أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نبيل عودة - قصص فلسفية – الحلقة الرابعة















المزيد.....


قصص فلسفية – الحلقة الرابعة


نبيل عودة
كاتب وباحث

(Nabeel Oudeh)


الحوار المتمدن-العدد: 5126 - 2016 / 4 / 7 - 21:25
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


قصص فلسفية – الحلقة الرابعة
نبيل عودة
******
انه يتحرك.. فهو موجود!!

استاذ الفلسفة يطرح سؤال للتفكير: هل ماهية الأشياء تسبق وجودها ام وجودها يسبق ماهيتها؟
ما هو الصحيح حسب تفكيركم ؟ .. لم اسمع جوابكم ولا أرى ارتفاع أي اصبع .
ساد صمت عميق، أستاذ الفلسفة يجول بعينية السوداوين على وجوهنا، كأنه اداة فحص لمدى حضورنا في درس الفلسفة، بعد ان قضينا أسبوعا من الأعياد والعطل.
- تعالوا نعيش أجواء الدرس الفلسفي؟..ما هو معنى الحياة؟ هل توجد مصداقية تجعلنا نبحث وراء حقيقة ما، بينما نحن نعرف، وهذا واضح للجميع ، ان الحقيقة المطلقة غير موجودة ?
يواصل أستاذ الفلسفة بسخرية:
- يبدو جليا ان وزنكم ازداد في الاسبوع الماضي ، كنت آمل ان يزداد وزن تفكيركم .
بعد برهة ، تأمل فيه طلابه بصمت، تابع يقول وكأنه يواصل حديثا انقطع:
- الفيلسوف الدانماركي سيرن كيركغور واجه في حياته مآس عديدة ودخل في حالة يأس. كان متدينا ، طرح تساؤلات عن منطق الحياة في واقع شديد الذاتية . يعتبر في تاريخ الفلسفة من مؤسسي الفلسفة الوجودية، هل سمعتم عنها ؟ هل تعرفون اسماء أشهر فلاسفتها ؟ اليوم سنبدأ الحديث عن الوجودية وعن بعض فلاسفتها. هل انتم على استعداد ذهني كامل اليوم ؟
صمت لحظة ينتظر جوابا، ارتفع اصبع طالب يجلس في وسط القاعة:
- هات ما عندك
- أظن ان الكاتب الفرنسي سارتر هو ابو الوجودية؟
- سارتر كان وجوديا ومؤسس مدرسة في الوجودية، في الفلسفة الوجودية انتشرت مدارس عدة متناقضة، نجد التيار الملحد وأبرز ممثليه سارتر وتيار ديني وابرز ممثليه مؤسس الفلسفة الوجودية كيركغور الذي ذكرناه في البداية ...
اضاف بعد توقف قصير قال استاذ الفلسفة:
- من لديه سؤال آخر ؟
ساد الصمت جميع الطلاب. بان الضيق على وجه استاذ الفلسفة وأضاف:
- الصمت في الفلسفة غير مستحب .. انتم طلاب ارقى المواضيع الذهنية، اتوقع منكم معلومات أكثر من مجرد معلومات عامة حول المواضيع التي نطرحها.. لا يمكن تعليم الفلسفة لطلاب لا يلتهمون كتب الفكر في المكتبات، خاصة وان برنامجكم الدراسي واضح . أنتم لستم طلاب اول ابتدائي.. حتى من طلاب الثانويات يطلب معرفة مسبقة عامة ...هل من قيمة للإنسان بدون معرفة واطلاع بلا حدود؟ اذا لم يكن دافع المعرفة من داخلكم فلن تتقدموا في العلوم وفي الفلسفة!!
كان الصمت ثقيلا وكئيبا، شعور الخجل من توبيخ المحاضر زاد من ارباك الطلاب.
