أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - ابراهيم محمود - الارتحال إلى الدكتور نورالدين ظاظا4- سيرة المكان في سيرة حياة















المزيد.....

الارتحال إلى الدكتور نورالدين ظاظا4- سيرة المكان في سيرة حياة


ابراهيم محمود

الحوار المتمدن-العدد: 1414 - 2005 / 12 / 29 - 08:46
المحور: القضية الكردية
    


لقد بات المكان مؤثراً في دوره، من خلال ارتباطه بأي حدث يجري تاريخياً، فلا تاريخ دون جغرافيا تشكل مقاماً مفتوحاً متعدد المناخات والأبعاد والجهات والأوقات، ولا حركة إلا في مكان معين، والتاريخ مقولة حدثية تتراوح بين التأثير الوقتي أو المؤقت، والتأثير الممتد والدائري، لأطول فترة زمنية في المعنيين به، حيث يكون المكان لغة تتشكل حروفها بحركات أحداثه.
وإذا أردنا التركيز أكثر فأكثر على المكان، وتلك الكثافة الخبرية والإنشائية التي يمتلكها، ومداخل المعنى لاحقاً، فلنا في ذلك ما يؤكد هذا الثراء القيمي لـه ويصعد بمأثوره الحركي، من خلال ما كان يقال منذ القدم، وحتى الآن في وسطنا الشعبي أو العادي، عندما يرى أحدهم بيتاً بهي الطلعة، وهو يعلق: لا بد أن مالكه في هناءة عيش، خلاف البيت المتداعي أو الصغير، الذي يوحي بانطباع حسي بالمقابل، وهو أن المقيم فيه ليس على ما يرام نفسياً، والخارج ليس حقيقة مرئية للداخل، أي أن وضعه المادي لا يسمح له في أن يعيش كما تكون الحياة المرغوبة.
تبدو الأمكنة في مجموعها، في الحالة هذه، لوحات متفاوتة في إيقاعاتها اللونية، من جهة الحالة التي تعنيها، وهي كثيرة، وخصوصاً راهناً: فالمدن بأبنيتها وطرقها وجسورها وأنهارها وتضاريسها وأنفاقها وقطاراتها وسياراتها وجامعاتها وسجونها، ومجمل كائناتها.. الخ، حيث الطرق- مثلاً- في تنوع أسمائها ومخططاتها، والأراضي المرئية في اختلاف مناظرها أو مشاهدها، تشكل أوضاعاً مقروءة بهوياتها الانسانية، حتى لو باتت خلواً من كل انسان، طالما تحمل آثاراً له، فأن نصف المكان، هو أن نتحدث عمن هو فيه، وما يعنيه: إبقاء ًأو إقصاء.
إن ظاظا، بصفته الجامع بين أكثر من قوام ثقافي: سياسي وفكري وأدبي، لا أعتقده كان بعيداً عن ذلك الشعور الهندسي المتلون، ذاك الذي يولّده وجود المرء في مكان دون آخر، شعوره أنه يعيش حالة نفسية دون أخرى، حالة تستفيض حالات، وأن اللغة التي تعنيه، مهما كان تصنفيها، تكون تعريفاً به، من ناحية القيمة التي يضفيها على وضعه المكاني الملموس، ليكون المكان محكوماً بتقويمه له، بعد أن كان بعداً حركياً فيه، ومنتمياً إليه، أو هو ذاته كان محكوماً به بجسده.
