أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد فيصل يغان - الثلج الصامت، الثلج السري قصة مترجمة















المزيد.....



الثلج الصامت، الثلج السري قصة مترجمة


محمد فيصل يغان

الحوار المتمدن-العدد: 4828 - 2015 / 6 / 5 - 18:58
المحور: الادب والفن
    


1
ما كان بالإمكان أن يعرف لم حصل ما حصل، أو حتى أن يتساءل لم حصل في ذلك التوقيت بالذات. فالواقعة في الأساس و قبل كل شيء كانت سرا، كانت من تلك الأشياء التي نخفيها بعناية عن الأم و الأب؛ و هذا بالذات سبب المتعة في الموضوع. كان الاحتفاظ بالموضوع سرا مبعثا للمتعة، ولشعور جميل بالتملك كالذي يخالجنا حين نحتفظ في جيب البنطال بقطعة جميلة من النثريات، عادية لكنها بشكل من الأشكال مميزة، طابع بريد نادر، مثلا، أو قطعة عملة معدنية، قديمة، أو مثل لقية تعثرنا بها، جزء من حلية ذهبية داستها الأقدام على ممر في حديقة ما، أو صدفة بحرية تميزت بشكل ما عن ما تبقى من صدف. أينما ذهب، حمل بداخله حسا دافئا و حاضرا أبدا بالملكية، تماما كالحس الذي يولده حيازة أيا من تلك النثريات. حس التملك هذا خالطه حس راسخ بالأمان، كما لو أن سره هذا و بطريقة رائعة، وفر له حصنا ليحتمي به، حائطا يختبئ خلفه و يعتزل، بوحدانية مقدسة.
عدا عن غرابة الموضوع، كان هذا الشعور أول ما لاحظه في بدايات الأمر، و هذا الشعور هو بالضبط ما عاوده الآن (ربما كانت هذه المرة الخمسين) و هو جالس في غرفة الصف الصغيرة في حصة الجغرافيا. المدرسة الآنسة بويل تدير بإصبعها و ببطء مجسما ضخما للكرة الأرضية فوق مكتبها. القارات الخضراء و الصفراء دارت و دارت, أسئلة طرحت و أجيبت, (ديردرا) الطفلة الجالسة أمامه و ذات المجموعة الطريفة من النمش على مؤخرة عنقها، مجموعة تذكره بمجموعة الدب الكبير النجمية و قفت لتجيب الآنسة دويل بأن خط الاستواء هو الخط الذي يدور حول منتصف الكرة الأرضية.
تعابير وجه الآنسة دويل، الذي يغلب عليه السن و الشيب و الطيبة، و يحمل تجاعيد صارمة حول الخدين, و بعينيها اللتين تتألقان خلف نظاراتها السميكة كسرب من السمك الفضي في الماء العذب, هذه التعابير تشكلت على نحو يوحي بالرغبة في المداعبة.
"آه.. إذن الكرة الأرضية تلبس حزاما أو ربما تلف على وسطها شالا! أو ربما أحد الأشخاص دار حولها و رسم خطا!"
"أوه كلا-ليس- اعني.."
تعالت الضحكات من المجموعة، لم يشارك هو في الضحك أو ربما شارك قليلا. كان تفكيره مشغولا بالقطب الشمالي و بالقطب الجنوبي و الممثلين طبعا باللون الأبيض على المجسم. انتقلت الآنسة بويل للحديث عن المناطق الاستوائية، الادغال، المستنقعات الاستوائية الرطبة، حيث الفراشات و الطيور و حتى الأفاعي أشبه بالمجوهرات الحية.
مع استماعه للكلمات التي تقال، كان قد بدأ، و بمتعة تحصلت له بالقليل من الجهد، بإرساء سره بينه و بين تلك الكلمات. أم أنه لم يبذل أي جهد على الاطلاق؟ جهد كلمة توحي بفعل تطوعي، فعل لا تميل له كل الميل، في حين ما كان يحصل كان ممتعا بشكل واضح، و بدا كأنه يحصل من تلقاء ذاته. كل ما كان عليه فعله هو أن يفكر في ذاك الصباح، أول صباح ثم بالصباحات التي تلت.
