمد بقصد إخفاء الثورة المضادة لعناصر الليبرالية الجديدة المحلية والدولية، انقضت الثورة المضادة من جانب العناصر المحلية لليبرالية الجديدة بسرعة لتجهز، تحت جنح الربيع والخريف العربيين، على ثمار الانتفاضات الجماهيرية.
تستهل الرواية بزعيم يدعي أبوة المجتمع بأسره ، مهووس بالصراصير، يعتريه رعب هيستيري منها احله موضع سخرية لمن حوله واستخفافا بشخصه. فالثقافة الأبوية التقليدية بأنظمتها الخاصة بالحماية والقسر والشهامة والطاعة هي وسيلة أوضاع لم تعد قائمة، ولا يمكن إحياؤها في العالم الراهن، فقدت تقليديتها.
الصراصير مستورد كناية او مجاز عن كيان ينافسك البيت والمخدع، جاءتنا من الخارج." أمرٌ مدبرٌ بليل من قبل تجار أخشاب أوروبيين حقنوا بيوض الصراصير في صدوع الخشب وصدروه على متن السفن لتجار محليين متورطين في هذه الصفقات". تارة يجمح الخيال فنؤوّل الصراصير كيانا دخيلا غاصبا متغطرسا بقوته ، وتارة يعود بنا الى الصراصير ، تختبئ في جحورها وتتلاعب بعقل الزعيم متحدية فطنته الذاوية. هنا يحتمل النص الروائي اللجوء الى المجاز ، خاصة الكناية كي تفهم دلالة الصراصير. اختار الروائي الصراصير بؤرة اهتمام الزعيم وانشغاله من ثم عن الشعب. هوس الزعيم الهيستيري موروث عن الأجداد،" جده الثاني أصابه هوس السحر"، أحاط به زمرة من قارئي الحظ وامهر العرافين بفك الأسحار. في سنته الأخير حلت جنية في بدنه اتخذت لسانه مسكنا ولم يعد احد يفهم ما يقصد. جيء بسحرة وفشلوا ، الأخير منهم وصف له مادة ذات رائحة كريهة تحت لسانه،ثم اختفى. وفي الصباح وجد الزعيم الجد ميتا. والجد الأول أصيب بفوبيا الظلام ، هبت عاصفة اطفأت المصابيح فهب مذعورا ومضى في غير اتجاه وسقط عن الشرفة". كناية عن عقم الأسر الحاكمة الناجم عن طفيليتها، وعدم قدرتها على التفاعل مع البشر واكتساب الواقعية في التفكير والتخييل. تتالي الأجيال الكسولة ، تعتاش من عرق الشعب يضمر في بنيتها الأطراف والقدرة الذهنية. الاستبداد بطبيعته يملي ولا يجادل او يحاور، فلا يُعنّي النفس بالتفكيريستنبط الحلول الواقعية والناضجة؛ والكل من حول الزعيم وصوليون منافقون دأبهم الموافقة على طروحاته وإطراء مواهبه العقلية التي لا وجود لها في الممارسة العملية .


الفن ، ومنه الأدب والقصص بخاصة، لا يتحدثُ عن الواقعِ، إنما يتحدث عن المُمكنِ، أو المُحتمل بالضرورة. سردية الأحداث تكشف عن أسرار القصور تترك حيزا للخيال يسد فجوات غابت عنها الحقائق، المكتومة خلف كواليس السياسة او داخل غرف الاجتماعات المغلقة او التقارير المقيدة.
يرى البعض ان دور الناقد ينحصر في الوساطة بين المبدع وجمهور القراء، يفسر الصور الفنية؛ ويرى آخرون أن النقد يلقي الضوء على خبايا السرد القصصي وما يمكن ان يفهم من سياق النص وما قد لا يخطر ببال المبدع ، ذلك أن الإبداع الفني ينطوي على قدر من اللاوعي يتغلغل في ثنايا الإبداع الأدبي.
