أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد القنديلي - تحولات الشعر العربي: قصيدة النثر: من مواجهة الفراغ إلى مواجهة السرطان















المزيد.....



تحولات الشعر العربي: قصيدة النثر: من مواجهة الفراغ إلى مواجهة السرطان


أحمد القنديلي

الحوار المتمدن-العدد: 5849 - 2018 / 4 / 18 - 19:22
المحور: الادب والفن
    


قصيدة النثر : من مواجهة الفراغ إلى مقاومة السرطان
أحمد القنديلي
إن المتأمل في حركات الشعر الحديث والمعاصر في العالم العربي ، لا يعدم أن يلاحظ خاصية وعيها الاستباقي، سواء بالكتابة أو التاريخ، أو بالذات أو الآخر. وسواء كان هذا الوعي" سلبيا" يحدس بالكوارث، أو "إيجابيا" يتنبأ بالآفاق الواعدة، فالمهم أنه لم يكن مجرد حس عابر وغائم. لقد كان وعيا يعبر عن حركية التاريخ الحديث والمعاصر، وعن صيرورة المجتمعات العربية بتناقضاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية المختلفة.
ليس صدفة أن تتزامن الأجواء التي تمت فيها ولادة قصيدة التفعيلة مع الأجواء العامة التي أحاطت بنكبة 1948. لقد نشرت نازك الملائكة قصيدة " الكوليرا " يوم 27/10/1947، وحاولت فيها تصوير مشاعرها " نحو مصر الشقيقة خلال وباء الكوليرا الذي داهمها " (1). وفي نفس السياق نشر بدر شاكر السياب قصيدته " هل كان حبا ؟ " ضمن ديوانه " أزهار ذابلة "، وعلق عليها في الحاشية بأنها من "الشعر المختلف الأوزان والقوافي. " (2)
ونعتقد أن الكوليرا التي تتحدث عنها نازك ليست هي ذلك الوباء الطبيعي الذي حل بمصر فقط، إنها الوباء التاريخي الذي حل بالبلدان العربية برمتها. ففي غمرة نضالات الشعوب العربية ضد الاستعمار وجدت حركات التحرر نفسها أمام تحد جديد لا طاقة لها على مواجهته، وأدركت بالعمق الكافي أنها تصارع بقوى اجتماعية متنابذة ومتنوعة المصالح صراعا لا متكافئا؛ لا سيما وأن القوة الاجتماعية القائدة كانت بورجوازية كولونيالية يمينية تطنب في هجاء المستعمر، ولكنها تجر في نهاية المطاف إلى التفاوض وإلى البحث عن أنصاف الحلول. ولهذا الاعتبار كان ميلاد الكيان الصهيوني ـ الذي ساهمت فيه الامبريالية الغربية بلا حدود ـ تعبيرا عن ميزان القوى التاريخي المختل. وكان ميلاد قصيدة التفعيلة تعبيرا عميقا عن رفض هذا الميزان المختل الذي سيدفع إلى كارثة تجر إلى كوارث تتجاوز السياسة إلى كل شيء.
وإذن، فإذا كانت فئة المثقفين الصاعدة هي من اقتنصت هذه التجربة الشعرية الجديدة، وحاولت التعبير بها عن ذاتها، وعن لحظتها التاريخية العصيبة، فإن تعبيرها كان في جزء كبير منه تشخيصا عنيفا لواقع ينجر إلى الخلف، سواء بواسطة البورجوازيات المحلية التي كانت قد امتلكت سلطة الدولة وبدأت تعي مصلحتها الطبقية، أو بواسطة الاستعمار الأجنبي الذي بنين الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للبلدان العربية في الاتجاه الذي يخدم مصالحه على المستوى البعيد، أو بواسطة الاحتلال الصهيوني الذي تم احتضانه إقليميا ودوليا لكي يشكل حاجزا أمام أي تحول تاريخي كمي أو نوعي في هذه المنطقة من العالم.
في ظل هذا التناقض المركب ولدت حركة "الشعر الحر" لتعبر بلغة شعرية جديدة عن هموم جديدة لفئات وطبقات اجتماعية جديدة ـ عمال، مثقفون، كادحون مختلفو الشرائح ـ أفرزها الواقع التاريخي الجديد للبلدان العربية.
غير أن نازك ـ التي تعتبر واحدة من مهندسي قصيدة التفعيلة ـ لم تكتف بالكتابة الشعرية، بل تجاوزتها إلى التنظير لها. فحين سعت في كتابها الشهير " قضايا الشعر المعاصر" إلى تأصيل حركة " الشعر الحر"، عمدت إلى البحث في جذورها الاجتماعية التي وجدتها في النزوع إلى الحقيقة الواقعية هروبا من النزعة الرومانسية، وفي البحث عن شكل فني مستقل وجديد يعبر عن حاجات العصر، وفي النفور من النموذج، وفي الهروب من الشكل الهندسي المتناظر، وفي العناية بالمضمون دون فرض شكل مسبق ومستبد عليه، يحول دون تبلوره (3). وإذا كان تحليل نازك هذا لا يخلو من عموميات، فإن أهم التفاتة وردت فيه هي تلك التي أشارت فيها إلى حالة الفراغ التي وجدت حركة " الشعر الحر" نفسها مطالبة بملئها. ولهذا اكتسبت شرعيتها التاريخية بصورة مذهلة رغم استمرار الرفض من قبل النقد السلفي بشتى تلاوينه. " إن الأفراد الذين يبدؤون حركات التجديد في الأمة، ويخلقون الأنماط الجديدة، إنما يفعلون ذلك تلبية لحاجة روحية تبهظ كيانهم وتناديهم إلى سد الفراغ الذي يحسونه. ولا ينشأ هذا الفراغ إلا من وقوع تصدع خطير في بعض جهات المجال الذي تعيش فيه الأمة " (4) . وهذا الإحساس بالفراغ هو ما استشعره بدر شاكر السياب نفسه كما يتضح من خلال قوله: " لم تكن الحاجة إلى الرمز وإلى الأسطورة أمس كما هي اليوم. فنحن نعيش في عالم لا شعر فيه، إنني أعني أن القيم التي تسوده لا شعرية. " (5)
وتجدر الإشارة هنا إلى أن ما قدمته قصيدة التفعيلة لم يشكل مجرد إضافة كمية إلى الشعر العربي. لقد خلخلت هذه القصيدة بنية القصيدة العربية جذريا، وكسرت نظامها الذي اكتسب ـ في ظل تصلب البنيات الاجتماعية والسياسية الإقطاعية المسيطرة عبر التاريخ ـ صفة القداسة، ونقلت المضمون من التعبير عن الآخر النموذجي سلبا / المهجو، وإيجابا / الممدوح، المتغزل به، المرثي. . .، أو عن الذات المتسامية إما بإحساسها المتفرد، أو ألمها الخاص، إلى التعبير عن الآخر في علاقته بالذات، أو الذات في علاقتها بالآخر. ولهذا السبب تحولت الأغراض الكلاسيكية والموضوعات الرومانسية إلى أطلال دارسة. وفضلا عن هذا غيرت قصيدة التفعيلة البناء الفني للقصيدة حين نقلته من الشكل الهندسي الصارم والجاهز سلفا إلى الشكل الكيميائي الذي يفرض على كل قصيدة بناءها الخاص وشكلها الفني المتميز.
إن هذه التغييرات النوعية ـ وغيرها ـ إنما حصلت بفضل عنصر شكلي في غاية البساطة وفي غاية الخطورة في ذات الوقت: يتعلق الأمر بالتفعيلة الحرة التي خربت الهندسة العروضية الخليلية، وفسحت المجال أمام قول شعري جديد شكلا ومضمونا ورؤية. غير أن هذا العنصر الشكلي البسيط والخطير في ذات الوقت، بقدر ما مكن الشاعر العربي الحديث من طاقة جديدة للتعبير الشعري، بقدر ما فرض حدودا لهذه الطاقة لا يتجاوزها. ولذلك لم يكن في وسع شاعر التفعيلة أن يستمر في التكلم دون أن يصمت ليعاود التكلم من جديد. صحيح أنه يتكلم ويصمت بحرية وفق ما تسوغه له حركة التفعيلة، ووفق ما يسمح به تكوَن كيمياء القصيدة على عكس شاعر القصيدة العمودية الذي كان يفرض عليه الكلام والصمت في مواقع محددة تقنَنها هندسة البيت القبْلية. غير أن شاعر التفعيلة بقي هو الآخر محاصرا بسلطة ما، يريد الخروج عليها ولا يستطيع. ولعل هذا ما انتبهت إليه نازك الملائكة حين عابت على شعراء قصيدة التفعيلة التشكيل الخماسي والتساعي للسطر الشعري على أساس ثقل وقعهما في السمع، وخروجهما على " قانون الأذن العربية "؟ (6) غير أنها وهي تعيب هذا التشكيل بعنف شديد، تكشف في ذات الوقت عن تناقض في غاية الأهمية " لقد نبه أكثر من أديب إلى أنني أنا نفسي أستعمل التشكيلات الخماسية في شعري، وقد أدهشني هذا فرجعت إلى قصائدي، فإذا الأمر صحيح. ومن ثم فإن الظاهر أنني مجزأة على جانبين: جانب مني ذهني يرفض كل تشكيلة خماسية رفضا كاملا، وجانب مني سمعي يتقبلها ولا يرى فيها ضيرا. أو لنقل إن الناقدة فيَ ترفض والشاعرة تقبل " (7).
