أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - حكايتي مع فن الرواية، وتقنية ما وراء الرواية -شهادةُ روائيٍّ هاوٍ-















المزيد.....

حكايتي مع فن الرواية، وتقنية ما وراء الرواية -شهادةُ روائيٍّ هاوٍ-


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 5455 - 2017 / 3 / 9 - 11:25
المحور: الادب والفن
    


حين شرعتُ بكتابة رواية (غسق الكراكي) في أواخر تسعينيات القرن الماضي لم أكن أعرف شيئاً يُذكر عن (الميتافكشن). غير أن المخطط الذي وضعته لنفسي لبناء الرواية بدا حاوياً على طاقة غواية عالية، ومحرِّضاً على الاستمرار في التأليف بمتعة وحماس. حتى خُيّل لي، وأنا منهمك بالكتابة، وكأنني لست من يكتب الرواية وإنما هي تنكتب عبري، ولست سوى وسيط لقوة غير مرئية تملي عليَ الكلمات والجمل، وتقودني عبر متاهة من الإثارة والجمال. ولم اطّلع نظرياً، وباستفاضة، على مفاهيم وقيم وأبعاد (ما بعد الرواية) إلا بعد إشارة الناقد الأستاذ عباس عبد جاسم إليها وهو يتحدث عن روايتي في دراسة قصيرة نشرها في جريدة العراق وتضمنها كتابه (ما وراء السرد.. ما وراء الرواية). وكان ذلك بعد إنجازي لرواية ثانية هي (ترنيمة امرأة.. شفق البحر) في العام 2002. والغريب أنني لجأت إلى التقنية ذاتها، وبمسارات أعقد اتخذتها فيها، وأيضاً من غير دراية بالمقولات المجردة للنظرية حتى تلك الساعة.. كنت أشتغل في تلك المنطقة العجيبة من غير أن أفطن إلى أنني خائضٌ بالتذاذ مبهر في هذا الذي يسمونه (ما وراء الرواية).
الآن أدرك أن اصطلاح (ما وراء الرواية) يضع الروائي على تماس مع النقد.. على التخوم التي تصل الرواية بحقل حيوي مجاور ذي طبيعة مختلفة.. فتجري لعبة ماكرة بين الخيال الروائي الذي يبغي الانطلاقة التلقائية الحرّة وبين ضوابط ومعايير تتحرش به وتحاكمه وهو في خضم حركته التي تريد الانفلات، أبداً، من أي شيء يمكن أن يعيقه. وهذا ما يوفِّر أفقاً معرفياً جمالياً مضافاً للرواية، ويوطد شروط إبداعها على وفق احتمالات أكبر وأعظم.. هنا تكون مسؤولية الروائي الخالق لعوالمه التخييلية الإلمام بقدر كافٍ بمقولات النقد وآلياته ومناهجه وتمثلها، وإعادة إنتاج شذرات منها داخل المتن الروائي. فالسرد يستحيل إلى فسيفساء من سرديات.. إلى تموجات من إيقاعات متداخلة ومتعارضة واقعة تحت طائلة أسئلة تحاورها، هي أسئلة الراوي المنغمس بكتابة رواية، تحت ضغط هاجس الكيفية والطريقة والأسلوب والتعاطي مع اللغة.
ها هنا تنتعش ديناميات الدلالة.. تتجذر المدلولات في أرض أشد خصوبة، وتكتسب الدوال شروط تشكّلٍ أروع، ويزدهر المدهش والجميل.
استهلال رواية (غسق الكراكي) ينبثق من جملة ولود ينطق بها كمال/ البطل الغائب.. جملة تستدعي حواراً موحياً. بتذكّره من قبل الراوي (محمد سعيد) تنفتح نافذة الحكي؛
(قال لي:
ـ حلم حياتي الكبير أن أكتب رواية.
وحين لم أعلّق، مدارياً دهشتي بابتسامة، أردف:
ـ أجل، فالرواية تساوي الحياة، ومن لم يترك رواية قبل أن يموت، كأنه لم يعش.
قلت:
ـ ومن يترك رواية؟.
قال:
ـ آه.. من يترك رواية، تُقرأ وتُحكى، فإنه لا يموت أبداً.
ران صمت قصير قبل أن أقترح عليه:
ـ حاول.