- حسنا.. سنتابع وآمل ان تجيئوا الى الدرس القادم بمعلومات كافية لندخل في تفاصيل هامة ورائعة. لا شيء اروع من الفلسفة ، حتى لو لم نقبل طروحات فلسفية لبعض الفلاسفة ، الا ان دراستها تثري عقلنا ومعرفتنا ، يبقى اعتماد العقل هو المميز لموضوع الفلسفة، أي كان اتجاهها، حوارنا للطروحات هو تطوير للوعي وتطوير للعقل وتطوير لمفاهيمنا الحياتية بكل تفاصيلها، الأهم ان الفلسفة هي تطوير لإنسانيتنا وقيمتنا كبني بشر مميزون عن سائر المخلوقات بأننا نستعمل عقلنا ولا نتحرك بغرائزنا وعصبيتنا القبلية.
كانت طالبة ترفع اصبعها بشيء من الحياء ، حتى انها تبدو مترددة بين ان تنزل اصبعها او تطلب حق الكلام ، لمحها المحاضر في اللحظة التي كادت تيأس من الإستجابة لطلبها وتتنازل عن قول ما لديها:
- جمانة .. آسف لم انتبه لك ، اطلبي حق الكلام بقوة، نحن لسنا في معبد، تفضلي..
- هل تعني الوجودية ان لكل شخص وجودا محددا؟
- بدأنا في الفلسفة من نقطة رائعة مع جمانة. أجل يا جمانة اين قرأتي هذا القول؟
- سمعت طرفة ، ولكني أجد صعوبة في قصها؟
- انت في درس الفلسفة ولا نقبل أي عذر.. نريد سماعك
ترددت جمانة بحياء ما، تلفتت حولها كأنها تطلب النجدة، ثم حزمت أمرها وبدأت تتحدث بشيء من الصعوبة:
- كان ... رجلا .. في السرير مع زوجة صديقه ، سمعوا سيارة الزوج . قفز الصديق عاريا واختبأ في خزانة الملابس. دخل الزوج الى البيت قلع جاكيتته وفتح خزانة الملابس ليعلقها .. فاذا صديقه عاريا في داخلها.سأله مستهجنا:
- ماذا تفعل هنا يا صاحبي ؟
اجابه:
- كما ترى يا صديقي ، حسب الفلسفة الوجودية لكل شخص يجب ان يكون وجود في مكان ما!! "
بعد ان خفت ضحك الطلاب قال المحاضر حتى دون أن يبتسم:
- السؤال الفلسفي هنا بسيط ، كيف نفسر للزوج ان صديقه من بين كل الناس هو في حالة "وجودية " معينة داخل خزانة ملابسه .اما الصديق فله تساؤل وجودي آخر: لماذا شخص ما (أي الزوج) يوجد في مكان ما بدل ان لا يكون في أي مكان آخر؟ فقط الفيلسوف الألماني هيغل يستطيع الإجابة على تساؤل معقد ومركب مثل هذا. لأنه كان يعتقد انه قفز خارج التاريخ ، وهو ينظر من فوق الى ما يجري، وبالنسبة له كل شيء من فوق يبدو سليما مكتملا. وانا لست هيغل . بينما الماني آخر هو نيتشه كان أكثر مبالغة ، كان يظن انه يرى التاريخ من وجهة نظر الاهية . أي وضع نفسه بمرتبة الإله وقد تقمص هتلر فلسفته ... ورأينا الكوارث التي حلت بالبشرية نتيجة وهم الألوهية الذي سيطر على هتلر!!
أضاف استاذ الفلسفة:
- اذن ارى انكم دخلتم في الجو .. هل فهمتم الآن أهمية معرفة مسبقة لمضامين ما سندرسه ؟ الدرس يصبح ممتعا لكم ولي، أصعب المسائل يمكن تفسيرها بطرفة مناسبة.. هذه من أهم خواص الفلسفة..