من هذا الواقع انطلق التخييل بالروائي نظاما أبويا ينفرد الزعيم ، الذي "فضل عليه لقب الأب، الأب الكبير ؛ فعدا عن كونه لقبا مسربلا بالسلطة ، فإنه يشي بفضائل كالوجاهة والنبل بوصفه أبا للشعب"؛ أب الجميع كما يحلو له ان يكني نفسه. لا تلمح الرواية لبلد بعينه فجميع أقطار العروبة يحكمها نموذج أبوي أوحد ، ولم تعط الرواية أسماء لشخوصها ؛ باستثناء المحبيْن، مشعل ومريم، نواجه كُنْيات لكل شخصية تحمل مهنتها وكانّ الروائي بذلك تعمد حشد جميع شرائح المجتمع في بوتقة تضطرم بالسخط على الإهمال والتردي المضطرد للأوضاع المعيشية ؛ لا يتيح لمفهوم الطبقة ان يكون المقولة التحليلية المركزية. يتجسد السخط في حراك جماهيري ينتكس تارات ثم ينجح ويطيح بالطغيان، حيث يتخلى الأتباع والجيش وكل ماكنة السلطة عن الزعيم الذي يتحول إلى زعيم سابق يذوي داخل "سقيفة لها طاقة تشهق بضع نسيمات وباب منخور ينغلق على حجرة تفيض بالصراصير. يطل منها على تاريخ خائب وجغرافية جدباء".
يظهر الواقع الاجتماعي في مادية وتعقيد كاملين، يتوجب على التحليل النقدي أن يكيف نفسه في مواجهة ظواهر اجتماعية نفسانية وعبر استفادته من شروحات العلوم الاجتماعية ومقولاتها المختلفة ، وبخاصة علم الاجتماع وعلوم النفس. ما عبر عنه مشهور البطران بفنية تستهوي القارئ وتأسر اهتمامه سجلها الراحل الدكتور هشام شرابي في دراسته الاجتماعية " البنية الأبوية إشكالية التخلف في المجتمع العربي"، حيث رصد الواقع العربي الموحد في خنوعه لبنية أبوية قائمة على قرابة الدم، استعصت على التغيير الجذري عبر التاريخ منذ عصر الجاهلية؛ جمع الباحث عالم العروبة تحت مسمى "المجتمع العربي المستحدَث او المحدَّث" تمييزا له عن أبوية العصرين الجاهلي والوسيط. المجتمع العربي مستحدَث أو محدَّث نظرا لأنه حقن بجرعة تحديث نتيجة الالتقاء بالرأسمالية المتقدمة، اورثت اختناقات مرورية سدت المنافذ الى التقدم، إذ عززت المناعة بوجه الحداثة فتشكل في الواقع مجتمعا هجينا. لم يتحول أي من المجتمعات العربية إلى رأسمالية مكتملة، ولم يبق على تراكيب كانت متماسكة وتحافظ علي انسجام الحياة؛ أدى تغلغل الرأسمالية في الاقتصاد العربي الى نشوء رأسمالية تبعية ومزيفة. لم تظهر طبقة برجوازية ناضجة ، ولا طبقة عاملة. كل العلاقات الاجتماعية التقليدية الجامدة ، وما يحيط بها من مواكب المعتقدات والأفكار التي كانت محترمة ومقدسة تنحل وتندثر ؛ اما التي تحل محلها فتشيخ ويتقادم عهدها قبل أن يصلب عودها ، وكل ما كان تقليديا ثابتا يطير ويتبدد كالدخان.
