|
الأنساق الدلالية في مسرحية -بجماليون- لتوفيق الحكيم
أحمد القنديلي
الحوار المتمدن-العدد: 5773 - 2018 / 1 / 31 - 14:55
المحور:
الادب والفن
الأنساق الدلالية في مسرحية" بجماليون " لتوفيق الحكيم
1 ـ حول مقدمة المسرحية: إذا كانت وظيفة العنوان هي " وسم النص" كما يقول رولان بارت (1) ، فإن وظيفة الخطاب المقدماتي ـ من حيث هو خطاب مواز ـ هي وشم آفاقه من خلال سعي صاحبه إلى فرض أبعاد إضافية له بصورة أو بأخرى. وإذا كانت القراءة سيرورة دلالية ثانية تتبنين أطروحتها من خلال تعاملها مع الكتابة ـ من حيث هي سيرورة دلالية أولى ـ ، فإنها مطالبة بممارسة نقد متعدد يتجه نحو النص الأدبي ونحو مجمل ما يتعلق به، وصولا إلى نقد ذاته في نهاية المطاف. غير أن هذه الممارسة الأخيرة تتطلب جرأة فكرية يصعب تصور إمكانية وجودها . من أجل وصل ما انقطع بين الكاتب ومتلقيه، قدم توفيق الحكيم لمسرحية " بجماليون " بمقدمة من خمس صفحات، حاول فيها موضعة " بجماليون " ضمن تجربته المسرحية ـ التي تؤكد ريادته للمسرح العربي ـ ، وتعريف متلقيه النموذجي بمجموعة من المعطيات المتصلة بالمسرحية من جوانب مختلفة، وتوضيح بعض الهواجس الكبرى التي انتابته وهو يتحول من نمط في الكتابة المسرحية إلى نمط آخر هو المسرح الذهني. قبل كتابة " بجماليون " كان توفيق الحكيم ـ كما صرح بذلك ـ قد أمضى عشرين عاما وهو يكتب للمسرح بالمعنى الحقيقي " والمعنى الحقيقي للمسرح هو عدم الاعتراف بوجود المطبعة " (2). ذاك لأن المسرح الحقيقي لا يتوجه إلى العين القارئة بل إلى العين المشاهدة. إنه يتوجه إلى الركح من حيث هو فضاء الفعل المسرحي المتخيل، ومن خلال الركح إلى المتلقي ليس من حيث هو قارئ، بل من حيث هو مشاهد . أما أن تتوجه المسرحية بخطابها إلى العين القارئة، فهذا معناه أنها تتوجه إلى ركح مجرد يشكله التخيل في ذهن المتلقي بعيدا عن الركح الحقيقي، وعن المسرح الفعلي وتقاليده. وبقدر ما ينسحب هذا الكلام على "بجماليون " ينسحب أيضا على مسرحيات أخرى قبلها وبعدها ( أهل الكهف ، شهرزاد ، أوديب ). إن توفيق الحكيم إذ يعادل بين وجود المسرح الحقيقي وغياب المطبعة، يعادل بين المسرح الفعلي والخشبة من حيث هي المعادل الرمزي للحياة بعمقها وتلقائيتها وحيويتها. وبهذه المعادلة يؤكد المقولة الأرسطية الجوهرية التي تربط المسرح بالفعل. فحيثما يوجد المسرح توجد الدراما التي تتطلب الفعل المشخص على الركح، والمعاينة الفعلية من قبل الجمهور لكي تكتمل كينونتها. وبهذا المعنى ، فإذا كانت " النصوص الأدبية سيرورات دلالية لا تتجسد دلاليا إلا في القراءة "(3) فإن النص المسرحي هو الآخر سيرورة دلالية تتجسد في التشخيص، ثم في المشاهدة. فما الذي سوغ لتوفيق الحكيم أن يبتعد عن " المسرح الحقيقي " ليرتد إلى مسرح آخر " غير حقيقي " ، ما دام مجرد مسرح ذهني "غير قابل للتمثيل " ؟ وما الذي سوغ له كتابة نصوص مسرحية خارج المواضعات المتعارف عليها ؟ هل لأن شروط وجود هذا الخطاب كما تصورها لم تكن قد توفرت بعد مصريا وبالأحرى عربيا ؟ لقد استعرض توفيق الحكيم مبررين اثنين في هذا السياق ليغض الطرف قصدا عن مبررات أخرى تاركا لمتلقيه المجال للبحث والتأويل . 1 ـ يتعلق الأول بمضمون المسرح الذهني الذي " يجعل الممثلين أفكارا تتحرك في المطلق من المعاني مرتدية أثواب الرموز... تصارع الزمن أو المكان أو الملكات " (4). 2 ـ ويتعلق الثاني بشكل إخراج هذا النوع من المسرح الذي يتطلب مهارات إبداعية غير متوفرة. " هكذا انتهى بي الأمر إلى السعي لدى القائمين بشأن الفرقة القومية حتى أوقفوا تمثيل " أهل الكهف إلى اليوم." (5) وانطلاقا من هذين المبررين يقترف توفيق الحكيم خطأ مقصودا في تجنيس مسرحياته الذهنية التي ألفها مسرحيات وسماها روايات . لقد تصالح مع المطبعة وتخاصم مع الخشبة ووجه قراءه إلى القراءة بدل المشاهدة . فما الذي تعنيه هذه الانعطافة الخائبة من قبل مسرحي قدير ورائد للكتابة المسرحية العربية ؟ إن ارتداد توفيق الحكيم إلى مسرح الذهن يمثل تراجعا إلى الخلف من أجل ضمان التوازن الذي يمكن من إعادة الانطلاق الفعلي للمسرح بصورة جديدة. ويرجع سبب هذا التراجع إلى وعيه بعجز المسرح " الحقيقي " عن توطين ذاته في سياق ثقافي / اجتماعي/ سياسي كان ما يزال بعيدا عن التمدن الذي يسمح للمسرح بالتشكل والتطور. ومعلوم أن المجتمع الممأسس والمؤسس على التعاقد هو الذي شكل الإطار الطبيعي للمسرح من أثينا إلى روما إلى باريس ثم إلى مختلف بلدان العالم فيما بعد. إن المكان بحمولاته المختلفة هو الذي يعين " هوية الحفل ويخوله الحق في التعبير عنها "(6). وإذا كان المسرح ـ من حيث هو فعل تكلمي يشترط حضور متكلم شديد الارتباط بالزمان / الآن ، فإنه من حيث هو فعل تشخيصي يشترط حضور فاعل شديد الارتباط بالمكان / الهنا . ولذلك يشتق هويته وشكله الإبداعيين من هوية الآن والهنا ومن شكليهما ومضمونهما . إن ارتداد توفيق الحكيم في " بجماليون " إلى الأسطورة اليونانية ارتداد إلى منبع من المنابع الأصيلة للمسرح ، وذلك من أجل بناء خارطة طريق طويلة لتذوق المسرح أولا، ثم لتعلمه، ثم لغرسه في فضاء المجتمعات العربية في العصر الحديث . وإذا كان توفيق الحكيم ـ كغيره من المثقفبن الليبيراليين العرب في بدايات القرن العشرين ـ مهووسا بالثقافة الغربية، فإن ما سوغ له عودته الخائبة بصورة مضاعفة إلى مسرحه الذهني هو عدم إيجاده لوسيط " ينقل مثل هذه الأعمال إلى الناس غير المطبعة " (7). والحديث عن الوسيط هنا حديث عن الكاتب النموذجي الثاني / المخرج الذي يستطيع تحيين العمل الذهني، وتشخيصه بصورة تجعله قادرا على الاستجابة لآفاق انتظار المتلقي النموذجي. وفي غياب هذا الكاتب النموذجي الثاني، وفي حضور كتاب واقعيين كثيرين تجشم توفيق الحكيم عناء الكتابة المسرحية، ومنع