هزّ رأسه مشفقاً، ربما من سذاجتي لطرحي مثل هذا السؤال. أو على نفسه لأن الأمر ليس بالسهولة التي أتصوّر.
ـ في ذهني فوضى من الأشياء والأفكار والعوالم بحاجة إلى أن تُنظّم لتكون.)
سيرحل كمال فيقرر محمد أن يتصدى لكتابة تلك الرواية المرتجاة.. ستكون هناك روايتان متناظرتان ومتعاشقتان.. رواية كمال ورواية محمد سعيد واللتان هما رواية واحدة تتركّب عبر وجهات نظر متعددة. ولأن محمد يدرك أن الرواية صنيعة خيال يواجة مشكلة أولى في قضية الكتابة تتمثل في تلك المفارقة؛ (أنْ أحيلَ كائناً بشرياً من لحم ودم، إلى بطل روائي).
هذه الإحالة ستطرح عليه مشكلة ثانية تتعلق بديناميات عملية الكتابة.. أن تكتب عمّا اعتقدت أنك تعرف، لتكتشف فيما بعد أنك لم تكن تعرفه بما فيه الكفاية؛
(ما يقلقني هو؛ كيف؟. بأية لغة؟. وبأي منظور؟. واستناداً إلى أية قواعد للصنعة يمكنني أن أبتكر كمالاً في رواية؟. كمال الذي كان قريباً منّي إلى درجة، لم أكن أعتقد بأنني بحاجة إلى تجربة سبر دواخله، لأنه، ها هنا.. إلى جانبي منذ سنين سحيقة.)
وحين يفرغ محمد من كتابة رواية كمال يدرك أن تلك الرواية لم تنته بعد، ولن تنتهي.. لا رواية يمكنها أن تكون مغلقة على نفسها، ومكتفية، فيما الراوي/ الروائي الضمني سيجد نفسه ينكتب هو الآخر في خضم فعل الكتابة. ولذا يختتم روايته بهذه الجمل؛
(لم تنته رواية كمال بعد. فكمال أبداً سيحضر في عقلي وذاكرتي وأفكاري في سبيل إكمال روايته. وكلّما نأى قليلاً أو كثيراً سيعاود الرجوع مرة أخرى وأخرى كما الكراكي. لذا فإن هذه الرواية ستبقى تكتبني ما حييت.)
لا أدّعي أنني اكتشفت قيم (ما وراء الرواية) ومفاهيمها وآلياتها بنفسي، وأنا أكتب رواية (غسق الكراكي) من غير معونة. فقبل ذلك قرأت روايات استخدمت تلكم القيم والمفاهيم والآليات بهذه الدرجة أو تلك. منها في سبيل المثال، لا الحصر (مزيفو النقود) لأندريه جيد.. الصحيح أنني استبطنتها عبر قراءاتي للروايات قبل أن أتعرّف على طروحاتها النظرية بشكل واسع. وقد أبحرت في لجّتها فيما بعد. واستفدت منها في كتاباتي اللاحقة.
* * *
منذ البدء أيضاً سيُعلِم سامر بطل رواية (ترنيمة امرأة.. شفق البحر) وراويها الأول صديقته الإيطالية كلوديا بأنه بصدد كتابة رواية؛
(تسألني عمّا جئت أفعل، إذن، على ساحل الأبيض المتوسط.. أقول:
ـ لأكتب.
ترن ضحكتها.. ضحكة قصيرة، صافية تفصح عن حيرة وشك.
ـ لتكتب؟!! .
ـ أجل كلوديا.. روايتي، رواية أناي في العالم.. في مواجهة العالم).
غير أن الكتابة لا تتحقق بسلاسة.. تتصادم الذاكرة مع المخيلة.. تتكاثر الشكوك والأسئلة، تتمنع اللغة ويترجرج اليقين.
(ها أنت ذا عاجز عن البدء في الكتابة. وكلما أمسكت بالقلم تجدك مضطرباً، تتلاطم في رأسك الأحداث، والأشخاص، والأماكن، والأزمنة.. تتآكل الوقائع تحت سطوة المخيّلة، وتسلمك المخيّلة إلى ما لا يحصى من الاحتمالات. شيء تستطيع تأكيده، وشيء آخر لا تستطيع. وشيء ثالث يهيئ لك جواز تأكيده).