ولكن، بدا الأمر برمته بسيطا حد السخافة! بدا كأنه لا يساوي شيئا. لا شيء، فقط فكرة، أما كيف أصبح هذا الشيء دائما و ممتعا هكذا، فهو لغز – لغز ممتع بالتأكيد، لكن و بنفس الدرجة سخيف. على كل حال، دون أن ينقطع عن الاستماع للآنسة دويل و التي انتقلت للحديث عن المناطق المعتدلة الشمالية، استحضر عامدا في ذاكرته الصباح الأول، البداية كانت في ذلك الصباح، بعد لحظة أو لحظتين من استيقاظه، أو ربما في ذات اللحظة. لكن و للحقيقة هل كانت هناك لحظة محددة؟ هل استيقظ كليا دفعة واحدة أم بالتدريج؟ بأي حال ما حصل كان بعد أن تمطى و تثائب بكسل، ثم عاد إلى الاسترخاء في دفء فراشه, يملأه شعور بالرضا الغامر، في ذاك الصباح من شهر ديسمبر، حينها حصل ذاك الشيء. فجأة و بدون سبب واضح استحضر في مخيلته ساعي البريد، لقد تذكر ساعي البريد. -ربما ليس هناك ما يدعو للاستغراب في هذا، فهو بطبيعة الحال يسمع وقع خطى ساعي البريد في كل صباح طيلة عمره- يسمع وقع جزمته الثقيلة يتلاحق على المنحنى أعلى الممر المرصوف بالحجارة، يسمع خطواته تقترب باضطراد, يعلو و قعها باضطراد، ثم صوت القرعة المزدوجة على كل باب، و يسمع وقع خطواته و هو يقطع الطريق جيئة و ذهابا، و أخيرا صوت تعثر الخطوات الخرقاء على عتبة بابه بالذات، و صوت لقرع مدوِ يهز اركان المنزل بأكمله.
(الآنسة بويل تقول "المساحات الشاسعة لزراعة القمح في امريكا الشمالية و سيبيريا". دريدرا تضع يدها اليسرى خلف عنقها في تلك اللحظة)
لكن في ذلك الصباح بالذات، الصباح الأول، بينما هو مستلقي في فراشه مغمض العينين، تعمد لسبب ما أن يترصد قدوم ساعي البريد. أراد أن يسمع صوت قدومه من خلف المنحنى. هنا كانت النكتة- لم يفعل قط. لم يأت قط. ما عاد ليأتي- من خلف المنحنى- بعد الآن. إذ أن وقع الخطوات حين كانت مسموعة لآخر مرة، كان متأكدا تماما بأنها سبق و قطعت مسافة صغيرة من اعلى المنحدر البعيد وصولا للمنزل الأول، مع ذلك, في حينها كان وقع الخطوات مختلفا بشكل مريب، كانت الخطوات تبدو أنعم و تحمل في طياتها سرا جديدا، كان الصوت مكتوما و غير مميز؛ الايقاع ذاته، و لكن الخطوات قالت شيئا جديدا هذه المرة، قالت السلام، قالت النأي، قالت البرد، قالت النوم.
استوعب الموضوع بلحظة، الأمر بسيط جدا، فالثلج قد تساقط ليلا تماما كما كان يتمنى طيلة الشتاء؛ لهذا لم تكن الخطوات الأولى لساعي البريد مسموعة و اللاحقة وقعها خافت. نعم بالطبع! يا للروعة! لا بد أن الثلج يتساقط الآن أيضا- سيكون هذا اليوم مثلجا بطوله- خطوط بيضاء طويلة من ندف الثلج تتناثر عبر الشارع و على أوجه المنازل القديمة، تتهامس و تتكتم، تشكل مثلثات صغيرة بيضاء في الفجوات ما بين حجارة الرصيف، و تتناثر قليلا حين يهب عليها الريح و يجرفها من مواقعها على الأرض إلى الزوايا.؛ هكذا إذن سيكون اليوم بطوله، سيزداد الثلج عمقا أكثر فأكثر، سيزداد سكونا أكثر فأكثر.
