أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - مجدي الجزولي - خصخصة المثقفين: أقول الحق واتعشّى في بيتنا















المزيد.....

خصخصة المثقفين: أقول الحق واتعشّى في بيتنا


مجدي الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 1461 - 2006 / 2 / 14 - 11:27
المحور: الصحافة والاعلام
    


"أكد الأستاذ (..) خلال إتصال مع رئيس التحرير أمس التزامه بعقده مع جريدة (..)، منوهاً إلى استمرار عموده اليومي (..) بالصحيفة". كان هذا نص إعلان تصدر الصفحة الأولى من جريدة كبرى بتاريخ 5 فبراير 2006، مثله مثل أخبار المفاوضات في أبوجا، وقضية القوات الدولية في دارفور. في صحف أخرى، مثلاً جريدة ’الرأي العام‘ (5 فبراير 06، ص 14)، تكرر إعلان بحجم صفحة كاملة يبشر بصدور صحيفة جديدة من خلال صور بحجم الباسبورت معنونة بأسماء أصحابها من الكتاب الكبار. ليس من المعقول توجيه النقد للكتاب في أشخاصهم، فهم من هم في الخبرة الصحفية، ولأقلامهم وكتاباتهم جاذبية وبريق، كما أنهم عرفوا بمواقف صادقة ومشرفة تنتصر للحق مرات ومرات، والحكم عليهم لا يحل إلا بالاحتكام إلى ما يكتبون.