تتخلق شخصيات في هذه الرواية تحت ضوء كاشف.. يُخبَر القارئ بأن المخيلة تتدخل وتفترض.. يُستدعى من كهوف الخيال مايكل الطيار الأمريكي الذي يعاني من مرض غامض وعُقد نفسية سببتهما مشاركته في حرب الخليج الثانية، ومعه تحضر صديقته نيكول.. ولابد من وضعهما في إطار واقعي وتأسيس حياة لهما، قبل أن يدخلا مسرح الأحداث إلى جانب الشخصيات الواقعية التي هي متخيَّلة أيضاً طالما كانت قائمة في العالم الروائي الذي هو عمل تخييل أولاً وأخيراً. فهذا هو قانونه البنيوي الأول كما يقول تودوروف.
(مايكل، الآن، شخصية مختلقة. شخصية في رواية، ولد في أعالي برج الجدي، لذا تنطوي جدّيته على شيء من السخرية، وعدم الاكتراث. مات أبوه وهو في العاشرة تاركاً لـه قدراً معقولاً من الحرية والمال. أما أمه السيدة اليزابيث فكانت تدّعي أن دماً نبيلاً يجري في عروقها، وإنها تتحدر من عائلة ملوك حكمت أجزاء من أوروبا طوال قرون. تلك الأم قضت أواخر أيامها في مصـح وابنها ـ مايكل ـ في قاعدة عسكرية، في المحيط الهادي، بعيد عنها بآلاف الأميال.
أما نيكول، صديقة مايكل، ولنختر لها هذا الاسم، فولدت في اليوم ذاته الذي ولدت فيه حنان، في مدينة صغيرة في الغرب الأميركي. أبوها يعمل سائق شاحنة، التقى بامرأة شابة تدعى آليس في مرقص، وبعد عدة كؤوس اقتادها إلى خلوة شهوة فحملت بنيكول. بعد ولادة نيكول اختفى الأب سنتين قبل أن يرجع ثانية بضمير مثقل ويتزوج آليس.
اسمعي كلوديا، أنا بصدد تأليف رواية، والرواية كما تعلمين عمل تخييل، لذا فإن من حقي أن أصوِّر شخصياتي بالشكل الذي أشاء، ولكن يجب أن تعرفي أن الخيال هو مقولة الواقع أيضاً، ومقولة التاريخ. لا شيء ينبع من العدم.)
وحتى حين ينعطف السياق، وتتحوّل المصائر، وتتخذ الأشياء بعداً آخر يتدخل الروائي خفية دافعاً الراوي إلى الإفصاح عن ذلك الانعطاف والتحوّل.. لا يصبح التدخل هنا علامة معيبة لأنه يرمي إلى كسر الإيهام وتوريط القارئ فضلاً عن إضفاء ما يعزز جمالية النص. أو هكذا رغبت أن يكون عليه الأمر؛
(منذ الآن ستنزاح الرواية 90ْ، وستتخذ اللعبة سياقاً دراماتيكيا ًمختلفاً، أو هكذا أتمنى، وسيكون مطلوباً مني التنبه إلى المسارات المتشابكة، تلك التي ستعطي الرواية زخمها وتعقيدها الجديد، الضروري.. كنت أعرف من أين البدء، لكنني لا أعرف حقاً، على الأقل في الوقت الحالي، كيف سيكون المنتهى.. لا تصوّر واضح لدي عمّا سيحدث، وقد افترضت وقائع متخيلة.. ما أبغيه، عند هذا المفترق، لغة مطواعة ذات مرونة عالية، تحملني وأحملها، تسير بي وأسير بها، تتلبسني وأتلبسها، تكونني وأكونها، ونكون معاً الرواية).
وإن لم تكن الأمور تجري على ما يرام دائماً، يعترف الراوي بمأزقه، فهو يخشى ضياع البوصلة والاتجاه، والتشوّش والفجاجة؛
(ألست أصوّر كل شيء بطريقة فجة وخرقاء؟. ألا يعكس هذا اضطراب وتشوش ما فيَّ؟. لست على ما يرام، وأخشى أن تسوقني مخيلتي المنفلتة إلى ما هو سمج ومخلخل، ولا معنى له.)