إن حديثه عن مسقط رأسه( مادن)، بتلك الانسيابية في القول، كما هو النبع المتدفق، وذلك التنوع في الجمل ومتخيلها، كما هي التضاريس المادنية بداية، وذلك المجال المفتوح لقوة الخيال وشاعرية الذات، كما هو التفاوت المثير بين منظر الجبل الصاعد بخده عالياً علو الجبل بقمته كقيمة محوَّلة، والباث أنفه نحو سماء غارقة في اللامنظور، والوادي السحيق وما تعنيه مفردة السحق من دلالة... الخ، كما يعلمنا بذلك في بداية الكتاب، وعلى مدى صفحات عدة، ليس حديث حكواتي مبهرجاً، الحكواتي يقول مباشرة: كان ياما كان، يا سادة يا كرام. المكان- هنا- في حالة تجدد وحيوية، ولا يكون محكوماً بفعل ماض، حتى لو جرت الإشارة إليه عن بعد مستقبلي لاحق، كما يتصرف الكاتب، إنه يتحدث عن مادن( مادنه) الخاصة به، لكنه، يشير إليها وكأنها بين جنبيه، كأنها أمامه، تستقبله أنى تحرَّك وتوجه، وهي في جملتها تخرج عن حدود المجال الأرضي الموضوع، حيث تكون باستمرار موضوعه الأثير، لأن ثمة وقائع ومشاهد حياتية، أو تاريخ خاص به ، بأسرته، بأهله وأناسه وكائناته الأخرى، بشعبه وقضيته في الصميم.
داخل المكان ذاك، سمع بكردية ٍ كانت أوسع من حدود الانتماء المكاني الضيق، وحيّز الانسانية المحدودة، وخارج المكان ذاك بالمقابل، احتك بكردية وعاشها وتمثلها، لم تفارق فيه تلك الكردية التي شغلت عليه حواسه الطفلية بداية، ومن ثم حواسه وفكره ومشاعره لاحقاً، وبقيت الكردية تتعمق فيه، حتى وهو بعيد مكانياً عنها، ليبقى المكان الأول، كما لو أنه الأخير، حيث حل في سويسراً. كل تنوع في الوصف المكاني، فسحة لإبراز ثناء الذات على الموصوف، كما في بعض من بعض أوصاف مكان مأخوذ من أرشيف طفولته( الحياة في الحقول لم تكن تعني لي مجرد أحداث حزينة متفرقة، بل كانت بالنسبة إلي نزهات في الجبال وصيد الحجل والاستحمام على ضفاف الأنهار( في البحيرات الصغيرة التي تتشكل عن الأنهار) كما تعني لي الحرية. ص 8).
بين، وداخل وجودات ثلاثة: مائية متنوعة: ينبوعية ونهرية وبحرية، وجوية، حيث الفضاء الواسع يواصل استشراف المدى الأزرق اللامحدود، وبرية، حيث التخاريم والتخوم والهضاب والنجدات والمنحدرات والمنعطفات والقمم والسهوب والوديان المحتفاة بصدور ناهدةً أشجاراً وألواناً شتى، تبد الطفولة مشروع العمر اللاحق، ملتقى الرغبة التي تخترق العوائق القائمة، وتلك التي تسميها، وفي الوقت نفسه، يكون المكان الموصوف ذاك، مداراً مستعاداً للضلوع في حياة ، عصية التجاوب مع الشاهد الكتابي، فلا مناص من تسمية البديل، بغية التقدم إلى الأمام، أو داخل الحياة بإرادة معنى أكبر، طالما أنه اختصر الأسماء، ولكنها قادرة على تعزيز الشعور بلذة العيش، واستنهاض الهمة المعنَّاة، لتكون مادن المحجَّ، ومعبراً من الجهات كافة، لارتقاء أقوم.
إذ لا يكفي أن يقول المرء كل شيء، ليتم التعرف على أهم الأشياء، لابد من الذهاب مع البعد الإشاري للغة بالذات، فهو إذ يقول( كانت بساتيننا مثل جنات عدن تنمو فيها فواكه غريبة. ص 14)، فإنما يفصح عما هو منظور، وما يمكن التأكد منه، وهو يأخذ بيد القارىء المتخيل للنص، إلى ماض عاشه، وكيف استُبيح، وتبلبل وضعه، خصوصاً، وأن تكرار الجنة عنده( ص 8- 14-99 مثلاً)، يشدد على نوعية التفكير عنده، يلمّح إلى ذلك الوازع الديني الأرضي النوع تماماً، وهو وازع سرعان ما يتبدى/ يتعدى قوي الإيحاء صريحه وفصيحه، من خلال المكان: الكردستاني، واستماتته في سبيل الجنة تلك، تلك التي ترافقه ضمنياً، فأن يسمي أحدهم مكاناً جنة، يعني أنه يراهن على أبدية القيمة الذاتية فيها، على رفض البديل مهما تحرَّى قيمةً وإغراءٍ.