الآنسة بويل تقول "أرض الثلج الأبدي". طيلة هذا الوقت طبعا (وهو مستلقي في الفراش) أبقى عينيه مغلقتين، مستمعا لصوت اقتراب ساعي البريد، وقع الخطوات المكتوم و هي تدب و تنزلق على حجارة الطريق المكسوة بالثلج؛ و لكل الاصوات الأخرى - صوت القرع المزدوج على الابواب، صوت أو صوتين من بعيد بإيقاع جليدي، رنين جرس خافت و ناعم كأنه يأتي من أسفل طبقة جليد – كل هذه الأصوات كان فيها بعض من التجريد، و كأنها زُحزحت بمقدار درجة واحدة عن الواقع – و كأن كل شيء في الدنيا تغلف بالثلج. و لكن أخيرا، حين فتح عينيه بنشوة غامرة، و ادارهما نحو النافذة ليرى بأم عينيه المعجزة التي طال انتظارها و التي تخيلها الآن بكل وضوح، رأى بدلا من المعجزة شمسا ساطعة على سقف ما، قفز من فراشه مشدوها و هرول نحو الطريق في الخارج متوقعا أن يرى حجارة الطريق و قد غلفها الثلج، فكانت الحجارة اللامعة بعريها هو كل ما رآه.
تلك المفاجئة الخارقة تركت بنفسه أثرا عجيبا – في كل الصباحات التالية كان يحمل في ذاته شعورا بأن الثلج يتساقط من حوله، حجاب خفي من ثلج جديد يحجب ما بينه و ما بين الدنيا. لو لم يحلم ذاك الحلم – و كيف يحلم و هو يقظ؟- فهل كان بالإمكان تفسير آخر؟ بكل الاحوال، الوهم الذي أصابه بدا حيا و حقيقيا إلى درجة غيرت كل تصرفاته، لم يعد يذكر متى أشارت أمه إلى غرابة تصرفاته، أكان ذلك في الصباح الأول أم الثاني - أم حتى في الثالث؟
"ولكن يا عزيزي – قالت وهم على مائدة الإفطار – ماذا حصل لك؟ يبدو أنك ما عدت تستمع...
و كم من مرة منذ ذلك الحين تكرر نفس الشيء!
"الآنسة بويل تسأل إن كان هناك من يعرف الفرق ما بين القطب الشمالي و القطب المغناطيسي و ديردرا تلوح بيدها البنية الملآى بالنمش طالبة الاجابة"
ربما لم يكن ذلك في الصباح الثاني أو الثالث، و لا حتى الرابع أو الخامس. كيف له أن يتأكد؟ كيف له أن يعرف على وجه الدقة متى بدأ هذا التطور الممتع يصبح ظاهرا؟ في أية لحظة بالضبط كانت البداية؟ التتابع الزمني لم يكن دقيقا... كل ما يعرفه الآن أنه في لحظة ما - ربما في اليوم الثاني، أو ربما السادس – لاحظ أن حضور الثلج يصبح أكثر إلحاحا، و صوته أكثر وضوحا، و على النقيض أصبح وقع أقدام ساعي البريد أقل تميزا. لم يعد بإمكانه أن يسمع وقع الخطوات لا حول المنحنى في أعلى الطريق و لا حتى عند أول منزل. في البداية كان وقع الخطوات مسموعا من أسفل أول منزل في الطريق، ثم بعد بضعة أيام أضحى مسموعا من أسفل المنزل الثاني، و بعد بضعة أيام أخرى من أسفل المنزل الثالث. بالتدريج, رويدا رويدا كان الثلج يزداد كثافة، و هديره يزداد حدة، و حجارة الطريق يدفنها الثلج أعمق ثم أعمق.
من اطلالته من النافذة كل صباح، بعد ادائه لطقوس الاستماع و هو مستلقيا مغمض العينين, اكتشف أن الأسطح و حجارة الطريق بقيت عارية كحالها دائما، لم يكترث كثيرا للأمر، فهذا ما كان يتوقعه حقيقة. على العكس تماما، فهذا في الواقع كان مكافأته و مصدر سعادته، كان شيئا يخصه وحدة و لا أحد غيره. لم يكن أحد يعلم شيئا عن هذا الأمر، و لا حتى أمه و أبوه،. هناك في الخارج، كانت الحجارة العارية، و هنا في الداخل، كان الثلج. الثلج يتراكم ويزداد كثافة كل يوم مغلفا الدنيا و حاجبا كل بشاعة، و فوق هذا و ذاك، مخمدا وقع خطوات ساعي البريد.
"ولكن يا عزيزي – قالت على مائدة الغذاء – ما حل بك؟ يبدو أنك لا تستمع لمن يتحدث معك. هذه ثالث مرة أطلب منك مناولتي صحنك..."