المسرحيين من تمثيل أعماله الذهنية، واتجه إلى المطبعة التي تستطيع مخاطبة الكاتب والقارئ النموذجيين في المستقبل، عوض الخشبة التي تحاور المشاهد الآن وهنا . في حق مسرحية غير أن هذا الوسيط المفقود مصريا وعربيا، موجودغربيا. ولذلك فما قاله المخرج الفرنسي لونيي بويي في حق " شهرزاد " ينم عن تمثل عميق لها، ولشكل إخراجها وعرضها. غير أن قول هذا الفنان " العظيم " يبقى بدون معنى ما دامت الشيخوخة قد أقعدته " وأقصته عن المسرح منذ زمن بعيد "(8). تكشف مقدمة توفيق الحكيم عن وعيه بأزمة الإبداع المسرحي في عصره، وبالأسئلة التي كانت تطرحها مرحلته التاريخية، والتي كانت دون الأسئلة التي كان يود طرحها. ولعل هذا ما يفسر انعطافته الخائبة نحو مسرح يتشخص داخل الوجدان والذهن، وخارج الخشبة . وإذا كان شيكسبير في " هاملت " قد كتب المسرح في المسرح وللمسرح، فإن توفيق الحكيم في مسرحه الذهني كتبه في الذهن ومن أجل الذهن بعيدا عن الهنا والآن والنحن ، أي بعيدا عن التشخيص وقريبا من الحكي الذي لا يتطلب أكثر من راو يتكلم، وفي أحسن الأحوال يكتب، ومتلق يسمع وفي أحسن الأحوال يقرأ و لا يشاهد. وبهذا المعنى تبقى المطبعة في حد ذاتها وسيطا واهيا وواهنا ما دامت لن تستطيع نقل خطاب مكتوب كتابة فعلية، وموجه إلى عين قارئة، ثم مشاهدة في زمن مستقبلي ما. وإذا كانت مجموع المسرحيات الذهنية لتوفيق الحكيم تتمحور حول الموضوع المأساوي الكبير الذي يأخذ في كل مسرحية مضمونا معينا، فإن الموضوع المأساوي الأكبر يبقى ـ كما تشي بذلك هذه المقدمة ـ هو الموضوع المسرحي في حد ذاته. سواء ككتابة إبداعية أولى، أو ككتابة ثانية، أو كتلق ، أو ككينونة مجتمعية لا تستطيع أن تكون أو أن تستمر بدونه . 2 ـ حول مسرحية " بجماليون " : الحدث والدلالة . تتمحور مسرحية " بجماليون " حول موضوعة الصراع بين إلهة الحب والحياة / فينوس وإله الفن / أبولون. غير أن موضوع هذا الصراع هو الإنسان الذي تريده فينوس كائنا إنسانيا يتنفس هواء الحياة ويستمتع به، والذي يريده أبولون فنانا يحيا من أجل أن يعبر بالفن، ومن أجل أن يحيا معنى خارج كل زمان ومكان . وإذا كان موضوع الصراع هو الإنسان، فإن الشخصية التي تعبر عنه داخل المسرحية هي شخصية بجماليون الفنان الذي نحت جالاتيا من العاج فبدت له امرأة جميلة فافتتن بها، وتمناها امرأة من لحم ودم. وحين استجابت الإلهة فينوس لطلبه باتفاق مع الإله أبولون، وأعادت الحياة إلى جالاتيا حققت هدفين مترابطين: انتصرت على إله الفن أبولون، وحولت بجماليون إلى إنسان غير فنان. لقد طلب بجماليون ـ دون وعي منه ـ موته حين تمنى الحياة لجالاتيا. ولذلك عاش المأساة التي ستفضي به إلى الموت. لقد حزن أشد الحزن لهرب جالاتيا مع صديقه الجميل نرسيس الذي حين هم بها وهمت به ارتكب خطيئة في حق بحماليون صديقه ومنقذه من الموت. وبهرب جالاتيا هي الأخرى ارتكبت