وهذا كله تجلى في مشاهد رواية "أوبرا القناديل"، نص مبني على تَعدُّدِ الأصوات التى تجعلُنا نرى النظام الأبوي أو تعاسة الواقع العربي من زواياه المُتعددة، فيزدادُ عُمق فهمنا له، فضلًا عن الحيل الروائية والسخرية السوداء والتخييل المحلق، يهزأ من لا معقولية الواقع العربي، وتشهر بعجزه، وليست فانتازيا مسخرة للإبهار. والسخرية انتقام ومقاومة. توظف في مهمة المقاومة المواويل والأغاني والتعديد الكاشفة للواقع المرير، وتتكئ على الحُلم لتأكيد عمليات التخييل التى تعقد قران الواقع بالحُلم، ولا تنسى توظيف الشرائح الشعبية المهمشة تضج أشواقها صيحات استنكار في الطرقات والأدراج فتسهم في تطوير الحدث الروائي بالتناوب مع حضور القص الشارح لمواقف مشعل وحِكَمه التي يرفضها الزعيم وهو يمضي في سيرورة الفناء. فزاعة الصراصير تقلق الزعيم وتتضخم المشكلة عن طريق الإشاعات وجلساء السوء بحيث يخشى الزعيم دخول الصراصير فمه وهو نائم، وببلاهة ساذجة يسأل زوجته هل يغفو وفمه مفتوح ام مغلق ثم يشد فكه الأسفل برباط . يسرف الراوي في السخرية ويزجر الزعيم بلسان مشعل، حفيده المتمرد على قيم الأسرة المالكة : "انت لا تخرج الى الشوارع ولا ترى الناس ولا تسمع أصوات الفقراء. هموم الناس ومعاشهم ومتطلباتهم أهم من صراصيرك"!
تصرف الزعيم بفردية مستهينة بالعاملين في السراي؛ نثر المبيدات وتسمم الطباخ؛ أصدر المستشفى تقريرا عزا الوفاة بجلطة مباغتة. رعبه المهووس من الصراصير يوحي لخياله المريض أن لها لغة للتفاهم فيما بينها وهو بحاجة لمن يفهم لغتها كي يمكن التفاهم معها، واثنى المحيطون على الفكرة الخلاقة؛ أحداث الرواية تأتي مبررة ومنطقية بغير افتعال. يجلس الزعيم ويتكئ على طاولة السفرة ويرى صرصورا يبزغ من احد شروخ الطاولة ، ثم آخر وثالث فيقرر إضرام النار في الطاولة وهنا يجمح الخيال بالروائي في تداعيات منطقية تنسجم مع الواقع، تهبط لتفضح تبذل الإعلام المحلي والعولمي وتهافت حركات دولية تزعم الحفاظ على حقوق الحيوان وتواطؤ البحث الأكاديمي .. كل ذلك يشف عن مصالح قابعة توجه الأحداث لصالحها وتغيب الحقيقة . التخييل الفانتازي تحليق يطل على مكامن الخلل في الحياة الاجتماعية وفي النظام الدولي العولمي ، حيث يستحيل عزل مجتمع عن مؤثرات الواقع الدولي. في آخر مقابلة لمشعل مع الزعيم يضعه امام الحقيقة المرة التي تلطخ كل نظام عربي : "الصراصير تحاصرك وحدك .انت تهذي لكنهم يطاوعونك ،انت غارق في معارك وهمية يزينها خيالك المريض العاجز ، والناس حولك تموت يموتون من الجوع والبرد والأوبئة . مشكلات البلد الحقيقية ليست هنا بل هناك انزل الى الشارع ولو مرة واحدة لترى الفقراء المسحوقين ينامون على الأرصفة خاوية بطونهم". يعتبر الزعيم مواجهته بحقيقته تطاولا فيعاقب مشعل ، والعقاب حفاظ على هيبة الحكم، وليس تأكيدا للقانون. يضرب الزعيم مشعل بإبريق زجاج يصيبه ويسيل دمه ، ينسحب ويتوارى لكن نقاط الدم تحدد مساره يتتبعها الزعيم ليجده في حضن مريم تضمد جرحه. تداعيات ممكنة في الواقع تأخذ الرواية منحى صاعدا في الصراع ضد النظام الأبوي . مشعل حفيد الزعيم، وحسب تقييم الزعيم، " ادرك أصوله الشعبية ( من جهة امه) فظل منحازا للناس ولم تأخذه دعة العيش". من النوع الذي يأخذ الأمور بتعقل ، ولذا أسس صداقاته الحقيقية خارج السرايا وتتمثل في معلمه الحكيم الذي تتلمذ على يديه والمايسترو مدير دار الموسيقى وآخرين. وكما انحاز مشعل للناس في صداقاته واعماله ، انحاز لهم في الحب أيضأ ، فلم يلتفت لبنات السراي وقد وصفه صديقه الحكيم المعلم قائلا: حتى في الحب مارس عقلانيته المفرطة". أحب مريم الذكية والقاصّة المبدعة. " الحب توق للاقتراب والحب امتلاء بالحبيب". قرر مشعل ومريم " أن يقبلا التحدي بوعي تام بكل المخاطر التي يمكن أن تترتب على ارتباط خطر، وفعلا ارتبطا وعاشا حياتها مغضوبا عليهما ".