كيف له أن يشرح الأمر لأمه؟ أو لأبيه؟ في الواقع لم يكن هناك ما يمكن عمله بخصوص هذا الأمر: لا شيء. كل ما يمكن عمله هو أن يضحك و يتظاهر ببعض الحرج, يتظاهر ببعض الخجل, يعتذر, و أن يتظاهر بالاهتمام بما يتم فعله أو قوله من حوله. القط بقي في الخارج طيلة الليل، هناك انتفاخ غريب في ذقن (لي) الأيسر، ربما ركله أحدهم أو أصيب برمية حجر، السيدة كومبتون ستأتي أو أنها لن تأتي لتناول الشاي. سيتم تعزيل و تنظيف المنزل يوم الأربعاء بدلا من الجمعة. أحضروا له مصباحا جديدا ليستعمله في المساء – ربما كان ارهاق عينيه سببا في تصرفاته الغريبة مؤخرا – هذا ما قالته أمه و هي تنظر إليه باستغراب و ربما بشعور آخر يخالجها. مصباح جديد؟ مصباح جديد. نعم يا أمي، لا يا أمي، نعم يا أمي. الأمور في المدرسة على خير ما يرام. مادة الهندسة سهلة. مادة التاريخ مملة. مادة الجغرافيا ممتعة – خاصة حين تنقلني إلى القطب الشمالي. لم القطب الشمالي بالذات؟ أوه، حسنا، من الممتع أن يكون المرء مستكشفا. مثل بيري أو سكوت أو شاكيلتون. فجأة انقطع اهتمامه بالحديث الدائر, حملق في قطعة الحلوى الموضوعة في صحنه، أصاخ، انتظر، ثم ابتدأ من جديد – آه ما أروع أول البدايات أيضا – أن يسمع أو يشعر - هل حقا يمكنه أن يسمع؟ - الثلج الصامت، الثلج السري.
"الآنسة بويل تحدثهم عن حملة البحث عن الممر الشمالي الغربي، عن هندريك هدسون, عن نصف القمر"
كان هذا أسوأ ما في تجربته الجديدة، فكثيرا ما أدت لسوء تفاهم صامت أو حتى خلاف مع والديه. كان كما لو أنه يعيش حياة مزدوجة. من ناحية كان عليه أن يتقمص شخصية بول هاسلمان، و الحفاظ على المظاهر المرتبطة بهذه الشخصية – يلبس، يغتسل، يجيب بمعقولية على من يحدثه - ؛ و من ناحية أخرى كان عليه أن يستكشف هذا العالم الجديد الذي انفتح له. لم يكن هناك شك، أدنى شك بأن العالم الجديد كان الأعمق و الأكثر متعة من العالمين، كان عالما لا يقاوم، عالما معجزة. جمال هذا العالم يتجاوز كل شيء معروف، يعجز عن وصفه النطق أو الفكر، عصي على الوصف. كيف له أن يحفظ التوازن بين عالمين حاضرين باستمرار في وعيه؟ على الانسان أن يغادر فراشه، عليه أن يتناول الافطار، أن يحادث أمه، أن يذهب إلى المدرسة، أن يحل واجباته المنزلية – و في خضم كل هذا، عليه أن لا يظهر كالأحمق. بنفس الوقت، هذا الانسان يحاول أن يستخلص أقصى متعة من وجود منفصل تماما، وجود لا يمكن شرحه أو حتى الكلام عنه للآخرين – كيف له أن يتعامل مع هذه المعضلة؟ كيف له أن يفسر وضعه للآخرين؟ هل سيكون في مأمن لو حاول التفسير؟ أم سيكون عبثا؟ أم ستضعه محاولته للتفسير هذه في اشكالية عويصة؟
هذه الافكار بقيت تراوده، تأتي إلى ذهنه و تذهب، تأتي و تذهب، في سرية و كتمان كما الثلج، لم تكن هذه الافكار لتشكل له ازعاجا بل يمكن القول انها احتوت على بعض المتعة هي الاخرى، لقد أحب افكاره تلك، فلها ما يشبه الوجود الحسي، كان بإمكانه تلمسها دون أن يضطر لإغلاق عينيه عن الآنسة دويل، و عن غرفة الصف و مجسم الكرة الأرضية و النمش المتناثر على رقبة ديردرا؛ مع ذلك كان قد بدأ بشكل ما في فقدان الرؤية لهذا