خطيئة عظمى في حق عاشقها ومبدعها، حولتها إلى كائن إنساني غير جدير بالمحبة والثقة. ولكن خطيئتها ليست أصلية إنها مشتقة من خطيئة سابقة هي خطيئة بجماليون التي ارتكبها حين تمنى لها الحياة كي يحيا من خلالها حياة جديدة ليست حياة الفنان المتعبة، بل حياة الإنسان المالك للمتعة . ولكن خطيئة بجماليون في حد ذاتها ليست أولى إلا لأن مقترفها إنسان، إنها مشتقة هي الأخرى من خطيئة سابقة هي خطيئة الإلهة فينوس التي أنساها هاجس الإيقاه بالإله أبولون العواقب الكارثية التي يمكن أن تترتب عن فعلها . هكذا اندحر بجماليون . لقد عاش المأساة حين عاين تحول جمال جالاتيا من جمال فني باق ودائم وحابل بالدلالات اللامتناهية، إلى جمال طبيعي فان وزائل. ولأن بجماليون عجز عن الانسجام مع هذا الجمال الأخير، فقد خرج صائحا يريد جالاتيا تمثالا من العاج كما كان في الأصل. وحين استجابت الآلهة مجددا لبجماليون أعادت جالاتيا إلى طبيعتها الأصلية. غير أن هذه الطبيعة ليست أصلية إلا كما يبدو. إنها طبيعة جديدة تماما. إن جالاتيا الآن ليست تمثالا كما كان أول الأمر، وليست امرأة من لحم ودم كما كانت بعد ذلك. إنها شيء آخر جامد يثير القلق والخوف . لكل هذه الأسباب اضطر بجماليون إلى إنهاء مشكلته . لقد قرر تكسير التمثال والاستسلام للموت : " بجماليون في شبه حشرجة : ـ أحس البرد... نرسيس : ـ أأغلق النافذة ؟ بجماليون : ـ نعم لقد آن الأوان. (9) 3 ـ الأنساق الدلالية وأبعادها في مسرحية " بجماليون ": تتفرع عن المعاني المباشرة السابقة مجموعة من الأنساق سنحاول الوقوف على بعضها. أ ـ فعن موضوع الصراع بين إلهة الحب والحياة / فينوس وإله الفن / أبولون ينبثق نسق دلالي ذو مضمون مزدوج : واقعي وما وراء واقعي. لقد كان بإمكان بجماليون أن يواجه مصيره بمفرده على الأرض؛ ليكتشف عجزه الدائم عن مواجهة القوى الميتافيزيقية، وليكتشف من خلال هذا العجز طاقته الهائلة التي يستطيع بواسطتها تحقيق طموحاته في حدود إمكاناته الإنسانية. ولكن، لأنه اختار وساطة الآلهة، فقد وضع مصيره المأساوي بين يديها. غير أن اختياره هذا الذي ينم عن ضعفه، يمتلك في ذات الوقت قوة خفية غير موعى بها من طرفه. فمن حيث لا يدري جعل إرادة إلهة الحب والحياة وإرادة إله الفن فاقدتين للانسجام. فما تريده فينوس يتعارض مع ما يريده أبولون. وقد أدى هذا التعارض إلى إلحاق كارثة مزدوجة: الأولى مرئية همت العالم الإنساني / بجماليون أفضت به إلى الهلاك، والثانية لا مرئية همت عالم الآلهة الذي غدا يتحرك بإرادات متصارعة، ويتجه هو الآخر نحو الدمار. وهذا معناه أن المسرحية تومئ إلى مقولة إيديولوجية أساسية مفادها أن الصراع يفضي إلى اللا توازن الذي يفضي إلى اللا تناغم، سواء على صعيد الواقع، أو على صعيد ما فوقه. ومؤكد أن هذه الفكرة الجوهرية تؤطر عددا هائلا من مسرحيات الحكيم؛ الشيء الذي يعني أنها فكرة بنيوية