ومن غير أن نجادل نازك في هذا التناقض، يكفي أن نشير إلى أن قصيدة التفعيلة ولدت وفي أحشائها مأزقها القاتل الذي سيفرض عليها الموت إن هي لم تتمكن من الوعي به، ومن تجاوزه. ولعل هذا ما أدركته قصيدة النثر العربية مبكرا وسعت إلى تخطيه.
صحيح أن التأريخ للتجربتين مستحيل إذا لم نأخذ بعين الاعتبار التناص الذي تم بين الشعر العربي والشعر الغربي، غير أن ما يعنينا في هذا التحليل إنما يتعلق باستقراء واقع شعري عربي حديث ومعاصر في علاقته بتربته التاريخية، وبتناقضاته الداخلية بعيدا عن علاقته بشعر الآخر، على أساس أن هذه العلاقة بديهية ومعروفة على أوسع نطاق، ومن واجب المؤرخين ودارسي الأدب المقارن تناولها بالتفصيل اللازم. وتجدر الإشارة هنا إلى أننا نقاسم أدونيس وجهة نظره حول هذه الإشكالية. فالحداثة العربية ذات مقومات خاصة بها " وفهمها وتقويمها لا يتمان في سياق الحداثة الفرنسية أو الإنجليزية ومعاييرها، بل في سياق الإبداعية العربية ومعايير اللغة الإبداعية العربية. " (8)
أن الفرضية الأساسية التي سيحاول بحثنا التحقق منها تتأسس على فكرة استمرار قصيدة التفعيلة الكمي والنوعي، وبمختلف تناقضاتها في قصيدة النثر. ولذلك لا نرى في السياقين الشعري والتاريخي العربيين مبررا لردود الأفعال من كل تجربة تجاه الأخرى. إن مجمل الشعراء الذين امتد بهم العمر وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام قصيدة النثر، وداخل هذه القصيدة استمروا يستعيدون بين الفينة والأخرى روح قصيدة التفعيلة.
وهذا معناه أن الأمر ـ في تصورنا ـ يتعلق بسيرورة شعرية واحدة بدأت بقصيدة التفعيلة، وتوجت بقصيدة النثر التي يبدو أنها مفتوحة الآن هي الأخرى ـ وقد راكمت ما راكمته من تجارب غنية، ومن مآزق بنيوية عميقة ـ على أفق لم تتضح معالمه بعد.
1 / قصيدة النثر العربية وسياق الولادة:
تعتبر " شعر" اللبنانية أول مجلة أنجبت قصيدة النثر العربية، سواء على المستوى التنظيري ـ كما يتضح من خلال محاضرة يوسف الخال في بيروت سنة 1956 (9) ـ أو من خلال تنظيرات أدونيس الكثيرة، أو من خلال النصوص الشعرية لعدد من الشعراء أمثال: يوسف الخال، وأدونيس، وإنسي الحاج وشوقي أبو شقرا، وفؤاد رفقة، وسعدي يوسف، ومحمد الماغوط، وعصام محفوظ، ونذير العظمة. . . أو من خلال عدد من النصوص النقدية لعدد كبير من النقاد والشعراء .
وهذا معناه أن المسافة الزمنية بين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة لا تتجاوز عقدا واحدا. ولعل هذا ما يفسر سرعة إيقاع التحولات الشعرية في العالم العربي منذ " النهضة " مع بداية المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر. وهي سرعة لا يمكن تفسيرها إلا بسرعة تحولات الواقع التاريخي للبلدان العربية التي كانت تبحث بصورة حثيثة عن أفق ترسو فيه معالم النهضة، والحداثة، والثورة، والتقدم. . . ولكن الصدى الرمزي لهذا البحث كان في غاية البعد عن الوعي الاجتماعي والتاريخي لمعظم الفئات والطبقات الاجتماعية التي كان من مصلحتها سماعه وتمثله والفعل بواسطته ومن خلاله. وكل ذلك إنما كان بسبب الكبوات التي خلفتها الاستقلالات الشكلية لمعظم البلدان العربية .
وعلى مستوى آخر ليس صدفة أن تتزامن ولادة قصيدة النثر مع العدوان الثلاثي على مصر. وهو العدوان الذي كشف هيستيريا الاستعمار الجديد حليف الاحتلال الصهيوني، وخوفه من أي تحول اجتماعي واعد. غير أنه كشف في ذات الوقت عن هشاشة الثورة المصرية التي على الرغم من " إنجازاتها الوطنية والاجتماعية ضاقت بالرأي الوطني الآخر منطلقة من أنها تملك الحق والحقيقة الوحيدة، فكان القمع والاعتقال والاستبداد " (10). وبالنظر إلى العدوان الثلاثي نلاحظ أن دلالته تتجاوز النطاق المصري الخاص إلى النطاق العربي العام وإلى النطاق العالمي الأعم. لقد كان هذا العدوان يستهدف كل روح يسارية تقدمية ممانعة تسعى إلى مواجهة الاستعمار ومقاومة آثاره المدمرة. وما استهدفه حققه على المدى المتوسط. لقد خلق حالة من الفوضى الفكرية والنفسية والاجتماعية شكلت خارطة الطريق نحو هزيمة 1967 التي خلخلت كل شيء.
في هذا السياق السرطاني ولدت قصيدة النثر العربية. ولعل هذا ما انتبه إليه الشاعر إنسي الحاج في مقدمة ديوانه " لن " حين أكد أننا " في زمن السرطان هنا وفي الداخل. " (11)
كيف يمكن لشاعر قصيدة النثرـ وهو المولود في زمن السرطان هنا وفي الداخل ـ أن يكتب دون أن يتسرطن جسديا وروحيا ، ودون أن يسرطن نصه الشعري لغة وإيقاعا ودلالة ؟ إن هذا السؤال هو ما سيحاول بحثنا تقصيه ضمن أسئلة أخرى كثيرة.