العالم الظاهر و استبدالها برؤية الثلج، صوت الثلج و الاقتراب الصامت و البطيء لساعي البريد. البارحة لم يكن بالإمكان سماع صوت اقتراب ساعي البريد الا بالقرب من البيت السادس, قبله بقليل، سمك الثلج المتراكم هذه المرة كان كبيرا، و تساقطه كان كثيفا و حثيثا، هديره أكثر تميزا، أكثر إراحةَ و أكثر الحاحا على النفس. وهذا الصباح، التقطت اذناه وقع خطوات ساعي البريد – حسب تخميناته – حين قارب المنزل السابع، ربما خطوة أو خطوتين عنه، إذ لم يكد يسمع سوى وقع خطوتين أو ثلاث قبل أن يدوي صوت قرع الباب... هكذا و مع تضيُق الدائرة، و اقتراب الحد الذي يبدأ فيه ساعي البريد ليصبح مسموعا، كان غريبا ازدياد حجم الوهم الذي يجب حمله خلال التصرفات اليومية في الحياة العادية. في كل يوم جديد ازدادت صعوبة النهوض من الفراش و التوجه إلى النافذة لرؤية الشارع الفارغ و العاري تماما (كالعادة) من الثلج. في كل يوم ازدادت صعوبة ممارسة الطقوس الروتينية, من القاء التحية على والدية عند الافطار، الاجابة على اسئلتهم، ومن جمع كتبه و التوجه للمدرسة. أما في المدرسة فكم كان صعبا أن يمارس الحياة العامة مع الآخرين بالتزامن مع حياته السرية. أحيانا كانت تمر به لحظات يتوق فيها لإعلام الجميع بأمره، ليفجر سره في الملأ، و سرعان ما يكبح جماح رغبته هذه شعور بشيء من العبثية يخالط الموضوع –هل كان الأمر عبثيا فعلا؟- و كذلك الرغبة في الحفاظ على شعور غامض بالقوة و التفوق نابع من سريته. نعم: يجب إبقاء الأمر سرا، الضرورة تأكدت، لا بد من حفظ السر بغض النظر عن الثمن الذي سيدفعه هو شخصيا أو الألم الذي سيتسبب به للآخرين.
(الآنسة بويل نظرت إليه مباشرة و هي تبتسم و قالت" ربما علينا أن نسأل بول، متأكدة بأنه سيجد لنا بعض لحظات خارج أحلام يقظته ليجيبنا، أليس كذلك يا بول" قام ببطء من على كرسيه، متكئا بإحدى يديه على الدرج المصقول، و تعمد أن يوجه نظره من خلال الثلج نحو اللوح. تطلب الامر مجهودا و لكنه كان ممتعا "نعم"، قال ببطء "انه ما ندعوه الآن نهر هدسون، ظنا منه أنه كان المعبر الشمالي الغربي, و لكن أمله خاب" عاد فجلس في مقعده، فاستدارت ديردرا قليلا و منحته ابتسامة خجولة فيها موافقة و اعجاب)
مهما تسبب الأمر من ألم للآخرين
هذا الجانب من الموضوع كان محيرا جدا، محيرا جدا، أمه كانت في غاية اللطف، و كذا والده، صحيح تماما، و هو بالمقابل يرغب في أن يكون لطيفا معهم و أن يعلمهم بكل شيء، لكن ايضا، هل يكون مذنبا حقا لأنه يرغب في الاحتفاظ بعالمه السري لنفسه؟
في الليلة السابقة و حين حل وقت النوم قالت أمه "إذا استمر هذا الحال يا بني سنضطر لاستشارة الطبيب، سنفعل! – لا يمكن لنا أن ندع ابننا (ولكن ما الذي قالته بعد ذلك؟) "يعيش في عالم آخر؟" "يعيش بعيدا؟" هو متأكد أنها استخدمت كلمة (بعيدا) ثم تناولت والدته مجلة من جديد و ضحكت، غير أن لهجتها كانت تخلو من المرح، فشعر بالأسف من أجلها...
قرع الجرس معلنا انتهاء اليوم الدراسي. الصوت وصله من خلال خيوط طويلة من الثلج المتساقط. رأى ديردرا تنهض، كما نهض هو أيضا ليس في نفس اللحظة و لكن بعدها ببرهة قصيرة.
