|
فلسفة الذات الخلاّقة
محمود كرم
الحوار المتمدن-العدد: 5243 - 2016 / 8 / 3 - 03:37
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أنْ تخرجَ من ذاتِكَ على ذاتك ، وأنْ تدخلَ في ذاتكَ عبرَ ذاتك ، وأنْ ترى ذاتكَ من خارج ذاتك ، وأنْ تُبصِرَ ذاتكَ من داخِلك . كُلُّ ذلكَ ، لا يعني إلاّ حضوركَ في جوهر ذاتك ..
وحضوركَ في جوهر ذاتك ، يعني أنّكَ تتفرّدُ في أصل اختيارك ، وتتكاملُ في عمق وعيك ، وتزهو في رحابةِ حرّيتك ، وتُبدعُ في ابتكار أفكارك ، وتتخلّقُ متجدّداً في بناء تجربتك ..
ذاتكَ لن تكونَ ذاتك ، إلاّ حين تكونَ في رفقتِها ، ناقداً ، ومفكّراً ، وحاضراً ، وشاخصاً ، ومتبصّراً ، وكافراً حتّى . تتمرّدُ عليك حين تسقطُ في يقين اليقين . تأخذكَ إلى حيث الشّكِ ، سؤالاً وتفكيراً وتجربةً في انشغالات التجديد والتطوّر . تكونُ معك وضدّك ، تخرجُ عليك ، وتعود إليك . تضعكَ في رحابةِ البحث ، لِتواصلَ سِفر الضّوء والاشتعال . تبعثكَ خلقاً جديداً في مخاض المعاني . تنتشلكَ من بلادة الأفكار الجاهزة ، وتقودكَ إلى حيث الابتكار ، أساس التفرّد والإبداع ..
ماذا يعني ، ألاّ تكون ذاتكَ هي ذاتك ؟ هل يعني ذلكَ ألاّ تجد ذاتكَ في صناعة السؤال .؟ وهل اقتراف السؤال وصناعته واجتراحه ، جوهر الذات الفاعِلة والخالقة والمتفكّرة والناقدة . وماذا يعني السؤال في منطق الذات المدرِكة . هل السؤال طريق المعرفة ، أم أنّه بداية الفهم .؟
ففي وعي الذات المفكّرة ، يبقى السؤال ، هاجِسها الدائم ، وطريقها الخلاّق ، ومتعتها المعرفيّة ، ونقطة الفهم . ومن شأن السؤال ، أنْ يبعثَ في الذات رغبتها الأكيدة في قراءة الأمور بعمقٍ ووعي . هذه الذات لا تجترحُ السؤالَ ، إلاّ لأنّ السؤال في انشغالاتها المعرفية ، مرتكز الفهم ، ومبعث التفكير ، وطريق الاثارة ، ومعراج التأمل ، ومنبت الإنارة ، وجمال الخَلق ..
الذاتُ المسكونة بتجلّيات تجربتها الخاصّة ، تتجلّى خَلقاً ومعنىً في الحياةِ التي أوْجدتها داخل أعماقها . بمعنى ، أنّها تصنعُ من تجربتها واهتماماتها النقديّة ، ومن تفرّدها وانشغالاتها الفكريّة ، حياةً ، وتجِدُ في هذه الحياة ، حياةً ثريّة ، ولا حياةَ خارج حياتها . إنّها تحيا جديداً وتوثّباً وإبداعاً وتفلسفاً ، في حياةٍ خلقتها ، زاهرةً بالألوان والأفكار والتجارب والمعاني ، وأودعتْ فيها رصيداً مُلهماً من فكر التحوّلات والتبدّلات والتغيّرات والتجاوزات والتخلّقات المعرفيّة ..
هذه الذات ، في حال الهزيمة تتجاوز انكساراتها ، وتذهبُ بعيداً ، وتصنعُ من الهزيمة فكرةً أو طريقاً أو ارتكازاً أو معنىً جديداً ، أو تقبّلاً جميلاً ، تُرمّم به حضورها الأنيق في تجربةِ التقلّبات والتعثّرات . إنّها تعرفُ جيّداً ، أنّ الهزيمة في معركة التجديد والبناء والحرّية والسؤال ، في حدّ ذاتها ، هيَ فكرةٌ خلاّقة ، باعثة على السؤال مجدّداً ، وخالِقة للفهم والاستفهام ، وفاضِحة للفراغات والاعتلالات والتراجعات والتلكّؤات ، وناطِقة بالاستفسارات والإجابات والشّكوك ..