تدبر مؤامرة اغتيال لمريم، يدس لها السيانيد في شرابها المفضل، وتنقل الى المستشفى؛ فتجتاح مشعل سورة غضب داخل السراي ويأمر الزعيم بسجنه داخل قبو السراي. يتم إنقاذ مريم من الموت لتهرب من المستشفى نظرا لإدراكها انها مستهدفة وتحتجب عن الشاشة وتواصل كتابة القصص الملهمة والتثقيفية. هنا نجد الراوي يعير الاهتمام اللائق لدور الإنتاج الثقافي من ادب وموسيقى وغناء ونفخ بالناي، مصدات تتحدى طغيان الأبوية. يصل البلاد أحد أبنائها الدارسين للفن الموسيقي ومعه زوجته عازفة البيانو ويبدءان تطوير الفن في دار الموسيقى. يوقف المايسترو عمليات التخريب في التراث الموسيقي حيث يعيد إنتاجه بتوزيع موسيقي جديد مستعينا بألحان غربية المنشأ يتم تطويعها طبقا للآلات الشرقية.
يحدث هذا الإنجاز بينما الزعيم يتسمع هسيس الصراصير ويذهب خياله المريض إلى ان لها لغة ويجد من يدعم اوهامه. . النظام يقصي العقلانية ويعجز عن حل مشاكله فيستدعي الخبراء الأجانب وسطاء بينه وبين الصراصير. تقف عقدة الخواجا شاهدا على النقص في الثقافة المحلية مقابل تفوق كل ما هو اوروبي، يفد عبر الخبير الوسطاء المحتالون. يقول شرابي،"تجسد هذا المنحى معرفة وممارسة في قيام معظم الأقطار العربية بتبني انظمة تربوية كان للمبشرين الأوائل اليد الطولى في إرسائها".
التدخل الخارجي المغرض يفرض على الزعيم التعايش مع الصراصير وتلبية مطالبها . يتم تلبية مطالب الصراصير وإهمال مصالح الجماهير . يتعاظم التدخل الأجنبي يفاقم إفقار الهيئة الاجتماعية على شكل مفتشين يمنعون تداول المنظفات بسبب احتوائها مواد كيماوية "مزعجة للصراصير". تحدث جريمة قتل عروسين تحدث ضجة يستقيل رئيس المفتشين ويتوجه الى بلده في الغرب يفضح الطابق فتتم تصفيته هناك في بلد الحريات . يتم احتواء الضجة حول المفتشين بوضع كاميرات مراقبه داخل سرايا الزعيم وعلى المجتمع بأسره، يستبدل سطوة المفتشين بسطوة شركات التكنولوجيا ذات الارتباطات المتشابكة مع مختلف المصالح يلحظ الزعيم كاميرا باب غرفة نومه فيهشمها ويدفع حب الاستطلاع لمشاهدة صورها ويرى صورته وهو يقور أنفه، عادة مرذولة ، ويرى منسقة الزهور مع البستاني في مشهد حب. هنا تثور كرامة الزعيم وشهامته! يتم العثور على منسقة الزهور مقتولة باب غرفتها والخنجر في ظهرها. مناسبة اغتيالها تتحول الى عيد للحب، خاص بالعاصمة.