2
خلال رحلة العودة إلى المنزل و التي بدت و كأنها خارج الزمن، أسعده أن يرى إلى الأشياء الظاهرية المتناثرة في الطريق من خلال توحدٍ و طباقٍ مع الثلج. تعددت أنواع الطوب في الممرات الجانبية و تراصت بتشكيلات مختلفة. أسوار الحدائق تعددت أشكالها أيضا، بعضها كان أسيجة خشبية و بعضها مبني من الجص و البعض الآخر من الحجارة. أغصان الشجيرات تدلت من فوق الأسوار: براعم الليلك الشتوية بدروعها الخضراء المنتفخة، تعتلي رؤوس السيقان الرمادية، اغصان رفيعة جافة و مسودة تتدلى هي الأخرى. عصافير رمادية تكومت في الشجيرات، ألوانها باهتة مثل الثمرات الذاوية على الغصون الجرداء. زرزور وقف وحيدا يصرصر على مروحة هوائية. في بالوعة أحد المزاريب تكومت قطعة ممزقة من صحيفة، ملتصقة بطبقة من القاذورات، لاحظ كلمة أكزيما مطبوعة بالحرف الكبير و أسفل الكلمة رسالة موقعة من سيدة اسمها أميليا كارفاث عنوانها في 2100 شارع باين حي فورت وورث ولاية تكساس، فحوى الرسالة ان السيدة بعد معاناة سنوات مع الأكزيما وجدت الشفاء مع مرهم (كالي). في سبخة الطين البني، نامت غصينات سقطت من على الشجيرات الأم، عيدان كبريت مستعملة، مسمار صدئ، حفنة من الحصى تجمعت على حافة المصرف، جزء من قشرة بيضة، عرق من نشارة الخشب متلاصق بعد أن تبلل ثم جف، حصاة بنية اللون، ريشة مكسورة. على مبعدة رأى ممرا اسمنتيا مرصوفا بأشكال هندسية متوازية الأضلع، في طرف الممر رقعة برونزية تخلد اسم المتعهد المسؤول، و في منتصف الممر آثار أقدام كلب طبعت في الاسمنت قبل أن يجف تخلدت في هذا التحجر الصناعي. كان يعلم بوجود هذه الآثار جيدا، و كانت متعته الغريبة في أن يدوس عليها بقدمه محاولا تغطية فراغاتها الصغيرة، اليوم أعاد الكرة، و لكن كحركة املاها الروتين و بدون أية مشاعر، و فكره أيضا كان مشغولا بأمور أخرى. في زمن ولى، اقترف هذا الكلب خطأ السير على الاسمنت و هو رطب. من المؤكد أنه هز ذيله أيضا، و لكن الحدث الأخير لم يؤرخ في السجل الاسمنتي. ألآن بول هاسلمان، البالغ من العمر أثني عشر عاما يقطع نفس النهر المتحجر. إلى المنزل، و الثلج يتساقط في سطوع الشمس، إلى المنزل؟
وصل البوابة ذات العامودين المتوجين بحجرين بيضاويين، ثبت الحجرين على الأطراف المدببة ببراعة و كأن كولومبوس هو من ثبتهما، و كأن التمليط هو فن التوازن فكانت النتيجة أعجوبة دائمة. على مقربة من البوابة، كان الحرف H منقوشا على طوب الجدار، لسبب ما على ما يبدو، H? ، H .
صنيور اطفاء الحرائق ذو اللون الأخضر، بسلسلة معدنية خضراء متصلة بالغطاء النحاسي الملولب.
هنا شجرة الدردار، بلحائها المحفور على شكل كلية، حيث اعتاد ان يضع يده ليستشعر بالحياة داخل الخشب البارد. كان واثقا بأن مصدر إصابة اللحاء هي قضمات من حصان قيِد إلى الشجرة. أما الآن، فلم تعد تستحق سوى لمسة عابرة من يده، و مجرد نظرة متسامحة. كان من حوله أمور أهم. معجزات. أبعد من الأفكار عن مجرد أشياء، أشجار مجرد خشب، ممرات جانبية مجرد حجارة، مجرد طوب، مجرد اسمنت. أبعد حتى من الأفكار المتعلقة بحذائيه، اللذان داسا معه بتفانٍ على هذه الطرق، حاملين عبئا – اضافيا – عبء لغزه العميق. نظر إليهما، لم يلمعا كما يجب، إذ لم يعد يهتم بهما مؤخرا و لسبب بسيط، كانا جزءا من العبء اليومي المتزايد المرافق لمحاولاته العودة اليومية لحياتة العادية، كانا جزءا من التفاصيل الصباحية المرهقة التي يعانيها. النهوض من الفراش بعد ان يكون قد فتح عينيه، السير إلى النافذة، اكتشاف أن الثلج لم يسقط، أن يغتسل، أن يلبس ثيابه، أن يهبط على السلالم اللولبية لتناول الافطار.
