|
آنا أخماتوفا : في ذلك الوقت ، ضِفتُ على الأرض .
عبدالله عيسى
الحوار المتمدن-العدد: 5752 - 2018 / 1 / 9 - 17:02
المحور:
الادب والفن
لم تكن حياة آنا أخماتوفا في ضيعة " تسارسكوي سيلو " حتى ربيعها السادس عشر طارئة على ذاكرتها المبدعة . فهناك ، حيث هذه الضيعة شبه منسيّة كانت إلى جهة الشمال من مدينة " أوديسا " المتاخمة للبحر الأسود ، واضطر والدها مهندس الميكانيك المتقاعد للإقامة فيها قبل حول من ولادتها في ٢٣ من حزيران من عام ١٨٨٩، تلمست روحها مكامن الجمال الذي أصبح فيما بعد متن طاقتها الإبداعية البكر ، كما تروي في سيرتها " باختصار عن نفسي " : " الحدائق الخضراء الندية الباهرة ، المراتع الممتدّة حيث كانت تأخذني مربّيتي ، ميدان سباق الخيل حيث تحجل المهور الصغيرة ، ومحطة القطارات القديمة ، وأشياء أخرى تجلّت كلّها فيما بعد في مجموعة جنة تسارسكوي سيلو " . في ذلك المكان الذي ظلّ موحياً و قصيّاً في ملكاتها الإبداعية ، تفتحّت مدارك آنا أخماتوفا على عبقرية الطبيعة بأسمائها وألوانها ومفرداتها المتعددة على الأوصاف ، وعكفت لسبب لم تجد دونه سبيلاً على تعلّم القراءة متهجيّة ، كما تذكر ، كتابات الروسي العظيم ليف تولستوي ، ودونما لأي شرع لسانها آنذاك يلدغ بالفرنسية . وإذ تتجوّل في سيرتها تذكر أنها صاغت بواكير أشعارها في الحادية عشر من عمرها ، لكنها تعترف " لم يبدأ الشعر ، بالنسبة لي ، مع بوشكين وليرمنتوف ، بل مع ديرجافين ونيكراسوف اللذين كانت أمي تحفظ جلّ شعرهما عن ظهر قلب " . كانت دراستها في المدرسة القيصرية متعثرة ، وعلى الرغم من أن تحسناً ما قد شابها بشكل غير منتظر ، ولم تكن قد عهدته من قبل ، إلا أن آنا كانت تقدم على الدراسة دونما أية رغبة تتقدم بها إليها ، كما تتذكّر . وظلّت تدوّي في ذاكرتها ساعات افتراق والديها عام ١٩٠٥ ، وتنوء بها دروب رحيلها مع أمها إلى الجنوب ، إلا أن حنيناً عارماً بقي يعود بها إلى هناك ، حيث الضيعة الأولى ، وبدأت تكتب شعراً ينذر بالانطلاق ، وإن بدا لها ، كما تذكر ، متعثراً . ولم تكن هتافات ثورة ١٩٠٥ قد وصلت إلى يفتابورا المعزولة عن العالم ، حيث عاشت العائلة ، إلا خرساء . وبعد عصف الثورة بالمشهد الروسي بعامين أنهت أخماتوفا المدرسة في كييف ، وانتسبت إلى كلية الحقوق فيها . تروي في سيرتها : " كنت سعيدة جداً ، ونحن نتصفّح تاريخ الحقوق ، وخاصة اللاتيني ، لكن علاقتي بالكلية بردت تماماً حين شرعنا بدراسة مواد القانون . ثم تزوجت من نيقولاي غوميليوف ، فسافرنا إلى باريس لشهر واحد ، وحين عدنا إلى بيتربورغ أخذت بدراسة تاريخ الأدب " . لابد أن زواج الشاعرة آنا أخماتوفا بالشاعر المبدع نيقولاي غوميليوف ، صاحب الثقافة الواسعة ، والإطلاع العميق على الحضارات الإنسانية ، وخاصة الشرقية ، بما فيها العربية والإسلامية ، قد منحها طاقة إبداعية وحياتية ذات قابلية كبيرة ، ففي هذه الآونة أنجزت شعراً مختلفاً ، أخاذاً وعميقاً في آن ، ضمته مجموعة " أمسية " ( منها اخترنا قصيدة " جنازة " ) . وفي أعقاب الأزمة التي لمّت بالمدرسة الرمزية عام ١٩١١، ابتعدت عنها أخماتوفا ، أسوة بسواها من الشعراء الشباب ، والتحقت بالمدرسة الأكميزية مع عدد منهم ، بينما انضم آخرون إلى المدرسة المستقبلية . وكان احتفاء النقد بمجموعة المساء التي صدرت بثلاثمائة نسخة فقط مفاجئاً وملفتاً عام ١٩١٢ ، العام نفسه الذي ولدت فيه ابنها ليف غوميليوف الذي اعتبر فيما بعد من أبرز المؤرخين المعاصرين في روسيا والعالم . لكن النقاد والقراء لم يكونوا عادلين مع مجموعتها " السرب الأبيض " التي نشرتها عام ١٩١٧ ( منها اخترنا " خلوة " ، المدينة القاتمة " ، " شُلّ عن الابتسام فمي " ، " صلاة " ، و " مباركاً بالربّ " ) ، مقارنة مع مجموعتها " سبّحات " ( منها اخترنا " إلى م. لوزينسكي" و " إلى بلوك " ) ، فقد اعتقد الكثير منهم أن السرب الأبيض لم تحتفظ لذاتها بالمُنجَز الإبداعي الذي امتازت به سبّحات ، فيما علّلت أخماتوفا سرّ هذا الأمر بما أوردته في سيرتها باختصار عن نفسي ": " لقد ظهرت مجموعة السرب الأبيض في ظروف مخيفة ، كانت حركة المواصلات قد شُلّت تماماً ، ولم يكن بالمقدور إرسالها إلى موسكو . كل نسخها بيعت في بيتربورغ . الجرائد أغلقت ، والمجلّات