غير أن كل شيء ينتهي مع إيمان الراوي بالحكايات.. الحكايات وحدها المؤهلة للبقاء بعد أن يرحل أبطالها.. لا يهم كم فيها من الأكاذيب والتخيلات والأوهام والتلفيقات. فالحياة سردية هائلة لا حدود لها مبرقشة بسرديات صغرى. وكلها بمثابة مرايا يعكس بعضها بعضاً، وكلها يصدر من جذر واحد، ليس من اليسير الإمساك به، ذلك هو لغز الوجود الإنساني ومعناه.
(كنا نحكي ونحكي ونحكي.. كم حكينا؟. أوه، كم حكينا وما نزال. ما نزال. ما نزال. أكان بالمقدور أن نستمر ونكون، أن نحيا ونرحل ونأمل ونحلم من غير أن نحكي؟. لهذا أنا أحكي يا صاح. فما الجدوى إن لم نحكِ، وما المعنى إن لم تكن لدينا الحكايات؟...)
* * *
وإذا كان راويا روايتي (غسق الكراكي، ومقتل بائع الكتب) قد عثرا على نصوص في شكل رسائل ويوميات ومذكّرات وأجزاء من كتاب فإن راوي رواية (ظلال جسد.. ضفاف الرغبة) ليس تحت تصرّفه سوى ذاكرته التي يتشكّك بقدراتها.. تلك الشكوك التي تجعل الحقيقة في مهب الريح.
(أكتب متوسلِّاً، في البدء، الذاكرة القابلة للشطط والتي لا يُعوَّل عليها تماماً. فليس لديّ أرشيف من أي نوع يتعلّق بحكايتي مع رواء العطّار، وضحاياها.. لا رسائل ولا يوميات ولا مذكّرات، ولا حتى محفوظات نصيّة أو صوتية في جهازي اللابتوب والموبايل الخاصين بي، بعد أن هوجما معاً، في غضون أسبوع واحد، من قبل جيش عرمرم من الفايروسات الخبيثة الفتّاكة والذي قضى على كل شيء يتعلّق بها بلمح البصر. أعرف أنني سأتعثر في فيوض أحلامي وكوابيسي وتخيّلاتي وأوهامي وذكرياتي، وقد تموِّه البلاغة، وكذلك مصدّاتي الدفاعية اللاشعورية، وجه الحقيقة، إذا ما زعمنا (مجازاً) أن للحقيقة وجهاً، أو أن لها، في تاريخي الشخصي (بما يتعلق بحكايتي) وجوداً موضوعياً.)
يقف الراوي في تلك المسافة القلقة بين الواقع والخيال، بين التأريخ والإنشاء الأدبي. وإذ يوهمنا أنه بصدد سرد أحداث حقيقية فإنه لا يتوانى في إخبارنا بأنه ليس متأكداً تماماً فيما إذا كان المكتوب يطابق بأي شكل الوقائع التي جرت كما خبرها وعانى من تداعياتها وعقابيلها.
(أقرأ ما انكتب مغموراً بالدهشة والخوف، وأسألني؛ من تراه يملي عليّ هذا الإنشاء الحزين، الفاضح، والمؤرق؟. وهل هذا هو ما حدث حقاً أم أن المكتوب انزاح عن الواقع والتاريخ ليستقل ببنائه الخاص؟. أقرأ ما كتبتُ فأراني حائراً، لا أكاد أفرّق بين السرد الروائي والواقعة الفيزياوية، بين أناي على الورق وبينها كما هي، مثلما يعرفها الآخرون.. كما لو أن السرد بممكناته وغواياته وتلفيقاته يعيد ترتيب عناصر الذاكرة، يغيّر جغرافيتها، ويمنحها مادّتها النهائية. حتى ليبدو وكأن ما حدث لم يحدث أبداً، أو كأن ما تخيّلناه قد حدث هو ما حدث بالفعل. كأن ما نكتبه معجوناً بالوقائع والأوهام والأهواء والآمال والمخاوف وتخريجات المخيّلة وضلالات البلاغة هو التاريخ في نهاية المطاف. ومن قال أن التاريخ ليس سوى هذا الخليط العجيب، فضلاً عن عناصر غريبة وزائفة ومبهمة أُخر؟.)