- ارى اصبعا جديدا مرتفعا ، تفضل يا طلال
- تعلمنا ان الفلاسفة من فلسفة معينة ، يحملون نفس الأفكار ونفس المعتقدات، لكنك ذكرت ان مؤسس الوجودية الدانيماركي كان متدينا، نحن نعرف ان سارتر كان ملحدا بل وقريبا من الماركسية المعروفة بفكرها الالحادي أيضا ، كيف يتلائم سارتر الملحد مع كيريغور المؤمن ؟
- رائع ، لماذ حافظت على صمتك حتى الآن ؟ هذا سؤال هام ، سنوضحه في الحديث عن الوجودية وتعدد وجوهها . ولكن الآن أقول ان الخلاف ليس حول الشكل القائم انما حول صيرورته .مثلا هل ماهية الأشياء تسبق وجودها، ام وجودها يسبق ماهيتها؟ الانقسام في الاجابة يعني وجود اتجاهان رئيسيان، الأول مثالي يرى ان تجسم الماهية تسبق الوجود، والثاني مادي، يرى ان الوجود يسبق الماهية. بمعنى آخر كيف يمكن فهم ماهية الشيء قبل ان نعرف التفاصيل التي تجسم وجوده؟ هيغل كان يرى الماهية تتمثل بالفكرة المطلقة.. الإله بمعنى مبسط . ماركس ناقضه ورأى بالوجود المادي سابقا لأي ماهية او فكرة مطلقة..
قاطعته مرام:
- نيتشة له قول مشهور يقول فيه بأنه اذا كان لديك ما تعيش لأجله تستطيع تحمل كل شيء!!
- اسمعيني جيدا يا مرام ، هذا القول يفسر بدقة مضمون الفلسفة الوجودية ، فهي فلسفة واجهت في طروحاتها المشاكل العينية للوجود البشري من جميع اوجهه بغض النظر عن فهم فلاسفتها واتجاهتهم المتناقضة لما هو السابق، الماهية ام الوجود المادي. الخلاف قائم في الفلسفة ولا نهاية له بين الوجوديين المتدينين والوجوديين الملحدين. بين التيارات الألحادية ونقيضها التيارات المؤمنة، تكاد تكون الوجودية من أهم الفلسفات التي ظهرت بعد الماركسية، الفيسوف الفرنسي سارتر حاول الدمج بين الفلسفتين، خاصة وان منطلقات سارتر الحادية في جوهرها مثل منطلقات ماركس وفهمه قريب جدا من فهم التاريخ الماركسي وفهم العوامل الاجتماعية كما طرحتها الماركسية. أكثر فلاسفة الوجودية قرروا ان "الجنائني الساحر" قد مات . والقصد ان الله مات ، لذلك ، حسب فلسفتهم، أصبحت هذه مهمة البشر "تربية الزهور ورعاية الحدائق" بدل الجنائني الذي مات. طبعا هذا رمز يعني ان الانسان يجب ان يتحكم بحياته وليس ان يكون تابعا لفكرة غيبية، فكرة مطلقة، فكرة الهية. نحن لسنا الآن في تقرير ما هو الصحيح . نحن ندرس الفلسفة بكل مركباتها، عقلنا يقرر ما هو المنطق الموافق لتفكير كل واحد منا ، هذا لا يعني ان خياراتكم ستكون متشابهة.. وقالوا أيضا انه بين الزهور تنشا أشجار الصبار الشائكة، التي تعيق حياتنا وهنا نتساءل : هل نواصل الحياة حتى مع الأشواك؟ او نعيش في صحراء قاحلة خالية من الأشواك ومن النبات؟
اذن الحياة حسب تصورهم ليست أمرا ميسرا وسهلا، انما صراع من أجل الأفضل. الجمال لا يوجد بدون نقائض، الحب لا يوجد بدون كراهية، الوجودية طرحت أمرا هاما ما زال يشغل الفلاسفة والمفكرين، هل سقطت الأيديولوجيات بعد الحرب العالمية الثانية التي أظهرت وحشية الانسان وابتعاده عن كل الفلسفات الانسانية وحتى عن الفكر الديني الذي يدعو الى التسامح؟ القيت قنبلة نووية مدمرة على هيروشيما وأخرى على نيغازاكي قتل وشوه مئات الألاف في المدينتين؟! بل وبعضهم قال ان الوجودية أيضا سقطت!!
سارتر برز في دفاعه عن الوجودية ومدها بحياة جديدة بعد الحرب العالمية الثانية، مفسرا شكل العلاقة المطلوبة بين الفرد والمجتمع، مفهوم الحرية بعد الحرب الرهيبة وامتلاك السلاح النووي ذو الطاقة التدميرية الرهيبة. وقف سارتر مع ثورة الجزائر من منطلقاته الفلسفية الرافضة لاغتصاب حقوق الآخرين وحريتهم، وايد حقوق الشعب الفلسطيني من نفس المنطلق.
