أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قحطان جاسم - اكتشاف متأخر














المزيد.....

اكتشاف متأخر


قحطان جاسم

الحوار المتمدن-العدد: 5298 - 2016 / 9 / 28 - 15:43
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة


فكر الصبي ذو عشر سنين بأمه كثيرا وهو يراقبها عن بعد احيانا ..يراقب صمتها وحزنها المكتوم ودموعها التي كانت تسيل كلما جلست لوحدها، وهي تحاول ان تخفف ضغط الالم الذي كان يحز في نفسها ويثقل روحها . كانت تظن ان بناتها واولادها لا يرون تلك الدموع . احيانا تلجأ الى حليّها ، رفيقها الوحيد ، تخرجها من صندوق صغير، تتمعن فيها فتجد راحة نفسية لا تعرف مصدرها، تمسح الدموع عن عينيها وتقترب من المرآة؛ تأخذ قلادة صغيرة تضعها على رقبتها، تدور دورتين في الغرفة وهي تنظر بصورة مائلة الى المرآة. يتدفق فيها شيء من سعادة خفية ، وينتابها استرخاء مفاجيء تنسى معه العالم كله، وما تتعرض له من صفعات وتبرم من زوجها.
كثيرا ما كان الصبي يتابع أمه في وحدتها وهي تبكي ، وقد شهد مرات عديدة توسلها الى ابيه وهو يوجه اليها الصفعة تلو الصفعة بلا رحمة وسيلا من الشتائم الغاضبة المهينة، بينما كان اخواته واخوته يهربون الى غرفة اخرى في محاولة لتجنب صفعات طارئة منه، تاركين امهم وهي تتوسل وحيدة مهجورة في عالم غير عادل، وتزداد توسلاتها العاجزة حدّة ، و تغدو اكثر مأساوية، كلما هددها ابوهم بانه سيأخذ كل حليّها ليبيعها في السوق، ويتزوج عليها. لم تكن امهم مشغولة بتهديداته حول الزواج من امرأة ثانية، لكن ما كان يرعبها هو ان ينتزع منها آخر ما تعتبره شيئا خاصا بها، وجزءا من هويتها ووجودها وتاريخها. فلتلك الحلى تاريخ وذكريات..وهي الذكريات الوحيدة الحميمة التي بقيت لها، بعضها تذّكرها بيوم زواجها ، بالموسيقى، والافراح التي اقيمت، بهلاهل الام، بثياب ليلة العرس البيض، وبعضها الآخر يذكرها بغمز البنات وتلميحات صديقاتها المواربة في الايام التالية عن ليلة العرس ولذتها .. كانت تلك الذكريات تمنحها بعضا من التعويض عمّا لاقته لاحقا من أذى زوجها وضرباته واهاناته.. كانت كطفلة تهرب الى عالمها الخاص ، الى حليّها، لعبتها الخاصة لكي تجد المواساة والحنين المفقود.. لم تشأ ان تلقي ظلال حزنها وبؤسها على صغارها، فسعت دائما ان تكتم ما يدور في نفسها كملاك قنوع مكتفية بهذا الهروب، معتقدة انها كانت تقوم بطقوسها دون معرفة احد من ابنائها.
الا ان الصبي كان يعرف ذلك، وبقي يراقبها عن بعد، كأنه لا يريد ان يعّمق شرخ خذلانها، في الوقت الذي كان يقاسمها آلامها ويذرف الدموع معها بصمت.
ذات مرة، بعد ان انسحقت روحه تحت مشاعر الذل والاندحار التي شعر بها في تلك اللحظات، صعد الصبي الى سطح البيت ونظر الى السماء وراح ينحب بحرقة متضرعا الى السماء مطلقا صرخته :يا الهي.. لماذا لا تحمي أمي ؟ يا الهي... اتوسل اليك.. متى تفعل ذلك؟ ارجوك؟ لماذا لا تفعل شيئا فيسود السلام بين أبي وأمي ويتصالحان ؟ صاح مرات ومرات والدموع تنهمر من عينيه وحشرجة تتكسر في صدره الصغير: يا الهي ..يا الهي .. لماذا كل هذا ؟
ذات مرة خرق الصبي عادةَ حيادهِ، اقترب من امه و سألها بتردد : لماذا لا تحتجين على ابي ؟ لماذا لا تتركينه؟ حدقت الام به مرعوبة واسرعت بالاجابة وهي تجفف دموعها و تضمه الى صدرها : لا تقل مثل هذا الكلام ياولدي ابدا !
بعد تلك المحادثة باشهر اصيبت الام بمرض عضال عجز الاطباء عن ايجاد علاج له . وتدهورت حالتها بسرعة كبيرة، ولم يكن امامها سوى انتظار الموت . كانت تجد في تلك الايام، وجسدها يذوي مثل زهرة يوما بعد يوم، في صندوق حليّها بعض المواساة ايضا، لكنها كانت تكتفي بالنظر اليه وتقوم بلمسه احيانا ثم تعيده الى مكانه وابتسامة شاحبة حزينة تطوف على وجهها.
في تلك الايام بالذات لاحظ الصغار أن هناك تغييرا طرأ على ابيهم .. فقد صار اكثر صمتا ولم يعد متبرما او غاضبا كما كان. وصار يقوم ،عندما يعود من عمله، بكل الواجبات البيتية من اعداد الطعام وتنظيف وغسل الملابس؛ وصار يغمرهم ببعض الحنان الذي لم يتعودوا عليه منه سابقا، تغييرا لا احد يستطيع تفسيره..!
بعد اشهر وفي صباح صيف مشرق نامت الام الى الابد. كان ثمت خيط دم بارد، الذي سال من زاوية فمها مارا على خدها الايسر، وقد استقر اخيرا على مخدتها كعلامة اعلان اخير عن مغادرتها الحياة. كانت تضطجع على جانبها و كأنها قد غطت في نوم عميق هاديء، بينما كانت احدى اصابع يديها مسترخية قريبا عند صندوق حليّها المغلق .
في احدى الليالي التي اعقبت الوفاة سمع الصبي نحيبا مكتوما في غرفة ابيه.. وقف عند الباب وهو يسترق السمع الى جهة النحيب ..سمع اباه وكأنه يعاتب احدا ما : لماذا يا الهي ؟ لماذا ؟ ما الذي فعلته لكي تعذبني كل هذا العذاب ؟ لماذا توفيتها ياربي ؟ كيف اعيش بعد اليوم؟ اندهش الصبي لما سمعه من كلمات .. كأنه يكتشف اباه لاول مرة .انه أب أخر، فقد بدا له هذا الجسد الضخم الضائع في الظلمة، الذي لم يكن احد يجرأ على مواجهته سابقا، وهو يجلس وحيدا على حافة السرير، باكيا بحرارة و أسى عميقين، منهوكا، متهالكا، صغيرا و عاجزا الآن. اندفع الصبي دون دراية ووعي نحو ابيه ..اخذ بيده التي كانت ترتعش ، وهي المرة الاولى التي يفعلها في كل حياته ، فوجدها دافئةً ودودةً ... في تلك الليلة اكتشف الصبي ان اباه كان يحب، رغم كل شيء، امه ، وربما اكتشف أية رابطة كانت تربطهما، رغم كل العذابات التي شاهدها بأم عينيه، والكراهية التي كانت تبدو ظاهريا بينهما ..اقترب الصبي من ابيه اكثر حتى احس بحرارة جسده .اعتصر بيده الصغيرة يده في محاولة لشد انتباهه، و قال له بعفوية وهو ينظر اليه بعطف محاولا اكتشاف ملامحه في الظلام: بابا، بابا، لا تبكي ..ماما ستعود قريبا ؟

