أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم جركس - أنا أؤمن بالغيبيات والماورائيات (من كتاب خمسون معتقداً شائعاً يعتقد البشر بصحّتهم)















المزيد.....



أنا أؤمن بالغيبيات والماورائيات (من كتاب خمسون معتقداً شائعاً يعتقد البشر بصحّتهم)


إبراهيم جركس

الحوار المتمدن-العدد: 4845 - 2015 / 6 / 22 - 17:03
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الفصل الأول من كتاب ((خمسون معتقداً شائعاً يؤمن البشر بصحّتهم))
تصدير
لا أحد يولد ريبياً.

ومع ذلك فالأولاد هم علماء بالفطرة. إنّهم يحبّون السعي وراء المعرفة، الاستكشاف، التجريب، إطلاق تسميات على الأشياء (ما أزال أذكر ابنتي الأصغر، منذ سنوات عديدة، تطلب مني أن أسمّي النجوم التي في السماء الواحدة تلو الأخرى).

لا أفترض أنّ كل ذلك علماً. فعملية الحفظ والتصنيف مهمّة جداً، وأساس كونك قادراُ على فهم العلاقات التي تربط بين الأجسام، كل هذا ليس علماً. السمة الأساسية التي تجعل العلم "علماً" هي أنّه ذاتي التحقق. فأنت لا تقدّم مجرّد فرضية، إنّما تختبرها. وتحاول معرفة ما إذا كانت ستعمل في المرة القادمة التي تستخدمها فيها. وأنت لاتفترض ذلك بشكل اعتباطي.

وأهمّ شيء، أهم سمة تميّز العلم عن باقي سبل المعرفة الأخرى، هو أنّ العلم غير مخلص. يمكنك الاعتماد على فكرة معينة لسنوات عديدة، عقود، لكن إذا ظهر شيء يثبت خطأها، بوووم! فإنّها ستُنسَف ويتمّ التخلّص منها.

حسناً، ليس كل الأحيان. السمة الأخرى التي يتميّز بها العلم هي أنّه يبني على معارف سابقة. إذا تعلّمت أنّ شيئاً يسير على نحوٍ جيد، ثمّ ظهر شيء آخر يسير على نحوٍ أفضل، فكثيراً ما ستجد أنّ الشيء الثاني ماهو إلا تعديل للشيء الأول. آينشتاين لم يطمس نيوتن وينحّه جانباً، إنّما النسبية ماهي إلا تحديث للميكانيكا النيوتونية، أي تجعلها تعمل بشكلٍ أفضل عندما تسير الأجسام بسرعات قريبة من سرعة الضوء، أو عندما تكون قوّة الثقالة شديدة وعنيفة.

في الحقيقة، إنّ تراكم المعرفة هو الشيء الذي عدّل أفكار نيوتن. معزّزة أيضاً بتجارب ناقضت قروناً من "الأفكار الشائعة". لكنّ هذه المعرفة، عندا تُصَحّح، يتمّ بنائها مع مرور الوقت.

مقدّمة
((جميعنا نؤمن بأمور سخيفة. ما يهمّنا هنا هو مدى سخافتها وكم عددها))
[د.غاي بي هاريسون]

الشك هو المهارة والموقف اللذان يساعداننا على استرشاد طريقنا خلال هذا العالم المجنون أغلب الأحيان. ويمكن للشك إذا جرى تطبيقه بحزم وبقوة أن يقودنا لحياة أكثر أمناً وسعادةً وإنتاجاً. كما أنّه يساعدنا للحفاظ على نظافة عقولنا، ويزيد من حدّتها، ويحرّرها من خلال تنحية _والتخلّص من_ جميع القمامات الفكرية التي يمكن أن تشوّش منظورنا لهذا الكون الرائع. عندما يسعى المزيفون والدّجالون خداعنا بأثمان باهظة أن إرسالنا في دروب خطيرة ومظلمة، فالريبية والتشكيك هما الدرع الذي نحتاجه للدفاع عن أنفسنا والتصدّي لهم.

بعض الناس ينظرون إلى الشكّ على أنّه مجرّد تهكم، الأشخاص السلبيون ذو العقول المنغلقة. وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. الشك "Skepticism" ليس أكثر من مجرّد اسم تخيّلي لمحاولة التفكير السليم وبصفاء قبل أن تُقدِم على قرارات معيّنة بشأن معتقد معين، أو شراء شيء ما، أو الانضمام إلى مجموعة ما. الشك يتعلّق أساساً بفصل الواقع عن الأكاذيب والأضاليل, أين هي الناحية السلبية في ذلك؟. اعتناق موقف ريبي-شكوكي يعني النظر إلى العالم بعين مفتوحة، بعقلٍ فعّال، أن تكون لديك إرادة بطرح الأسئلة الضرورية، والحسّ الإنساني الذي يأتي من معرفة مدى السهولة التي نُخدَع فيها بالأشياء التي نراها ونسمعها ونفكّر بها. أن تكون شكّاكاً معناه أن تكون نزيهاً وناضجاً بمايكفي للبحث عن أجوبة قائمة على المنطق والدليل بدلاً الآمال والأحلام. ويعني ذلك أيضاً أن تكون حكيماً بمايكفي لتقبل حقيقة عدم توفّر أجوبة كافية ومرضية في بعض الأحيان.