تؤسس معظم أعماله المسرحية والفكرية. وإذا ما تصفحناها في علاقتها بما تعكسه في واقعها التاريخي على المستوى الإيديولوجي، سنكتشف مفارقة أساسية من مفارقات الليبيرالية المصرية الأولى: الاندفاع في الهواء على الصعيد الفكري، والتراجع على الأرض على الصعيد السياسي. إن مفارقة من هذا النوع لا يمكن أن تفضي إلا إلى ارتباك شبيه بذاك الذي حصل لبجماليون أمام الحقيقة وشبهها، وأمام الحقيقة وحقيقتها. ب ـ وعن موضوع الصراع بين بجماليون وجالاتيا ينبثق صراع فلسفي حول الكينونة والماهية. لقد شاء الفنان العظيم بجماليون للرخام ـ من حيث هو مادة هيولية ـ أن يكون مادة لها صورتها. وما شاء كان. غير أن ما كان لم يكن كما أراد بالفعل، بل بالقوة فقط. فحين نحت تمثال جالاتيا، بقيت جالاتيا الجميلة صامتة وجامدة لم تبرح أصلها الهيولي. هكذا تمثل بجماليون تمثاله، وقد كان بإمكانه أن يراه حيا وناطقا، ولكنه لم يستطع لأن شهوته الباطنية كانت تبحث عن الحقيقي بدل الخيالي، وعن الممتع والمفيد ماديا بدل الممتع رمزيا فقط . وأمام هذا العجز المطلق ـ الذي كان في واقع الأمر عجزا إنسانيا يعانيه الفنان الأصيل طيلة حياته بحثا عن الإبداع المتكامل الذي لا يتحقق إلا لحظة الموت ـ يتراجع بجماليون إلى الخلف. يفقد ماهيته من حيث هو إنسان ومن حيث هو فنان، بحيث لا تتبقى له إلا كينونته الفاقدة للمعنى . وحين حققت له الآلهة ما أراد، حققت له في واقع الأمر ما أرادت هي كي تراقب شقاءه المضاعف. ولقد تضاعف هذا الشقاء بالفعل حين أمسى بجماليون فاقدا لإرادته الحرة، أي لكينونته الفعلية. لقد أراد جالاتيا كائنا إنسانيا، وحين لم ترق له أرادها تمثالا من جديد، وحين لم ترق له كسرها لينحدر إلى الموت والهلاك . وإذا كان قلق بجماليون قد دفعه إلى تدمير جالاتيا، فإن جالاتيا هي التي دمرت بجماليون في نهاية المطاف. ففي كل تحول لجالاتيا كان بجماليون يتحول سلبا من الفنان إلى الإنسان العادي، ثم من الإنسان العادي إلى الشيء الميت الجامد . لقد كان بجماليون ـ كلما قام بلمسة فنية وهو ينحت تمثاله ـ يبحث عن معنى جديد يبثه في منحوته. وحين انتهى من النحت وجد كل المعاني خرساء تحتاج إلى من ينطقها. وفي حضور هذا الصمت المطلق وجد بجماليون نفسه أمام اللامعنى الذي يعادل الموت والعدم. وكأن بجماليون بهذا الصنيع لم يكن يتجه إلى الأمام، بل إلى الخلف . لقد كان عوض أن يخلق معنى جديدا يدمر معنى موجودا ليدمر ذاته في نهاية المطاف. " بجماليون ( يهدر هائجا وهو ملقى على فراشه ): ـ سوف أصنع خيرا منه، في صدري أشياء سوف تخرج، أشياء عظيمة في جوفي يجب أن تخرج نرسيس ( في غيظ ): ـ ليس هناك الساعة شيء سيخرج غير روحك " (10). ج ـ وعن موضوع العلاقة العاطفية بين بجماليون وجالاتيا من جهة، ونرسيس وجالاتيا من جهة أخرى ينبثق نسق قيمي يكشف عن أعماق الشخصيات المسرحية الفاعلة وعن طبيعة العلائق القائمة فيما بينها. فإذا كان نرسيس قد اعتبر نفسه خليلا لبجماليون، وحارسا له وخادما: " نرسيس : ـ لا ينبغي أن يقع على جسدها الناصع ذرة من غبار إيسمين ( كالمخاطبة نفسها ) ـ وهذا موكول إليك بالطبع ...