أما ما أود مناقشته فهو التغيير الطارئ في وظيفة الكتابة وشروطها. القضية تتصل لزاماً بوضع ’المثقفين‘ وفعلهم. في بلادنا تضيق دائرة القراءة ضيقاً محرجاً بسبب الأمية أولاً، ثم يتبعها الجهل والفقر وكساد المكتوب. أما دائرة الكتابة فأضيق وأشد حصراً، ربما بسبب ثقافة شفاهية لاتنفك تأسر الأقلام عن البيان، أو لعنت الكتابة وضيق المعاش وشروط الحياة الاجتماعية واليومية. المحصلة أنه في هذه الشروط يتقلد المثقفون سلطةً أعظم على الرأي العام واتجاهاته، لقلة عدد الناشطين منهم كتابةً، وللقدسية التي تكسو كل مكتوب في بلاد تصارع الأمية ما زالت، ولا تسع مؤسسات تعليمها إلا قلة من بناتها وأبناءها أهل الحظوة. العقيدة الدينية تلعب دورها أيضاً في تقديس الحرف المكتوب، إذ أن معجزة الإسلام الأولى هي البيان القرآني، ومن بعد ذلك إخراجات هذه المعجزة على صعيد الممارسة الشعبية من تبرك بالكلام المقدس وعلاج به وتقاليد ’صوفية‘ أخرى في هذا الإطار. في التاريخ الشفاهي لبلادنا تقليد يعزز هذه السلطة ويشرعنها، حيث اقترن السند الروحي والثقافي للممالك السودانية الفونج والفور وتقلي بظاهرة ’الغريب الحكيم‘، الذي يفد من حضارة عريقة إلى حضارة متخلفة فيعمل على تعليم أهلها وترقيتهم وينال قرباً من المُلْك وسلطة، وربما تزوج بنت الملك واعتلى إبن له العرش المحلي (يوسف فضل، 2002). السلطة التي للمثقفين على الرأي العام تجعلهم في بؤرة الفعل الاجتماعي سلباً وإيجاباً، بوعي أو بغير وعي. من هذه الناحية فإنهم كجماعة تشتغل على الأذهان والأفكار يتمتعون بسطوة طالما أشاعوا أنها تخبر عن ’الضمير‘ الاجتماعي وتتمثل المصالح الشعبية. بحسب لودفيغ فيتغنشتاين (فيلسوف ورياضي نمساوي، 1889 – 1951) إنك "قد لا تستطيع البرهنة على كون أحدهم مثقف، لكن حالما تلتقي مثقفاً حتماً ستعرفه، هذا إذا التقيته". عجز صاحب ’التحقيقات الفلسفية‘ عن خط رسم لغوي-رياضي لكُنْه المثقف يثبت ربما ألا مجال لذلك سوى بالاستناد إلى الوظائف والمهام والأدوار التي يقوم بها المثقفون في ’مسرح‘ الحياة، أي سوى بالنظر في شروط اشتغالهم التاريخية، ما لا يصح إلا تراجعياً، وليس ابتداءاً، إذ ليس من جوهر ثابت للمثقف أو تعريف ابتدائي. الإحالة إذن قائمة إلى شروط وجود المثقفين وتخلقهم الاجتماعية والاقتصادية، كجماعة هجين في ظروف نشأتها، تتغذى على المعارف وتنتجها، وبالتالي تتعلق بالمجال العام الاجتماعي وتشكله وتؤثر فيه عبر الخطاب وآلياته. بما هم نتاج وصناع للجهد الاجتماعي في المعرفة، يحمل المثقفون رأس مال معرفي، يجعلهم اصحاب سلطة اجتماعية. أما كيف يستغل المثقفون هذه السلطة، وفي أي إتجاه، ولمصلحة من، فرهين بالشروط التاريخية الملموسة لوجودهم ونشاطهم. مجال اشتغال المثقفين، أي الفكر (intellect)، هو بصورة من الصور الشكل الاجتماعي للإنتاج العقلي، هو جهد العقل مخزون ومرتب إلى فروع معرفية تعبر عنها عادات للرموز والعلامات الدالة على المعنى في سلسلة من الحجج العقلانية والحوافز العاطفية. وفي ذلك ليس الفكر مشروط بالذكاء (intelligence) أو مانع له، بل ربما يفيد الفكر في تعويض نقص الذكاء، أو في تعظيم قوته بمده بالاعتراف العاجل أو بالتجسيد الفعال. الذكاء أينما وجد هو ملكة فردية وخاصة، حيث يموت بموت صاحبه ما لم يفلح في تجسيده بشكل أو آخر ذي ديمومة، أما الفكر فهو جهد وكسب اجتماعي. إن اصطلاح ’مثقفين‘ لا يعبر بصدق عن الفئة الواسعة من الناس المراد الإشارة إليها بهذا الإسم، فالعلماء، والمفكرين الأصيلين، والمتخصصين في فروع الفكر والمعرفة كثيراً ما يتم استثناءهم داخل جماعة المثقفين، رغم أنهم يقومون بأدوار مماثلة. ليس على المثقف أن يتحلى بذكاء مميز أو يكتسب معرفة تخصصيّة دقيقة في أي مجال من المجالات، حتى يقوم بأداء وظيفته كوسيط في نشر الأفكار، فما يؤهله لأداء هذه الوظيفة هو اتساع دائرة المواضيع التي يمكنه طرحها كتابة أو حديثاً، بالإضافة إلى وضع وعادات تساعده على التعرف على الأفكار الجديدة بأسرع مما يفعل جمهوره. خارج إطار مهنته الخاصة يعتمد كل فرد بصورة أو أخرى على وساطة ’المثقفين‘ في التعرف على الأحداث والأفكار الجديدة، وعلى مشورتهم ووجهة نظرهم، فهم يحددون أي الآراء تصل إلى الجمهور، وأي المعلومات جديرة بالمعرفة، وبأي هيئة ومن أي زاوية يتم طرح هذه الأفكار والمعلومات (هاييك، 1949).