2 / قصيدة النثر العربية بين شعرية الإنشاد وشعرية الكتابة:
بصورة ما تأسست المدينة في المجتمعات العربية الحديثة. وعلى الرغم من مرور ما يقارب قرنا ـ القرن العشرون ـ من الزمان على هذا التأسيس، فلا زالت قوى المجتمع المدني والسياسي بمختلف أطيافها تبحث عن الشكل اللائق الذي يمكن أن تؤثث به هذه المدينة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وحقوقيا وثقافيا وجماليا. ولأن قصيدة النثر تأسست في فضاء هذه المدينة ـ التي كانت وما فتئت قيد التشكل ـ، فقد سعت بسرعة مذهلة إلى التنصل من الطابع الشفوي للقصيدة الشعرية. هكذا تحول الشاعر ـ في فضاء مخاضي شبه شفوي وشبه كتابي ـ من متكلم منشد يتوجه بالخطاب إلى مخاطب يقاسمه اللغة، والأفكار، والقيم، والأحاسيس. . . إلى كاتب أخرس يتوجه بالكتابة إلى قارئ أصم يقرأ ولا يسمع. لقد كان الشاعر العربي المتكلم منذ الجاهلية ينشد ليقول الجماعة (12)، وحين كان يقول جماعته كان يحيا أو يموت كما يمكن أن تحيا أو تموت. أما شاعر قصيدة النثر، فإنه وهو يكتب لا يقول إلا ذاته التي هي كل ذات شريطة أن تبقى ذاتا مفرَدة ومتشظية. فإذا كانت المدينة العربية الحديثة ذات الطابع الرأسمالي التبعي ـ الذي يتمازج فيه العرف الشفوي مع القانون المكتوب ـ قد فردنت الإنسان وشيأته بسرعة مذهلة، فإن شاعر قصيدة النثر المنبعث من قلب هذه المدينة الشوهاء سارع إلى تفتيت ذاته إلى حد التلاشي، وإلى فردنة متلقيه من خلال مخاطبة عينيه القارئتين دون أذنيه المصغيتين. وبقدر ما ابتعد هذا الشاعر مسافة عن كتابته، ابتعد عن أناه وعن متلقيه. إن الكتابة تأتي بالضبط حين " يتوقف الكلام، أي انطلاقا من اللحظة التي لم يعد ممكنا تبين من يتكلم، وحيث يعاين فقط أن الهو ( بفتح الواو ) شرع يتكلم. " (13)
غير أن هذا الوضع الانعزالي الذي فرض نفسه على هذه الذوات الثلاثة: الشاعر ـ الكتابة ـ القارئ، تجاوزها ليفرض نفسه على مرجع الكتابة ذاته. لقد أجبر شاعر قصيدة النثر على الانطلاق في كتابته ليس من الحدث كما يمكن أن يكون قد عاشه في العالم، والذي يتحول في النص الشعري إلى حدث لغوي متخيل، بل من هذا الحدث اللغوي المتخيل ـ داخل الذات المعزولة والمتشظية ـ الذي يتم تخييله بصورة مضاعفة لحظة الكتابة. فهل يمكن في هذه الحالة أن نعتبر عزل المدينة الحديثة للشاعر الحداثي عاملا حاسما في تذويته للأشياء وللعالم بصورة أصبح معها كل شيء غامضا ومجهولا وملغزا؟ وهل يمكن اعتبار هذا التذويت المتطرف استعادة قوية لرومانسية جديدة شرسة؟
هكذا اضطرت قصيدة النثر إلى ولوج عالم الغموض بحيث فقدت ضفافها المرجعية كلها، وابتعدت عن مختلف وظائفها، واكتفت بوظيفتها الشعرية التي ضخمتها إلى أبعد الحدود.
لنتأمل هذا النموذج الشعري:
البحرالثاني:
بحر بخنصره يشعّ الخاتم المسحور ( أربعة فصوص الخاتم المسحور )
فيه الرخ والعنقاء ( بيضهما جفان كالخوابي ) فيه أشجار فواكهها برأس الآدمي
تعلقت من شعرها، فإذا استوت سقطت، كأن سقوطها نضج ( وأنضجها قليل الجاذبية )
فيه أن نساءه ذكر وأنثى من لقاح الريح يحملن الأجنة بالتناوب، فيه أن لغاته
صوت يسمي أو يسمى: أن تخارس أو تلافظ زلزل الإيقاع ( بين الخلق والإبداع
عنقود تساؤل ) فيه أن النشأة الأولى بغير مشيمة تغري، وليس به سوى نصف الإطار. (14)
إن هذا النص الشعري لا يعبر باللغة، بل باللا لغة من حيث هي لغة خاصة بالشاعر الذي يعرف وحده مراجعها، ومن ثمة دلالاتها. وعلى الرغم من استعانة الشاعر بالأقواس الشارحة، فإن هذه الأقواس لم تعمل إلا على إبعاد المتلقي عن دائرة المعنى؛ ذلك لأنها لم تكشف له عن أي مرجع يمكن أن يساعده على تلمس ظلال ما يسعى الشاعر إلى قوله. وبالرجوع إلى محمد السرغيني الناقد يمكن فهم سر هذا الجنوح نحو هذا النوع من الكتابة. " لتجربة اللغة وضعان: وضع يتجاوز اللغة من اللغة، ووضع يتجاوز اللغة من اللا لغة. ذلك أن الاعتراف بقصور اللغة عن تأدية المعاني الوجدانية أدى أولا بالصوفية إلى البحث عن بديل وجدوه في الحرف، لذا أعطوه قيمة عددية ( أبجد ) وأخرى رمزية ( السيمياء )، وأدى ثانيا بالسرياليين إلى اكتشاف عالم ما فوق اللغة باستفادتهم من اللاوعي الفرويدي، وأدى ثالثا ببعض الشعراء إلى البحث عن لغة اللغة بالانسياق مع التجريد والغنائية العقلانية على حساب تغييب الأداة نظما وصرفا وبلاغة. . . " (15) فانطلاقا من هاجس التجاوز وجد شاعر قصيدة النثر نفسه مطالبا بخلق مسافة توتر بينه وبين ذاته، وبينه وبين لغته، وبينه وبين متلقيه. ولأنه يعي قصور لغته عن أداء المعنى، فقد وجد بديلا عن المعنى في دفع لغته ـ من حيث هي لا لغة ـ إلى قول ذاتها بصور متعددة لا تستطيع معها أن تجد ذاتها في أية صورة منها.
وبديهي هنا أن الشاعر كلما أبطل فاعلية فمه المتكلم، كلما وجد نفسه مضطرا إلى أن يستسلم للكتابة من حيث هي لغة توجد حيث لا يوجد صاحبها، وحيث لا يوجد المتلقي الذي يفترض أنها تتوجه إليه.
3 / قصيدة النثر العربية بين الوزن والإيقاع:
إذا كان العروض رصفا لسلاسل من التماثلات الصوتية " القابلة للقياس كميا " (16)، وإذا كانت هذه السلاسل تنسج جزءا هاما من موسيقى القصيدة الشعرية، فإن شكل توزيع هذه السلسلة من التماثلات هو الذي يحدد شكل حضور المكان بصورتيه / الملء والفراغ أو البياض والسواد داخل القصيدة.
ولهذا السبب يوجد المكان في القصيدة العمودية وجودا محددا. فما يشغله الكلام / السواد معلوم، وما يشغله الصمت / البياض معلوم أيضا وبصورة مسبقة، سواء من قبل الشاعر أو المتلقي اللذين فرضت عليهما المواضعات المتعارف عليها معايير مسبقة ومحددة شكلت عناصرها مع مرور الوقت ميثاقا للكتابة والقراءة معا.
ليس صدفة والحالة هذه أن تتأسس القصيدة العمودية على إيقاع الوضوح بعد أن تأسست على بلاغة الوضوح، وأن تضيق داخلها مساحة التأويل، سواء تعلق الأمر بتأويل الإيقاع أو التركيب أو الدلالة. لقد فرضت الكتابة ـ وفق نموذج محدد سلفا ووفق قواعد صارمة ـ على شاعر القصيدة العمودية أن ينتج قصيدة عمودية ليس من حيث هي نص يجسد تجربة خاصة، ويتوفر على بعض عناصر الاتساق التي تميزه إلى هذا الحد أو ذاك عن نص آخر، بل من حيث هي خطاب منسجم يتوفر على مجموعة من الخصائص النوعية التي توجد في النص العمودي المثال أو المعيار. وهذا معناه أن المنطق الذي حكم السيرورة التاريخية للقصيدة العمودية هو منطق التكرار على مختلف المستويات: غرضا ووزنا ولغة وبلاغة ودلالة. . . غير أن هذا لا يعني أن تاريخ القصيدة العمودية من امرئ القيس إلى ما قبل السياب تاريخ ميت أعاد نفسه بصورة نمطية ثابتة لا روح فيها. لقد أنجب تاريخ الشعر العربي القديم شعراء كبار لا يكادون يحصون. ويكمن السر في نظرنا في تلك العناصر المختلفة ضمن تلك العناصر المتشابهة في مختلف القصائد العمودية، والتي استغلها الشعراء إلى هذا الحد أو ذاك، فساهمت بهذا القدر أو ذاك في بناء شاعريتهم المتميزة.
غير أن العناصر المختلفة التي ساهمت بالقسط الأوفر في بناء شاعريتهم هي تلك المنسية التي تم توظيفها إما بصورة تلقائية، أو بصورة واعية، أو بصورة لا واعية تحت ضغط اللحظة الشعرية الآسرة. فإذا كان شاعر القصيدة العمودية يحرص وبكامل وعيه على الالتزام بمقتضيات مدونة البحر الشعري الذي يكتب قصيدته على منواله، فإنه وهو يكتب خاضعا لضوابط الوزن المعياري، يمارس فوضاه الخلاقة على المستوى الإيقاعي: فقد يبالغ في استعمال المد أو الجناس أو الطباق أو التكرار أو التوازي . . . وكل ذلك بحسب مقصديته، وبحسب مقتضيات سياق الكتابة ومقامها.
وهذا معناه أن القصائد العمودية بقدر ما تتشابه فيما بينها في الالتزام بضوابط الوزن من حيث هو " شكل من أشكال التكرار " (17) أو من حيث هو" مقياس ينظم الخصائص الصوتية في اللغة " (18)، بقدر ما يختلف بعضها عن بعض على المستوى الإيقاعي الذي كلما تم الاحتفال به كلما تحول معه الخطاب الشعري إلى " نص متميز تسهم كل عناصره في خاصيته الشعرية " (19) التي تكاد لا تضاهى.