ما أبرعك سادنا كأغلب سدنة المعابد ..." (11) فإنه لم يكن يفعل ذلك إلا لغرض في نفسه. لقد كان معشوق النساء لجماله كما تقول إيسمين. كما كان معشوق هذه الأخيرة التي لم يمنحها يوما ما أعطته إياه دائما. غير أنه ما أن انفرد بجالاتيا / المرأة الحية حتى انتزعها خفية من بجماليون مبدعها وعاشقها و" زوجها "؛ ليصطحبها إلى " كوخ بغابة السرو وأمام الغدير " (12). لقد دفعه حمقه إلى إغوائها، ودفعها خوفها من بجماليون ـ الذي بدا لها في غاية الاضطراب ـ إلى إغوائه. وبإغوائه لها فقد كل اعتبار أخلاقي أمام ذاته ، وأمام إيسمين، وأمام بجماليون. وبإغوائها له فقدت كل جمالها الباطني الذي كانت تحتويه وهي تمثال من عاج. وإذا كانت جالاتيا قد ارتكبت خيانة عظمى دفعت بجماليون دفعا إلى السخرية من ذاته، ومن الآلهة التي طلب منها استعادة جالاتيا / التمثال مكان جالاتيا / الإنسان، فإن نرسيس ارتكب هو الآخر خيانة عظمى. ذلك لأن من تمت خيانته ليس شخصا آخر بالنسبة له " فهو الذي أوجده طفلا رضيعا عند جدول من جداول هذه الغابة، فآواه وأرضعه من لبن الماعز ورباه " (13) . وعلى الرغم من أن جالاتيا هي التي أغوت نرسيس كما يقول هذا الخير، فإنه لم يلبث في سياق آخر من المسرحية أن يثبت من غير وعي شيئا آخر " حسبك يا إيسمين كفى .. أنت تعلمين أنني لم أعد طفلا " (14). إن الخيانة التي أقدمت عليها جالاتيا أعادت كل شيء إلى الصفر. لقد خلخلت نظام كل شيء بما في ذلك نظام الآلهة الذي تزلزل. وهكذا أصبح هاجس فينوس وأبولون هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه. لقد أصبحا منقادين لإرادة قدر خفي فعل فعله ضد إرادتيهما معا، وفي غفلة من علمهما " الكلي". فحين بثا الحياة في جالاتيا التمثال استهدفا إرضاء بجماليون من أجل إثبات ألوهيتهما. غير أنهما استهدفا في ذات الوقت إثبات التفوق الإلهي على التفوق الإنساني . وحين بثا الحياة في جالاتيا بذرا في روحها نزوعات الشخصية الإنسانية بكل تناقضاتها. ولعل هذا ما جعل بجماليون يدرك عجزه المعرفي. فما كان يطلبه لا قيمة له، أما ما نحته فقد كان بإمكانه أن يرى فيه ما يريد أن يراه. ولكن لأن نظره كان حسيرا فقد كان يرى ولا يرى. " آه يا فينوس انظري ماذا فعلت أنت بي وبجالاتيا. لقد جعلت هذا الأثر الرائع ينقلب إلى كائن تافه .. لقد صيرتها امرأة حمقاء تهرب مع فتى أحمق . " (15) ولكي يغطي عن عجزه المعرفي ذاك، احتفل بفنه الذي تحدى به الآلهة، ولكن بعد فوات الأوان " دعيني أقل لهم ما أريد، دعيني أصارح هؤلاء الآلهة بالحقيقة. لقد صنعت أنا الجمال فأهانوه هم بهذا الحمق الذي نفخوه فيه... كل ما في جالاتيا من