بهذا المعنى يكاد المثقف يلعب لدرجة ما دور مروّج ’سكندهاند‘ للأفكار، يقوم بمهمة التفسير والشرح، أو التبرير، أو الإدانة. وهو في ذلك مواجه بأحد خيارين: إما أن يتكسب من عمل مستقل لحد ما عن نشاط ’المثقف‘، أو أن يتحصل على رزقه نظير آرائه. الأول يحيله إلى التدريس في غالب الأمر، أو إلى السند الأسري الحاضر أو الثروة الأسرية الموروثة. بخصوص الخيار الثاني، فإن المثقف لا بد مصطدم بحقيقة أن الممولين عادة لا يدفعون أجراً نظير آراء تخالف مصالحهم، أو نظير آراء لا تعنيهم، لكنهم على استعداد للدفع نظير وجهات النظر التي تبرر مصالح يرغبون في خدمتها، أو طموحات يسعون إلى تحقيقها. بل إن إحدى وظائف المثقفين الاجتماعية التقليدية هي إقناع أولياء ممكنين بمصالح وطموحات غابت عنهم، وتأكيد جدواها بسوق الحجج والمبررات. أي مجتمع قادر على صناعة ’مثقفين‘ يشتمل بالضرورة على عدد من الفئات متصارعة المصالح، والتي هي في حوجة دون قهر باد إلى من يعبر عن هذه المصالح ويقضي بمشروعيتها. لذا، وبطبيعة الحال، فإن الطائفة الأقدر على دعم وتمويل المثقفين، وفي نفس الوقت الأكثر حوجة إلى ستار المشروعية، هي الطائفة القابضة على السلطة والموارد. سيان في أي محتوى، يثبت التاريخ الماضي والحاضر أن جل المثقفين يتكسبون من تبرير وشرعنة الأوضاع القائمة، إما كلياً أو جزئياً، بإرادة منهم ووعي، أوبغير ذلك. لا يفيد هذا التقرير بالضرورة التورط القاصد المحسوب أو التعمد أوالمتاجرة بالرأي والفساد (رغم أن ذلك حاصل أحياناً) فمعظم المثقفين يعبرون صادقين عن آراء هم على قناعة بها، على الأقل عندما يخاطبون جمهوراً متعاطف معهم (بيرتش، نوفمبر 2000). في هذا السياق يمثل دعم مثقفين بعينهم وسيلة فعالة أحياناً لتمرير أجندة معينة وترسيخ وجهة نظر مفضلة أو مناسبة، حيث تتحقق الفعالية المنشودة عموماً بحفز قيم وقناعات ومبادئ ذات مقبولية تتعدى دائرة الفئة صاحبة المصلحة المباشرة، إذ أن صحة فكرة ما لا ترتبط لزاماً بمن يستحدثها أو يتّبعها، بل توجد في استقلال نسبي عن الإثنين. وعليه فالناس على استعداد لمساندة ذلك المثقف، الذي يظنون أفكاره وآراءه حقاً، دون كثير تساؤل. مع أن المثقفين في العادة لا يلمون إلماماً تفصيلياً أو متخصصاً بغالب القضايا التي يتطرقون إليها أو يطرحونها إلا أنه لا يمكن الاستهانة بسطوتهم على الرأي العام، فأحكامهم في كثير من الأحيان تؤثر بصورة حاسمة على مواقف الجمهور في المستقبل المنظور. بل يمكن الزعم أنه متى ما تم تدجين القطاع النشط من المثقفين لترويج عقيدة أو أفكار معينة، فإن العملية التي تصبح بها هذه الأفكار ذات مقبولية عامة تكاد تكون أوتوماتيكية ولا يمكن مقاومتها. في هذه الحدود يمثل المثقفون آلة المجتمع لنشر الأفكار والمعارف، وتمثل قناعاتهم وآرائهم منخلاً تمر عبره الأفكار الجديدة حتى تصل إلى الجماهير. شواهد ذلك في تاريخنا عديدة، ومنها ما تحقق لتيار الإسلام السياسي، الذي أصبح الغطاء التبريري لرأسمالية كومبرادورية جشعة، من سطوة على الرأي العام وأنماط السلوك الاجتماعي بتمكنه من قطاع واسع من المثقفين ونفوذه في أوساط الطلاب والخريجين، منافساً لتيار وطني تقدمي ناضل الشيوعيون السودانيون أيّما نضال في ترسيخه بين قطاعات المجتمع المتعلمة، آخذين بأحسن الماركسية نُصرةً لبروليتاريا السودان وغمار أهله، وكانت له في عهد سابق اليد الطولى في تشكيل إتجاهات الرأي العام والتأثير على وعي الجماهير وعملها.