وإذا كان هذا هو المنطق الذي حكم سيرورة القصيدة العمودية، فمن المؤكد أن الشعراء سيفقدون مع مرور الوقت إمكانيات التميز من خلال استغلال المستوى الإيقاعي الذي تبقى إمكانياته محدودة إذا ما استمر الشاعر خاضعا لمقتضيات الوزن المعياري. ذلك لأن الموسيقى ليست مجرد مكون خارجي من مكونات الكتابة الشعرية. إنها دم الكتابة ولحمها. إن الشاعر حين يشرع في كتابة قصيدته الشعرية لا يكتب باللغة، بل بإيقاع اللغة من حيث هو إيقاع جسده وحسه ووجدانه، ومن حيث هو إيقاع المضمون الذي يهتز في كيانه.
فما الذي فعله بدر شاكر السياب ونازك الملائكة حين دشنا قصيدة التفعيلة في الشعر العربي الحديث؟
" يكاد نقاد المرحلة أن يجمعوا على أن الشعر الجديد لم يلغ الوزن ولا القافية، وإنما أدخل عليهما تغييرا جوهريا مكنهما من تحقيق ما لم يكن الإطار القديم يسعف على تحقيقه" (20) فبمجيء التفعيلة الحرة انفسح مجال فسيح للكتابة شكلا ومضمونا ورؤية أمام الشعراء العرب لم يتح لهم من ذي قبل. ويرجع السر في نظرنا ليس إلى اكتشاف سحر إيقاع التفعيلة فحسب، بل إلى الشكل الجديد الذي أصبح يتوزع بواسطته المكان بسواده وبياضه في فضاء النص بسبب ذلك الاكتشاف. لقد لعبت عملية " تغييب القافية ذات الروي، أو تحويلها من مكانها في نهاية السطر دورا أساسيا في بلورة الدلالة. . وفي نقلها للإيحاءات والظلال النفسية المرتبطة بالجانب الدلالي في التركيب. " (21) غير أن هذه العملية لم تتح لشاعر التفعيلة أن يفسح المجال للفراغ / البياض كي يمارس حضوره داخل القصيدة بالشكل الذي يريد. لقد فرض الفراغ / البياض شكله المتنوع في رحاب القصيدة، ولكن الشاعر استمر في التحكم فيه. فإذا كان شاعر القصيدة العمودية يتحكم في الفراغ استنادا إلى سلطة البيت بشطريه، وببحره ورويه وقافيته، فإن شاعر التفعيلة استمر في التحكم في الفراغ استنادا إلى سلطة التفعيلة التي أضحت بانية السطر الشعري الذي وإن تحرر من معيارية الوزن وغدا " مرتبطا بالدفقة الشعورية للشاعر يطول بطولها وبقصر بقصرها " (22)، فإن حده كان غير قابل لا على مستوى الافتراض النظري، ولا على مستوى الإنجاز العملي لأن يكون لا متناهيا. وفي غياب هذه الإمكانية، بل وفي حضور سلطة تحريم تجاوز أربع تفعيلات كحد أقصى في كل سطر شعري بدعوى أنه " يبدو قبيح الوقع عسيرا على السمع " (23)، واجهت قصيدة التفعيلة أزمتها القاتلة وهي في بداية عنفوانها. إن شعراء التفعيلة ـ وخصوصا الأوائل منهم ـ وإن تمكنوا من خلخلة العروض الخليلي خلخلة نوعية بارتكازهم على النواة الأساسية فيه / التفعيلة، فإن الكثير من مصطلحات وآليات العروض الخليلي استمرت مترسبة في أذهانهم ووجدانهم وتجاربهم، وحالت بينهم وبين رؤية الكثير من الأشياء بصفاء وعمق. وعلى هذا الأساس يمكن القول على أن ولادة قصيدة التفعيلة كانت ولادة مكبوحة منذ البدء سواء من داخلها أو من الخارج التقليدي المحيط بها.
وحين انبثقت قصيدة النثر في زمن السرطان ـ كما رأينا مع إنسي الحاج ـ لم تلتفت إلى ما راكمته حركة الشعر الحر، كما كانت تسمى في البلاد العربية، ولا إلى الحركات التي سبقتها، بل اتجهت إلى حركة الشعر الحر في الغرب (24)، وبالخصوص في أمريكا وفرنسا وانكلترا. ومن الشعراء الغربيين الذين استهووا شعراءها: وولت ويتمان، بول إيلوار، ت. س إليوت، عزراباوند، سان جون بيرس. . . ومنذ البدء أصر روادها الأوائل ـ وعلى رأسهم يوسف الخال ـ على تعطيل " العامل الأساسي في التعبير الشعري وهو الوزن العروضي. " (25) وعلى الرغم من تعدد الصراعات النقدية والفكرية والسياسية بين رواد قصيدة النثر العربية والتي ركز عليها عدد كبير من النقاد، (26) فإننا نعتقد أن الصراع حول الوزن والإيقاع ـ بكامل حمولتهما الإبداعية والفكرية ـ كان العامل الأساسي الذي ساهم في تنويع مسارات شعراء هذه القصيدة خارج حركة شعرية وازنة بأفكارها ومشروعها وآليات عملها. ويمكن إرجاع السبب هنا إلى الأشكال المتباينة التي تفاعل بها الشعراء مع الواقع السرطاني الذي أنتجهم.
وعلى الرغم مما قام به أدونيس من جهود تنظيرية للتعريف بقصيدة النثر إسوة بما قامت به سوزان بيرنار في كتابها " قصيدة النثر: من بودلير إلى أيامنا " (27)، فإن شعراء قصيدة النثر انقسموا إلى قسمين:
أ ـ قسم وظف فاعلية الوزن لإضفاء طابع إيقاعي أقوى على قصيدة النثر. ومن أمثلة ذلك أدونيس كما في هذا النموذج:
( تفعيلة الرمل )
كل ماء وجه يافا
كل جرح وجه يافا
والملايين التي تصرخ: كلا وجه يافا
والدم النازف من خاصرة العالم يافا (28)
وسعدي يوسف كما في هذا المثال:
( تفعيلة المتدارك )
دندنة:
ربما
قد تكون الشجيرات تلك، انتهاء الشجر
ربما
وبما أن ما ينتهي ينتهي
مثل ماء السفر
مثل ما يمسح السجن ماء الصور
فلتقل للإوز المهاجر :
لمْ تطل المكث
حتى أردت السفر. (29)
ب ـ وقسم أبطل فاعلية الوزن من أجل إفساح المجال للعناية بالإيقاع من حيث هو موسيقى شخصية خاصة (30)، أو من حيث هو موسيقى نوعية لا تدرك بالأذن، بل تحدس بالباطن، وترى بالعين، وتستقرأ بالتحليل الذي يقف على مظاهر الإيقاع الصوتية ( التكرار، التوازي، الجناس. . .) والدلالية ( الطباق، الحذف، التقديم والتأخير. . . ) . ويبدو هنا أن هذا القسم العريض من شعراء قصيدة النثر العرب اقتفى أثر يوسف الخال الذي تحمس لتمرد أقطاب الشعر الحر الغربيين على القافية والوزن المنمط في الشعر الغربي. ففي بعض نصائح أدولف ريتي يقول مخاطبا شاعر قصيدة النثر: "ابحث عن إيقاعك في الأعماق الباطنية لروحك، ذلك لأن الإيقاع هو الحياة ذاتها، إنه المولود الجديد الذي سيعبر عن روحك، وسيقولها بحرية هازئا بالقافية الباذخة وبالقافية الناذرة، وبالعدد الهائل من المقاطع. " ( 31)
إن أدولف ريتي في خطابه هذا لا يثور ضد الوزن بإطلاق، بل ضد الوزن المنمط الذي تسًيده القافية، إذ بتدمير القافية لا يدمر الوزن من حيث هو كذلك بل يدمر الوزن المعياري الذي يفرض على الشاعر التحرك في مجال محدد لا يبرحه. وحين أكد هذا الناقد في نصيحته على الإيقاع الشخصي والخاص الذي ينبثق من روح الشاعر، أكد على الإيقاع الخاص للقصيدة الجديرة بالاعتبار. فالقصيدة الشعرية المتميزة هي التي يتشكل إيقاعها في أحشائها بصورة لا تضاهيها فيه قصيدة أخرى سواء اعتمدت الوزن أم لم تعتمده.