لقد أمضى جيمس راندي، رائد ألعاب الخفّة والشكّاك العالمي المشهور، معظم حياته وهو يحاول إنقاذ الناس من أنفسهم عن طريق تعليمهم كيفية النجاة من بين هذه الفيضانات الدائمة من الادعاءات والمزاعم المغلوطة واللاعقلانية التي نُقصَف بها منذ طفولتنا وحتى وفاتنا. لطالما انتُقِد راندي كونه كان قاسياً تجاه المؤمنين اللاعقلانيين. لكن لأي مدي يمكنك أن تكون لطيفاً ومؤدّباً عندما ترى كل هذا البؤس والهدر نابعين من هذه المزاعم الخرافية وعدم المثبتة؟ ناهيك عن مئات البلايين من الدولارات التي تُهدَر على هذه الأكاذيب والخرافات السخيفة، فالناس يعانون حرفياً كل يوم حول العالم بسبب هذه الأكاذيب التي يمكن لأي متشكّك أو ريبي متمرّس على رؤية حقيقتها وماتخفيها خلال أقل من بضعة ثوانٍ. الادعاءات والمزاعم المزيفة واللاعقلانية غيرمتكافئة، إلا أنّها جميعها مرتبطة ببعضها ضمن غيمة عملاقة من الخطر المحدق. إنّ الإيمان بالتنجيم قد لا يكون خطره مباشرٌ على الصحة الفردية، على سبيل المثال، لكنّ ذلك النمط من التفكير المغلوط الذي يسمح للشخص بأن يُعجَبَ ويؤمن بالتنجيم قد يكون كذلك. اعتناق أفكار ومعتقدات غريبة من دون أي دليل هو لعبة خطيرة للغاية، ويحذّرنا راندي قائلاً: ((قد يكلّفك الأمر بعض المال، ويمنحك الأمان العاطفي، وقد يكلّفك حياتك. يمكنني التفكير ببعض الاستثناءات، لكن أي خدعة أو أكذوبة محكوم بأن يكون ذو تأثير سلبي))[1]

حاولت خلال هذا الكتاب جهدي لأكون مهذّباً وصادقاً. لاشكّ أنّ بعض القرّاء لن يروا ذلك بهذا الشكل. لكنّي آمل بأنّ يصدّقوني عندما أقول أنّ هدفي ليس الانتصر والفوز بمحاججة أو أزعج أحداً، أو أهينه. أنا أفهم تماماً أنّ اعتناق معتقدات غريبة وغير مثبتة هو جزء من كوني إنساناً ويحدث لأفضل الناس. إنّه جزء من طبيعتنا البشرية. جميعنا نؤمن بأمور سخيفة. ما يهمّنا هنا هو مدى سخافتها وكم عددها.

للتغلّب على الأفكار والمعتقدات الخرافية واللاعقلانية، علينا إمعان النظر في كل زعم وكل قصّة من خلال مصفات الشكّ والعلم. مع أنّ القليل من الاطلاع على التاريخ والعلم قد ينفعنا، فالتعليم وحده لا يكفي. ولا الذكاء الخارق وحده بكافٍ. الكثير من الأشخاص ذوي التحصيل العلمي العالي يعتنقون أفكاراً غريبة وسخيفة ولا أساس لها من الصحة. لايشكّ احدٌ منكم أنّ انعدام الشك وهو بمثابة كارثة عالمية غير ملحوظة حتى الآن.

لقد سافرت إلى جميع أنحاء العالم، وحيثما كنت أجد نفسي، كنت أرى الكثير من النقود والوقت والطاقة تُهدَر في سبيل معتقدات خاطئة بكل تأكيد، ومن قبل أناس من جميع الطبقات الاجتماعية والاقتصادية. لطالما أحزّنني هذا الهدر الهائل للأموال والمصادر. كان يمكن صرف هذه الأموال والمواد بشكل أكثر فعالية وكنا لنكون بحالٍ أفضل لو أنّ الشك كان أكثر انتشاراً بين الناس. ومع ذلك، بقدر ما أنا مستاء ومحبط، فأنا أحاول جاهداً مقاومة السخرية من، وإهانة، وتسخيف، والهزء من هؤلاء الذين يتمسّكون بشكلٍ أعمى بخرافاتهم ومعتقداتهم الباطلة. أنا أفضّل أن أكون إيجابياً وأن أقدّم المساعدة على أن أرمي بأحكامي على أولئك الذين لم يدركوا بعد أنّ ليس كل ماقيل لنا منذ الطفولة صحيح.

أريد أن يعرف القرّاء دوافعي لكتابة هذا الكتاب. فأنا لا أحاضر أو أبشّر أو أعِظ هنا لإضفاء الأهمية لنفسي. كل ما أريده هو أن أشجّع على التفكير النقدي وأنشر رسالتي إلى العالم بأنّ الشكّ أمر ضروري جداً وحيوي لذكائنا. أريد أن أقدّم يد المساعدة وأن أشارك في عملية البناء، وليس أن أرمي أحكامي جزافاً وأن أهدم. في الحقيقة، أنا لا ألقي بالاً لما يعتقده المرء. لكن عندما أرى معتقدات وأفكار باطلة تدمّر حياة إنسانٍ ما أو تسبّب الأذى للآخرين عندها أرى نفسي ملزماً في التدخّل ومدّ يد المساعدة. إذا لم تكن المعتقدات الباطلة وغير العقلانية موذية وضارّة بالبشر ولها هذا التأثير المعيق للتقدّم البشري، لما سمعت منّي حرفاً واحداً عن معتقدات أيٍ كان. لذا أنا أرى أنّ نشر العقلانية والشك مسألة أحلاقية. مسألة اهتمام بأشقائنا من البشر.

كوني شكّاكاً، لا أستطيع تصوّر حياتي إلا على هذا النحو. إنه جزء من وجهة نظر إيحابية إلى العالم تساعد على تحفيزي للقيام من سريري كل يوم. هناك الكثير من التجارب المثيرة والاكتشافات المهمّة في الخارج تنتظرني لذلك لا أريد أيّة منغّصات تشتّت انتباهي أو أهدر وقتي بالإيمان بأمور من المرجّح أنّها مغلوطة وغير صحيحة. لايجب أن نخاف من الشك والسؤال، حتى إذا كان كل من حولنا يخافون ذلك. فالشك علمية بنّاءة، وليست هدّامة. إنّما هو مؤشّر إيجابي بأنّك إنسانٌ حيٌ بالكامل وناضجٌ بمايكفي لقبول الواقع كما هو بدلا ممّا نرغب أن يكون أو كما أخبرنا أحدهم أنّه كذلك. وأفضل أنواع الشك ليس ذلك الذي يركّز الرفض والإنكار والسخرية. فالإنسان الشكّاك يعتنق الحياة أكثر، وليس أقل. الشك يساعدنا على ترك التنجيم Asterology لنعتنق علم الفلك Astronomy، لننظر عبر سحب الغبار الكوني وترى النجوم، لنقف بصمود ونثبت وجودنا ككائنات بشرية كاملة الفعالية. إنّ حيش حياة خالية من الأضاليل والأوهام والأكاذيب قدر الإمكان يعني تقدير قيمة هذه الحياة وأن نفهم أنّنا لايجب أن نهدر أي لحظة ثمينة من هذه الحياة على كذبة أو اعتقاد باطل.
غاي هاريسون
كوكب الأرض، 2011