مهما تسبب الأمر من ألم للآخرين، مع ذلك، على الشخص أن يحفظ حدودا فاصلة، فطبيعة التجربة تتطلب ذلك الفصل كونها غير قابلة للشرح للآخرين. نعم، من المفروض أن يكون طيبا مع والديه خصوصا مع القلق الذي ينتابهما نحوه، و لكن من المفروض أيضا أن يكون حازما. فيما لو قرروا – كما هو ظاهر – أن يستشيروا طبيبا، الدكتور هويلز، ليفحص باول، ليستمع إلى دقات قلبه بسماعته الطبية، يفحص رئتيه و معدته – حينها لابأس، سيجاريهم، و ربما قدم لهم (أيضا) اجابات عن كل سؤال، أجوبة ما كانوا ليتوقعوها؟ لا. لن يصلح الأمر هكذا. فعالمه السري يجب أن يبقى سرا بأي ثمن. عش العصافير في شجرة التفاح خالِ من سكانه، ليس هذا موسم عصافير الوصع. باب العش الصغير فقد رونقه. عصافير الوصع كانت تستمتع بمنازل أخرى، أعشاش أخرى، شجيرات أخرى أبعد من هذه. و هذه أيضا كانت خاطرة مرت في ذهنه مبهمة سائبة، كما لو أنه للحظة فقط مس ضفة من ضفافها، شعر أن في الأمر أكثر من ذلك، أن للأمر جانبا بدا مهما، جانبا بدأ يتكشف له في زوايا عينيه، و في زاوية من عقله. من المضحك كيف أنه يريد هذا الامر بقوة، و ينتظر حصوله معه بفارغ الصبر – و مع ذلك و في خضم كل هذه الرغبات أتاح لنفسه مداعبة خاطرة عش العصافير ولو لوهلة، كما لو أنه تعمد تأجيل شعور المتعة المنتظر. كان واعيا لتأخره، واعيا لكونه يحملق بنظرة بلهاء نحو العش، مبتسما و منفصلا عما حوله، كان يعلم إلام سيحيل نظره لاحقا، إلى الطريق الحجري الضيق، إلى منزله، إلى الساقية الصغيرة أسفل التلة، إلى محل البقالة و رسمة الرجل على لوح كرتون في واجهة المحل، والآن مع كل هذه الأفكار، أدار رأسه و هو ما يزل مبتسما، و تلفت بسرعة يمنة و يسرة من خلال أشعة الشمس المثقلة بالثلج. و كما أنبأه حدسه، كان سديم الثلج المتساقط محمولا على أشعة الشمس، متساقطا من خلالها كشبح يطوف و يدور ثم يهدأ، يتساقط متحدا بصمت مع الثلج الذي سبق و استقر كسراب شفاف على حجارة الطريق. كم أحب المشهد، وقف متسمرا في مكانه متأملا روعته. جمال المشهد كاد يسبب له الشلل، جمالا تجاوز كل الكلمات، كل ما خبر بحياته، كل الأحلام. أيا من القصص الخيالية التي قرأها ما كانت لترقى إلى درجة هذه التجربة – أيا منها لم يمنحه هذا الخليط المدهش من الشعور بالروعة الأثيرية الممتزجة بشيء آخر ليس له اسم، شيء فيه بعض الرهبة و الكثير من اللذة. ما هو هذا الشيء؟ بظر إلى الأعلى و ذهنه مشغول بالسؤال، إلى نافذة غرفة نومه، النافذة كانت مفتوحة، و كأنه عبر من خلالها إلى داخل الغرفة و رأى نفسه ممدا على سريره، ما بين اليقظة و النوم. ها هو هناك، في هذه اللحظة بالذات ربما كان فعلا هناك – أكثر حقيقية من كونه هنا، واقفا بمحاذاة الطريق المؤدي إلى التلة المرصوف بالحجارة، و يده مرفوعة لتحمي عينيه من وهج شمس الثلج. هل سبق له أن غادر حقا غرفته، طيلة هذه الفترة؟ من الصباح الأول؟ ترى هل تتابعت فصول التجربة بأكملها هناك؟ أما زال نفس ذاك الصباح، و هو ما زال بين اليقظة و النوم؟ هل يمكن أن ساعي البريد لم يدر بعد حول المنحنى؟...