روعة وبهاء هو مني أنا، وكل ما فيها من سخف وهراء هو منكم أنتم يا سكان أولمب " (16). لقد تخاصم بجماليون مع فنه الذي قاده إلى الهلاك، وتخاصم تبعا لذلك مع الآلهة. وعليه أن يتحمل مصيره الآن لوحده ودون مساعدة أحد. وإذا كانت جالاتيا لم تعد جالاتيا، فإن نرسيس لم يعد هو الآخر نرسيس بعد خيانته لبجماليون. لقد فقد نرجسيته التي أفضت به إلى الحمق والزهو بذاته. لم يعد معشوق أية امرأة . لقد أمسى تافها يتودد لإيسمين كي يستعيد شيئا من توازنه المفتقد : نرسيس : ـ أتحسين أني نسيت كلماتك؟ لم أنس قط كلمة من كلماتك . تعلمين يا إيسمين لماذا ذهبت أبحث عنك في كل مكان؟ إسمين : ـ صه ..لا تقل شيئا بعد ... يكفيني ما سمعت لا تزد...لا تزد..." (17) إن ما انتهت إليه هذه الشخصيات جميعها هو الفراغ الذي يعادل العدم. لقد فقد بجماليون جالاتيا بمختلف صورها، ثم فقد ذاته. وفقد نرسيس عاشقته إيسمين التي استمر يطلبها دون جدوى، وفي نهاية المطاف فقد ذاته. وفقد أبولون عالم الفن حين استسلم لنزوة فينوس فلم يعد إلها، وفقدت فينوس عالم الحياة حين خلقته وجعلته مفتوحا على الهاوية، فلم تعد إلهة . لقد وضع توفيق الحكيم في مسرحية " بجماليون " كل شيء على الحافة. وكأنه بذلك كان يستهدف تدمير عالم يابس، وإعادة بناء آخر ندي تنتعش فيه حياة جديدة بكل معنى الكلمة. وبهذا المعنى فمسرحية "بجماليون " ذات نفس انتقادي حاد يرفض التأقلم مع واقع نكوصي يجر إلى الخلف، ويناضل بكل بشراسة من أجل مجمل ما يرتبط بالحاضر والمستقبل . إن بجماليون / الأسطورة هو بجماليون / الواقع التاريخي العربي خلال قرن كامل هو القرن العشرون الذي كان قرن الأسئلة الإشكالية الكبرى. وإذا كان توفيق الحكيم قد اندفع بليبيراليته المتحمسة نحو المسرح، أي نحو مجتمع مدني يحكمه التعاقد في كل شيء على شاكلة المجتمعات الغربية الليبيرالية التي شكلت مثله الأعلى، فإن ما اكتشفه من خلال بجماليون وبواسطته هو أن الفضاء الذي كان يتحرك فيه كان لا يزال بعيدا عن أن يكون ليبيرالي التفكير والعلائق والقيم . وهذا معناه أن حماسه وحماس أبناء جيله من الليبيراليين كان حماسا أجوف " لايتعامل مع الواقع عبر ما ينتجه من مفهومات تعكس بنى الواقع، بل يتعامل مع هذه النماذج الخاوية وكأنها الواقع " (18). إنها مفارقة مزدوجة. فلا الواقع ـ الذي نبتت فيه بورجوازية طفيلية تابعة تتقنع بالأصالة الزائفة من أجل تزييف الوعي وتمرير مشروعها الاقتصادي الهجين ـ يسعف في تقبل الأفكار الجديدة، ولا الفكر الليبيرالي المنفصل عن بنيته الاجتماعية يستطيع طرح الأفكار من خلال أسئلة الواقع، ومن خلال الاستعارة المتمثلة للذات وللآخر ولتاريخ كل منهما. وأمام شقاء الوعي هذا لم يجد بجماليون : أعني الحكيم بدا من البحث عن كل وسيلة ممكنة لجعل جالاتيا ممكنة الوجود في وجود مستحيل. لقد نحتها كي توجد فلم توجد. ولعلها وجدت ولكنه لم