أنا أؤمن بالغيبيات والماورائيات
((الخطأ وحده، وليس الحقيقة، هو الذي يتقلّص مع اتساع رقعة البحث))
[توماس باين]

كل يوم تواجهنا الكثير من المعتقدات الماورائية والغيبية والاستثنائية. إذ تلاحقنا هذه المعتقدات أينما كنّا. في الصيدليات ومخازن الأدوية، نرى أساليب العلاج المثلي homeopathic جنباً إلى جنب مع وسائل المعالجة الطبية العلمية. كافة الصحف والمجلات تعرض توقّعات الأبراج لمستقبلكم. كما أنّ الواعظ أو المبشّر أو الكاهن يعدكم أنّكم إذا قدّمتم له المال، فإنّ الله سيكافئكم بمئة ضعف بطريقة غيبية ما. إعلانات التلفاز تحبرنا بشكل يومي أنّنا يمكننا أن نحيا حياةً صحية بشكل كامل عن طريق حبّة واحدة أو يمكننا أن نكون رياضيين أفضل إذا وضعنا سواراً خاصاً. أحد أصدقائك يقسم عظيم القسم أنّه رأى مركبة فضائية غريبة في السماء الليلة الماضية. أحد أفراد عائلتك يحاول إقناعك بأنّ نهاية العالم قريبة. هل ذلك الصوت الغريب الذي تسمعه قبل نومك شبح أو طيف ما؟

عندما تأتينا الأفكار الغريبة من كل حدبٍ وصوب، نكون مدينون لأنفسنا أن نتوقّف قليلاً ونفكّر قبل قبولها بوصفها أفكار حقيقية وصحيحة. قد تحدث أشياء سيئة عندما يعتنق الناس معتقدات وأفكار ليس لأي سبب سوى لأنّها صادرة عن مرجعية أو تراث ما، أو فقط لأنك "تشعر" بأنّها كذلك. أعداد لاتحصى من البشر قتلوا على مرّ التاريخ لأنّهم لم يتحلّوا بميزة الشك بما يكفي. أعداد لا تحصى من الناس ربّما أيّدوا أو حتى شاركوا باضطهاد وتعذيب وحتى قتل إخوانهم البشر لأنّهم لك يكونوا شكّاكين. حيثما وحينما كان ينعدم الشك، كانت تنتج مشاكل جادة وخطيرة. لقد تسبّب الأطباء المزيّفون وأسياد الدجل بأضرار جسيمة للناس الذين لم يكونوا يميزون الفرق العلم والعلم المزيّف. كم مرةً حدث على مرّ التاريخ أن وقفت الأفكار والمعتقدات الغيبية والباطلة عثرة أمام عملية التقدم الاجتماعي والعلمي؟ أين كنّا سنكون اليوم لو أننا رفضنا الأفكار الخرافية منذ خمسة قرون؟ لكنّ انعدام الشك في العالم اليوم ليس عبئاً عن الإنجاز فحسب، بل هو خطر يهدّد بسحبنا وإرجاعنا إلى العصور المظلمة. مهلاً، هل سبق أن خرجنا من العصور المظلمة؟ حتى الآن، ونحن في القرن الحادي والعشرين، مازالت الساحرات يُعَذَبنَ ويحرَقن في بعض المجتمعات لأنّ الناس يخافون شعوذاتهن وقواهن السحرية. أغلب الناس مازالوا ينظرون إلى النجوم والكواكب لمعرفة شخصياتهم وحياتهم العاطفية _مع أنّ العلماء الذين يعرفون أكثر عن النجوم والكواكب يقولون أنّ التنجيم هو مفهوم غير معقول. الملايين يؤمنون بأنّ الوسطاء الروحيين يقرأون العقول وأنّ الحكومة تخفي أجساداً لكائنات فضائية غريبة في منطقة تسمى بالقطّاع 51. للأسف نحن كجنس بشري، معوّقون بسبب المعتقدات اللاعقلانية. وإذا كنّأ نأمل بالتخلّص من عادتنا السيئة والمكلفة المتمثّلة بالإيمان في أشياء غير عقلانية أو صحيحة، عندها علينا اعتناق المنهج العلمي والشك. مهارة التفكير النقدي ينبغي تقديرها حق قدرها ونشرها والترويج لها على نطاق واسع. فالتحديث والتقدّم يعتمد عليها.

المعتقدات الغيبية والماورائية _والتي تعرّف بهزالة على أنّها أمور توجد أو تحدث خارج العالم الطبيعي_ ليست مرتبطة بالضرورة بالتعليم أو بالذكاء. قد يكون هناك ارتباط من نوع ما بين مستوى التعليم وقبول مزاعم وادّعاءات لا أساس لها من المنطق كقراءة أوراق التاروت أو قراءة طالعك بالتنجيم مثلاً. لكنني أنبّه إلى عدم الاطلاع والتعمّق كثيراً في هذه الأمور وهذا لأنّنا ضعفاء غير محصّنين. فمن المعروف جيداً أنّ الأشخاص الأذكياء والمتعلّمين يمكن أن يقعوا ضحية معتقدات غريبة وغير عقلانية ينقصها الدليل والبرهان. العالمة الشهيرة واللامعة جين غودال Jane Goodall تؤمن بوجود "بيغ فوت" على سبيل المثال[2]. وكنت أعمل في إحدى المرات مع صحفي جامعي كان مقتنعاً بأنّ هناك فتاةً في روسيا تمتلك أشعّة سينية تنطلق من عينيها تمكّنها من رؤية الأعضاء داخل جسد الإنسان وتشحيص الأمراض الباطنية[3]. كانت زميلتي غارقة وغاطسة وملفوفة بالمعتقدات الغريبة والباطلة. هي ليست غبية، لكنّها تفتقر للشك ومهارات التفكير التقدي. وهي ليست لوحدها كذلك. فعندما يتعلّق الأمر بالمعتقدات والأفكار الغريبة، فإنّ مسألة قبولها تبدو أمر طبيعي للغاية، أو أنّها أمر إنساني ومن الطبيعة الإنسانية، أكثر من رفضها.
حسب استطلاع غالوب، ثلاثة من بين أربعة أمريكيين يعترفون بأنّهم يمتلكون على الأقل واحداً من المعتقدات الشعبية الشائعة كالإيمان بالأشباح، التنجيم، والتقمّص[4]. هذا مهمٌ للغاية: معظم الناس في الولايات المتحدة _وجميع أنحاء العالم بلا شك_ هم مؤمنون بالغيب والماورائيات. في أمريكا، الاعتقاد الذي يحلّ في المرتبة الأولى هو الإيمان بالإدراك مافوق الحسي [Extrasensory perception (ESP)] حيث يؤمن فيه 41 بالمئة، ويأتي بعده الإيمان بالمنازل المسكونة (37%) والأشباح (32%). قراءة البخت أو قدرة الوسيط على قراءة العقول ومعرفة المستقبل هي أمور حقيقية بالنسبة لـ25% من الناس، وهناك 20% يؤمنون بالتقمّص. وأكثر من النصف (57%) من الأمريكيين البالغين يؤمنون بأمرين غيبيين على الأقل، و22% يقولون أنّهم يؤمنون بخمسة أمور غيبية أو أكثر.