تتكشف مصالح اجنبية تجني الأرباح من تعسف الحكم وإقصاء الهيئة الاجتماعية. تتصاعد الأسئلة الاستنكارية: من الذي أدّعى أن المفاوضات أخف وطاة من الحرب؟ وأي سخيف يظن ان ما عجزت الحرب عن حسمه تحسمه المفاوضات؟ والمفاوضات تحتاج الى قوة على الأرض تسندها! تتحول المفاوضات الى قضية اجتماعية عامة ، ورطة غرق الزعيم في مستنقعها، ويشطح التخييل إذ تشرع الصراصير تملي شروطها من خلال الوسيط، يترجم "الخبير" هسيس الصراصير إصرارا على ضمانات مستقبلية بإخلاء البيوت من مواد التنظيف "ذات الاستعمال المزدوج" لأنها تزعجها! ويتخلف الوسيط عن موعد اجتماع، مدعيا على لسان الصراصير أن "المواعيد ليست مقدسة"! فانتازيا أم واقع معاش؟! تمعن الرواية في السخرية والمجاز تتعاظم مصائب التفاوض، يبتلى الجمهور بالحكيكة وغدا الأمر بعد شهور "أسوأ من أن يخضع لقواعد اللياقة ، إذ تحلل الناس من قيودهم وصاروا يحكّون في كل الأماكن وكل الأوقات... تغيرت قواعد السلوك بين الناس، تغيرت قواعد السلوك اليومي للناس في بيوتهم. غدت البلاد محكومة بالوسطاء وشركائهم المحليين وشركاتهم . ما معنى صولة الأب والغرباء يدخلون كل زاوية يسرحون ويمرحون؟ تسفر نصائح الخبراء الأجانب عن تداعيات يحيط بها خيال الراوي، فيشمل التدهور الحياة الاجتماعية والتعليم .. وحيث تتردى أوضاع الجماهير بغير أمل في الخلاص تتجه الأنظار للتعويض بكسب الآخرة . في هذا المناخ الموبوء بتلاوين الفساد وضيق ذات اليد تزدهر الجوامع ويكثر مرتادوها . حال من التفريط والغضب قويت في بيئتها شوكة السلفيين وانتشرت طقوسهم ورموزهم . يرتفع الاحتجاج في مظاهرة تقمع بالقوة ويزج بالناس داخل السجون. الرجال والأطفال يذوون من الجوع والعري ، بينما الحكم والوسطاء وشركاتهم ومن والاهم يحكمون قبضتهم على البلاد. كانوا في صعود بينما الزعيم والسرايا ينحدرون الى الحضيض. تراخت قبضة الزعيم وقويت شوكة السلفيين وازداد نفوذهم. تتردد مريم على العاصمة وتدخل بيت الحكيم وبيت المايسترو وتحكي لطفله حكاية تستهويه ليبدع منها أوبرا القناديل .
يقبع مشعل في قبو السجن بعيدا عن مريم التي يضنيها الشوق ولا يثنيها المنفى الذاتي – القسري عن التعلق بالحرية والنضال الدؤوب كي يعانق الشعب الحرية. فتسرد الحكايات تحث الخطى من قاع المجتمع إلى ذروة الأداء الموسيقي الراقي، أصوات الموسيقى تتجاوب وتقلبُ الحالات النفسية للأبطال، طلبة تسربوا من مدارسهم تحت ضغط الفقر يعزفون أرقى الألحان. وكلها تضمينات وإشارات تغتنى بها عمليات التناص داخل السرد القصصي . حيث تتخلق أوبرا القناديل من أصداء الواقع في ضمائر الحكيم والمايسترو وفرقته الموسيقية وإلإبداع الحكائي لمريم.
للموسيقى في رواية مشهور البطران دور في عملية التحرر الإنساني. الموسيقى صمغ الوجود؛ فلا يمكن أن تجتمع الأشياء أو تتناظر إلا ضمن نظام يتصف بالهارمونيا. الموسيقى"ذائقة واداء تترسخ في الروح والعقل إذا تم تعلمها منذ الطفولة". . تم إغراء الأطفال للاشتراك في تعلم العزف على الآلات. الموسيقى ثقافة تهذب الروح وتطهر الوجدان. يجري الاحتفال بيوم الربيع الموسيقي.
أنفق مشعل معظم مدخراته على دار الموسيقى. فسعادة المرء في نظره مع من يحب لا بما يملك . اما النظام الأبوي فيسخر من الموسيقى ، ويسخر من الحكيم ومن كل ما لايتفق مع مزاجه المريض، يجرد آلاتها من قيمها الفنية .