كقاعدة عامة يستند المثقفون في دعواهم على قيم مطلقة من قبيل طلب ’الحقيقة‘ والالتزام ب’الموضوعية‘، على الأقل في حدود إمكاناتهم، وبالطبع كل فكر يطلب مشروعية عامة بزعم تجسيد فصل الخطاب، وكمال الحق، وكذلك كل إرشاد أخلاقي لا يصح إلا بقابلية ونجاعة تطبيقه على الجميع دون استثناء. في هذا الصدد لنا أن نبتغي سنداً نقدياً من التراث الماركسي، حيث أكد ماركس على ضلالة الانحراف المثالي والمادي غير التاريخي، في إحالة المعرفة إلى مورد لا تاريخي، متجاوز لإملاءات الصراع البشري. في ورقته ’أطروحات حول فورباخ‘ (1886) إحتج ماركس على إغفال أنصار فورباخ لواقع أن المعرفة، خاصة تلك الخاصة بالاجتماع، هي فعل بنائي يتقوم بمشاريع بشرية للتفكير والتعبير. من هذا الباب فإن للمعرفة جانب ذاتي، فهي ليست تنزلاً محايداً للحقائق المادية. أبرز صاحب ’الأطروحات‘ أن نشاط الفاعلين الاجتماعيين البنائي يتوسط بين أحوال الوجود وتمثلاته الذهنية، وأن هؤلاء لا يستجيبون ميكانيكياً لمحفزات مادية ميكانيكية، بل ترُدّ أفعالهم على مهددات عالم ساعدوا هم أنفسهم وساهموا في تشكيل معانيه. ثم أردف أن نشاط الفكر لا يقوم على نظام من المبادئ والمقولات الكونية المثالية، بل على نظم من المشاريع المستبطنة والمجسدة التي يتم تكوينها خلال التاريخ الجمعي، ويتم اكتسابها خلال التاريخ الفردي، وتقوم بوظيفتها في حال الممارسة، وبغرض الممارسة الواقعية، وليس المعرفة الصرفة المتعالية (بوردو، 1979) ببساطة ليست المعرفة تنزلاً لمبادئ أولية مثالية، وليست انعكاساً مجرداً للواقع الموضوعي، بل تتخللها وساطة الفاعلين ويحيط بها التاريخ، وهي بذلك مشروطة ومندغمة في التاريخ البشري، خاضعة لإملاءات صراعاته وعلاقات القوة الكامنة فيه. نثبت هنا الأطروحة الثامنة حيث يقول ماركس: "كل الحياة الاجتماعية هي في الجوهر ممارسة، وكل الألغاز التي تنتهي بالفكر في التأمل الغنوصي تجد تفسيراتها العقلانية في الممارسة البشرية وإدراك هذه الممارسة". يشرح تراث ماركسي لاحق ’ألغاز‘ المثقفين ويكشف ’غموض‘ ممارساتهم، فقد اجتهد في هذا الباب المفكر الماركسي الإيطالي أنتونيو غرامشي (1891 – 1937) مسطراً عدة مقالات ضمن ملاحظاته المكتوبة إبان حبسه في السجن (1929 – 1935). في صدر مقالته المعنونه ’تخلق المثقفين‘ يؤكد غرامشي أن المثقفين ليسوا طائفة اجتماعية مستقلة قائمة بذاتها، بل أن كل فئة اجتماعية، يرجع أصلها إلى دور أساسي تقوم به في عالم الإنتاج المادي، تشكل بالتزامن مع نشأتها طبقة من المثقفين الذين يرفدونها بالوعي بذاتها وبالتجانس، ليس فقط في المجال الاقتصادي، لكن ايضاً في المجال الاجتماعي والسياسي. عليه لا بد للرأسمالي من تجنيد الفنيين وعلماء الاقتصاد والإداريين والقانونيين وصانعي الثقافة بحيث يمكن تأطير المجال العام وتوجيه وتنظيم الجماهير بحسب الهوى الرأسمالي. عند غرامشي ليس من عمل بدني صرف، فكل نشاط بشري هو جماع الذهن والبدن بنسب متغايرة، لذا "فإن كل فرد هو في الحقيقة مثقف ما دام تعريف المثقفين هو اشتغالهم الذهني، والفرق أن بعض الناس فقط يقومون في المجتمع بوظيفة ’المثقفين‘، فمَن مِِن الناس لم يرتق فتقاً في بنطاله يوماً ما، أو يطهو بيضاً، لكن حتماً لا يُعتبر كل الناس خياطين أو طباخين". علاقة المثقفين بالإنتاج ليست علاقة مباشرة كما هو الحال مع الفئات الاجتماعية الأساسية، بل تتدرج عبر وساطة كامل النسيج الاجتماعي ومجمل البناء الفوقي، الذي يُعتبر المثقفون جنده القائمين عليه. على هذا الأساس يمكن قياس درجة الإرتباط العضوي بين المثقفين والفئة الاجتماعية الغالبة بالاحتكام إلى تدرج وظائف المثقفين وأدوارهم بالنسبة إلى البناء الفوقي من أدناه إلى أعلاه. ينقسم هذا البناء الفوقي إلى درجتين أساسيتين: الدنيا هي ’المجتمع المدني‘ - مجال هيمنة الفئة الاجتماعية الغالبة على كافة الكيان الاجتماعي؛ والعليا هي ’المجتمع السياسي‘ أو الدولة - مجال السيطرة المباشرة. كل في محله، يقوم المثقفون في هذا السياق بوظيفتين اساسيتين: ضمان إقرار تلقائي من قبل جماهير واسعة بصحة التوجهات الاجتماعية التي تحددها الفئة الغالبة ومجال ذلك المجتمع المدني؛ وضمان فعالية جهاز ممارسة السلطة وقدرته على ضبط الذين لا يقرون بصحة التوجهات الاجتماعية المعنية بصورة سلبية أو ايجابية، ومجال ذلك الدولة.