ما أجملَ الذات في مخاض التفكير ، تستنطقُ به جمال النقد ، وطرائق الفِهم ، وتتحسّسُ من خلاله منابت السؤال . إنّها الذات المفكّرة ، لا تستطيع إلاّ أن تكون حاضرةً في معنىً يتخلّقُ حقيقةً ، في معنىً يمنحَ النقد رصانة الخَلق ، وخلاصة التجربة ، وتجاوز الوهم ، وثراء الفِكر . إنّه ذلك التوافق الجماليّ ، ما بين الذات المتعافِية من ثمالة اليقين ، والذات المسكونة بِهاجس النقد في انشغالات التفكير . هذا التوافق ، يذهبُ بالذات إلى مدارج البحث عن الحقيقة ، في كونها مبعث الفهم ونقطة التحوّل وأساس الطريق . فهم حقيقة الأشياء ، بعيداً عن مسبّقاتها اليقينية ، وفروضاتها السائدة ، وتمظهراتها التقليديّة ، ومعانيها المخاتلة . هيَ الذات الشاخصة في تجلّيات النقد التفكيريّة ، وهوَ النقد المُفعم بِوعي السؤال ، وموهبة الشّك ، وصرامة البحث ، في استنطاقات الذات الناقِدة ..
هذه الذات ، تُبدِعُ في خلق الإبداع ، فالإبداع في منظومتها الفكريّة ، حياةٌ زاخرةٌ بالحياة . هيَ تعرِفُ أنّ الإبداع ، لا يعني سوى أنّه يمنحها حياةً ، تنسابُ بالحياةِ الواثبة والناطقة والمُلهمة . إنّها تعيشُ الحياةَ إبداعاً ، وتعيش الإبداع حياةً . لا تغادرها هذه الحياة ، مسكونة في أعماقها ، ولصيقةٌ بجوانبها ، تتجدّد بمزيدٍ من الحياة ، وتتعالقُ معها بذلك الشغف المترع بنشوة التفاصيل والدهشات والإثارة والقداسة والحبّ ، مهما تعرّضتْ للعثرات أو الهزّات أو الصدمات ..
إنّها تصنعُ سعادتها الداخليّة ، وتعشقها ، وترعاها ، وتتألق معها ، وتجِد أنّ السعادة الحقيقيّة ، تعني أنْ تسلكَ طريقها نحو ما تريد وما ترغب . وفي ما تريدُ وما ترغب ، يكمن هدف السعادة . يكمنُ ذلكَ الانسجام والتناغم الحميميّ الخلاّق ، مع أروع لحظاتها وانشغالاتها ، في سعيها الحثيث إلى تحقيق رغباتها . أنّها تتوفّرُ دائماً بالرغبة ، ولذلك هيَ وافرة السعادة . وأجمل الرغبات لديها ، تلكَ التي تأخذها شغوفةً إلى رغبةٍ أخرى ، أكثر تحقيقاً للسعادة ، وأكثر انسجاماً وتوافقاً باهراً مع لحظاتها البارقة .
وهيَ الذات التي تتخلّقُ ألقاً في فلسفة القدرة ، تلكَ القدرة الصانعة لمناخها الذهنيّ المتوقّد ، المفعم في الوقتِ ذاته بصفاء المعرفة الوضّاءة . القدرة التي من خلالها تستطيعُ أنْ تستطيع ، فالإنسان يستطيع ، متى ما امتلكَ القدرةَ ، وليس متى ما كانَ مُحتاجاً . الاحتياج لا يجعلها مُستطيعة ، بل القدرة ، تجعلها تتفرّدُ في أنْ تكونَ مُستطيعة . والقدرة في فلسفتها ، تعني أولاً امتلاك قرارها واختيارها وحرّيتها ، وتعني امتلاك تفكيرها وانشغالاتها التفكيرية والنقديّة . القدرة هنا مستوىً وافرٌ من التراكمات المعرفية الخلاّقة ، إنّها قدرتها على امتلاك أدوات التّخطّي ، ومهارة التجاوز ، وفلسفة الخَلق . إنّها تستطيع أنْ تصنعَ تفرّدها وألقها وانسيابيّتها وتميّزاتها ، لأنها تملكُ قدرة الاستمتاع برشاقة التجاوز ، تجاوز مغاليق الافهامات الهادمة ، وانسدادات الإحباط ، وشرور الأفكار الاستلابية الخانقة . وتستطيع ، لأنّها مسكونة بقدرة المعرفة ، الخالِقة للحرّية والإرادة والفهم المستنير ..
الذات الخلاّقة ، تُساوي ولاداتها الحرّة في مخاضات العقل والتفكير والنقد . إنّها تُساوي ذلكَ المقدار الطليق من الحرّية في أعماقها وفي تساؤلاتها وفي تفاعلات تجربتها الخاصّة مع الأفكار والحياة والواقع . فالذات لا تستطيع أنْ تتخلّق حرّة في مساحات السؤال والنقد والتفكير ، فضلاً عن ذلك لا تملكُ أن تخلقَ هذه المساحات الرحبة أصلاً ، وهيَ ترسفُ في أغلال اليقين والخوف وترسّبات الأفكار الجامدة والمتخشّبة ، وفي الموانع الذهنيّة والشعوريّة والثقافيّة ، الخانقة للتحرّر والتجاوز والتّخطّي والمجازفة . ولذلك فالذات المتراجعة والخائفة والجامدة والمتقوقعة والمنكفأة ، تُساوي ما تؤمن به من يقين الجمود والتراجع والتخلّف والخوف والانكماش ، بينما الذات الخلاّقة ، تُساوي ولاداتها الحرّة دائماً ، تُساوي مقدار ما تملكُ من فِكر التغيير والتجديد والتخلّق والتوثّب والتيقّظ والإدراك والتجريب ..