في بريطانيا العظمى، 40% من الشعب البريطاني يؤمنون أنّ هناك منازل قد تطون مسكونة، و24% يؤمنون بأنّ التنجيم علم حقيقي. في كندا، 28% يؤمنون بالمنازل المسكونة و24% يؤمنون بإمكانية التواصل مع الأموات[5]. أنا لم أجري مسحاً علمياً شاملاً، لكنّ أسفاري إلى خارج الولايات المتحدة لم تدع عندي أي مجال للشك أنّ الإيمان بالمزاعم والادّعاءات الباطلة ظاهرة شائعة ومنتشرة بقوة. في أيّ مكانٍ كنت أحلّ به _أفريقيا، الشرق الأوسط، آسيا، جزر الباسيفيك، الكاريبي_ كنت أصل لنتيجة مفادها أنّ الغالبية العظمى من الشعب يؤمنون بنوعٍ أو بآخر من الدجل والمعتقدات الغيبية والمزيّفة. وهذا لا يشتمل الأفكار والمعتقدات الدينية حتى، فأنا أعتقد أنّ حوالي أكثر من 90% من شعوب العالم يعتنقون معتقداً غيبياً واحداً على الأقل. نحن جنس مؤمن.

# من يهتم؟
ردّ الفعل الأسهل سيكون عن طريق محاولة تجاهل جميع هذه المعتقدات غير العقلانية. ففي النهاية، ألا تجعل هذه الأمور _كالتنجيم، الشفاء بالإيمان، الوسطاء الروحيين وقراءة البخت والكف_ الناس يشعرون شعوراً أفضل وتمنحهم عوراً بالأمان والطمأنينة في هذا العالم الموحش والمخيف؟ من أظنّ نفسي لكي أسلب الناس طمأنينتهم وأقلق راحتهم؟ لا علاقة لي بما يؤمن به الناس، صحيح؟ أين الضرر في ذلك بأيّة حال؟

برأيي، ليس لدي خيار سوى التحدّث ضد المعتقدات غير العقلانية، إذا كان لدى أي أحد تعاطف واهتمام بإخوانه من البشر. ليس من الضروري أن تكون لئيماً أو ساخراً بشأن ذلك، لكنّ الصمت ليس خيار. الإيمان بالغيبيات والدجل الماورائي هو أزمة مزمنة تثقل كاهلنا قرناً بعد قرن. هؤلاء الذين يدركون مدى الأضرار التي تسبّبها هذه المعتقدات كل يوم حول العالم سيكونون جلفين قساة القلوب إذا أختاروا عدم القيام بأي فعل. إنّها مسألة تعاطف مع أشقائنا من البشر، والإيمان بأنّ عالمنا سيكون أفضل إذا لم يكن ملوّثاً ومريضاً بالخرافات والدجل وأنواع التفكير الخرافي. أنا لا أكون لئيما وقاسي القلب عندما أشرح لأحدٍ ما خطورة الطب البديل أو طريقة خداع معالجي الإيمان والأطباء الروحيين للناس. الوقوف صامتاً سيكون أمراً قاسياً ولئيماً. والسؤال الأنسب ليس عن سبب اعتراض الشكوكيين واحتجاجهم، إنّما كيف يمكن لأي أحدٍ يسمع عن عمليات حرق الأولاد بتهمة "ممارسة السحر" في أفريقيا دون أن يشعر بأي التزام أخلاقي لنشر الشك والفكر النقدي. من يسمع قصة الطفل المريض الذي يعاني ويموت لأنّ والديه العنيدين عرضاه على معالج مثلي وعالجاه بالمياه المثلية بدلاً من الأدوية الطبية العلمية، دون أن يشعر بالقرف والاشمئزاز تجاه جميع أنواع الدجل والعلوم المزيّفة والطب البديل؟ جميعنا نتشارك في هذا العالم، وعندما يكون هناك رئيس أو زعيم يؤمن بأنّ عمر الأرض لا يتجاوز ستّة آلاف عام، أو أنّ جارتك تؤمن بأنّ مواضع بضعة نجوم في السماء تقرّر باقي يومها وطريقة حياتها، عندها فإنّ عالمنا في مشكلة. التفكير المظلم والخرافي هو نمط خطير من التفكير.