أيضاً . ولهذا لم يكن لمجموعة السرب الأبيض ما كان لمجموعة سبّحات من الضجيج الإعلامي . الجوع والإنحطاط كانا يتفاقمان كل يوم " . لكنّ أخماتوفا أخلصت لعملية تطوير أدواتها الفنيّة ، وطرح أسئلة إبداعية ، مع كل مجموعة جديدة . ومع أنها ارتبطت بجماعة الأكميزيين بروابط إبداعية وشيجة ، إلا أن حدود عوالمها ظلت تتحرك في مناخات أكثر اتساعاً وقابلية : فالتقديس الجليل للطبيعة ، وللذات الإنسانية ، ولروحها التي اتخذها الأكميزيون مذهباً ، ارتبط بلغة طيّعة ابتعدت عن التعددية التعبيرية التي اعتمدها الرمزيون الروس . فاللغة التي هي مادة الصنعة الإبداعية هي أساس الشعر ، وينبغي أن تتحرّر من ضبابيّتها ، وتداعياتها التجريديّة ، وهذا ما تميزت به أعمال أخماتوفا المتأخرة . وإذ تطل أخماتوفا في سيرتها على مسيرتها الشعرية تضيف : " عملت بعد ثورة أكتوبر في مكتبة كلية الزراعة ، وفي عام ١٩٢١ خرجت إلى النور مجموعتي الشعرية " مزمار" ( منها اخترنا " مثل كنسر فتيّ" ، " أبداً " ، " و انتظرته " ، و" في الليل " ) ، وفي عام ١٩٢٢ ، أصدرت مجموعة " آنا ديموني" ( اخترنا منها " كيف لي أن أدبّ الصوت " ، " وليكن أن يعصف الأرغن " ، و " إلى كثيرين " ) ، ومنذ منصف العشرينات تقريباً بدأت أمارس باهتمام شديد المعمارية القديمة لمدينة بيتربورغ ، وقراءة حياة وإبداع بوشكين ، لكن لم تنشر أشعاري الجديدة ، في تلك الفترة " ، بينما أعيد نشر القديم منها . لا شك أن الصلة الفنية لعوالمها مع التراث الشعري الروسي ، خاصة مع إنجازات الكسندر بوشكين ، أخذت تتأصل في ذلك الوقت ، على الرغم من اقتراب عالمها من إبداعات الكسندر بلوك ، فأصدرت مجموعات شعرية شكّلت إضافة فنيّة كبيرة للشعر الروسي ، مثل مجموعة " اليراع " ( منها اخترنا " الشاعر " ، " بالمراتع يفوح العسل البريّ " ، صور الكائن " ) ، ثم مجموعة " الكتاب السابع " ( منها اخترنا " موت"، " وكما في الألبوم " ، وكذلك مجموعة " وِتر" ( اخترنا منها " إلى ذكرى بولغاكوف " ، ومن ملاحمها " موسيقى قدّاس " ، إضافة إلى " مختارات " ، و" عدو الزمن " . وظلت أخماتوفاً حتى النفس الأخير الذي داهمها في عام ١٩٦٦ مخلصة للشعر ، بالاشتغال في مختبره الإبداعي ، واكتشاف الإيقاعات الخلاقة فيه ، لتصبح من أبرز شعراء روسيا والعالم . هكذا تختتم الشاعرة سيرتها : " لم أتوقف عن كتابة الشعر ، أجد في الشعر علاقتي مع الوقت ، مع الحياة الجديدة لشعبي . عندما كتبت أشعاري عشت تلك الإيقاعات التي عُزفت في تاريخ وطني البطوليّ . أشهد أني سعيدة ، كوني عشت في هذه السنوات ، ورأيت تلك الوقائع التي لا مثيل لها " .
جنازة : ألوّب عن بقعةٍ ما لقبرٍ . أترى أيّها المسكونة أكثر بالضوء ؟ . كمْ رطِبٌ أديمُ الأرض ، ومكتئباتٌ على حوافِ البحر صدورُ الصخرِ .
وهْيَ المجبولةُ دوماً على الطمأنينةِ ، المولعةُ بالشعاعِ الوهّاج . سوف أبني على قبرها صومعةً تكون لنا ، لسنين طوال ، كبيتٍ .
ويكون ثمّة معبرٌ بين الشبابيكِ في جوفه نوقدُ السراجَ فيغدو كقلبٍ مُعتمٍ فيه حمراء تندلع النار .
وهْيَ تهذي ، أتعْلمُ ، من هوَسٍ بأشياء أخرى ، بالسماويّ القصيّ ، لكنّه ، لائماً ، لقّن الراهبُ : " ليست لكم . ليستِ الجنّةُ للآثمين " .
آنذاك ، مُبيضّةً من الوجعِ العَتِيّ ، رغتْ : " سوف أمضي معك " . ها نحن وحيدان ، طليقان وعند أقدامنا تضطربُ الأمواجُ الزرقاء . ١٩١١ *** إلى م . لوزينسكي النهارُ الكهرمانيّ الكتيمُ يطولُ إلى غيرِ خاتمةٍ كحزنٍ مستحيلٍ ، كانتظارٍ بلا محض جدوى . والأيّلُ ، ثانيةً ، في المتحفِ الوحشيّ ، بصوتِه الفضيّ ، يحنّ إلى الشروقِ الشماليّ . وأنا التي آمنتُ ثمّةَ ثلجٌ أشدّ صقيعاً لأولئك الفقراء جُرنُ المعموديّةِ الأزرق ، والمرضى والمزالقُ الصغيرةُ للسباقاتِ الطويلةِ تحت رنينِ أجراسِ القريةِ النائية . ١٩١٢ *** إلى ألكسندر بلوك (١)
ضائفةً حللتُ على الشاعرِ منتصفَ اليوم ، تماماً ، الأحد . السكونُ الكهلُ يقطنُ غرفتهُ وخلفَ الشبابيكِ ينمو الجليد وشمسٌ قرمزيّةٌ على الضبابِ الأزرقِ المنعوثِ . ياللصاحبِ الصموت بما ينجلي يتقرّاني !
هكذا عيناهُ محالٌ على أحدٍ أن يمرّ ، كما يشتهي بهما، بنعمةِ النسيانِ ، ومن وجسٍ ، يهيء لي ، ألا أرنو فيهما ذاكَ أجدى ، وفيما حولهما .