2016



#قحطان_جاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليكِ..بمثابة اعتذار متأخر جدا..!
- بين الفكر اللاهوتي الغربي والركام اللغوي الديني الاسلامي الم ...
- قصائد مختارة للشاعرة الدانماركية لولا بايدل
- - أناشيد الخيبة
- - رغم كل ذلك-
- الكتابة النقدية وسلوك الحوار
- -..! وانت تعدّ البراهينَ التي أخفاها الحمقى -
- صدور الديوان الثالث - آن الذهول - مع مختارات منه.
- شبح ابن عمارة
- جدلية الحب و الكراهية في رواية -وردة الفجر- للروائي التونسي ...
- الطفولة المقموعة في رواية - ارواح ضامئة للحب- للقاصة والروائ ...
- الفرادة الشعرية وتجليّ الذات في ديوان - أغنية شخصية - للشاعر ...
- الفكاهة السوداء وفضح الزيف البشري في كتاب - فوق بلاد السواد- ...
- الشاعر الايطالي سيزار بافيز ..عاش ومات وحيدا..!
- الغواية وضحايا النساء في رواية -هسيس اليمام- للروائي العراقي ...
- البحث عن الحرية في رواية - قلب اللقلق- للروائي العراقي زهير ...
- -الحب والصمت-
- الى صديقي الشاعر ابراهيم البهرزي..نعدك لن تكون وحدك !
- كتاب سجين الشعبة الخامسة .
- الكرنفال الإيروتيكي في ديوان - أرافق المجانين الى عقولهم- لل ...


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قحطان جاسم - اكتشاف متأخر