هذه الفلسفة تراجعت مكانتها بعد وفاة سارتر
ارتفع صوت جمانة:
- لدي حكاية ربما ذكرها الفيلسوف هايدر في تفسيره لمفهوم الوجودية، هل أرويها ام أتركها للدرس القادم؟
الحكايات تخفف من الضغط الفكري.. حدثينا بما لديك يا جمانة -
سأل شخص صديقه: ما هي الكآبة؟ انت حتى الآن لم تعش لتعرف الكآبة، عندما اقول اني عشت فأنا اقصد الحياة مع التفكير الدائم عن الموت، وقال ان الوجود البشري هو التحضير من أجل الموت، وقال ان الحياة بظل الموت تجعل الفرد شجاعا أكثر.
أضاف: اسمع هذه القصة يا صديقي لتفهم معادلتي : قتل ثلاثة أصدقاء بحادث طرق. قال لهم ملاك الموت : سأُلبي لكم آخر أُمنية، ماذا تريدون ان يقولوا عنكم محبيكم وأصحابكم قبل الدفن؟
قال الأول: ليقولوا انه كان معلما بارعا وموته خسارة للعلم
قال الثاني: ليقولوا انه كان كريم الأخلاق محبا لمساعدة الغير وسوف يفتقده مجتمعنا
قال الثالث: ليقولوا .. توقفوا لا تدفنوه .. انه يتحرك!!
اضافت جمانة:
- هذه هي الوجودية ، كما فسرها هايدر . انه يتحرك ، فهو موجود بين الأحياء.
وصفق المحاضر استحسانا.

******
ما هو الرنين من تصفيق يد واحدة ؟

بدون سابق انذار تغير الطقس . كان صباحا باردا جدا وماطرا ، الأمر الذي أعاق وصول بعض الطلاب في الوقت المحدد لبدء الدراسة. شعر المتعوقين ببعض الرهبة ، بان يكون المحاضر قد سبقهم ، دون ان يؤثر اختلاف الطقس على توقيتاته المبالغ فيها وما سببه اختلاف الطقس المفاجئ من ازدحام الشوارع بالمركبات وبطء غير عادي في حركة السير .
كان المحاضر لا يتهاون في مواعيد محاضراته ويصر على التزام الطلاب الكامل بالدقيقة لمواعيد دروسه، ويرفض دخول اي طالب بعد ان يكون قد دخل الصف واتخذ مكانه المعتاد بادئا درسه . ولكنه اول يوم ماطر وفوضى سير ، اكتظاظ في الحركة المرورية ، ربما يكون قد تعوق هو نفسه لنفس الأسباب.كما فكر الطلاب وهم يهرولون ركضا لقاعة المحاضرات.
كان من عادته ان يدخل متأخرا دقيقتين تماما ، فاتحا المجال للطلاب للوصول الى مقاعدهم والاستعداد العقلي لدرس الفلسفة .
المستهجن ان ذلك الصباح الماطر والبارد ، تأخر المحاضر عشر دقائق كاملة ، رغم ان البعض شاهده يدخل حرم الجامعة ، قبل الوقت بعشر دقائق. مما انقذ الكثير من الطلاب من إبقائهم خارج قاعة المحاضرات. ولكن تبين كما قال احد الطلاب ان "اليوم عسل" بسبب الخير الدافق من السماء .
صحيح انه يمكن نقل تفاصيل المحاضرة عن كراريس الزملاء .. غير ان فقدان ساعة تسبب لهم مشاكل مع العلامات التي يسجلها المحاضر على أعمالهم ، ويلزمهم بتعويضها بساعة أخرى ، الأمر الذي يسبب لهم ضغوطات دراسية وضغط في الوقت ، وعلامات أقل مما يعتقدون انهم أهل لها. لذا يمكن القول ان مواعيد دروسه كانت من الدقة لدرجة يمكن ضبط أفخر الساعات السويسرية على ثوانيها. وقد انتشر في محيط الجامعة اصطلاح يقول " توقيت محاضر الفلسفة" ويعني الالتزام بالثانية .