فيما يظلّ محفوظاً في لوحِ ذاكرتي كلامي معه منتصفَ اليومِ الضبابيّ ذاك ، الأحدْ في البيتِ الرماديّ ، العالي عند مصبّاتِ " النيفا" (٢) في البحرِ . كانون الثاني ١٩١٤. *** خلوة
مرميّة فيّ ، هكذا ، أحجارٌ لا تحدّ ، ومهملةٌ حتى لم يعدْ يمسسني خوفٌ عليّ من سواها . والبرجُ المُشادُ ، عالياً ، بين البروجِ العالياتِ صار شِركاً . شكراً لبانيهِ دعِ اكتئاباتها ، وانكساراتها تمرّ من قبلُ ، من هناكَ ، كُنتُ أرى مطلعَ الفجرِ وهنا يحتفلُ الشعاعُ الأخيرُ وعادةً ، تهبّ من شبابيكِ غرفتي ، نسائمُ البحارِ الشماليّةُ ، وتأكل الحماماتُ من بين يديّ حبوبَ القمحِ . فيما ، هناكَ صفحةٌ لم تكتملْ بعدُ سوف تكتبها ، بطمأنينةٍ وبساطةٍ إلهيةٍ ، يدُ الوحيِ السمراء . ١٩١٤ *** المدينةُ القاتمةُ عند البحرِ الواجمِ جذلى ، كانت بأرجوحتي ، وبسريريَ الزوجيّ المُحتفى وقد رفعتْ فوقه ملائكتُكَ الفتيّةُ ضفائِرَ الزهورِ بحبّي المرير ِ المدينةُ معشوقتي . معبدُ ابتهالاتي كُنتُ هادئةً ، بالصرامة ذاتها ، سرابيّةً حين تمثّل لي ، للمرةِ الأولى ، عروسي مرشداً روحي لصراطٍ من الضوء ثم قادني ، مثل عمياء ، وحيي . ١٩١٤ *** وشُلّ عن الإبتسامِ فمي وبالبردِ ريحُ الشمالِ تعضّ على شفتيّ . وبي أملٌ ما أقلّ وأغنيةٌ أكثرُ .. الآن . سوف أعرّضُها للشماتةِ والدنٓس هاذيةً إنّ بي ألماً لا يُطاقُ إذا مسّ روحي عن الحبّ شيء من خرَس ١٩١٥ *** صلاة :
هبني سنيّ العليلِ المريراتِ، الأرقَ المستبيحَ ، الحريقَ الداخليّ ، ولوعة َ الآهات . وخذِ الطفلَ ، خذهُ ، والصديقَ عطيّتَكَ السريّة ٓالمشتهاة َ هذا دُعائي خلفَ صلاتكَ الكنائسيّة ، وفي أثر الأيامِ المثقلاتِ بالبلوى هذه كلّها ، أدعو كي تبقى المُزنةُ في أعالي روسيا القاتمة غيمةً في مجدِ الشعاع . ١٩١٥ *** مبارَكاً بالربّ ، الشعاعُ الأوّل سحّ على الوجهِ الحبيبِ الذي مأخوذاً بالنعاسِ مسّهُ الشحوبُ القليلُ لكنه ، بأقصى السكينةِ تلكَ ، غفا. يُخالُ ، للقبلةِ دفء الشعاعِ السماويّ وكما لو أن شفتيّ ، منذ دهرٍ ، لم تطأ شفتين بهذي النداوةِ ، ولم تمسّ كتفاً أسمر . والآن ، أرواحٌ متوفاةٌ ، في سِفري الذي لا عزاءَ له أحثّ إليه الأغاني وأهدهدُ الشعاعَ الصباحيّ . ١٩١٦ *** إلى م . لوزينسكي
يطير ، لا يزال ، في الطريقِ الطويلِ كلامُ الحبّ ، والانعتاق . أنا التي في رعشِ ما قبل الغناءِ أشدّ برودةً من جسدِ الصقيع فمي . وقريباً ، هناك ، حيث يلتصقُ البتولا الشفيفُ بالشبابيكِ سوف يفحّ اليباسُ وتنعقدُ الورودُ على الأكاليلِ اليانعة ثم ّ تقرعُ الأصواتُ الرقيقةُ ، وبعدُ الضوءُ سخيّ حدّ الجنون ِ كنبيذ ساخنٍ قانٍ وهاهي الريحُ المعطّرةُ الدافئة وهجُ حواسي . ١٩١٦ *** مثل نسرٍ فتيّ بعينين سوداوانِ ، بتوحّدٍ سريّ مع الأعالي ، مضيتُ بخفّةِ الروح كما لو أني في حديقةِ زهورِ ما قبل الخريفِ هناك الورودُ الأخيرةُ ، والهلال الشفيفُ تهاوى على الغيومِ الشهباءِ الغزيرة . ١٩١٧ *** أبداً أسمعُ صفيرَ صوتٍ حزينٍ وأحتفي بغَرْمِ الصيفِ الجليلِ ، بينما ، بأزيزِ الثعابينِ ، يجتثّ منجلٌ السنبلةَ الملتصقةَ ، معتصمةً ، بأخواتها. فتُنثرُ في الريح ، كالراياتِ في الأعيادِ ، خلفَ أذيالِ الحاصداتِ المكيناتِ . والآن ، هاهو ذا رنينُ الأجراسِ المغتبطة يعبرُ الرموشَ المغبرّة للنظرة الطويلة . لستُ على انتظارِ مغازلةٍ ، ولا أنتظر الزلفَ المحبّبَ حتى في هاجسِ عتمةٍ لاحدّ لها ، ولامفرّ منها . فقط تعالَ ، وانظر إلى الجنّة حيث كنّا مغتبطَين ، وبريئَين ١٩١٧ *** وانتظرتهُ ، عبثاً ، كلّ هذي السنين كما لو أنها غفوة مرّت بي . لكن الضوء الذي ليس يُطفأ ، ثلاثَ سنين في السبت المقدّسِ ، توهّج ، صوتي تجرّح ، وساكناً بابتسامته ظلّ عروسي منتصباً أمامي .