بين شعورين، على أتم التضاد، يكون برزخ المفصود والتحرك عنده، شعور بالمكان المسمى، بعيداً عن تدخلات العسكر السافرة، والمكان الذي يتصدع، لتعيير معالمه وفق نيات مبيتة، صريحة، كما في الحديث عن ديار بكر: ê Amed ، وهي محبوسة داخل أسوار عالية، ولحظة تلقيه دروساً بالتركية، وحظر التحدث بالكردية، داخل أبنية، تعرف بنفسها ( كانت الأبنية الثلاثة تشرف على الانهيار والتداعي وكان دجلة يسيل على بُعد بضعة أمتار أسفل الأبنية التي كان مظهرها الخارجي أقل شؤماً من الأبنية الأخرى فقد كانت بيضاء ذات سطوح من القرميد الأحمر. ص 41)، ثمة تداخل بين المكان المستعمَر: بالمعنى العمراني، والمستعمر بالمعنى القيمي الأخلاقي، وقد جُرّد من خصوصيته، وفي الوقت نفسه، يُشار إلى الخصوصية تلك، طالما الإهمال والبؤس يلفانه، ليكون المكان نفسه طي اغتراب انساني، ويكون التداعي المادي موازياً لتداع ٍ معنوي سلطوي التوجيه، ضاغط على أبنائه: أهله الأصليين، وليكون التسوير تحويراً وتجييراً للتاريخ المستنطق بنفحة تركية ٍغازية وكردية مقهورة في عقر دارها، كما يشير الوجه الآخر من المكوَّن اللغوي للكاتب، وكما هي لعبة المعاني داخل النص المقروء.
لقراءة الأثر المقروء من الداخل، ومن خلال المرئي والملموس، كل مشيَّد في المكان، يشكل مكاناً عنواناً بارز القيمة في جهته الدلالية، وكعلامة بليغة التدوين، وربما يكون الدليل العملي، وبالنسبة للقارىء، والسريع في تكوين المعنى، لمن يريد استكشاف العالم الحركي للكاتب، فإذ يتحدث عن وضعه المقلق، وهو يتعلم في دير، في مدينة حلب السورية، لا يغوص في الحديث، وإنما يلتقط صورة مكانية داخلية( وكان مبنى الدير يعود إلى القرون الوسطى ويشبه سجناً قديماً، وقاعات الدرس تقع في السراديب المظلمة. ص 47).
قد يكون القِدم علامة عراقة، ولكنه في السياق الموسوم: المرسوم، يوجه المتخيَّل باتجاه مشهد آخر، عند ربطه بالسجن تشبيهاً، وعند توصيف قاعات الدرس بالسراديب المظلمة، ففي المشهد المتصور هذا، يمكن تتبُّع حيثيات الدرس، وشخصية المعني بالدرس، والذي يقوم بالمهام الدرسية، وما يُعطى من دروس بالمقابل، والسلوك الذاتي المتشكل بالنسبة للمتعلمين.. الخ، حيث يكون العالم سافلاً، وفي العالم السفلي يكون حضور شبح الموت هو الأكثر تجوالاً.
في المنحى ذاته، وإنما مع الفارق الكلي للمعنى، نجده حين يتحدث عن منزل علي آغا زلفو الكردي الدمشقي الإقامة، متدثراً بشعورمهيوب بمعناه، حيث يصفه بأنه قديم كذلك، ولكنه يقع على جبل قاسيون، وتحيطه البساتين ويجاور نهراً صغيراً ويعج بأسماء شخصيات كردية كثيرة مستضافة ، تقيم فيه( ص52)، إن ذلك يري انكشافية البيت وجلاء مشهده الخارجي، وسلطته الرمزية من خلال موقعه الجبلي، الذي ربما شغل عليه تفكيره في الجانب الأقصى منه، حين أرجعه إلى ما كان عليه في مادن، وخصوصاً تحوُّطه بالأشجار، ووجود النهر قريباً منه، ورؤية الكم الكبير والأثير من الوجوه المعلومة التاريخية من كرده هناك، ومدى حركية التاريخ وتحركه من خلالها.