ويمكن أن نسوق هنا بعض الأمثلة لهذا القسم من الشعراء الذي يحفل بالإيقاع على حساب الوزن:
أ ـ " كنت لدى رحلة إلى بلجيكا ، أتأمل في متحف سر لوحة الرامراندت. وكان معي جاري الياباني في الفندق الذي حللت فيه ( جاري الذي عندما سأغادر سيهديني قطعة من عملة بلاده في مظروف منمنم خيط من حواشيه قال إن خطيبته نفسها خاطته للهدايا التي يقدمها خارج الوطن. . )كنت أتأمل، إذن، اللوحة، وكان أحد شخوصها مفتر الفم عن ابتسامة. " (32)
ب ـ " من الدخان العذر أكبر من الزلة. منه لونه الأصفر والدلالة الشمطاء والكرادلة.
( فسيفساء الصدق والكذب والحلفاء والخوص ) ومهما ثقل الميزان أو خف كانت الصدفة والتفسخ الصامت والفجاجة اليومية. " (33)
ففي النموذج الأول يستعين الشاعر كاظم جهاد بالسرد الحميمي وكأنه "شر لا بد منه" (34)، وذلك لإضفاء طابع درامي على قصيدته يمكنه من تجاوز الوزن إلى الإيقاع الذي تجسد في التوازي الدلالي بين تأمل سر لوحة الرامبراندت، وتأمل سر هدية الصديق الياباني. وبين تأمل ابتسامة أحد شخوص اللوحة، وتأمل ابتسامة الصديق الياباني وهو يقدم هديته. وبين إقامة الشاعر في الفندق، وزيارته للمتحف. وبين حكي الشاعر لمتنه الحكائي، وحكيه لحاشيته الحكائية اللذين شكلا معا المبنى الحكائي العام للنص.
وفي النموذج الثاني يستعين الشاعر محمد السرغيني بالمعجم اليومي المشبع بالطباق (العذر/ الزلة، الصدق / الكذب، ثقل / خف)، وبالتركيب الذي يعطف فيه المختلف على المختلف: اللون الأصفر والدلالة الشمطاء والكرادلة، الصدفة والتفسخ الصامت والفجاجة اليومية. . . وذلك من أجل تجاوز الوزن إلى الإيقاع.
وخلاصتنا هنا أنه إذا كان "للغة نوع من العقل الكامن الذي هو أسمى من عقول من يستخدمونها" كما يقول هيغل (35)، فإن للغة الشعرية نوعا من الإيقاع الكامن الذي هو أسمى من الوزن أوالإيقاع الذي يمكن أن يختاره الشاعر لقصيدته. ذلك لأن القصيدة الشعرية ما أن تشرع في التشكل حتى تختار إيقاعها الخاص بصورة يعجز الشاعر نفسه عن البرهنة عليها.
وجوهر المسألة هنا أن يكون"الإيقاع شديد الالتحام بالبناء التركيبي والدلالي لا سابقا ولا لاحقا عليه" (36). وهنا بالضبط تكمن معضلة الكتابة الشعرية أيا كان زمنها أو مكانها.
4 / قصيدة النثر العربية والصفاء اللغوي:
كرست الشعرية الكلاسيكية تصورا نخبويا للغة الشعرية يميز بصرامة بين لغة الشعر ولغة النثر، وبين لغة القاموس ولغة الحياة اليومية." فإذا كان المعنى شريفا واللفظ بليغا، وكان صحيح الطبع، بعيدا عن الاستكراه، ومنزها عن الاختلال، مصونا عن التكلف صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة." (37) ولأن نظرية الأغراض الشعرية الكلاسيكية تربط ربطا صميميا بين الخطاب وسياقه " لكل مقام مقال"، فإن الشعر الكلاسيكي إما أن يكتب لتمجيد " الصفوة " أو لتسفيه " الرعاع". فالأخس للأخس والأخص للأخص كما يقول المرزوقي . وإذا كانت اللغة الشعرية الكلاسيكية تحرص على أن تكون منتقاة بعناية من لغة السلف من أجل ضمان استمرارية الماضي في الحاضر والمستقبل؛ فلكي تحافظ على صفائها حرصت الشعرية العربية الكلاسيكية على تمييز لغة الشعر عن لغات مجموع الأجناس الأدبية الأخرى. فالشعر نوع قائم بذاته يرتفع في الوعي النقدي الكلاسيكي إلى درجة القداسة. وتبعا لذلك لا يمكن أن يتناص مع أي نوع أدبي آخر.
ومنذ أن ولدت الرومانسية ـ من حيث هي فاتحة التجارب الحداثية بمختلف شكولها ـ شرع الشعراء في خلخلة هذه الأسس. غير أن قصيدة النثر اتخذت منحى أكثر حدة حين اعتبرت كل مفردة ـ أيا كانت طبيعتها ـ شعرية بالقوة، وحين دمرت الحدود الفاصلة بين الأنواع الأدبية. " إن تخلي قصيدة النثر عن الصفاء اللغوي، والنزول إلى القبيح تارة، والتداولي تارة أخرى، قد صاحبه نوع من هدم المكونات الصياغية لحساب الجمالية." (38) هكذا انفتحت قصيدة النثر على مختلف اللغات. فبقدر ما استندت إلى المعجم الفصيح اتكأت على المعجم الدارج، وبقدر ما أوغلت في الإيحاء اعتمدت المباشرة، وبقدر ما اعتمدت الوصف اعتمدت السرد تارة والتشخيص الدرامي تارة أخرى.
يقول الشاعر عبد الله راجع:
" قلت أعطوني لغة الطين أكن حجرا ينطق بالوحي
تكلمت فلم أشف غليل ذوي القربى
وصرخت ألا هبي، فإذا الألفاظ تغادرني من تحت،
وإذا بعروض آخر يطلع من فتحة أنفي قال : اقرأ،
قلت: امنحني لغة قابلة للإنجاب أكن صوتك، قال
اشهد أني سويتك من نطفة ريح فضعفت، وعلمتك
أسمائي فسكت، قلت: احترقت شفتاي" (39)
في هذا النموذج الشعري ينفتح الشاعر على أسلوبي الرواية والمسرح. وعوض أن يصوغ المضمون الشعري بلغته الشعرية الخاصة، يحكيه ويمشهده كي يصوغه في قالب درامي مكثف ينقل الفكرة بعنفها الذي لا يملك المتلقي إلا أن ينخرط فيه بعنفه هو الآخر. ويتجسد هذا العنف في اللغة "غير المهذبة" التي تم انتقاؤها من المعيش اليومي: " لغة الطين، الألفاظ تغادرني من تحت، يطلع من فتحة أنفي. . . "، وفي اللغة الدينية المحورة: أكن حجرا ينطق بالوحي، قال: اقرأ، قال: اشهد أني سويتك من نطفة ريح، علمتك أسمائي. . ." ومن اللغة الجاهلية المعجونة بمعجم جنسي شرس: وصرخت ألا هبي، فإذا الألفاظ تغادرني من تحت، امنحني لغة قابلة للإنجاب، سويتك من نطفة ريح..."
وفي سياق مماثل يعتمد الشاعر سليم بركات لغة شعرية موغلة في الوحشية. يقول:
" وأنت أيتها الغيوم ذوات العكاكيز البحرية، يا فضة
الرحم ، فليكن مجيئك مجيء تيه إلى تيه. وأهتف:
أجرأ فليكن الرماد، طليقا كشهيق منفاخ الكور،
ورئته الخطى التي لا تعود: " أجرأ أجرأ كن أيها الرماد
خاويا دمثا في الخواء، وافتح صناديق حليك للنهب: ألا
لا يرجعنْ أحد دون نهب، ألا لا يرجعنْ أحد " (40)
فاعتمادا على الوصف الغرائبي: " الغيوم ذات العكاكيز مثلا "، أو على لغة التناقض يهندس سليم بركات لغته الشعرية المنحازة إلى التجريد. فما أن يتهيأ القارئ لاستقبال الغيوم / فضة الرحم من أجل أن يرى الحياة الجديدة وهي تتكون فيه ومن حوله، حتى يجره الشاعر جرا إلى عالم الخراب: " تيه التيه،الرماد، شهيق منفاخ الكور، الخواء، النهب. . ." اعتمادا على لغة مشهدية عنيفة عاصفة تشخص الدمار وهو يتم أمام العين التي تهتف وتهلل له: " أجرأ أجرأ كن أيها لرماد. . . ألا لا يرجعن أحد دون نهب، ألا لا يرجعن أحد. . ."