وعلى مهَلٍ ، خلف الشبابيكِ مضى ملأٌ بالشموع . آهِ ، أيها المساءُ الورِع ! خفيفاً ، قرقعَ جليدُ نيسانَ الرقيق ودوّى فوق الحشودِ رنينُ النواقيسِ مثل عزاءاتٍ سامية، وترنّحتِ النارُ في الريحِ السوداء . وكما لو أنّي ، في انبلاجِ السديمِ ، رأيتُ النرجساتِ البيض على الطاولة، النبيذَ الأحمرَ ، بارداً ، في الكأس . يدي المبقّعةُ بالشمعِ ارتعشتْ ، وهي تحتضنُ القبلةَ ، فغنّى دمي : أيتها الجذلى ! ابتهلي . ١٩١٦ *** في الليل : بالكادِ حيّاً ، يقف الهلالُ في السماء بين السحبِ الصغيرةِ المنسابةِ ، والساعةُ العابسةُ عند القصرِ تنظرُ ، بضيقٍ ، إلى عقاربِ البرج .
تعودُ إلى البيتِ الزوجةُ المسكونةُ بالخطيئةِ بوجهها الشاردِ ، المتيبّس بينما تلهبُ الهواجسُ المتوقدةُ ، الطاهرةَ في أحضانِ الأحلامِ المضطربة . مالي ، ولها؟ اليوم السابع ولّى زافراً صعداءهُ ، قلتُ ، بالكلام البسيط ، للكونِ كلّه . لكنّ الهواءَ ، هناكَ ، خنّاقٌ تسللتُ إلى الروضِ ثم رنوتُ إلى النجومِ وتحسّستُ القيثارة . ١٩١٨ *** كيف لي أن أدبّ الصوتَ من حبّكَ الغامضِ باللوعاتِ . صيّرني شاحبةً مثل اصفرارٍ متعجّلٍ ، أوهنَ العظمَ مني ، بالكادِ أقودّ قدميّ . فلا تشدُ بالأغاني الجديدةِ . أتخادعُ الأغنياتُ طويلاً ، والأظافرُ الهائجاتُ تنهشُ صدري.
ولكي يطفحَ الدمُ من حنجرتي ، ويطفّ ، سريعاً ، على السريرِ ، وينسلّ الموتُ من القلبِ ، سأبقى إلى أبدٍ طافحةً بسُكري اللعين . ١٩١٨ *** وليكن ، أن يعصفَ الأرغنُ ، ثانيةً ، كأولِ رعدِ الربيعِ : من وراء كتِفَيْ عروسِكَ ، عينايَ نصف الموصودتينِ ، تحنوانِ عليك َ .
وداعاً ، وداعاً ، واثملْ بالسعادةِ يا صديقي الأَلُوف ، أردّ إليكَ عهدكَ اللذيذَ. وإياكَ ، إيّاكَ أن تقصّ على صديقتكَ الولهانةِ شيئاً من هذياني الفذّ ، حتى ينفذَ ، بِسُمّهِ الكاوي ، فيما بعدُ توحّدكما المبروكَ السعيد
وأنا غاديةٌ لأحظى بالروضِ المُعجَزِ حيثُ حفيفُ الأعشابِ ، ونداءاتُ آلهةِ الشعر . ١٩٢١ *** إلى كثيرين
أنا صوتكمْ ، وذؤاباتُ أنفاسكمْ وملامحكمْ في المرايا ، وما فاضَ من رعَشاتٍ لأجنحةٍ فائضاتٍ سدىً ، وسأبقى إلى أبدٍ معكم .
فحقّاً ، لماذا إذن نهِمِينَ تحبّونني أن أظلّ مخضّبةً بالخطايا ، وبالسَقَمِ المُرّ . حقّاً لماذا ، بلا محضِ انتباهٍ ، تخصّونني دون غيري بأجملِ أبنائكمْ ، ولماذا، إذنْ، أبداً ماسألتمونني عنه ؟. حقاً وكنتمْ كمدخنةٍ ، بالمديحِ كثيرِ الدخانِ، تلفّون بيتي المهدّم ، مثلي . أبداً ، تقول الأحاديثُ ، أحاديثكمْ : ليس لزاماً توحدّنا بالذي اعتصمتْ به روحان ، لا ينبغي أن نحبّ بكلّ مزايا الجنون .
وكما يشتهي الظلّ أن يتحرّر من جسَدٍ ، أو كما يشتهي جسدٌ أن يفارقَ روحاً أشتهي الآن منسيّةً أن أكون . ١٩٢٢ ***
الشاعر
باريس باسترناك (٣):
هوذا ، ذاتُهُ أشبه بعيني مُهرٍ ، يرمُقُ ، من زاويتَي لحظِهِ ، يرنو ، يرى ، يُدركُ ، وبالألماسِ المُذابِ تضاءُ الغدائرُ ، والجليدُ ينوءُ .
وفي الغيهبِ الليلكيّ ترقدُ الأشياءُ وراء البيوتِ ، الأرصفةُ الوحيدةُ ، قُرَمُ الأشجارِ، الأوراقُ ، والسحابةُ ، صفيرُ الحافلاتِ ، خشخشاتُ قشورِ البطّيخ ، واليدُ الوجلى في روائحِ " لايكا" .
كموجٍ مضطربٍ على شاطئٍ يلطُمُ ، أو يدوّي يرعدُ ، أو يزبِدُ ، ثم يهدأ ، في خلسةٍ عنه . ذاكَ يعني أنهُ يتحسّسُ ممرّاً بين الصنوبرِ ، بحذاقةِ الخوفِ ، لكي لا يجفلَ أفقُ الحلُمِ المُرهف . أو ذاك يعني أنّهُ يعدّ الحَبّ في سنابلَ فارغةٍ ، أو ذاك يعني أنه عادَ للتوّ إلى موقدِ الطبخِ الأسودِ الملعونِ من جنازةٍ ما .
ومن جديدٍ ، يلدغُ الفتُورُ الموسكوفيّ ، والأجراسُ البعيدةُ المميتةُ تجلجلُ في الأقاصي .. من تاهَ على بُعْدِ خطوتينِ من البيت ِ أين الثلجُ على حزامِ الأرضِ ، هل انتهى كلّ شيء؟ . ولهذا كلّه أشبّهُ الدخان " بلاوكون" (٥) والآسُ تشبّبَ بالمقابرِ . ولهذا كلّه يطفحُ ، بالرنينِ المنذِرِ ، العالم كلّه في المسافةِ البكرِ لأصداءِ السطور.