بصدد مفارقات المكان وحكمته، حين يريد ظاظا أن يعرّف بعين ديوار، من الناحية القيمية، يتحدث عن صعوبة تحصيل الماء من نهر دجلة المجاور للمكان، حيث أقام هناك لبعض الوقت، ومن ثم ( كانت عين ديوار في تلك الأيام وكبقية مناطق الجزيرة قد أُتلفت أشجارها تماماً... ص 59). ثمة إفصاح عن الاستبداد السياسي المركز والمكثف بالمكان، من خلال الذين يقيمون ويسكنون فيه، كونه يشير إليهم، ولو كان هناك آخرون سواهم، لتبدل المكان بالتأكيد، فالبعد المرآوي للمكان مرصود، إنه في الوقت الذي يتجلى لسان حال أهليه الكرد في الغالب، يستحيل هؤلاء لسان حال لـه، همو مرآته التاريخية ومعاناته، فكلٌّ يتحدث باسم الآخر، دون أن يتكلم، المنظور هو الناطق بذلك، وليكون الاسم( عين ديوار) اسماً تهكمياً ذا سخرية مرة، ففي تلفظه هكذا، يكون ( نبع الحائط) أو( النبع المتدفق من الحائط)، نظراً لمرور نهر دجلة الكبير Ava mezin، كما يقال، والذي يعطي دفقاً مائياً للمكان، ولكن المعاش خلاف المشار إليه، وهذا يعمّق الشعور بمرارة السكنى، وفاجعة الجاري مكانياً.
إن ظاظا، وكما هو مقروء في داخله، وفي سياق تتبُّعه المكاني،، أعتبره مأخوذاً ببؤس الممتد حواليه، والذي قدم لـه مدداً من التعابير المرئية، لا يحتاج المرء لكثير جهد، ليستكنه عما وراء المقروء، فهو حين يتحدث عن القطار الوئيد بين حلب- قامشلو، وحتى بغداد وقتذاك، وداخل الأراضي( التركية) وفق السائد آنذاك، كما في قوله( وكان القطار بعرباته القديمة، ذات الزجاج والمصابيح الداكنة تقريباً باللون الأزرق، ذا هيئة متشائمة وقبيحة ويقال بأنه اجتاز ساحات المعارك لأنه قديم جداً. ص 70)، يقدمه من جهة: شاهداً على المكان وشهيداً لـه معاً، إن منظره المؤثر سلباً في النفس، يتداخل مع منظر المكان بشكل عام، ومن جهة ثانية: يجدد في الراكب والمشاهد التاريخ الذي لا يُنسى( تاريخ سفر برلك، تاريخ الإبادات الجماعية لسكان المنطقة من قبل القيّمين على المكان، تاريخ القهر النافذ فيهم، تاريخ الممارسات العنصرية بالذات والمعمول ضدهم وعليهم... الخ)، ومن جهة ثالثة يبقي المعني بالمشهد في توتر دائم، وفي وضع حياتي محكوم بالخوف، لأن الماضي الذي كان، يعصف به داخلاً.