# درع الشك
إذن من هم أولئك الذين يخوضون عبر مختلف المزاعم الغريبة والكاذبة التي تملأ العالم ثم يصلون إلى برّ الأمان؟ الأمر ليس صعباً كما تتوقّعون. كما سيكتشف القرّاء خلال هذا الكتاب، لا يتطلّب الأمر سوى سؤال أو سؤالين موجّهين للتعرّف مكامن الصعف القاتلة في أيّة مزاعم لا تستحق إيماننا بها. الشك البنّاء هو عملية متكاملة مع فضول العقل المنفتح، لكنّه يستلزم يقظة دائمة والشجاعة لمساءَلة أي شيء والتشكيك بأي أحد.
من المهم جداً أن نتذكّر دائماً بأنّ عبء البرهان يقع على كاهل هؤلاء الذين يقدّمون زعمهم [البيّنة على من ادّعى]. أحبّ جداً وأتوق لكي يكون بيغ فوت أو وحش بحيرة لوخ نيس حقيقيين، لكنني متأكّدٌ بأنّ لا وجود لهذه الأشياء كقرد منتصب بطول عشرة أقدام يمشي على ساقيه ويعبث في الغابات الشمالية الغربية في المحيط الهادئ أو كائن برمائي عملاقة يفترض أنّه منقرض منذ أمدٍ بعيد يسبح في بحيرة باسكتلنده. أعتقد أنّه وبعد كل هذه السنوات لم ينجح أحدٌ حتى الآن في تقديم دليل مقنع _عظام على سبيل المثال، عينات من الدنا، أو جثّة. إذا كان المؤمنون ببيغ فوت يريدون مني أن أؤمن بوجوده، فعليهم أن يقدّموا لي دليل. ليست وظيفتي أن أفنّد أو أثبت عدم وجود بيغ فوت. كيف يمكنني فعل شيء كهذا بأية حال؟ لا أستطيع الذهاب إلى كل كهف في العالم والبحث وراء كل شجرة في أمريكا الشمالية.

كُنْ محصّناً ضدّ هذه الأفكار الخبيثة والمتسلّلة. هذه حقائق جزئية تنتفخ وتتورّج لتشمل عناصر ماورائية غيبية ما أن تدخل رأسك. على سبيل المثال، لاشك أنّ هناك العديد من الحالات التي تدمّرت فيها مجتمعات ساحلية قديمة عن طريق زلازل أو تسونامي على مرّ المئات من السنوات الأخيرة. لكنّ هذا بعيد كل البعد ومختلف تمام الاختلاف عن الزعم الذي يطلقه المؤمنون بأطلانتس بأنّ قارّة أطلانتس أو المدينة الضائعة كانت تحكم العالم من قبل وكانت متقدّمة تكنولوجياً عمّا نحن عليه الآن. بعض المؤمنين بظاهرة اليوفو [الأطباق الطائرة مجهولة المصدر UFO] يقولون أنّ هناك على الأرجح حياةً ذكية في مكانٍ ما في الكون (وهذا معقول) لكنهم سرعان ما ينزاحون للقول بأنّ هؤلاء الغرباء يزورون الأرض بشكل منتظم (لكن بأوقات غير معروفة، وبدون دليل أو برهان). علينا أن نكون أيضاً متنبّهين للمزاعم التي يتناولها العلم لكنها في الأساس علم مزيّف. فقط لأنّ أحدهم _كديباك تشوبرا غورو ما يسمّى بالعهد الجديد_ يذكر بتكرار وباستمرار عبارة "ميكانيكا الكم" أو أي خزعبلات أخرى يختصّ بها العلم وحده لايعني أنّ هؤلاء يروّجون لوجهة نظر علمية أو عقلانية.

# كلّما كبر حجم الادّعاء، أصبح عبء البرهان أثقل
الشكّاك الذكي يعدّل حاجته للدليل وطلبه للبرهان حسب الزعم أو الادّعاء الذي جرى تقديمه. طبيعة الادّعاء المقدّم _مدى فداحته أو غرابته أو أهميته_ هي التي تحدّد مدى الشكّ المطلوب. إذا زعم جيراني بأنّهم رأوا طائراً في حديقتهم الخلفية البارحة، فعلى الأرجح سأريحهم من الشك وأصدّقهم. ليست مشكلة. أمّا إذا زعموا أنّهم رأوا شيئاً غريباً جداً وغير اعتيادي، ولنقل تنيناً عملاقاً بزنة ثلاثون طناً يرتدي بنطالاً من الجلد ويضع المكياج، عندها سأكون بحاجة لرؤية فيديو مصوّر عالي الدقة، أو آثار أقدام، أو عينة من مادّته الوراثية، قبل أن أفكّر بتصديقهم. مرة أخرى، إنّ نوعية وحجم الدليل يجب أن يرتفعا بالتناسب مع الادّعاء. مع أنّه لم يكن هو الصاحب الحقيقي للاقتباس الشهير، إلا أنّ العالم الفلكي الشهير كارل ساغان قد أشاع هذا المفهوم الهام جداً: "المزاعم والادعاءات الاستثنائية تتطلّب أدلّة وبراهين استثنائية". أبقوا هذه هذه الجملة في أذهانكم حيثما واجهتكم مزاعم عن الأشباح، الآلهة، التنجيم،الوساطة الروحية، التصميم الذكي، الأطباق الطائرة، وغيرها من المعتقدات المماثلة.

أن تكون شكّاكاً هذا لايعني أن يكون قلك منغلقاً أو غير مهتم بأي شيء يبدو غريباً وغير اعتيادي أو غير مثبت. إنّ تاريخ العلم مليء بالأمثلة عن أفكار غريبة اتضح لاحقاً أنّها صحيحة. كانت فكرة الجراثيم فيما مضى فكرة غريبة بعض الشيء، وكان من الصعب تصديقها حتى طوّر فان ليفينهووك المجهر وساعد في تأسيس علم الأحياء المكروبي. كانت عملية الانزياح القاري من الصعب قبولها حتى تمّ تفسير فكرة الصفائح التكتونية وكيفية عملها. أمّا فكرة الأمواج العملاقة العاتية وهي تدمّر السفن والمراكب تحت سماء صافية وخالية من أية غيوم أو اضطرابات جوية بدت مستحيلة في البداية، لكننا نعرف الآن أنّها حقيقية. وماذا عن الشهب والمذنبات؟ أحجاز تتساقط من السماء؟ لابد أنك تمزح... أووبس، تبيّن أنّها تمطر حجارة فعلاً من حين لآخر. الفكرة هنا هي أنّ الشكّاك الماهر الذي يفهم كيف يسير العلم لايقبل أي ادّعاء غريب بدون أن يرافقه دليل يثبت صحّته، لكنه في نفس الوقت لايرفض أي زعم غريب بدون نفي وتفنيد كامل. الباب مفتوحٌ دوماً ولو قليلاً، وإذا ظهر دليل كافٍ، ينفتح باب القبول بالكامل.