* * *
الراوي الأول/ الصحافي ماجد بغدادي ليس هو الشخصية الرئيسة في رواية (مقتل بائع الكتب)، ودوره يشبه نسبياً دور محمد سعيد في رواية (غسق الكراكي)، مع اختلاف فريد وهو أن الراوي في الرواية ألأولى يكتب كتابه بتكليف من شخصية أخرى مقابل ثمن، فيما راوي الرواية الثانية يتطوع لكتابة كتاب الشخصية الراحلة/ كمال بدلاً منه، وكما قال الشاعر إبراهيم البهرزي فغسق الكراكي رواية مكتوبة بالإنابة عن ميت. وأعتقد أن هذا ينطبق على رواية (مقتل بائع الكتب) كذلك.
يصل (ماجد بغدادي)، إلى مدينة بعقوبة (60 كم شمال بغداد)، في مهمة استقصائية، لمدة شهرين.. متحرِّكاً في ضوء اتفاق يقضي بتأليف كتاب يكشف فيه أسرار حياة بائع كتب ورسّام، في السبعين من عمره، وملابسات مقتله، اسمه (محمود المرزوق).
يعقد الراوي/ الصحافي، في بعقوبة علاقات مع معارف وأصدقاء الراحل. وبعد محاولات سيعثر، بمساعدتهم، على دفتر دوّن فيه المرزوق بعض يومياته تؤرخ لحياة المدينة منذ اليوم الأول لاحتلال العراق 2003، وعلى رسائل متبادلة بينه وبين امرأة فرنسية تشتغل موديلا للرسامين اسمها جانيت كانت تربطه بها علاقة حميمة في أثناء لجوئه إلى باريس. ويستمع إلى شريط كاسيت يتضمن جزءاً من محاضرة مثيرة للجدل ألقاها المرزوق في محفل أدبي أمام مثقفين ومسؤولين حكوميين. ومن ثم تعطيه صديقة للمرزوق مخطوطة كتاب له لم يكمل تأليفه، يتحدث فيه عن حياته في منفاه، ومنها حكاية حبه لامرأة في براغ اسمها ناتاشا، مريبة في سجلات مخابرات الدولة التشيكوسلوفاكية، مما يجعله هو الآخر متّهماً.
من هذه المصادر وغيرها تتوضح شخصية المرزوق وتبين فصول من حياته المثيرة والمتعرجة، وعلاقاته وصداقاته مع النساء والرجال، وتجربته السياسية القلقة في العراق، ومن ثم في تشيكوسلوفاكيا، وهربه منها إلى فرنسا.. وما سيظل مبهماً هو أسباب مقتله، على الرغم من أن الصحافي سيطّلع على روايات جهات رسمية تحقق بالأمر. ويستمع إلى اجتهادات عديدة بخصوص ذلك من آخرين.
حين ينتهي بغدادي من قراءة يوميات المرزوق تزدحم التساؤلات في ذهنه، بخصوص الدوافع التي جعلت تلك الشخصية الإشكالية اللامنتمية تكتب مذكراتها وتتركها لقارئ مجهول؛
(أكان المرزوق يحاول الهرب مما يجري بطاقة البوح، أم أنه كان ببساطة يخشى النسيان؟ لا أن يُنسى هو بل أن يلحق النسيان بما حدث من هَول حوله؟. أكان يعرف أن ما يكتبه ستكون مادة خام لكتابة لاحقة يتنكب لإنجازها أحد ما يجهله؟ أكان يفترض قارئاً ما سينشغل بهذا التدوين الذي يشبه هامشاً اعتراضياً على حوليات التاريخ؟. أتخيّلَ، في أية لحظة، أنه سيكون بطلاً في كتابٍ لابد من أن يستعين كاتبه بما يكتب هو (محمود المرزوق)؟.)
لكن الراوي لن ينقل نصوص اليوميات بحذافيرها.. سيهمل منها ويشطب.. إنه مؤلف كتاب وعليه أن يتقيد بقواعد الكتابة ونظامها، مع إزاحات محسوبة يمكن تقبّلها..
تقدِّم الرواية الشخصيات، من النساء والرجال، على خلفية وقائع دراماتيكية كبرى يشهدها العراق والعالم خلال نصف قرن. وهنا تتنوع وجهات النظر وتتقاطع وتتصادم، ومعها تتخفى الحقائق ولا يظهر منها إلا شذرات. ويُترك للقارئ في النهاية الحكم على طبيعة الشخصيات تلك، والأحداث التي تمرُّ بها، وتحدِّد أقدارها. وحتى الراوي ينأى عن التفسير، غالباً، مكتفياً بطرح الأسئلة، تاركاً النصوص التي يحصل عليها مثلما هي، من غير تعديلٍ أو تأويل. وبذا تتشكل الرواية في طرقات متباينة بأنساق سردية تتراوح بين التعاقب والاسترجاع والتوازي والتداخل، حتى لتبدو وكأنها أكثر من رواية داخل الرواية الأصلية.