داخل المكان خارج المكان، هو المكان الموحد ذاته، كما يبدو، من جهة العلاقة الفعلية مع أهليه، فإذ يتحدث عن سجنه، وقد تعرَّض لمعاناة السجن ووجوه الإهانات المتعددة فيه، في أكثر من جهة، فالسجن هو هو: في تركيا، في سوريا، في العراق، في إيران، في لبنان، إن السجن هو البطاقة الشخصية الأكثر اعتماداً، تلك تميّز البعد القيمي للمرء، وخصوصاً حين يكون مؤكّداً لانسانيته، وخصوصاً أكثر، حين يكون كردياً هنا، من جهة التمايز، والإهانة المضاعفة الموجهة لـه، فوصفه لسجن بغداد، حيث أمضى وقتاً فيه في مطلع أربعينيات القرن الآفل، ينطبق تقريباً على كل السجون الأخرى في المحيط الخارجي ( إن مشاهدة الطقوم الموحدة المخططة بالأزرق والأبيض وكذلك السلاسل والكرات الحديدية المعقوفة في أقدامهم وضراوة السجناء أمام الآلات وصرخات السجانين الجبارة، ذوي الوجوه القاتمة والشفاه المتدلية، أعطتني انطباعاً بأني أستغرق في حلم فظيع أو أجد نفسي على كوكب خارج الكرة الأرضية. ص 88)، ويمكن تتبع ذلك، وهو معتقل في سجن( المزة) السوري الرهيب والسيء الذكر بامتياز وغيره ( ص 121- 123- 170.. الخ).
طبعاً يمكن تتبع الرمز الكبير والمرعب للسجن عربياً في الكثير من الأدبيات العربية وغيرها، وخصوصاً في الجانب الأدبي، والروائي تحديداً هنا( شرق المتوسط) لعبدالرحمن منيف، و
( السجن) لنبيل سليمان، و( أنت جريح) للكاتب التركي يردال أوز.. الخ، وهذا ما تم التعرض له، لاحقاً، وظاظا، لا يروي وقائع متخيلة، إنما يمارس سرد ذكريات عن وقائع جارية وتجري حتى اللحظة، وقائع معاشة، ليكون المكان ذاته، ذلك السجن الكبير المشار إليه، وليكون الحديث الاستغرابي عن السجن، ضرباً من ضروب اللامعقول، التي يتم تجاوز الحد الأقصى في مسار البحث عن السجن كمفهوم، وكيفية التعامل مع السجين وانتمائه، بصفته منزوع الانسانية تماماً.
ولعله في ( ولعه) المرضي بالسجن، ليس لأنه مرعوب، وإنما لأن الواقع بحيثياته يدفعه إلى استمرار الحديث عنه بصفة دورية، لعله في ( ولعه) ذاك، ما يدفع بالقارىء إلى تخيل معاناة السجين والهدف الذي من أجله كان سجنه، ليس لأنه المثال المعطى هنا، وإنما لأنه الشاهد على حياة طويلة كانت مجموعة سجون تترى، إذا ضممنا السجن بمفهومه الفعلي إلى السجن بمفهومه المجازي، بدءاً من مادنه، حيث تفتحت عيناه على أكثر من وضع سجني، عبر عمه وأبيه ,وأمه، وأخيه، وعموم الكرد الذين أرادوا أن يكونوا متجاوزين لذواتهم الشخصية، ومروراً بسجون توزعت وتشعبت أصفاداً في سوريا والعراق ولبنان وغير هاتيك البلدان، وانتهاء بمغتربه، حيث السجن كان محمولاً في داخله، كان وطنه المرتحل معه، بجغرافيته الممزقة معاشاً بجوارحه.
ولأن الحياة أكثر من كونها سجناً، لأن السجن يشكل معطى حياتياً شَرَفياً، تبدو القيمة في الطرف الآخر من السجن، كما في حديثه عن الذين احتفوا به، ومن خلال المكان، حيث حديثه عن أهل عامودا، وكيف حملوه هو وسيارته، وساروا به على الأكتاف مقدار مائة متر سنة 1961، على إثر الانتخابات، وتعظيم الكرد لـه، بعد خروجه من السجن بالتحديد( ص 141)، إنه حديث عن روعة المكان الذي يتجلى تفاوتياً، للتأكيد على أن الحياة تستحق أن تعاش، بمعان شتى، لأنها هنا تكون مدفوعة الثمن: صبراً ومرارة وتحمل آلام، وفي سبيل هدف نبيل، أكثر من كونه كردياً محضاً، ولأن مرارة التحمل هي ذاتها تشكل أحياناً جرَّافة ضخمة، تكتسح وساخات المكان بكل المعنيين به.