وهو المُجازى بطفولةٍ لا تنتهي به نوّرتِ العطايا ، وجهاتُ الانتباه ،. وكانتِ الأرضُ كلّها تِركتٓهُ فتقاسمها مع المخلوقاتِ جميعاً . ١٩ كانون ثاني ١٩٣٦ *** بالمراتِعِ يفوح العسلُ البريّ ، والغبارُ بالشعاعِ المرسوم بالضوء ، وبالبنفسجِ يعبقُ الفمُ البكرُ ، فيما بالفراغ يلمع الذهب . وبالماءِ تتضوّع الخزامى والحبّ بالتفّاح .
لكنّنا ، منذ بدءِ الخلقِ ، نرى أن الدم لايفحّ إلا بالدم . وسدىً ، غسل نائب روما يديه في أعين الشعبِ وسط صيحاتِ الرعاع المشؤومةِ . عبثاً ، مسحتِ الملكة الأسكوتلنديّة ، براحتيها الضيّقتينِ ، الرذاذ الأحمر في القصر المخنوق بالظلمات . ١٩٣٣ *** صورُ الكائنِ ، حينَ يموتُ ، تتبدّلُ، ترنو بعينينِ أخريين ، وتحوكُ شفتاهُ ابتسامةً أخرى . ذاك الذي أرى كلّما عدتُ من جنازةِ شاعرٍ . وكثيراً ما تيقّنتُ . قد ثبُتتْ رؤيايَ . ١٩٤٠ *** موت :
على حافّةِ شيء ما كُنتُ شيء ليس له اسماً حقاً .. سلطانُ النومِ الغلّاب الهاربُ منكَ . ... وواقفة على مشارفِ شيء ما مشارف كلٌّ واردُها ، لكن بأوزارِهِ .. لي حجرةٌ على هذه السفينةِ الريحُ على الأشرعة ، ولحظةُ الوداعِ الرهيبةُ للوطنِ الأمّ ١٩٤٢ ... والغرفةُ لي ، حيثُ أبتلى آخر مرّةٍ ، على هذه الأرض ، يطأني المرضُ الأعمى . كأنّما يتسنّدُ على سيقانِ الحورِ البيضاء العالياتِ في الممرّ . إنّه الأولُ ، الأعلى شأناً، كم ينضجُ ، في حكمهِ الجليلِ ، وينعمُ بالغبطةِ الأوّل ، الأعلى في شأنه ، عندما يعبرُ الشبّاكَ الأغبرَ تحلّقُ روحي لتحتضنَ الشمسَ ، وتُهلك النومَ المميت . كانون ثاني ١٩٤٤ . طشقند ... عندما يستلقي البدرُ ، مثلَ كِسَرِ البطّيخِ الأصفرِ ، على شفيرِ الشبّاكِ ، ويعمّ الإختناقُ . عندما يوصدُ البابُ ، والبيتُ المسحورُ بأغصانِ النباتاتِ الرشيقةِ الزرقاء المتسلّقةِ الجدرانِ ، ويطفّ الماءُ الباردُ في الفنجانِ الطينيّ ، والمنشفةُ الثلجُ ، والشمعةُ الطويلةُ توهّجُ ، كما في الطفولةِ ، تستدرجُ فراش الليل ، الهدوءُ يسقطُ مدويّاً ، ولا يُسمعُ صوتُ كلامي . عندها ، يتصاعدُ مضفرّاً شيء ما من إطار لوحات " ريمبراند" (٦) ، ويختفي ، هناكَ، فيها . لكنني لستُ موطوءة بمسّ من خوف ، ولا تأخذني الرعشة ُ ، أيّما رعشةٍ . هنا التقطتني ، بطُعمها، الوحدة الغلّابة . صاحبة القطّ الأسودِ تمسّده ، كعيني قَرنٍ ، فيما قرينيَ في المرآةِ ليس يُغيثُ . سوف أنامُ بكلّ أوصافِ اللذّةِ . أيّتها الليلة ! تصبحينَ على خير . طشقند ١٩٤٤. *** ١ كما في الألبوم تقريباً :
تُنصِتُ للبرقِ ، تذكرُني تفكّر : اشتهتْ عاصفةَ الرعدِ . تُصيّرُ رقعةُ السماءِ أرجواناً عاتياً ، فيما القلبُ يبقى ، كعهدهِ ، في النارِ . سوف يمضي هذا أيضاً ، ذاك اليومُ الموسكوفيّ حين ، في اقتفاءِ خُطى المشتهى ، أهجرُ المدينةَ إلى الأبدِ تاركةٍ ظلّي بينكم .
٢ بلا عنوان :
وسط جليدِ موسكو الكرنفاليّ ، حيث ينسكبُ الوداع ، وداعنا ، وحيث قد تقرأون الطبعة الأولى لأغاني فراقِ عيونٍ مندهشةٍ قليلاً . - ماذا ؟ مستحيل ؟ - بالطبع . طاهرةٌ فيروزاتُ السمواتِ القدُسيّةُ ، والأشياءُ من حولنا طيّبةُ النفسِ . لم يفترقْ أحدٌ ، هكذا، عن أحدٍ . هذا وسامُ بطولتنا.
٣ نخبٌ آخر بعدُ . من أجلِ ثقتكَ العمياءِ بي ، من أجلِ إخلاصيَ الأبدِيّ لك ، من أجل الذي قادنا إلى هذه الحافّة !
فلنكنْ ، أبداً ، مأخوذَين بالسحرِ . لكنّ الأرضَ لم تجئنا بشتاءٍ حاذقٍ بالروعةِ ، ولم تكنِ الصلبانُ مزخرفةً في أقاصي السماء . سلاسلُ الهواء أطولُ من الجسورِ .. من أجلِ جاعلِ الأشياءِ تسبحُ ، منزلقةً ، بلا محضِ صوتٍ . من أجلِ من قضى أنّ لزاماً علينا ألا نلتقي . ١٩٦١١٩٦٣ *** إلى ذكرى بولغاكوف (٧)
هاأنذا ، لكَ ، بدلاً من زهراتِ القبرِ ، وإشعالِ البخورِ . هكذا عشتَ بصرامةِ الكفافِ القليلِ ، وحتى النهايةِ ، ببلاغةِ الإزدراءِ الأخّاذِ ، بلّغتَ .