لعهد قريب كان للمثقفين من الفئة المضادة، أي الذين يرفضون غلبة ’النظام‘ وينازعونه الشرعية، أهلية معترف بها للتعبير عن ’الحق‘ و’العدل‘ والإحتجاج السياسي، ولعل آخر مثقفي اليسار العظام من هذا الطراز هو جان بول سارتر (1905 – 1980)، فقد أعدمت الرأسمالية إمكانية تفرغ واستقلال كالذي تمتع به سارتر، وفرضت تسليعاً أكثر نجاعة على نشاط المثقف، أياً كان موقفه ورأيه. تدريجياً، ينقرض جنس ’المثقف العام‘ من نوع سارتر، ويأخذ مكانه ’مثقف نوعي‘ بلفظ ميشيل فوكو، ليس في إمكانه الانشغال بالقضايا العامة والاستناد إلى مبادئ كونية، بل تنحصر حدود رؤاه في المجال المحدد الذي تفرضه شروط معيشته، كان ذلك المعهد البحثي، أو المدرسة، أوالجامعة والتخصص الأكاديمي، أو منظمة حقوق الإنسان. فوكو يعتبر ذلك فرصة لاقتراب أشد بين المثقفين والفئات الشعبية، إذ أن المثقفين يجدون أنفسهم يصارعون نفس السلطات المتحكمة في الجمهور: الدولة والشرطة والقضاء والشركات الكبرى، مع زعم أن تركيز المثقفين على قضايا بعينها في حدود تخصصاتهم أكثر كفاءة وفاعلية من انشغالهم بالتصريح السياسي، ويمكن أن يؤدي إلى نتائج ملموسة. يشابه حديث فوكو حججاً كان يسوقها النقابيون الإصلاحيون ضد زملاءهم من اصحاب الرؤى الأكثر جذرية، ويمثل في مستوى من المستويات عقلنة لعدم منازعة النظام السائد، وانسحاباً رجعياً عن الانشغال السياسي، لجهة الرضا بما يمكن تحقيقه من نتائج ’نوعية محلية‘. لكن من ناحية أخرى شخص فوكو عرضاً جديداً للتمدد الرأسمالي يهدد فعلاً نشاط المثقفين النقدي بسجنهم في التخصص واستبعادهم من المجال السياسي.