ويحدثُ كثيراً ، أنْ تكونَ هذه الذات الخلاّقة ، سعيدة ، وفي منتهى السعادة ، كلّما وجدتْ إنّها تولَدُ حرّةً في كلّ تخلّقٍ جديد ، وتولدُ جديداً في كلّ حرّيةٍ أرحب . وتكون سعيدةً ، وهي تحيا حرّةً ، في كلّ تخلّقاتها الناقدة والمفكّرة والمتسائلة . إنّها قادرةٌ على أنْ تمنح نفسها هذا الشعور من السعادة ، لأنّها طليقةٌ ورحبةٌ ، ومتخفّفة دائماً من اكراهات الأسبقيّات اليقينيّة والاطلاقيّة ، المُتخَمة بالانسدادات الثقافيّة ، والتحيّزات الهويّاتيّة الخانِقة الهادمة ، وفي الوقت ذاته تملكُ قدرة الاستحضار الباهر . استحضار تراكمات الذاكرة الإنسانيّة المعرفيّة في الحرّية والخَلق والإبداع والجمال ..
هذه الذات تملكُ مهارة التّخطّي الخلاّق ، وفنون التجاوز الحرّ ، حينما تكون عالقةً وسط الخراب . خراب الواقع البائس ، وخراب الأفكار الهادمة ، وخراب الأذهان المتصلّبة ، وخراب المفاهيم البليدة السائدة ، وخراب التحيّزات الخانقة . لأنّها مسكونة بِجلال الحرّية ، ولا شيء يجعلها متفرّدة في حياة التخلّق والانطلاق والإبداع ، وفي تلك الرحابة من الأفكار والأنساق الفسيحة الوضّاءة ، سوى الحرّية المتوفّرة في أعماقها . وعلى الرغم من كلّ تلك الخرائب المحيطة بها ، إلاّ إنّ الحرّية في منظومتها الثقافيّة ، تبقى هيَ رصيدها الوافر والوفير . فالحرّية توجِدها دائماً في أعماقها ، وترعاها بمزيدٍ من وعي الحرّية ، وتحافظُ عليها من الاستلاب أو التآكل أو الضعف أو الاهتزاز أو التصدّع ..
#محمود_كرم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن العقل البائِس
-
التجربة وحْيُكَ المقدّس
-
هذيانات أنيقة
-
المحرّمات الثقافية في العقليّة الجماعية
-
الإنسان كائنٌ هويّاتيّ
-
في أن تخرجَ من قيودك
-
في أن تكون الحياة رهنُ يديك
-
كلام في الخمسين
-
الإنسان يصنع مستقبله
-
الذات الحرة في بناءاتها ورؤاها المتمايزة ..
-
ذاكرة الإنسان المعرفية .. تجلياتٌ في الإبداع والتجديد
-
في فلسفة المشاعر الإنسانية
-
الشغف .. أكثر حالات الإنسان تألقاً وتفرداً
-
الإنسان التعبيري .. إنسان النزعة الخلاقة
-
حرية التفكير طريق التمرد المعرفي
-
فلسفة الحضور في الوعي التنويري
-
شجن الذاكرة
-
الأصل في فلسفة الوعي الإنساني
-
التافهون
-
الإنسان المعرفي .. إنسان التنوير
المزيد.....
-
مذيعة CNN تواجه بايدن: صور الأطفال في غزة مروعة وتكسر القلب.
...
-
أردوغان: تركيا تتابع الوضع في أوكرانيا عن كثب
-
وزير التجارة التركي يحسم الجدل بعد تصريحات كاتس عن عودة التج
...
-
صحة غزة تعلن الحصيلة اليومية لضحايا الحرب في القطاع
-
زيلينسكي يعين رسميا قائد قواته السابق سفيرا لدى بريطانيا
-
بعد تهديد بايدن.. رسالة من وزير الدفاع الإسرائيلي إلى -الأصد
...
-
بوتين يرأس المراسم في الساحة الحمراء بموسكو للاحتفال بيوم ال
...
-
طلاب ليبيا يتضامنون مع نظرائهم الغربيين
-
أبو ظبي تحتضن قمة AIM للاستثمار
-
أغاني الحرب الوطنية تخلد دحر النازي
المزيد.....
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
-
المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب
...
/ حسام الدين فياض
-
القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا
...
/ حسام الدين فياض
-
فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
يوميات على هامش الحلم
/ عماد زولي
-
نقض هيجل
/ هيبت بافي حلبجة
-
العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال
...
/ بلال عوض سلامة
-
المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس
...
/ حبطيش وعلي
-
الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل
...
/ سعيد العليمى
-
أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم
...
/ سعيد زيوش
المزيد.....
|