وشربتَ النبيذَ ، وليسَ كما يتفكّهُ الآخرون ، مزحتَ ، وكنتَ ، بين جدرانٍ موصَدٌ عنها الهواءُ ، تختنقُ ، أنتَ الذي أذِنتَ للضيفةِ الرهيبةِ أن تبقى وحدها معك . وها أنتَ لم تعدْ بيننا ، وكلّ شيء موطوءٌ ، عن هذه الحياةِ العاليةِ الكئيبةِ ، بالصمتِ الأعمى . وحدَهُ صوتي ، مثل نايٍ ، يجلجلُ حتى في وليمةِ دفنكِ الخرساءِ .
ومن تجرّأ ، أنا شبهُ المصابةِ بالجنونِ ، أن يصدّقني ، أنا الناشجةُ الآن أيّامَ القتلى ، وأعمارَ المفقودينَ والمنسيّينَ ، المتقلبّةُ على نارٍ هادئةٍ .
من ، بملء قواه وفيضِ إرادته ، من ، بنواياه البيضاء ، كأنما حدثني أمس ، وقد وارى رعشاتِ آلامِ ما قبلَ الموت . ١٩٤٠ *** موسيقى قدّاس
١٩٣٥١٩٤٠
لا .. ليس تحتَ قبّةِ سماءٍ أخرى دخيلةٍ وليس في كنفِ أجنحةٍ غريبةٍ كُنتُ ، آنذاكَ ، مع شعبي هناك ، حيثُ ، لسوءِ الحظّ ، كان .. ١٩٦١
بمثابة مقدّمة : سبعة عشر شهراً ، في سنيّ القمعِ الرهيبةِ ، قضيتُ في طوابيرِ سجنِ لينينغراد . مرةً ما ، أحدٌ ما وشى بي. حينذاك ، كانت امرأة بشفتين زرقاوينِ تقفُ خلفي ، ومن المؤكّد أنها لم تكنْ قد سمعتْ باسمي قط . صحتْ من الذهولِ الإعتياديّ الذي كان يعمّنا هناك ، وسألتني في أذني ( هناك همساً يُختلسُ الحوارُ ) : - هل تستطيعينَ تصويرَ كلّ هذا. وقلت : - أستطيع .. آنذاك ، انسابَ شيء أشبه بابتسامة على وجهها الذي لم يكن ، من قبلُ ، هذا .
١ أبريل ١٩٥٧. مدينة لينينغراد .
إهداء :
تنحني ، في حضرةِ الأسى هذا ، الجبالُ ، ولا يندلعُ النهرُ الجليلُ . وحدها ، ترابيسُ السجنِ الفتّاكةُ ، وجحورُ الأشغالِ الشاقّةِ ، خلفها ، والحسرةُ القاتلة .
لمنْ ، طازجاً ، يرفّ النسيم ُ ، الغروبُ لمنْ يرِقّ ؟
نحنُ لا نعرفُ ، نحنُ في كلّ أرضٍ كما نحنُ .
لانسمعُ غيرَ صريرِ المفاتيحِ المقيتةِ ذاتها ، وخطى العسكريّ الثقيلات . نهضنا كما لو أننا إلى صلاةِ الفجرِ ، مستوحشينٓ ، ندبّ في العاصمة ، هناك التقينا ، أنفاس قتلى هامدة ، شمس أدنى ، والنيفا الضبابيّ ، فيما أملٌ ما ينشدُ في الأفقِ .
النطقُ بالحكمِ .. على عجلٍ تهطلُ الدموعُ من مآقي الجمعِ ، الدموعُ تجري فرادى . كما لو أنها ، بأقصى وجعِ العمرِ ، استُلّتْ من القلبِ ، وكأنها هائجةً انكبّتْ على ظهرها ، لكنّها تمضي ، مرتجّةً ، وحدها .
أينهنّ اللواتي اضطررتُ أن أصادقهُنّ في سنتيّ المسعورتينِ ؟ مالذي يلوحُ لهنّ في عاصفةِ الثلجِ السيبيريّ ، مالذي يتراءى لهنّ في قرصِ القمر ؟
لهنّ أرسلُ تحيّةَ الوداعِ .
آذار ١٩٤٠
فاتحة :
كان هذا ، عندما ابتسم ٓ لكنّه ميّتاً كانَ ، مغتبطاً بالسكينةِ . بما فاضَ من ثرثرةٍ ، تداعى على مقربةٍ من أسوارِ سجونِ مدينتهِ لينينغراد . كان هذا ، عندما مضتْ الأفواجُ المدانةُ ، مخبولةً من الألمِ الفتّاكِ ، زفرتْ صفّاراتُ القاطراتِ أغنيةَ الفراقِ القصيرةَ ، وانتصبتْ ، فوقنا ، نجومُ الموتِ ، وتلوّت روسيا البريئةُ تحتَ البساطيرِ الدمويّةِ ، والعجلاتِ السُودِ لناقلاتٍ محملاتٍ بالمساجين .
١ قادوكَ ، مع مطلعِ الفجرِ ، وخلفكَ ، كما في تشييعِ جثمان ، سِرتُ ، انتحبَ الأطفالُ في الغرفةِ المعتمةِ ، وعندَ الضريحِ نطفتْ شمعةٌ ، على شفتيكَ برودةُ الأيقونة ِ ، وعلى جبينكَ عرقُ الموتِ .. ليس يُنسى ! وسأبقى ، كزوجاتِ المعدومينَ بالرصاصِ الفتيّاتِ ، أنوحُ على أبراجِ الكرملين .
خريف موسكو ١٩٣٥.
٢ مطمئناً ، ينسكبُ الدونُ الهادئُ ، الهلالُ الأصفرُ يلجُ البيتَ ، يدخلُ في قبٌعةٍ مائلةٍ على جانبٍ رأسٍ . الهلالُ الأصفرُ يُبصرُ ظلاً . هذه المرأة مُعتلّةٌ، وحيدةٌ هذِهِ المرأةُ . صلّوا ، إذنْ ، لأجلي .