عندما نفكّر بالمعتقدات الغريبة، من المهم أن ننتبه إلى الكيفية التي ندرك وتقيّم بها العالم من حولنا. نحن نعلم أنّ البشر هي كائنات تبحث عن الأنماط. ومن دون أي جهدٍ يذكر، فإنّنا نسعى وبشكل طبيعي "لربط النقاط ببعضها" في أي شيء نراه أو نسمعه تقريباً. إنها قدرة عظيمة إذا كنت تريد التقاط عصفور مختبئ أو متماهي في شجرة من أجل عشاءك، أو تحاول الإصغاء عسى أنك تسمع نداء شريكٍ محتمل من بين هذا الضجيج البيئي الذي يشتت انتباهك، أو تحاول رصد عدوّك وهو مختبئ في الغابة قاصداً الإيقاع بك. لكنّ هذه الميزة في رؤية الأنماط تجعلنا نرى أشياء غير موجودة أصلاً ، والتي قد تضيّع وقتنا وقد توقعنا في المشاكل. علاوةٌ على ذلك، إنّ هوسنا بالأنماط لايتوقف على الرؤية والسمع، إنّما نحن نمتلك ميلاً لكي نصنع تلقائياً روابط ونجد أنماط في تفكيرنا. وهذا أحد الأسباب الذي يجعل من عقولنا مراعي وحواضن خصبة لنظريات المؤامرات لتزدهر وتنتشر.

الشكّاك الشهير والوسيط السابق المتمرّس طارق موسى يوافق أنّ هذا البرنامج للتعرّف على الأنماط داخل عقولنا هو أحد الأسباب الأساسية وراء انتشار وشيوع الأفكار والمعتقدات اللاعقلانية. فهو رأى ذلك لأول مرة عندما رأى زبائنه يقيمون رابطة سخيفة لدعم اعتقادهم المسبق بأنه قارئ ماهر وخبير للعقل. عقولهم قامت بمعظم العمل، ممّا سهّل عليه عمله.

((نحن بطبيعتنا ماهرون جداً في التقاط الأنماط والتعرّف عليها، لكنّ ذلك يعني أيضاً أننا نرى أنماطاً حيث لا وجود لأيٍ منها.)) يقول موسى ((هذا، بالنسبة إليّ، هو التفسير الكامن وراء كل ما هو ماورائي وغيبي أو خرافي بنغمس فيه الناس، من اليوفو إلى الأشباح، ومن نظريات المؤامرة إلى التنجيم))[6]

# التحيّز التأكيدي
أحد الأسباب الرئيسية وراء صعوبة التخلّص من أحد المزاعم الغيبية الباطلة ما أن يعشّش داخل جمجمتك هو أنّنا جميعاً نمتلك ميلاً طبيعياً للغش. نحن فقط لا نفكّر بأفكارنا ومعتقداتنا بصورة موضوعية ونزاهة. وبدلاً من ذلك نحن نميل للتركيز على، وتذكّر، أي شيء يؤكّد اعتقادنا، في حين أنّنا نهمل وننسى كل شيء يتناقض أو يلقي ظلالاً من الشك على معتقداتنا. وهذا ما يسمى بـ"التحيّز التأكيدي confirmation bias"، وهذا قد يؤدي بأفضلنا إلى الضلال، لذا كونوا حذرين.

يقول عالم النفس البروفسور هانك ديفس Hank Davis، مؤّلف كتاب "منطق رجل الكهف: الإصرار على نمط التفكير البدائي في عالم حديث Caveman Logic: The Presistence of Primitive Thinking in a Modern World": ((إنّ التحيّز التأكيدي هو أحد أكثر البرامج الماكرة والمقنعة داخل رأسك. إنّه جزء من كون إنساناً بشرياً أن يكون لديك عينان، أنف واحد، وقدمين. ولكي تتجنّب تقييم العالم من خلال تحيّزك التأكيدي، عليك أن تتخّذ خطوات واعية ضدّه. وحتى في هذه المرحبة ليس هناك ضمانه أكيدة بأنّك ستنجح. إذا سمحت لبرنامج العقلي بأن يعمل حسب إعداداته العادية التي برمج عليها منذ عهد البلستوسين، فأنت تفتح مجالاً لهذا التحيّز كي يعمل عمله))[7]
وقد أُعذِرَ من أُنْذِر.

# الرؤية تعني التصديق والتصديق يعني أن ترى
لاينبغي أن يكون هناك شك في أنّ أغلب ادّعاءات رؤية الأشباح واليوفو والملائكة والوحوش والعفاريت من قبل شهود صادقين وعقلاء هي نتيجة الطريقة التي يعمل فيها نظام الرؤية لدينا. على عكس ما افترضته، نحن لا "نرى" فعلاً ما ننظر إليه. الذي يحدث فعلاً عندما تصوّب عينيك نحو شيء ما هو أنّ دماغك "يخبرك" بما تراه. ودماغك لايخبرك شيئاً بدقة مئة بالمئة. إنّه يفعل ذلك ليكون فعّالاً وكفؤاًوذلك يساعدنا فعلاً ضمن عالم مليء بالتفاصيل ويعجّ بالكثير من النشاط والحركة أكثر ممّا يمكننا استيعابه. لكن في بعض الأحيان يجعلنا ذلك نرى أشياء ليست موجودة أصلاً أو على الأقل ليست بالشكل أو الصيغة التي يرينا إياها عقلنا. كما أنّه يجعلنا في بعض الأحيان نفوّت أشياء موجودة فعلاً. في بعض الأحيان تفوّت رؤيتنا بعض الأشياء التي قد تكون معلومات حسّاسةً جداً وحيوية ترينا حقيقة أنّ الصحن الطائر أو ذلك الشبح ماهو إلا طائر أو مجرد ضباب على سبيل المثال.