نظرية المحاضر تقول انه لا قيمة للفلسفة والتفكير الفلسفي الا بتحديد اطار للوقت يلتزم فيه العقل بدقة المواعيد ، ودقة وقت الحديث ، بحيث لا يتحول الى ثرثرة وفوضى. لأن ذلك يقود الى فوضى في المخ البشري، والاستهانة بالفكر، الذي لولاه لظل الانسان بعيدا قرونا عديدة عن الواقع المتطور الذي وصله اليوم .
كان المحاضر ، الى جانب دقة الوقت ، يلزم طلاب الفلسفة بدقة التعابير، ومساحة الدقيقتين المقررتين للإجابة على أسئلة يطرحها المحاضر ليفحص ان طلابه متواجدين ، ليس باجسامهم فقط داخل القاعة ،انما بعقولهم أيضا .
كان الطلاب ، رغم صعوبة توقيتات المحاضر، ونهجه غير المهادن، والرافض لكل الحجج والمبررات الا حجة الموت .. "وهذه نعرفها من اعلانات النعي، ونقبلها، ولا نريدها لكم ". الا انهم تعودوا حقا على الالتزام بالوقت حتى فيما بينهم. وصار كل تجاوز في موعد ما، يثير امتعاضهم القوي. مثلا يلتزم الطالب ان يتواجد يوميا في قاعة المكتبة من الثالثة حتى الرابعة والربع .. وفي الرابعة والدقيقة السادسة عشر يكون خارج القاعة ...
ورغم شخصية المحاضر الصعبة ، الا ان محاضراته هي متعة عقلية غير عادية. ينقلهم فيها المحاضر الى عالم سحري من الأفكار الفلسفية، التي قلبت عالمنا، وشكلت مضمونه الذي نحياه، عبر الطريق التي اجتازتها الشعوب... الى ما هي عليه اليوم من تقدم أو تخلف، من سمو أو من حضيض.
بعض ما كان يبدو لهم طلاسما ، مرهقا ومملا وعصي عن الفهم، جعلته شروحات المحاضر حقائقا ملموسة، تدخلهم الى أجواء لم يتوقعوها من الاندماج الروحي والفكري مع ذاتهم وعالمهم، الأمر الذي يثير شعورهم بأن ما اكتسبوه اليوم يعتبر ثروة فكرية تجعلهم حقا مميزون عن أترابهم الذي اختاروا مواضيع أخرى،او ذهبوا الى سوق العمل.
كان يحلل أصعب الأفكار الفلسفية بقدرته على صياغة جمل نصية واضحة وكاملة المعنى ومليئة بروح الدعابة أحيانا ، ويضيف لها النماذج الملموسة من الحياة نفسها او من الأساطير التي ترمز إلى معاني معينة ، كانوا يظنون ان بعضها نكتا شعبية، فاذا هي مليئة بحكم الحياة وفلسفة الوجود .
دخل المحاضر الصف بابتسامته الواسعة ، والتي تخفي شخصيته "الألمانية" كما يقول الطلاب مستعيرين هذه الصفة للإشارة الى دقته وقسوته ، والتزامه بانضاط مبالغ فيه في رأيهم، في كل علاقاته، حتى في المواعيد مع طالب للاستفسار عن مسألة معينة، يحدد وقتا دقيقا. مثلا من الثانية وخمس دقائق وحتى الثانية والثلث. لن يستقبل الطالب قبل ان يدق "توقيت الفلسفة " الثانية وخمس دقائق. ولن يعطي الطالب ثانية واحدة بعد الوقت المقرر. كان الطالب ينتظر على باب مكتبه ونظراته تراقب عقرب الساعة، وأذنه جاهزة لسماع كلمة أدخل حين يحين الوقت. واذا صدف وتعوق، لن يلقاه مرة أخرى لفترة شهر كامل.