١٩٣٨
٣ لا . إن هذه ليستْ أنا . هيَ أخرى تتمرّغُ بالآلامِ . ليس بي ما يُطيقُ كلّ هذا . بينما هِيَ .. مالذي يجري ؟ دعِ الأجواخَ السوداءَ تُغشي ولتحملِ المصابيح .. الليلة .
١٩٣٩
٤
أأُريكِ ، أيتها الساخرةُ المعشوقةُ من كلّ الأصدقاءِ ، آثمةُ " تسارسكوي سيلو" (٩)الجذلى ، مالذي سيجري لحياتكِ كما أنتِ - الرقمُ الثلاثمائة في الطابورِ مع النقلِ ستظلّين واقفةً تحت الصلبانِ ، تلهبينَ ، بدموعكِ الساخناتِ ، جليدَ العامِ الجديدِ . هناكَ ، حيثُ يرتجّ حَورُ السجنِ ، ولاصوتَ كم من الأرواحِ البريئةِ تُجتثّ .
١٩٣٨
٥ بأشهريَ السبعةَ عشرَ أعوي ، أناديكَ حتى تعودَ إلى البيتِ . أنتَ ابني ، وروعي . مختلطٌ كلّ شيء إلى آخرِ الدهرِ ، وليسَ بي ما يُدرِكُ : من الوحشُ الآن ، ومن الآدميّ . أيطولُ انتظارُ اعدامكَ . وحدها الورودُ التي تعفّرتْ بالغبارِ ، ورنينُ البخورِ، وآثارُ تمضي إلى غيرِ ما جهةٍ ، والنجمةُ العظيمةُ ، قاصدةً ، تتفرّسُ في عينيّ تنذرُ بمقتلكَ الوشيكِ . النجمةُ العظيمةُ .
١٩٣٩
٦
تطيرُ الأسابيعُ العجولاتُ . ماذا جرى . ولا عِلمَ لي . كيفَ تجري حياتكَ ، بنيّ ، في قبضةِ السجنِ . أطلّتِ الليالي البيضاءُ كيفَ أمكنَها أن تعودَ ثانيةً ، بمُقلتيْ باشقٍ حرّاقتينِ وتروي الأحاديثَ عن صليبكِ العالي ، وموتكَ ذاكَ . ربيع ١٩٣٩
٧
الحُكم :
وقعتِ الكلمةُ الحجريّةُ على صدري الذي مازالَ حيّاً . لاشيءَ ، لاشيءَ . وحسبي تحسّبتُ من قبلُ . سأعبرُ هذا على كلّ حالٍ . لديّ ، اليومَ ، أعمالُ أخرى جمّةٌ : ينبغي محوُ ذاكرتي كلّها ، وعليّ ، لكي تتحجّرَ روحي ، من جديدٍ أن أتعلّمَ كُنْه الحياة .
ليس هذا كما كانَ حفيفُ الصيفِ القائظِ كما لو أنّه احتفالٌ خلف نافذتي . وبي ، منذ وقتٍ بعيدٍ ، نذيرَ شؤمٍ اختلجَ اليومُ المُشمِسُ والبيتُ المهجورُ .
صيف ١٩٣٩.
٨
إلى موت :
مادمتَ ستأتي لا محالةَ ، فلماذا لا تجيء للتوّ ؟ إني على انتظاركَ . شاقّ عليّ ، ولاطاقةَ لي . أخمدتُ الضوءَ ، وأشرعتُ البابَ ..لكَ . جئْ كما أنتَ : بسيطاً ، وغريباً . كُنْ على أيةِ هيئةٍ تشاءُ . مقتحماً ، كقنبلةٍ موبوءةٍ ، أو متسللاً ، بصولجانكَ الحديديّ ، كمجرمٍ حاذقٍ ، أو مسمّماً بأعقابِ التيفوس .
أو خُرافيّاً ، خالقاً نفسكَ بالذي سوّتْ يداكَ ، كما أنتَ مألوفاً للخلقِ حدّ التقيئٍ . كي أرى سقفَ القبّعةِ الزرقاءِ (١١)، والبوّابَ الشاحبَ بالرعبِ . سيّانَ ما سوفَ يجري الآن . يعلو " ينيسي" (١٢)متضفّر الأمواجِ ، يبرقُ النجمُ القطبيّ ، والألقُ الأزرقُ في المقَلِ الحبيبةِ تواري الكابوسَ الأخير .
١٩ أغسطس ١٩٣٩
٩
هوذا الجنونُ ، بجناحهِ ، يغمرُ نصفَ روحي ، يجرّعني النبيذَ الناريّ ، ثمٌ يجرّني إلى وادٍ من الظلماتِ . ووعيتُ . آن لي أن أسلمّهُ قوسَ النصرِ ، مستسلمةً لما هو بي ، كما لوأنه هذيانُ آخرٍ ، غريب . ولا شيء يشفعُ عندهُ . الجنونُ هذا يقتادُني معهُ . ولا يكلّف نفسهُ وسعاً بالتفاتةٍ لتوسّلي وضراعاتي الحانية .
لا الألمُ الأصمّ في عيني ابني المرعوبتينِ ، ولا يومَ حلّتْ عاصفةُ الرعدِ ، ولا ساعةُ الزيارةِ في السجنِ ، ولا الأكفّ الرقيقةُ المندّاة ، ولا بقايا الظلالِ المضطربةِ ، ولا الصوتُ الخفيفُ السحيقُ - كلمةُ العزاءِ الأخير .
٤ مايو ١٩٤٠.
١٠ الصلب:
" لا تنحبي عليّ ، يا أمّ في قبري "
تمجّدُ جوقةُ الملائكِ الساعةَ الجللَ ، السمواتُ انصهرتْ في السعيرِ . قالَ للأبِ : لماذا تركتني !" وللأمّ : " لاتنحُبيني" .
١٩٣٨
بكتِ المجدليّةُ لاطمةً ، وتحجّرَ التابعُ الحبيبُ . بينما ، إلى هناكَ حيثُ تسمّرتِ الأمّ مأخوذةً بالصمتِ ، لم يجرؤ أحدٌ أن يرمي نظرةً ما .