# انسى كلّ ما تعتقد أنك تعرفه عن الذاكرة
ما هو معروفٌ الآن عن الذاكرة البشرية حريٌ بأن يلقي ظلالاً من الشك على جميع معتقدات أي مؤمن بالأمور الغيبية. اكتشف العلماء أنّ الذاكرة لا تعمل كآلة التصوير الفيديو. أغلب الناس يظنون أنّ عينينا تشبه عدسات الكاميرا والدماغ هو القرص الصلب الذي يجري تخرين الصور عليه. لكنّ الأمر ليس كذلك. فالدماغ لا يقول بعملية تسجيل كاملة وتفصيلية لكل ما يجري أمامنا، ولا وجود لميزة التقديم والرجوع. الحقيقة هي أنّ ذكرياتنا "تشكّلها" أدمغتنا. بعض الأمور يتمّ اقتصاصها والتخلّص منها. بعض الأمور تتمّ إضافتها وهي لم تكن قد وقعت في الحقيقة. وفي بعض الأحيان يتغيّر ترتيب الأحداث وتسلسلها. بقدر ما يبدو الأمر غريباً، فإنّ دماغك ينتج ذاكرة على قدر حاجته، وليس بدقة مئة بالمئة.

هذا يعني أنّ جميع تلك القصص والروايات المنفردة عن رؤية ومقابلة كل تلك الأشياء من الغرباء إلى الملائكة لايمكن اعتبارها دليلاً على أي شيء لأننا نعرف ومن دون شك أنّ أي شخص نزيه، عاقل، وسوي لايمكنه أن يتذكّر كل شيء وبدقة متناهية ودون أن يضيف عليه شيء من عنده عن قصد. لا يمكن الاعتماد على الذاكرة البشرية، مايعني أنّه يتمّ استدعاء شيء ما يتجاوز مجرّد قصة عن تجربة شخصية عندما يتعلّق الأمر بالمزاعم الاستثنائية. لقد أثبت العلماء والباحثون مراراً وتكراراً أنّنا ضعفاء وغير محصّنون ضدّ الإيحاء والافتراضات المسبقة عندما نكون في خضمّ تشكيل معرفتنا عن الواقع واستذكار ما كنا قد جمعناه واختبرناه.

مايكل شيرمر، مؤسس مجلّة الشكّاك Skeptic Magazine، كان قد أمضى أكثر من ثلاثين عاماً وهو يدرس المعتقدات الغريبة ويتحدّث مع الجميع من الذين يزعمون أنّهم اختُطِفُوا من قبل مخلوقات فضائية غريبة إلى منكري المحرقة إلى الوسطاء الروحيين. وهو يرى أنّ معظم الأفكار والمعتقدات غير العقلانية ترجع إلى "واقعية قائمة على أساس الاعتقاد والإيمان"، أي فكرة أنّنا نؤمن أولاً ثم نخرج بأسباب تبرّر إيماننا:
((نحن نشكّل معتقداتنا على أساس مختلف الأسباب الذاتية، الشخصية، العاطفية، والنفسية في إطار البيئة التي توفّرها العائلة، الأصدقاء، الزملاء، الثقافة، والمجتمع بصورة أكبر، وبعد تشكيل معتقداتنا، نرى أنفسنا ندافع عنها، نبرّرها، ونعقلنها بمجموعة من الأسباب العقلية، الحجج، والتفسيرات العقلانية. المعتقدات تأتي أولاً، ثمّ تتبعها التبريرات. وأنا أطلق على هذه العملية اسم "واقعية قائمة على أساس الاعتقاد والإيمان"، حيث يكون إدراكنا حول الواقع قائم على معتقدات حوله. الواقع موجود باستقلال عن العقل البشري، لكنّ فهمنا له يعتمد على المعتقدات والأفكار التي نحملها في أيّ وقت))[8]

سواءٌ أحببنا ذلك أم لا، الحقيقة هي أننا لايمكننا أن نتأكّد من واقعية كل مانراه، ونسمعه، ونفكّر فيه، نشعر به، ونتذكّره. وهذه الحقيقة لها وقع كبير على المعتقدات العامة والشائعة التي تثير اهتمام وحماسة البلايين من الناس حول العالم. يحتاج أغلب الناس لفهم حقيقة أنّ أدمغتنا، بقدر ماهي مدهشة ومذهلة، لكنها ليست ماهرة دوماً في التمييز مابين الواقع والخيال والوهم؟ لجسن الحظ، نحن لدينا نظاماً يمكّننا من فعل ذلك بفعالية.

# العلم يساعدنا على إيجاد الطريق الصحيح
تقدير العلم وقيمته يسير يداً بيد مع عملية الشك البنّاء. من سوء الحظ أنّ أغلب الناس لا سقدّرون العلم حقّ قدره وعظمته وأهميته بالنسبة إلينا. العلم ليس فقط مجموعة من الحقائق والاكتشافات أو سعي أخرق وجامد يقوم به المثقفون والعلماء. العلم هو أساس عالمنا المعاصر. فحضارتنا لاتستطيع الصمود يومٍ واحدٍ من دون المنهج العلمي وما ينتج عنه. والحال أنّ العلم يمكن لأي إنسان أن يستخدمه ولعدّة أغراض مختلفة، لذا لا يجب أن ينجرف المرء إلى ذلك النمك من الحب والتقدير الساذج لجميع العلماء. نعم، يمكن للعلم أن يقدّم علاجات وينتج أدوية ولقاحات ضدّ الأمراض، يطعم المليارات من البشر عن طريق أساليب الزراعة القائمة على المنهج العلمي، ويكشف طريقة عمل الكون سننه وقوانينه، لكنّه قد يكون الأداة لإنتاج أسلحة تقضي على الجنس البشري وتفنيه أيضاً. العلم رائع وضروري للغاية، لكنه لا يكون صالحاً إلا بقدر صلاح الشخص الذي يستخدمه مناهجه.