تتردد مريم سرا على العاصمة وتمضي أياما في بيت الحكيم والمايسترو وتعقد اواصر الصداقة مع عازفة البيانو، زوجة المايسترو، التي وفضلت مرافقته الى موطنه، وأعضاء الفرقة الموسيقية. تحكي مريم للطفل ابن المايسترو حكاية بناء على طلبه؛ ويصغي لها الأب وتستهويه الحكاية فيحول احداثها مشاهد يعبر عنها موسيقيا ، ويدور حوار بين المايسترو ومريم حول الأصوات الموسيقية للمشاعر والانفعالات الإنسانية. الاحترام الأحادي علاقة بين قاصر وولي أمره؛ اما الاحترام المتبادل والتقدير بين الطرفين فيولد اخلاقية حرية ومساواة وعدالة . يترقى احترام التبعية الى احترام القوانين، دلالة الاستقلال الذاتي. يدرك قوانين التغيير الاجتماعي ويستوعبها كل من تبنى قضايا الجماهير المستغَلة والمضطهَدة. تبدأ الاستعدادات للتدرب على ألحان الأوبرا. ينزع المايسترو البطولة عن الفرد ويتجاوز الجماعة ويمنحها للأطفال. يتعطل التدريب بغياب المايسترو عن البيت ويتبين أنه مشارك في الإعداد للثورة. تتداخل ثورة التحرر مع الاستعدادت لتطوير ألحان اوبرا القناديل.
تنجح الثورة في الإطاحة بالطغيان, تعم الاحتفالات ومهرجانات الغناء.. تبدأ مرحلة التطهر من آثار القهر مجسدة في النشاط الموسيقي يطهر الأرواح من ادران القهر. الموسيقى تهذب الأذواق وتسمو بالأخلاق فيحصل التعاطف والتسامح والتناسق في السلوك والقيم. الإنسان العادي متناقض في قيمه وسلوكياته ، وقد يصل التناقض درجة انفصام الشخصية. والموسيقى تعالج تشظي الروح. كتبت الروائية المصرية فاطمة ناعوت، "ثمة علاقة وثقى ومباشرة، أثبتها علماء الأنثروبولوجى والسوسيولوجى، بين عُلوّ الفنون واحترامها فى مجتمع ما، وبين مستوى تحضّر مواطنى ذلك المجتمع وحسن سلوكهم، ورُقى أخلاقهم". ومن كتاب القوانين لأفلاطون تقتبس قوله ان الموسيقى تنطوي على عناصر فنية واخلاقية وتربوية ، ووجه نصيحته الى شعب أثينا احتفظت بمصداقيتها عبر الدهور:«علّموا أولادكم الفنون، ثم أغلقوا السجون»!.
غير أن للسلفية موقف نقيض؛ تفسد الاحتفلات بحوادث اولها تخريب تمثال ابن خلدون. بزغت "الجماعة" وكانها خرجت من "اللجج السحيقة للتاريخ" واستهلوا عهدهم بالقتل. "فطالما لم تُجتث التراكيب الاجتماعية للقهر تبقى وتتواصل علاقات المنصب والسلطة والثروة التي تميز المجتمع الأبوي المستحدث غير متغيرة في جوهرها". حقا لا يعقل أن تختفي تلقائيا المقولات العقائدية التي تسير الوعي الجماهيري.
في حركة مضادة أجهز الظلاميون على قادة الثورة والكثير من المنورين في المجتمع، أعملوا الحرائق أجهزت على بيت الموسيقى وحرقت آلاته ودمرت لوحات فنية و كنائس عريقة، وهدمت صوامع النساك. افسد الانقلابيون يوم المعلم بذبح الحكيم ومعلمين كثر في يوم الاحتفاء بالمعلم.