وكثيرا ما تساءل الطلاب عن علاقة ذلك بالفلسفة؟ وحين تجرأت سعاد وسألته هذا السؤال، تمنت ان تنشق الأرض وتبلعا لجوابه "النشاز" كما اشتكت لصديقاتها. قال: "الوقت ليس علاقة غرامية بالسرير، هناك لك الوقت المفتوح كما تشائين، كفي ضحكا..( صرخ بعبوس على انطلاق ضحكات من مقاعد الطلاب) في الحياة نفسها من يضيع دقيقة يضيع ملايين الدقائق من حيوات ملايين البشر، الوقت ليس ملكا شخصيا لأحد، بمثل عقليتك يا سعاد لن يتقدم العالم، وربما كنا ما زلنا حتى اليوم في العصر الحجري ومشاعية النساء، مجتمعكم متخلف لأنه لا يقدر قيمة الوقت، يجب ان تكونوا جهازا فعالا لوضع حد لفوضى الوقت.. والا لا قيمة لكل فلسفتكم التي تدرسوها اذا واصلتم حياة التهريج والفوضى وعدم الانضباط والمسؤولية بانجاز العمل في وقته، وليس حسب التساهيل والنفسية والطقس. لذلك انتم في الفلسفة، وسعاد يجب ان تستبدل عاداتها السريرية، الى وعي لمفهوم الوقت وارتباطه الوثيق بتقدم البشر والمجتمعات البشرية، والسباق نحو الفوز بالأولوية في الاكتشافات والتقدم المعرفي والتكنلوجي والعلمي، وليس السقوط بعادات لا تحترم الوقت وتحرقة بالخرافات والتنبلة والأوهام !!"
على غير عاداته هذا اليوم ، جلس يضاحك الطلاب ، ويبدو ان المطر نقله الى نشوة لا يعرفونها به. ورغم مضي عشر دقائق الا ان بعض الطلاب لم ينجحوا بالوصول بعد ، والذين يصلون يقفون حائرين قرب الباب مترددين في الدخول، وحتى كلمة " ادخلوا " التي صدرت عنه لم تقنعهم انهم المعنيون بها. دخلوا رجلا للأمام وأخرى للخلف ، ولم يطمأنوا الا بعد ان جلسوا على مقاعدهم . بعد مضي عشر دقائق أخرى قال :
- المطر خير .. ولكن له فعل سلبي على درسنا اليوم وعلى قدسية الوقت. ولكن منذ الغد لن أقبل أي تعويق، نعود الى منهجنا. واضح ؟ حتى لو تراكمت الثلوج الى علو متر كامل. حسنا، اليوم خمر .. نسمح لجميع الطلاب بالدخول ، وغدا أمر.. نعود لمسؤوليتنا ونظامنا والتزامنا بالوقت، باعتبارنا رجال فكر وليس رواد مقاهي الأرجيلة، أو على هامش الحياة نمارس التنبلة! ماذا كان درسنا الأخير؟ وجه نظراته للطلاب، فارتفع أكثر من صوت :
- تحدثنا عن البوذية ..
- أجل . الشتاء لم يؤثر على ذاكرتكم .. البوذية ، كما قلنا هي أكبر دين في العالم . وظهرت في الهند في القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد ، والمستهجن ان ستة الاف سنة وأكثر من ظهور اول دين سماوي يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، الا ان البوذية ما تزال تعتبر من أكبر الديانات انتشارا على وجه الأرض، كيف لم ينجح أحد من كل انواع الغزاة من دعاة الديانات التوحيدية، الى تقليص او زحزحة هذا الدين غير السماوي؟
ينسب تأسيس البوذية الى الأمير الهندي سيدهارتها غوتاما، وكان يلقب ببوذا وتعني "المتنور" ، ويعود سر نجاحها الى المساوة الدينية الروحية ومكافحتها تفرقة الناس الطائفية. وانتشرت البوذية عدا الهند ، في الصين واليابان وكوريا والعديد من بلدان جنوب شرق أسيا. حدثت تطورات على البوذية ، قربتها من الفكر الألهي، او التوسل لإرضاء الآلهة. ولكنها اقرب للتربية الشخصية والأخلاقية.أي ليست بجوهرها دينا سماويا .
الكشف الفلسفي عن البوذية يعود فضله الى الفيلسوف الألماني من القرن التاسع عشر أرتور شوبنهاور الذي تأثر بالفلسفة البوذية ، وجوهر فلسفته كان بتأثيرها.