وفي النهاية لن نقرأ الكتاب الذي ينشغل ماجد بغدادي بكتابته.. نقرأ فقط معاناته في جمع مواد أولية يصنع منها الكتاب. فبغدادي سيُبقي كل شيء على حاله، ولن يعلمنا بالنهاية.. ستلقينا جملته الافتتاحية للفصل الأخير في دوّامة حيرة أخرى؛
(النهايات مفتوحة دائماً. ليست ثمة نهاية أكيدة يُعتدُّ بها. وكل شيء يجنح لمناكدة أفق توقعاتنا..).
فيما جملة الإقفال التي تعقبها كلمة (انتهت) تورط القارئ في أن يعيد صياغة ما جرى.. أن يكون هو المؤلف، فلديه العناصر، وعليه اختبار طريقة خاصة به للتأليف.. ذلك أن الراوي ذاهب الآن إلى تأليف كتابه بعيداً عن أنظارنا؛
(أظنني بدأتُ أعرف، الآن، إلى أين أمضي، وما يجب عليّ أن أفعل.........)
* * *
إن الأسئلة التي يواجهها كل كاتب في أثناء انغماسه ببناء روايته خفية، بينه وبين نفسه، تصبح، في روايات ما وراء الرواية، جزءاً من هذا البناء، متخللة نسيج السرد، ومانحة إياه طاقة نموٍ واستمرار. فما يحكيه الراوي ليس فقط قصة شخصيات الرواية، وإنما إلى جانب ذلك، قصة الكتابة نفسها؛ ما يدفع بالكتابة قدماً إلى الأمام، وما يعترض سبيلها.
تتجلى خصائص الشخصيات وتنمو في الروايات التي تستثمر تقنيات وأسلوب (ما وراء الرواية) لا من خلال فاعليتها في إطار الحدث الدرامي للرواية، وصيرورة متنها الحكائي فقط، وإنما، وقبل ذلك، في سياق إجراءات البناء العام للرواية لغوياً وأسلوبياً. فأسئلة الكيفية تحفِّز على المضي بتصوير الشخصيات والمشاهد الروائية بمرونة وحيوية أكبر. في الوقت الذي تتواصل فيه العلاقة وتتشابك بين أربعة أطراف؛ الروائي (الكاتب)، والراوي/ الرواة (السارد/ الساردون)، وعملية السرد المتضمنة لأنشطة بقية الشخصيات، والقارئ.. يصبح الراوي صوت الروائي (اللابد في مكان سرّي) واليد الماسكة بخيوط السرد الممدودة نحو وعي القارئ المتسائل.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الترحال عبر الثقافات
- المكان الذي يعيد خلقنا روائياً: كتابي الأول غسق الكراكي
- الاحتفاء بالرواية وازدهارها في كتاب (تطوّر الرواية الحديثة)
- اللغة والسرد
- بطل الرواية الحديثة
- -حلم غاية ما- الوجود رؤىً وولعاً وجمالاً
- هذا البهاءُ المرُّ (نصوص)
- كافكا وفوكو وبوتزاتي في المستشفى
- سوزان سونتاج في يومياتها: كما يسخَّر الوعي للجسد
- هل من ضرورة لوجود المثقف في المجتمع والعالم؟
- ما الذي يعيق قيام الدولة المدنية في العراق؟
- المثقف.. المجال السياسي.. الدنيوية
- الحرية.. هذه الكلمة الغامضة
- العراقي سعد محمد رحيم: نحن بحاجة إلى إعادة قراءة فكرنا وإغنا ...
- الرأسمالية وصناعة الإرهاب المعولم
- الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواي ...
- الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواي ...
- الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواي ...
- الويل لمن لا يترك قصة في العالم
- وعود التنوير


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - حكايتي مع فن الرواية، وتقنية ما وراء الرواية -شهادةُ روائيٍّ هاوٍ-