ولأن منطق السجن يكون أكبر من جهة الإيلام، والذين يقاومون السجانين هم قلة، ولأن السجين الجدير بالتقدير يكون عرضة لآلام مضاعفة، حين يتعرض لاتهامات، تجيّر دلالة سجنه، وكأن سجنه تمثيل ليس إلا، لهذا، يبدو المعاش من الداخل صاعق التأثير، ومن هنا، لا يخفي البعد الطاغي في حدة لهجته، وهو يقيم علاقة بين مكانين، بينهما أشد التباعد: سويسرا ومادن وكردستان، لكن مادن تبقى النموذج الحي، سويسرا الموصوفة عنده جنة أرضية، كما كانت مادن، هاهو المعاش النفسي، يخرجه من ذاته، ويقذف به بعيداً، ليقذف به من جديد هناك بعيداً، ويكون كرة تتدحرج بين المكانين المذكورين( كانت مناظرها تذكرني بالطبيعة الجبلية والبحيرات ومساقط المياه في كردستان) هذه التي لا زالت (عرضة( 1982) للقمع والإضطهاد كما كان في الأمس. ص 192).
إنه التقدير الأخير عن المكان وجلاوزته، ولكن عن أحراره بأرواحهم كذلك، رغم القهر الصاعد والنازف فيها، وكأني به يقول: إنه لمؤلم على أشد ما يكون الألم، حين يكون المرء نزيل الجنة، بينما يكون الجحيم نزيل أحشائه!



#ابراهيم_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسالة مفتوحة إلى الأخ الرئيس مسعود البارزاني: حين يكون العدل ...
- الألفباء الكردية اللاتينية إنشاء امبريالي:ترجمة وتعليق وتقدي ...
- الارتحال إلى الدكتورنورالدين ظاظا2- د.نورالدين ظاظا وتفعيل ا ...
- الوصايا العشرلإفساد الثقافة الكردية
- الارتحال إلى الدكتورنورالدين ظاظا1- لحظة الكتابة الأولى
- الديون المستحقة على الحركة الكردية السورية راهناً
- رطوبة بيروت وأخواتها الضبابيات
- البيان الملغوم - حول بيان المثقفين الكرد في سوريا-
- العرب الذين نعوا عراقهم
- جبران تويني مهلاً
- الملف التقييمي الخاص بالحوارالمتمدن
- ممثلو المراصد الثقافية الكردية- أي كاتب أنت، أي كردي تكون-
- هل كان د. نورالدين ظاظا خائنا حقاً؟- صورة طبق الأصل عن وثيقة ...
- التفكير معاً، أما التكفير فلا يا شيرين
- بؤس الأدب الكردي في بئس النظرة العربية
- أهل الكتابة
- رسالة مفتوحة إلى شهداء: عتقاء حريق سينما عامودا
- - ردا على محمد عفيف الحسيني -بصدد مهزوم المشيخة الأدبية
- المشيخة والعقدة المشيخية
- -سردية بلا ضفاف- سليم بركات في رواية : ثادريميس


المزيد.....




- مقر حقوق الإنسان في ايران يدين سلوك أمريكا المنافق
- -غير قابلة للحياة-.. الأمم المتحدة: إزالة الركام من غزة قد ت ...
- الأمم المتحدة تحذر من عواقب وخيمة على المدنيين في الفاشر الس ...
- مكتب المفوض الأممي لحقوق الإنسان: مقتل ما لا يقل عن 43 في ال ...
- مسئول بالأمم المتحدة: إزالة الركام من غزة قد تستغرق 14 عاما ...
- فيديو.. طفلة غزّية تعيل أسرتها بغسل ملابس النازحين
- لوموند: العداء يتفاقم ضد اللاجئين السوريين في لبنان
- اعتقال نازيين مرتبطين بكييف خططا لأعمال إرهابية غربي روسيا
- شاهد.. لحظة اعتقال اكاديمية بجامعة إيموري الأميركية لدعمها ق ...
- الشرطة الاميركية تقمع انتفاضة الجامعات وتدهس حرية التعبير


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - ابراهيم محمود - الارتحال إلى الدكتور نورالدين ظاظا4- سيرة المكان في سيرة حياة