بالعودة إلى الإعلان المثبت أول هذه الكلمة، يمكننا الآن القول أن سنناً جديدة في الكتابة والرأي تتشكل في صحافة بلادنا، أبرزها إحكام تسليع الرأي والكلمة، فقد تابعنا جميعاً في الفترة الماضية ونتابع حالياً تنقلات كتاب الأعمدة والرأي بين الصحف، حتى كاد أمرهم يطابق حال لاعبي كرة القدم بين الأندية الرياضية. والصحف تَبدّلت غاياتها ’التنويرية‘ إلا من رحم ربي، فالحافز الأول لنشاطها هو تحقيق الربح، ما يستقيم مع شروط السوق. المصادر البادية لدخل أي صحيفة هي الإعلانات والتوزيع، وبين الإثنين صلة، فالصحيفة التي لا توزع جيداً لا تحصل على الإعلانات، حيث يتنافى ذلك مع غرض الإعلان. لتحقيق التوزيع الأوسع على الصحيفة أن تجوّد مستوى أدائها وإخراجها، وذلك مطلب نبيل، لكن كذلك عليها اجتذاب القراء بصناعة واحتكار كتاب ’نجوم‘ يجمعون بين سهولة اللغة وسخريتها، ما قد يبدل غرض الكتابة من التنوير إلى الترويح. النتيجة أن العديد من الصحف تكد وتجتهد لتخرج إلى الناس جامعة لفضائل ’التايمز‘ وهرج ’الصن‘. لم يعد المهدد الأول لحرية الصحافة اليوم هو مقص الرقيب، وهو وسيلة غليظة بليدة، بل يهدد بأخذ مكان المقص المنظور مقص أعظم تحمله يد السوق الخفية، بينما يكتب السوق بأياد أخرى مرئية.



#مجدي_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن ثقافة الرأسمالية
- الكونغو الديمقراطية: متحزم وعريان
- غربة الحق: المانفستو الشيوعي في طبعة جديدة
- النيباد: سنار من عماها يبيعو ليها ماها
- بعد الاستعمار قبل التحرير: في الذكرى الخمسين لاستقلال السودا ...
- ثورات بوليفيا
- عن نضال المزارعين
- ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري - الأخيرة
- ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري - الأخيرة
- ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري 4
- العدالة الانتقالية
- ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري 3
- ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري 2
- ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري
- المؤتمر الوطني حزب وطبقة
- ما بعد التجمع
- نموذج المركز ضد الهامش و الصراع الطبقي في السودان
- ماهية فوضى الغوغاء
- حفظ السلام
- بصدد خصخصة السياسة


المزيد.....




- مصدر يوضح لـCNN موقف إسرائيل بشأن الرد الإيراني المحتمل
- من 7 دولارات إلى قبعة موقّعة.. حرب الرسائل النصية تستعر بين ...
- بلينكن يتحدث عن تقدم في كيفية تنفيذ القرار 1701
- بيان مصري ثالث للرد على مزاعم التعاون مع الجيش الإسرائيلي.. ...
- داعية مصري يتحدث حول فريضة يعتقد أنها غائبة عن معظم المسلمين ...
- الهجوم السابع.. -المقاومة في العراق- تعلن ضرب هدف حيوي جنوب ...
- استنفار واسع بعد حريق هائل في كسب السورية (فيديو)
- لامي: ما يحدث في غزة ليس إبادة جماعية
- روسيا تطور طائرة مسيّرة حاملة للدرونات
- -حزب الله- يكشف خسائر الجيش الإسرائيلي منذ بداية -المناورة ا ...


المزيد.....

- السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي / كرم نعمة
- سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية / كرم نعمة
- مجلة سماء الأمير / أسماء محمد مصطفى
- إنتخابات الكنيست 25 / محمد السهلي
- المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع. / غادة محمود عبد الحميد
- داخل الكليبتوقراطية العراقية / يونس الخشاب
- تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية / حسني رفعت حسني
- فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل ... / عصام بن الشيخ
- ‏ / زياد بوزيان
- الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير / مريم الحسن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - مجدي الجزولي - خصخصة المثقفين: أقول الحق واتعشّى في بيتنا