يقول شوبنهاور: " نحن نحس بالألم اذا أصابنا ، ولا نحس نهاية الألم ". تمييز جدير بالدراسة.. هذه ضمن روحانيات البوذية الفلسفية . وتطرح البوذية رؤية تقول ان السعادة ليست سلبية ، ولكن السلبي هو الانسان الذي لا يحس بها". ومن هنا كان شوبنهاور ، تماما مثل البوذية ، يعتقد ان الحياة مجرد معاناة ، نضال واحباط . وان طريقة الهرب الوحيدة ، او الخلاص من هذا الواقع ،هو الاستسلام . كبت الأشواق ، وقمع الإرادة للحياة. أي نوع من التصوف.. ولكنه تصوف بوذي شديد القسوة على الذات الانسانية. وتبرير ذلك عند شوبنهاور والبوذية، ان التنازل، بمفهوم الاستسلام أيضا، يقود الى الرحمة، او الشفقة على كل المخلوقات الحية وتقديسها، أي أشبه بصفعة لجعل النفس نقية. في عالمنا اليوم يبدو هذا الوضع غير قابل للتنفيذ .. ولكن الحقيقة ان ملايين البوذيين يمارسون هذه الشعائر.. وهي تمارس أكثر من شعائر أي دين آخر .
قاطعه صوت طالب:
- هناك جمعيات الرفق بالحيوان .. هل لها جذور بوذية.
- لا علاقة شرطية، انما رؤية إنسانية عامة. ربما نحتاج الى جمعيات الرفق بالبشر أيضا في هذا العالم الذي صار العنف والقتل من مميزاته.
البوذية وشوبنهاور سوية ، رأوا ان الحياة دائرة متواصلة من الاحباط والملل. عندما لا نحصل على ما نري، نصاب بالملل. وأن أكبر إحباط يحل على الانسان عندما يظن ان الفرج بات قاب قوسين أو أدنى من قبضة يده، وانها خطوة ليحصل على أمنية طال انتظاره لها. وفجأة يتبين ان أمانيه أضحت أكثر بعدا رغم انها كانت شديدة القرب للحصول عليها.
هناك أسطورة تفسر هذه الفلسفة: وتتعلق بفلسفة شوبنهاور المتأثرة بالبوذية وتعرف باسم "فلسفة السعادة والشقاء".
كان أميرا جميلا ، قامت ساحرة شريرة بحرمانه من الكلام ، الا كلمة واحدة كل سنة.واذا تجاوز المحظور، فسوف يصاب بالعمى والطرش أيضا. فالتزم المسكين بما كتب له من الشريرة. ولكن الساحرة سمحت له بتوفير الكلام ، بمعنى : اذا لم يستعمل الكلمة في سنة معينة ، يستطيع في السنة التي تليها ان يستعمل كلمتين.. وهكذا دواليك .. ما يوفره من كلمات ، يستطيع استعمالها في سنوات تالية .
التقى في حديقة القصر ، بأميرة رائعة الجمال ، جاءت مع والدها في زيارة ملوكية، فأعجب بها وعشقها بكل روحه، أراد ان يقول لها: "أميرتي الجميلة"، ولكنه لم يكن يملك في السنة الأولى الا كلمة واحدة لا تفي بالغرض . فصمت مضطرا سنة كاملة. رد الزيارة بعد سنة ، وقبل ان ينطق بالكلمتين، فكر وقال لنفسه ولكني أحبها واريد ان أقول لها، أميرتي الجميلة، أنا أحبك " وهكذا ينقصه سنتين أخريين ، فصمت. بعد سنتين قال في نفسه انه يريدها زوجه له، ويريد ان يقول لها: اميرتي الجميلة انا أحبك، هل تقبليني زوجا لك؟" ولكلمات " هل تقبليني زوجا لك" يحتاج الى اربعة سنوات أخرى. فصمت. وهكذا مرت ثمانية سنوات، وبحماس سافر اليها ليقول لها كلماته التي وفرها: " أميرتي الجميلة ، أنا أحبك . هل تقبليني زوجا لك ؟ "
سار مع الأميرة في حديقة القصر، بين الزهور والعصافير المغردة والجو الشاعري اللطيف، شاعرا بنبض قلبها في ذراعه الذي تتأبطه الأميرة.. متحينا الفرصة ليقول ما وفره من كلمات خلال السنوات الثمانية. وتحت شجرة وارفة الظلال، توقفا يتأملان مجرى النهر أمامهما .. وقرر انها الفرصة المناسبة التي يستعد لها منذ ثماني سنوات ، وبدون سابق انذار وقال لها :
- أميرتي الجميلة، انا احبك، هل تقبليني زوجا لك ؟
تفاجأت الأميرة بسماعها صوت الأمير ،فالتفت اليه متسائلة :
- بردون ، ماذا قلت ..؟ لم انتبه لكلماتك .