في الفصلين الأخيرين يحكي الروائي انشغال المجموعة الموسيقية في التحضيرات لحفل أوبرا القناديل. دمر الحريق الأدوات الموسيقية وبقي اللحن الأوبرالي، يعبر الراوي عن ثقافة موسيقية تشمل الألحان وادوات الأداء الموسيقي وتركيب الأصوات الموسيقة في لحن معبر. يدخلنا الراوي في حوارات تحلل أصوات آلات النفخ والآلات الوترية، وأي منها المعبر عن مشاعر الحزن والفرح والألم والغضب. الحوار يقيم علاقة إنسانية قوامها الاحترام المتبادل والالتزام بالقانون وبالقيم وإدراك الضرورة. العمل الجماعي يخلق الشعور الجمعي المطهر للروح. في هذا المناخ النظيف تجيش نفسية الطفل بالاعتراف للمنشدة الضريرة انه كان يسرقها ذات يوم حين كانت تستدعية وتطلب منه شراء حاجيات لها من السوق. أبدع المايسترو عملية " الارتحال بأوبرا القناديل من الوتر إلى الإيقاع والنفخ ، ارتحالاً من المنطوق الى المحسوس ، ومن الفكرة الى الشاعرية". اقترح المايسترو القيام برحلة جماعيىة للفريق الى شاطئ النهر، غرضها الترفيه، وكانت كسبا للموسيقى، إذ انطلق منها الفنانون لصنع آلات نفخية من أعواد القصب والخيزران ذات أصوات متميزة .
يستعمل الروائي مفاهيم الموسيقى من سلم وأدوات وعلامات موسيقية، ويميز مصادر الألحان من المادة التي تصنع منها الآلة. الأوبرا جهد جماعي يصلح اوضاع بيت الموسيقى من دمار الحريق، وعمل إبداعي يسوده الحوار والابتكارات الجماعية ، لكن الروائي يشتط في تصوير حميمية العلاقة بين الشعب المستلب على مدى أجيال وبين الموسيقى وتغذيتها الراجعة على العلاقات الاجتماعية . عنوان الفصل المتحدث عن انقلاب الظلاميين غير لائق "لا فرحت الرعنا ولا انبل شوقها"، فالثورة ليست رعونة ولا الثوار رعناء؛ الظلاميون ربائب النظام الأبوي نمت الصراصير البشرية في جحوره، ووجدت فرصتها بانحسار سلطوية النظام، ولم تكن النقيض للنظام.يتدخل الروائي بسخطه على نظم الاستبداد فيترك الزعيم بع خنقه على يدي مجهول طعما للصراصير. فالمسجون يطلون عليه كل يوم بالطعام ولا يترك كي يتعفن ويتحلل. كما لا يبلغنا الراوي، العارف حتى بالخاطر الأخير للمتوفى، كيف انحسر خطر القوى الظلامية حتى امكن تطوير الاستعدادات لتقديم أوبرا القناديل. هل تردع الظلاميين في توحشهم بضع أسر لاجئة ضربت مساكن لها حول دار الموسيقى؟



#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بخطايانا لا بقوة إسرائيل
- اغتيال صحفي .. الملابسات والدلالات
- نعيق الإرهاب مقدمة لحروب تنجز اهدافا مضمرة
- الليبرالية الجديدة نظام وهياكل وإيديولوجيا
- الأقصى صدع رأس السيد سامي الديب
- بوب وودوارد :الشرق الأوسط في مكائد المخابرات المركزية
- كيف تكافح إسرائيل التضامن مع قلسطين
- مظلات حماية للقرصنة غير واقية
- النظام الأبوي إ شكالية التخلف في المجتمع العربي- الحلقة الأخ ...
- النظام الأبوي إشكالية التخلف في المجتمع العربي-4
- تهدئة تحت سيف قانون يهودية الدولة؟!
- إشكالية التخلف في المجتمع العربي-3
- إشكالية التخلف في المجتمع العربي(2من4)
- إشكالية التخلف في المجتمع العربي(1من4)
- الفصل قبل الأخير من مسرحية الصراع على فلسطين
- صفقة القرن ثمرة الانحطاط السوقي للسياسات الأميركية
- الراحل برنارد لويس مثقف الحرب الباردة والليبرالية الجديدة و ...
- أعظم خطر يهدد البشرية -2
- أعظم خطر يهدد البشرية
- هي الفاشية عنصرية دموية مندمجة عضويا بالامبريالية


المزيد.....




- “اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش ...
- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...
- عارف حجاوي: الصحافة العربية ينقصها القارئ والفتح الإسلامي كا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد مضيه - ألقهر يحطم الروح والترياق في الفن