الأهم من ذلك هو أنّ العلم هو "منهج" لمعرفة واكتشاف الموجودات في عالمنا. وعن طريق العلم أيضاً بإمكاننا تقرير ما إذا كان شيء ما حقيقي أم لا. إذا لم يكن من الممكن إثبات شيء ما علمياً، فهذا لا يعني أن هذا الشيء غير حقيقي، قد يظلّ حقيقياً، لكن ذلك سيكون سبباً كافياً للشك فيه حتى يثبت صحته. نحن متأكّدون بأنّ العلم أداة ناجحة وفعّالة لأنّ لديه سجلّ مليء بالنجاح والإنجازات أكثر من أي شيء آخر. وحتى المؤمنون بالغيبيات والماورائيات يعتمدون على العلم والتكنولوجيا عندما يبحثون عن حلول وأجوبة تتوافق وتنسجم مع معتقداتهم. الأشخاص الذين يريدون التواصل مع شخص ما بعيد عنهم لا يلجأون إلى طريقة الإدراك كافوق الحسي، إنّما يستخدمون هاتفاً من أجل ذلك. الأشخاص الذين يريدون زيارة مكان بعيد لا يستخدمون طريقة الخروج من الجسد أو السفر خارج الجسد astral projection، إنّما يحجزون معقداً في الطائرة. أغلب المؤمنين بالطب البديل مازالوا يلجأون إلى الطب العلمي عندما يصابون بأمراض خطيرة وجادة. لماذا أغلب الناس الذين يؤمنون بوجود حياة أخرى مثالية بعد الموت يخافون الموت ويحاولون تجنّبه قدر الإمكان؟

هناك نقطة أخيرة أرجو أن تبقى عالقة في الأذهان عندما نتحدثّ عن الأفكار والمعتقدات الغيبية والماورائية والزائفة وهي أنّ التخلّي عن هذه الأمور ليست بالتضحية العظيمة بالضرورة. فالتفكير النقدي لاينحصر فقط في كونه أكثر أماناً واقتصادية مع مرور الوقت، إنّما يمكن أن يكون أكثر متعةً أيضاً. مهما كان ما قد خسرته بتخلّيي عن الإيمان بأشياء كالتنجيم والأشباح، فأنا واثقٌ بأنني قد عوّضته أضعافاً مضاعفة بقبولي بالواقع كما هو وبحماسة شديدة. كافة الاكتشافات العلمية حتى هذا اليوم وكافة الألغاز والأسرار التي لم يتمّ اكتشافها بعد مازالت تثيرني، وأنا أجد سبباً قوياً للأمل والتفاؤل، حتى عندما يكون الواقع قاسياً جداً. برأيي، يمكننا العثور على الكثير من الراحة والمتعة في العائلة، الأصدقاء، الحب، العمل الخلّاق، المغامرة، الفن، الأعمال الخيرية، الطبيعة، والمتعة بكافة أشكالها وصنوفها. أفهم تماماً أنّ البعض يجد تعزية وراحة في الإيمان بوجود قوى خفية تؤثر في العالم، لكن سيكون مريحاً أيضاً أن ندرك بأننّا كبشر أقوياء وأذكياء جداً لنواجه الكون كما هو وأن نستمرّ في حياتنا بشكل طبيعي.
****************
[هوامش المقدّمة والفصل الأول]
[1] James Randi, “The Amazing Randi Wants You to Think,” Caymanian Compass, June 1, 2000, p. A12
[2] “Sasquatch: Legend Meets Science,” Talk of the Nation, NPR, November 10, 2006, http://www.npr.org/templates/story/story.php?storyId=6469070 (accessed December 22, 2010).
[3] Andrew A. Skolnick, “Natasha Demkina: The Girl with Normal Eyes,” Skeptical Inquirer, May/June 2005, http://www.csicop.org/si/show/natasha_demkina_the_girl_with_normal_eyes/ (accessed March 23, 2011)
[4] David W. Moore, “Three in Four Americans Believe in Paranormal,” Gallup News Service, June 16, 2005, http://www.gallup.com/poll/16915/three-four-americans-believe-paranormal.aspx (accessed March 11, 2011)
[5] Linda Lyons, “Paranormal Beliefs Come (Super) Naturally to Some,” Gallup News Service, November 1, 2005, http://www.gallup.com/poll/19558/paranormal-beliefs-come-supernaturally-some.aspx (accessed March 15, 2011)
[6] Tauriq Moosa, interview with the author, April 26, 2011.
[7] Hank Davis, Caveman Logic: The Persistence of Primitive Thinking in a Modern World (Amherst, NY: Prometheus Books, 2009), pp. 183–84.
[8] Michael Shermer, The Believing Brain (New York: Times Books, 2011), p. 5



#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صوت الله
- هل هناك دليل أخلاقي غير الكتب المقدّسة؟ [روبرت إنغرسول]
- يغالطونك إذ يقولون [2]
- ما الخرافة؟ [2] (روبرت إنغرسول)
- ما الخرافة؟ [1] (روبرت إنغرسول)
- خمسون وهماً للإيمان بالله [15]: الأفضل أن أعبد الله على أن أ ...
- خمسون وهماً للإيمان بالله [14]: إلهي يسمع الصلوات ويستجيب له ...
- ما الدين؟ [روبرت إنغرسول]
- الدين عبارة عن اختبار رورشاخ
- الله قادر على كل شيء: حجّة الضعفاء عقلياً
- نشاة الكون: طبيعية أم ماورائية؟ [2]
- نشاة الكون: طبيعية أم ماورائية؟ [1]
- أسوأ 12 فكرة زرعها الدين ونشرها بين البشر
- يغالطونك إذ يقولون [1]: أنّ الانفجار الكبير خطأ، لأنّه لايمك ...
- هل تمّ إثبات نظرية التطوّر؟
- أيمكن أن يكون الله مطلق العدل ومطلق الرحمة في آنٍ معاً؟
- لماذا حرّم محمد على أتباعه التشكيك به أو بقرآنه؟
- الموت للكفرة [2] العنف السياسي بوصفه إرهاباً: دراسة سوسيو-سي ...
- الموت للكفرة [1] العنف السياسي بوصفه إرهاباً: دراسة سوسيو-سي ...
- ستة دلائل تشير إلى أنّ الدين يضرّ أكثر ممّا ينفع


المزيد.....




- صابرين الروح جودة.. وفاة الطفلة المعجزة بعد 4 أيام من ولادته ...
- سفير إيران بأنقرة يلتقي مدير عام مركز أبحاث اقتصاد واجتماع ا ...
- بالفصح اليهودي.. المستوطنون يستبيحون الينابيع والمواقع الأثر ...
- صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها ...
- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم جركس - أنا أؤمن بالغيبيات والماورائيات (من كتاب خمسون معتقداً شائعاً يعتقد البشر بصحّتهم)