ورغم شعور الطلاب بالألم على الأمير .. الا ان ضحكاتهم جلجلت في القاعة، وارتفع صوت الطالبة مروّة:
- مأساة حقا بعد ان كاد يحصل على ما يريد، لا بأس ينتظر ثماني سنوات أخرى.. ولكن البوذية شهدت في القرنين السادس والسابع الميلادي ، تطوير نوع جديد من البوذية، بادعاء ان الفلسفات والعقائد الأخرى مجرد اوهام وتضليل ، وابتعاد عن النورانية التي تحل على الانسان من قوى عليا ، بممارسة رياضات معينة للتأمل مثل "النيرفانا " ، ولفهم نهجهم الجديد ، يطرحون سؤال فلسفي لم أجد له جوابا:
ما هو الرنين من تصفيق يد واحدة فقط ؟

[email protected]



#نبيل_عودة (هاشتاغ)       Nabeel_Oudeh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عيد البشارة عيد كل النصراويين
- علي سلام شريك بالمؤامرة الصهيونية..!!
- حجج صبيانية وراء التصويت ضد ميزانية بلدية الناصرة
- قصص فلسفية - الحلقة الثالثة
- من يخدم قرار إضراب يوم الأرض?
- قصص فلسفية – الحلقة الثانية
- إذاعة الشمس والإعلام العربي في كتاب للمعهد الإسرائيلي للديمق ...
- صفحات من تراثنا الفلسطيني
- وداعا للفنان، الرسام والمسرحي سهيل ابو نوارة
- بمناسبة عيد الأم: ستبقين أمي...
- فلسفة مبسطة: أمباتيا، اباتيا واتاراكسيا ..
- قصص فلسفية - الحلقة الأولى
- فلسفة مبسطة: علم المنطق
- 8 ﺁﺫﺍﺭ 2016 في ظل القمع للمرأة ف ...
- فلسفة مبسطة: طالبوا الإله ..
- فلسفة مبسطة: الصراع الطبقي .. من ستالين حتى زينب!!
- تجربتي والتباس الوعي القصصي عند البعض
- الثورة العلمية التكنولوجية أنتجت واقعا اقتصاديا- اجتماعيا جد ...
- وداعا للأديب الفلسطيني سلمان ناطور
- نصوص وقصص ساخرة - القسم الرابع عشر


المزيد.....




- تحقيق لـCNN.. قوات الدعم السريع تطلق العنان لحملة إرهاب وترو ...
- ستتم إعادتهم لغزة.. مراسل CNN ينقل معاناة أمهات وأطفالهن الر ...
- أردوغان يريد أن يكمل -ما تبقى من أعمال في سوريا-
- استسلام مجموعة جديدة من جنود كييف للجيش الروسي (فيديو)
- عودوا إلى الواقع! لن نستطيع التخلص من النفط والغاز
- اللقاء بين ترامب وماسك - مجرد وجبة إفطار!
- -غباء مستفحل أو صفاقة-.. مدفيديف يفسر دوافع تصريحات باريس وب ...
- باشينيان ينضم إلى مهنئي بوتين
- صحة غزة: ارتفاع حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي إلى 31819 قتيلا ...
- هل مات الملك تشارلز الثالث؟ إشاعة كاذبة مصدرها وسائل إعلام ر ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نبيل عودة - قصص فلسفية – الحلقة الرابعة