ومن أجل أن يقدم الشاعر عالمه في غاية التركيب والتعقيد والتجريد، اعتمد الأسلوب الدرامي في التعبير حين حول صوته المفرد إلى أصوات متعددة لا تنطق إلا بالدمار. لقد تكلم الشاعر في الجملة الأولى " وأنت أيتها الغيوم " ولكنه ما لبث أن فسح المجال لصوته الثاني كي يتكلم "وأهتف " ثم ما لبث أن فسح المجال لصوته الثالث الأكثر عنفا وصخبا " أجرأ أجرأ كن أيها الرماد " ثم ما لبث أن فسح المجال للرماد كي يهتف " ألا لا يرجعن أحد دون نهب ألا لا يرجعن احد ".
وفي جميع هذه الأحوال بالغ الشاعر في استعمال التكرار الذي أضفى طابع إيقاعيا صاخبا على النص: " فليكن / فليكن، كن / كن، أجرأ / أجرأ، ألا لا يرجعن / ألا لا يرجعن. . .
وفي سياق مماثل يقول الشاعر محمد عفيفي مطر:
Ave Mary
ومريم كانت اتكأت تهز النخل لا رطب ولا نجم
سوى الفولاذ منصهرا يئز يؤج يهطل
والدخان معارج الموتى وقافلة الحجيج
صوت المؤذن من رفات العامرية طالع متوضئ
باللحم والدم وانصهار الرمل والفولاذ بالموتى
وأنت تخب في عار النجاة تقلب الكفين من مقهى إلى مقهى
ومن عار الحداثيين في لغو القراءات الدنيئة والضمير المسترقً
من المهارشة الخصية
ومن مصارعة الديوك على بقايا الغائط النفطي والتنوير في ظل البغال (41)
في هذا النموذج الشعري يحكي الشاعر حدث ملجأ العامرية الذي هاجمه الجيش الأمريكي الغازي قرب بغداد وقتل مئات المدنيين ممن كانوا يحتمون داخله، من بينهم أربعمائة طفل عراقي دفعة واحدة في ما يسمى بحرب الخليج. غير أن الشاعر، وهو يحكي، لا يحكي؛ لأنه لا يقدم أية تفاصيل. وحدها لفظة " العامرية " تشي بتفاصيلها الخاصة خارج النص أي داخل المرجع التاريخي الذي يمكن البحث عنه. ولكن الشاعر، وهو يمتنع عن البوح، يتكلم بلغته الشعرية الخاصة التي يمزج فيها بين الخطاب الديني والخطاب السياسي، وبين الخطاب الذاتي والخطاب الميتاشعري، وبين هجاء الذات وهجاء الأعداء. . . وما كان لهذا المزج أن يتم بهذه الصورة لو لم يعمل الشاعر على تحوير الخطابات السالفة الذكر اعتمادا على معجم الألفاظ البشعة " متوضئ باللحم والدم، المهارشة الخصية، الغائط النفطي . . ." الذي وسم النص بعنف شرس يحاول رسم صورة تقريبية لذات تشوى شيّاً بسبب ما تعانيه / السجن، وبسبب ما يحيط بها من كوارث مدمرة.
5 / قصيدة النثر العربية وتأجيل الدلالة:
لكي يتمكن النص الشعري من تحيين ذاته لحظة القراءة لابد أن يحيل من خلال علامة من علاماته على محال عليه، يمكن أن يكون مؤشرا على مقام ما يساعد على تمثل دلالاته. غير أن العلامة التي يمكن أن تحيل على مرجعها، عادة ما تعاني داخل الخطاب الشعري من قصور بيّن، ذلك لأنها عادة ما ترد ملفوفة بالاستعارة التي تعضّد إبهامها.
وهذا معناه أن العلامة ما أن تتحول من علامة لغوية إلى علامة شعرية حتى " تسلم أمرها لمتاهتها الأصلية " كما يقول جاك داريدا (42)، غير أن هذه العلامة لا تكتفي بتيهها الخاص في متاهتها الخاصة، بل تدفع مجمل العلامات المتعالقة معها إلى التيه في رحاب النص الشعري الذي يتحول في نهاية المطاف إلى متاهة كبرى تجعل القارئ السيميائي شاردا يبحث عن دلالة لا توجد في النص بل في ما وراءه.
وترجع هذه الخاصية البنيوية للعلامة الشعرية إلى كون اللغة الشعرية الحداثية التي تتأسس على بلاغة الغموض لا تترجم فكرا قبليا، بل تساهم في "ولادة معنى لا يمكن أن يوجد في مكان آخر" (43).
فلمَ تبتعد قصيدة النثر إلى هذا الحد عن مرجعها الواقعي؟ ولم ترجئ دلالتها باستمرار؟ ألا يمكن أن يؤدي تأجيل الدلالة إلى افتقادها؟ وإذا افتقدت قصيدة النثر دلالتها، هل يمكن أن تستمر في الوجود من حيث هي قصيدة؟ وهل تستمر بالتالي لغة كما يرى جون كوهن (44)؟
إن تأجيل قصيدة النثر للدلالة يرجع إلى تغييبها للموضوع المحدد الذي يمكن أن يوحي به الواقع للشاعر، سواء كان هذا الواقع خارجيا أو داخليا. ذلك لأن " تسمية الموضوع تحطيم لثلاثة أرباع الاستمتاع بالقصيدة " كما يقول مالا رمي (45). و هذا معناه أن الشاعر الحداثي يواري موضوعه لأنه لا يحاكي الواقع، بل الواقع المتخيل بلغة متخيلة تخيل هذا الواقع المتخيل. وهذا ما يجعل متخيله لا واقعا، أو على الأقل واقعا آخر خاصا لا يعرفه أحد غيره. بل إن هذا الشاعر نفسه ـ من فرط اغتراب لحظته الشعرية، وتعقد آليات كتابته الشعرية ـ غالبا ما ينسى المناسبة التي أنتجت قصيدته حتى ولو كانت هذه المناسبة حميمية وشديدة الالتصاق بكينونته الخاصة.
لقد أصبح الشاعر الحداثي مهووسا بالحالات التي تنتابه قبيل وأثناء الكتابة. وبما أن هذه الحالات تتغير بسرعة مطردة، وبما أن وقت الكتابة قد يتمدد في لحظات متناثرة، فقد أمسى عالم القصيدة مجردا لانفصال الشاعر الحداثي عن ذاته وعن الواقع من حوله، ومكثفا لخوف هذا الشاعر من هروب اللحظة الشعرية التي قدر لها أن تطاوعه، أو قدر له أن يصطادها، ومشتتا لاعتماد هذا الشاعر لغة متشظية تعبر عن حالات متشظية في لحظات متشظية، وفي عالم لا يقين فيه ولا ثبات. ولعل هذا ما جعل الشاعر الحداثي ينفر من النص المملوء بحثا عن نص يغزوه البياض بصورة تكاد تكون مرعبة، لا سيما وأن " عدم الاحتفال بالفراغ سقوط في الكتابة المملوءة التي لا تترك مجالا لممارسة حدود الرغبة. " (46)
لقد اعتمد شاعر الحداثة العربي تأجيل الدلالة مبدأ من مبادئ كتابته الشعرية، وذلك تعبيرا منه عن واقع السرطان الذي انبثقت منه تجربته الشعرية كما رأينا سلفا. وباستقراء نماذج من نصوص المتن الشعري الحداثي يمكن استكشاف بعض الآليات التي تعتمدها قصيدة النثر العربية في عملية تأجيل الدلالة.