يرها. بث فيها الحياة بوساطة آلهة اولمب / الغرب فلم توجد كما أراد . ولعلها وجدت ولكنه لم يرها . وحين تحولت مجددا إلى حالتها الأصلية بطلب منه فزع منها وكسرها بالمقبض الصلب للمكنسة . لقد أعلن توفيق الحكيم من خلال مسرحية "بجماليون" عن نهاية مرحلة من الفكر الليبيرالي المصري الذي كان يبحث بواسطة فكر الأنوار، وفكر الثورة الصناعية عن واقع رأسمالي ناهض في الواقع المصري والعربي بوجه عام. ولأن هذا الواقع كان يشكله الاستعمار بتحالف مع بقايا الإقطاع المتبرجز وفلول البورجوازية الطفيلية الناشئة، فقد بقيت أفكار الحكيم ومن جاراه في عصره تبحث عن إمكانية الوجود في واد غير ذي زرع . تأخذ كل شكل ممكن بحثا عن كل وجود ممكن؛ لتجد نفسها وقد استعصى عليها الوجود خارج الزمان والمكان، ثم لتجد نفسها أخيرا في مواجهة المكنسة وعصا المكنسة .
الهوامش (1) رولان بارث: التحليل النصي ترجمة عبد الكبير الشرقاوي. مطبعة النجاح، البيضاء 2001، ص: 82 (2) مسرحية بجماليون الدار التونسية للنشر. 1978 تونس، ص: 5 (3) هيرمينوطيقا المسرح: لعبة السلطان نموذجا. د. أسامة أبوطالب. عالم الفكر، عدد 3 مجلد 37 يناير / مارس 2009، ص:289 (4) مقدمة مسرحية "بجماليون " ص: 6 ـ 7 (5) المرجع السابق ص: 7 (6) روجيه عساف : مسألة التمثيل في المجتمع الإسلامي. ترجمة جبرا إبراهيم جبرا. مجلة مواقف، ع : 46 ربيع 1983 ، ص :72 (7) مقدمة المسرحية (م . س) ص: 6 (8) ( م . س ) ص: 8 (9) المسرحية ص:201 (10) م . س ، ص: 197 ـ 198 (11) م . س ، ص:21 (12) م . س ، ص: 86 ـ 87 (13) م . س ، ص: 117 ـ 118 (14) م .س ، ص: 119 (15) م . س ، ص: 76 (16) م . س ، ص: 76 (17) م . س ، ص: 119 ـ 120 (18) د . هشام غصيب: تجديد العقل النهضوي. دار الفارابي، بيروت / لبنان 2004، ص:22
#أحمد_القنديلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشظايا المتجاذبة في رواية -سوق النساء ، أو ص .ب 26 - للروائ
...
-
سيمياء البدء
-
جمالية المكان في رواية عبد الرحمان منيف - الآن .. هنا أو شرق
...
المزيد.....
-
رحيل الأديب والكاتب الأردني المبدع فخري قعوار في عمان، عن عم
...
-
نجل قديروف يدعو مقاتلي الشيشان للتخلي عن موسيقى -البوب MMA-
...
-
زاخاروفا: الغرب يلتزم الصمت المطبق تجاه نشاطات مغني الراب ال
...
-
شركة طيران تعتذر لعرض فيلم مصنف للبالغين على كل الشاشات خلال
...
-
اليونسكو تعلن الرباط عاصمة عالمية للكتاب عام 2026
-
يامان يتحالف مع سرحان للانتقام.. مسلسل المتوحش الحلقة 40 الم
...
-
شركة طيران تعتذر لعرضها -مشاهد جنسية- بفيلم للركاب
-
اليونسكو تختار الرباط عاصمة عالمية للكتاب لعام 2026
-
ميزات جديدة في تطبيق -VK- للموسيقى.. تعرف عليها
-
اليونسكو تختار الرباط عاصمة عالمية للكتاب لعام 2026
المزيد.....
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
المزيد.....
|