١٩٣٠١٩٤٣
خاتمة :
عرفتُ ، كيفَ تسقطُ الوجوهُ ، كيفٓ يختلسُ الرعبُ التحديقَ من تحت الجفونِ ، كيفَ تُربّي الصفحاتُ المسماريّةُ الغلّابةُ الوجعَ المرّ على الوجناتِ ، كيفَ تشتعلُ خصلاتُ الشَعرِ التي جُعلتْ من الرماديّ أو الأسودِ ، في خلسةٍ عنها ، بالفِضيّ . كيفَ تذوي الإبتسامةُ على الشفاهِ المُذعناتِ ، ويرتجفُ الرعبُ في الضحكةِ اليابسةِ . وأنا أصلّي ، ليس لي وحدي ، بل لَكُمْ ، كلّكمْ . لمن وقفَ ، هناكَ ، مثلي في البردِ اللدودِ ، في قيظِ تموز، تحتَ جدارٍ أحمرَ أعمى .
أصلّي ، ليس لأجلي ، بل لأجلكمْ كلّكمْ .
٢
ثانيةً ، أقبلتْ ساعةُ الغائبِ . إنّي لا أزالُ أراكُنّ وأسمعكُنّ ، وإنيّ أحسّ بكنّ : تلكَ التي بالكادِ جُرّتْ إلى الشبّاكِ ، وتلكَ التي لم تعدْ تدُبّ على الأرضِ ، وتلكَ التي هزّتْ رأسَها الجميلَ ، وقالتْ : " أجيء هنا ، وكأني آتي إلى البيتِ " . إن بي رغبة أن أسميكنّ جميعاً بأسمائكنّ . لكنّهمْ سرقوا القوائمَ ، ولايُعرفنَ في أيّ أرضٍ . حِكتُ لهنّ غطاءً وسيعاً من كلماتهنّ الطائعةِ البائسةِ . وسأبقى ، أبداً ، أتذكرهنّ ، حيثما حللتُ ولن أنساهنّ في فجيعتيَ الآتية .
وإذا كبتوا فميَ المكلومَ بالذي يصرخُ شعبيَ المضنيّ ، دعهنّ يحتفلنَ بي عشيّةَ يومِ ذكرايَ .
وحين يفكّرون ، ذاتَ وقتٍ في بلدي ، بنصبِ تمثالٍ لي ، سوف أعطي موافقتي باحتفاليّةٍ . فقطْ ألا يشيدوهُ على مقربةٍ من البحرِ ، حيثُ ولدتُ . انقطعتْ آخرُ أوصالي مع البحرِ . ولا في الحديقةِ القيصريّةِ عند جذموريَ المنشودِ ، حيثُ يبحثُ عني الظلّ الذي لاسلوانَ عنه . بل هنا ، حيث وقفتُ ثلاثمائة ساعةٍ ، وقد غُلّقتْ دونيَ الأقفالُ . وأخشى ، بعد هذا ، في موتيَ المباركِ نسيانَ دويّ العجلاتِ السُودِ للناقلاتِ حاملاتِ المساجين َ ، نسيانَ كيفَ أُوصِدَ البابُ الممقوتُ ، وعوتْ عجوزٌ كوحشٍ جريحٍ .
وليكنْ أن هذا الثلج الذائبَ يجري كالدموعِ ، من القرنِ البرونزيّ الجامد . وليكنْ .. حماماتُ السجنِ تنوحُ في الأفقِ البعيدِ . وليكنْ .. تمضي السفنُ في النيفا هادئة . آذار ١٩٤٠
#عبدالله_عيسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشاعر الفلسطيني من بين ثلاثة شعراء حول العالم في كتاب عام ا
...
-
الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب : في ذكرى النكبة : مازلنا
...
-
وسام الثقافة والعلوم والفنون الفلسطيني يمنح لعدد من الكتاب ا
...
-
المركز الروسي - القدس- متضامناً مع الشعب الفلسطيني : الممارس
...
-
الرئيس الفلسطيني محمود عباس : المسجد الأقصى حق إسلامي خالص
-
سفير فلسطين في روسيا عبد الحفيظ نوفل : المجلس الوطني الفلسطي
...
-
سفير فلسطين في روسيا عبد الحفيظ نوفل : نثق بدور روسيا ، وندع
...
-
الشاعرالفلسطيني عبدالله عيسى يكتب : علي دوابشة ، النبي ابراه
...
-
الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب : أنا النهاية أروي لأبقى
-
سفير فلسطين في روسيا عبد الحفيظ نوفل في يوم القدس العالمي :
...
-
المالكي في موسكو : الشعب الفلسطيني فرض شرعيته
-
الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يرثي - نهاية - الكنعانية
-
دفاعاً عن السلطة والمنظمة ، دفاعاً عن فلسطين
-
كمن ينتظر الأبدية خلف السياج
-
الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب تحية للشاعر الفلسطيني الم
...
-
الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب عن معلولا
-
الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب في الذكرى 67 للنكبة
-
في ذكرى النكبة : ولهذا ما زلنا أحياء
-
الساكت عن الإرهابي إرهابي أخرس
-
السيد الرئيس : جل ّشعراء وكتاب فلسطين في الموسوعة الروسية إس
...
المزيد.....
-
فيلم وندوة عن القضية الفلسطينية
-
شجرة زيتون المهراس المعمر.. سفير جديد للأردن بانتظار الانضما
...
-
-نبض الريشة-.. -رواق عالية للفنون- بسلطنة عمان يستضيف معرضا
...
-
فيديو.. الممثل ستيفن سيغال في استقبال ضيوف حفل تنصيب بوتين
-
من هي ستورمي دانيلز ممثلة الأفلام الإباحية التي ستدلي بشهادت
...
-
تابِع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 23 مترجمة على قناة الف
...
-
قيامة عثمان 159 .. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 159 مترجمة تابع
...
-
-روائع الموسيقى الروسية-.. حفل موسيقي روسي في مالي
-
تكريم مكتب قناة RT العربية في الجزائر
-
الحضارة المفقودة.. هل حقا بنيت الأهرامات والمعابد القديمة بت
...
المزيد.....
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
المزيد.....
|