يقول الشاعر سليم بركات:
ابتهال، فليكن،
فأنا المساء
أنا المساء
أطبقت أهدابي على حلم،
وسرحت العذوبة والرماد
وفتحت أهدابي على حلم،
وها كفاي تلتقطان من شرر الهباء
شررا، وتطبق بالدماء على الدماء. (47)
يلعب الشاعر بأسلوب التكرار، وبأسلوب الطباق الشيء الذي يضطره اضطرارا إلى ممارسة الإطناب الذي يضفي على المعنى معنى آخر دون أن يشعر المتلقي بالزيادة في الكلام. وما كان لهذا الإطناب أن يفرض جماليته الشعرية لولا اهتمام الشاعر بالوزن (متفاعلن)، وبالإيقاع. وعلى الرغم من حضور الإطناب الذي يفترض احتواؤه على معنى إضافي مصاحب للمعنى الأصلي المراد تبليغه للمتلقي، فإن الشاعر تكلم دون أن يتكلم. لقد أجل الدلالة تاركا الفضاء فسيحا لتأويل المتلقي. لقد أطبق أهدابه وفتحها على حلم، وفي الحالتين لم يطبق إلاعلى الرماد بالهباء، وعلى الهباء بالرماد: أي على الدماء بالدماء. لقد سعى الشاعر إلى تشخيص حلمه المأساوي بلغة تشير أكثر مما تقول. وعلى الرغم من هيمنة ضمير المتكلم، فإن الشاعر لا يتحدث عن ذاته الخاصة، بل عن ذاته الجماعية التي تختزلها لفظة الدماء. فمن السطر الأول إلى السطر الأخير لم يكن الشاعر يتكلم، لقد كان يحترق، وكان لحمه ينسلخ انسلاخا، وفي عمليتي الاحتراق والانسلاخ كان اللحم المنسلخ يطبق على اللحم المنسلخ. فأي سرطان يعبر عنه الشاعر سليم بركات؟
ويقول الشاعر محمد بنيس:
ربما
ربما
بانتقال الأصابع بين السياج وبين الهواء
أدوّن بصمة كل غياب
ربما
ربما
بانتهاء المعابر في لحظة
باختراق المزار
أعاود خط الرمال وأتبعها
من جهات المساء. (48)
يتكلم النص بلغة غير يقينية تحتمل إمكان أو عدم إمكان وجود الفكرة المراد قولها. إن الدلالة التي يسعى الشاعر إلى نقلها إلى المتلقي مؤجلة لديه. وحين شرع في الكتابة شرع في البحث عنها وفي استعارة تجربة ما للتعبير عنها. وحيث إن جوهر التجربة الشعرية هو المأساة، فقد تمكن الشاعر من استيحاء تجربة الاعتقال تاركا مسافة متوترة بينه وبين الاطمئنان الذي يمكن أن يذيب النفَس المأساوي في نفسه، وفي نفس المتلقي، وفي جسد الخطاب. وبهذه العملية تمكن الشاعر من إنتاج نص المتعة، ذلك النص الذي " يضعنا في حالة ضياع " على حد تعبير رولان بارت. (49)
إن العلامة / المفتاح التي تضيء دلالة هذا النص هي الغياب. وكل العلامات الأخرى ( الأصابع، السياج، المعابر، المزار، الرمال، المساء. . . ) " ملحقات " ترمم شتات المعنى، وتؤشر على الدلالة المؤجلة. إن مجمل العلامات تومئ إلى الإمكان المتمنى، لكنه إمكان مستحيل يبقي على الشاعر خلف السياج بعيدا عن الهواء، وراء المعابر وداخل المساء الممتد إلى ما لا نهاية.
ويقول سيف الرحبي:
أمشي، أحس أن تحت قدمي
سماء تضطرب بكامل ضحاياها
وفوق رأسي أرض توقفت عن الدوران
أسمع رعد خطوات ورائي
خطوات أشخاص قادمين
من الماضي
صامتين كأنما على رؤوسهم
الطير
أيها الماضي تراجع قليلا
كي نكمل نزهة اليوم. (50)
يتكلم الشاعر بلغة الحديث اليومي، وعلى الرغم من استعماله لصيغة المضارع، فإنه يحكي لينتج متواليات سردية تحتوي معاني أولى تتضمن معاني ثانية مؤجلة تفرض على المتلقي أن يؤولها. تقيم الدلالة المؤجلة في الأسلوب العجائبي المعتمد الذي قدم الشاعر من خلاله لغة مقلوبة تصور عالما مقلوبا " تحت قدمي سماء ، فوق راسي أرض "، وغريبا كل شيء فيه ممكن " أسمع خطوات. . أشخاص قادمين من الماضي. . " غير أن المقلوب في واقع المر هو الشاعر الذي افتقد البوصلة، فافتقد الاطمئنان، وبدا غير قادر على الاستمرار ما دام الماضي يأسره ويقلب رؤيته للعالم، ويحول بينه وبين أن يكون كما يريد، وكما يجب أن يكون.
إن المتوالية التي نحتها الشاعر في هذا النص بنية متموجة حسب تعبير رولان بارت لم تبن " موضوعا منطقيا، بل توقعا " (51) يتضمن دلالة مؤجلة تكتفي برسم أفق للدلالة، كلما تم إدراكه تم إدراك أفق آخر على نحو يكاد يكون لا متناهيا كما يرى هوسرل.
ويقول الشاعر المهدي أخريف:
لنخثر المعنى
المبعثر بين حاشية
السطور
لندوخ المعنى
وحاشية السطور
بشرارة بلقاء. (52)
قبيل لحظة الكتابة لم يكن الشاعر يمتلك هيولى دلالة القصيدة، ولحظة الكتابة لم يتمكن الشاعر من اعتقال دلالتها. وبعد لحظة الكتابة خرج الشاعر من عالم قصيدته تاركا الدلالة مؤجلة. إن لام الأمر ـ التي تتوجه بالخطاب إلى كل من الشاعر والمتلقي ـ فاقدة لشرطي الإلزام والاستعلاء، تبحث عن مبتغى استمر مستحيلا إلى نهاية النص. فالمعنى لم يتخثر ولم يدخ؛ لأنه غير موجود. وهو غير موجود لا لأنه كذلك، بل لأن الشاعر من فرط اشتغاله على المعاني، ومن فرط تمثله لها، وهي ملقاة في الطرقات وعلى جنباتها، يعاني من نزيف المعنى ويسعى إلى التخلص منه، أو إلى إحراقه بشرارة بلقاء دائمة الاشتعال...
وتجدر الإشارة هنا إلى أن قصيدة النثر تؤجل دلالتها من خلال اعتماد عدة أساليب، منها أسلوب التشظي الذي لا يتجسد في غياب الموضوع المحدد فحسب، بل أيضا في تمزيق الشاعر للسطر الشعري، وللكلمة، وللوزن والإيقاع، ولعلامات الترقيم. . . وكل ذلك بحثا عن دلالة ناقصة تعاني من النزيف الحاد والمستمر. وتعتبر هذه الخاصية واحدة من أهم سماتها الجمالية.
خاتمة:
إن قصيدة النثر العربية إفراز لواقع السرطان العربي الذي أفرزته نكبة فلسطين، وأعقب العدوان الثلاثي عام 1956 وانفتح بصورة مباشرة على هزيمة 1967 التي قلبت كل شيء في تاريخ الشعوب العربية.
ولأن شعراء قصيدة النثر تفاعلوا بصورة متوترة مع هذا الواقع، فقد سرطنوا قصائدهم الشعرية بصورة مرعبة؛ الشيء الذي حولها إلى كيمياء شعرية تنفر من كل قاعدة جاهزة يمكن أن تحول بينها وبين القول الشعري المبتغى. غير أن الشعراء الذين ساهموا في إرساء " قواعدها " وفي شرعنة وجودها ـ كما تبدى لنا من خلال استقرائنا لها ـ هم الذين استعانوا على الإيقاع بالوزن، وعلى اللا معنى بالمعنى، وعلى الوصف بالسرد، وعلى اللغة الشعرية بميتا اللغة الشعرية، وعلى الجميل بالقبيح، وعلى الانسجام بالتنافر، وعلى السواد بالبياض، وعلى الصوت بالخط، وعلى المشخص بالمجرد، وعلى الغنائي بالدرامي. . .
لقد جاء الشاعر ليقول شيئا ما لهذا العالم (53). وهذا الشيء خاص به لا يشبه شيئا آخر لشاعر آخر. وهو شيء ثمين لأنه يبدع إبداعا، ذلك لأن " الشعر لغة يبدعها الشاعر لأجل أن يقول شيئا ما لا يمكن قوله بشكل آخر." (54) أما الشعراء الذين انزاحوا عن هذا التوليف الخلاق والذين غالبا ما تجدهم ضعيفي الارتباط باللحظة التاريخية السرطانية التي أخرجتهم إلى الوجود، فقد أنتجوا شعرا آخر اندمج في التفاصيل الذاتية، وأمعن في سرد اليومي ، وغاص في النثر وابتعد عن المعنى، وافتقد بالتالي القدرة على ممارسة الحضور، وعلى الاكتواء بشرر الحالة الشعرية المزلزلة، خالقة الحدوس الكبرى، وصانعة الجملة الشعرية الآسرة ، والاستعارة البكر التي تنحت أسطورة الشعر وأسطورة الشاعر .


الهوامش:
(1) نازك الملائكة: قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين، ط: 5 سنة 1978، ص: 35
(2) المرجع السابق. ص: 36.
(3) المرجع السابق، راجع الصفحات: 54 ـ 66.
(4) المرجع السابق، ص: 54 ـ 55.
(5)عن مقال " على هامش الأسطورة الإغريقية في شعر السياب " مجلة "فصول"، المجلد الرابع، العدد الرابع، الجزء الثاني، سنة: 1989 ص:38.
(6) المرجع السابق، ص: 124.
(7) المرجع السابق، ص: 127 .
(8) أدونيس: الشعري العربية، دار الآداب، بيروت، ط: 2 سنة 1989، ص: 111 .
(9) حسن مخافي: القصيدة الرؤيا: دراسة في التنظير الشعري، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط: 1 سنة 2003، ص: 141.
(10) حلمي سالم: حركة الشعر الحديث: النشأة، مقال ضمن كتاب: الشعر العربي الحديث: أعمال الندوة الرئيسية لمهرجان القرين الثقافي الثاني عشر، سلسلة عالم المعرفة، سبتمبر 2009، ص: 18.
(11) خالدة سعيد: حركية الإبداع، دار العودة، بيروت، ط 1، سنة 1979، ص: 66.
(12) أدونيس: الشعرية العربية، م . س، ص: 6.
(13) رولان بارت: التحليل النصي، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة / المغرب، يناير 2001 ، ص: 116.
(14) محمد السرغيني: ديوان " بحار جبل قاف " نشر أفريقيا الشرق، البيضاء/ المغرب سنة 1991، ص: 25.
(15) محمد السرغينس: الشعر والتجربة: مجلة الوحدة، ع : 82 / 83 يوليو / أغسطس، سنة 1991، ص: 133.
(16) جون كوهن: بنية اللغة الشعرية، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، سنة 1986، ص: 92.
(17) المرجع السابق، ص: 48.
(18) رينيه ويليك و أوستن وارين: نظرية الأدب، ترجمة محيي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، دمشق، سنة 1972، ص: 225.
(19) توماتشوفسكي: مقال ضمن كتاب " نصوص الشكلانيين الروس "، ترجمة إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين / البيضاء ومؤسسة الأبحاث العربية / بيروت، سنة 1988، ص: 25.
(20) أحمد المعداوي: أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث، منشورات دار الآفاق الجديدة / المغرب، ط 1، سنة 1995، ص: 25.
(21) عبد الله راجع: القصيدة المغربية: بنية الشهادة والاستشهاد، منشورات عيون، الجزء الأول، سنة 1987، ص: 147.
(22) أحمد المعداوي: المرجع السابق، ص: 24.
(23) نازك الملائكة: المرجع السابق، ص: 123 ـ 127.
(24) انظر في هذا الصدد توضيح جبرا إبراهيم جبرا لهذا الموضوع في كتابه " الرحلة الثامنة "، ط 2، سنة 1979، ص: 7 وما بعدها.
(25) صلاح فضل: أساليب الشعرية العربية المعاصرة. هيئة قصور الثقافة، القاهرة سنة 1996، ص: 433.
(26) حسن مخافي، م . س، ص: 19 ـ 31 ـ 149 ـ 152. . .
(27)Suzanne Bernard : Le poème en prose de Baudelaire jusqu’à nos jours Librairie Mezet Paris 1959.
(28) أدونيس: مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف. مجلة " مواقف " ع: 11 السنة الثانية 1970، ص: 100.
(29) سعدي يوسف:عشر قصائد. مجلة " الكرمل "، ع: 31، سنة 1989، ص: 86.
(30) أدونيس: في قصيدة النثر، مجلة " شعر " ع: 14، السنة الرابعة، ربيع 1960، ص : 80
(31) Introduction à l’ analyse du poème . Gérard Desson . éd. Bordas. Paris 1991. p : 23.
(32) كاظم جهاد: أغاني جنون الكائن ( فصل آخر )، مجلة الكرمل، ع: 31 ، سنة: 1989، ص: 95.
(33) محمد السرغيني: الغائب في غيابه، من ديوان " ويكون إحراق أسمائه الآتية " منشورات عيون، المحمدية / المغرب، ط 1، سنة 1987، ص: 45.
(34) عبد الفتاح كيليطو: الحكاية والتأويل: دراسات في السرد العربي. دار توبقال للنشر، ط 1، سنة 1988، ص: 37.
(35) بيرتراند رسل: حكمة الغرب، سلسلة عالم المعرفة، ع: 365 يوليو 2009، ص: 162.
(36) محمد عبد المطلب: تحولات اللغة الشعرية الجديدة. مقال ضمن كتاب " الشعر العربي: أعمال الندوة الرئيسية لمهرجان القرين الثقافي الثاني عشر ( دولة الكويت ) الجزء الأول، منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. ص: 101.
(37) الجاحظ: البيان والتبيين. دار الكتب العلمية، بيروت بدون تاريخ، الجزء الأول، ص: 47
(38) محمد عبد المطلب: تحولات اللغة الشعرية الجديدة. م . س، ص: 110.
(39) عبد الله راجع : مرثية الزنج، قصيدة ضمن ديوان " سلاما وليشربوا البحار " مطبعة الأندلس / المغرب، ط 1 سنة 1981 ص: 91 ـ 92.
(40) سليم بركات: ديوان " الجمهرات " دار ابن رشد، ط 1، بيروت، سنة 1979، ص: 73.
(41) محمد عفيفي مطر: ديوان " احتفاليات المومياء المتوحشة. سينا للنشر ط 1 سنة 1994 مصر، ص: 46 ـ 47.
(42) أمبيرطو أيكو: التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، بيروت سنة 2000، ص : 132.
(43) تزيفيتان تودوروف: موضوعات العجائبي ( مدخل نظري ). مجلة دراسات سيميائية، أدبية ولسانية، ع 1، سنة1987، المغرب، ص : 143.
(44) جون كوهن: بنية اللغة الشعرية. م . س، ص: 31.
(45) عبد الرحمن محمد القعود: الإبهام في شعر الحداثة: العوامل والمظاهر وآليات التأويل. سلسلة عالم المعرفة، ع 279 ن مارس 2002، ص : 180.
(46) محمد بنيس: بيان الكتابة. مجلة الثقافة الجديدة، ع 19، سنة 1981، ص: 46.
(47) سليم بركات: ديوان " الجمهرات " م . س ، ص: 6.
(48) محمد بنيس: ديوان " هبة الفراغ " دار توبقال للنشر. المغرب، ط 1 سنة1992، ص: 51.
(49) رولان بارت: لذة النص، ترجمة فؤاد صفا والحسين سحبان، دار توبقال للنشر ، ط 2، سنة 2001، ص: 22.
(50) سيف الرحبي: ديوان " مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور " منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، ط 1، سنة 1988، ص: 25.
(51) رولان بارت: التحليل النصي، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي. مطبعة النجاح الجديدة / البيضاء ، سنة 2000، ص: 115.
(52) المهدي أخريف: ديوان " ترانيم لتسلية البحر" مطبعة المعارف الجديدة. الرباط، سنة 1992، ص: 85.
(53) الشيء في سياقنا هو المعنى، وعند بول ريكور هو المرجعية التي تنتج المعنى وتمنحه معنى . انظر كتابه: من النص إلى الفعل: أبحاث التأويل. ترجمة محمد برادة وحسان بورقية. عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية. ط 1، سنة 2001، مصر، ص: 41 وما بعدها.
(54) جون كوهن: بنية اللغة الشعرية. م . س، ص:



#أحمد_القنديلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شعرية التناص في القصيدة المغربية المعاصرة
- بلاغة الانحراف في الشعر المغربي المعاصر
- بصمات الحداثة في الشعر العربي المعاصر
- النص الموازي في الشعر
- الفراغ في الشعر: مقاربة للفراغ في ديوان -سلاما وليشربوا البح ...
- الدراما في الشعر العربي المعاصر
- لعبة المرايا في رواية -أوراق- لعبد الله العروي
- النص والتلقي
- عجائبية الحكي والمحكي في قصص أحمد بوزفور من خلال قصتي -سرنمة ...
- شعرية الحكي في المجموعة القصصية -نصف يوم يكفي- للقاصة المغرب ...
- شهوة الدم المجازي في -شهرزاد- توفيق الحكيم
- جغرافية اليباب
- الخوصصة النقابية
- المثقف والصراع الطبقي
- قراءة أولية لمشروع قانون الإضراب بالمغرب
- الأنساق الدلالية في مسرحية -بجماليون- لتوفيق الحكيم
- الشظايا المتجاذبة في رواية -سوق النساء ، أو ص .ب 26 - للروائ ...
- سيمياء البدء
- جمالية المكان في رواية عبد الرحمان منيف - الآن .. هنا أو شرق ...


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد القنديلي - تحولات الشعر العربي: قصيدة النثر: من مواجهة الفراغ إلى مواجهة السرطان