راقت له الفكرة، و بقيت في ذهنه، أدار رأسه تلقائيا و نظر صوب قمة التلة. بالطبع لا شيء هناك، لا شيء و لا أحد. الطريق كان خاليا و هادئا. و بوحي من خلو الشارع، طرأ على باله أن يعد المنازل – من الغريب أنه لم يفكر يفعل ذلك من قبل. بالطبع لم يكن هنا الكثير من المنازل- المقصود تلك المنازل الواقعة على الجانب الذي يقطنه هو من الطريق، تلك التي يحتسبها في متابعاته لتقدم ساعي البريد- و كانت المفاجئة في كون عدد المنازل السابقة على منزله ستة، و منزله هو السابع.
ستة!
نظر إلى منزله مشددوها- نظر إلى الباب الذي يحمل الرقم ثلاثة عشر- عندها لاحظ أن كل شيء كان بشكل دقيق و منطقي و أيضا غرائبي مطابقا لما خبره. بوحي من ملاحظته هذه دب فيه بغتة شعورا بالاستعجال و بعضا من رهبة. كان يتم استعجاله، يتم دفعه دفعا. عقد حاجبيه مفكرا، لم يكن مخطئا، في هذا الصباح لم يكن بالإمكان سماع وقع أقدام ساعي البريد الا على مسافة قصيرة من المنزل السابع، منزله هو! في هذه الحالة-في هذه الحالة- ألن يكون بإمكانه سماع أي وقع للخطوات غدا؟ لا بد أن صوت الطرق المدوي الذي سمعه بالأمس كان على باب منزله هو. خطرت له فكرة -فكرة أججت في صدره شعورا عارما بالمفاجئة- و هل يعني هذا التسلسل للأحداث أنه لن يسمع صوتا لاقتراب ساعي البريد بعد الآن؟ غدا في الصباح، هل سيتجاوز ساعي البريد منزله على طبقة من الثلج سيبلغ سمكها-لابد- حينها حدا يكتم وقع خطواته نهائيا؟ هل سينحدر ساعي البريد مع الشارع المغطى بالثلج بلا أدنى صوت بحيث هو بول هاسلمان الراقد في فراشه لن يستيقظ في الوقت المناسب، و حتى إن كان يقظا فهو لن يسمع شيئا؟
كيف يمكن ذلك؟ الا أن يكتم الثلج يد الطرق المثبتة على الباب-أن تتجمد فلا تتحرك من مكانها ربما؟... ولكن في هذه الحالة-
حل به شعور غامض بالخيبة، مشاعر حزن غامضة، كما لو أنه تم حرمانه من شيء لطالما انتظره، شيء ثمين. بعد كل هذا، كل هذا التسلسل الجميل للأحداث، التقدم البطيء و الممتع لساعي البريد عبر الثلج الصامت، الثلج السري، زحف صوت الطرقات اليومية على الباب للأقرب فالأقرب، و اقتراب وقع الخطوات، تقلص النطاق المسموع للدنيا شيئا فشيئا، فشيئا، مع الطغيان الهادئ و الجميل لتراكم الثلج، بعد كل هذا، هل سيتم حرمانه من الشيء الوحيد الذي رغب فيه؟ أن يحصي آخر وقع للخطوات المهيبة –خطوتين أو ربما ثلاث - و هي تقترب أخيرا من بابه؟ هل كان كل شيء سيحصل بالنهاية بشكل مفاجئ؟ أم أنه بالفعل سبق و حصل؟ بلا تدرج متقن للرهبة يمنحه متعة التنعم به حد البذخ؟
نظر للأعلى مرة أخرى, إلى نافذته و هي تعكس أشعة الشمس: هذه المرة متمنيا لو أنه كان لا يزال في الفراش، في تلك الغرفة، إذ لو كان، لكان ما يزال في الصباح الأول، و لكان بانتظار قدوم ستة صباحات أخرى-أو حتى سبعة أو ثمانية أو ربما تسعة-كيف له أن يحدد؟-ربما أكثر.
3
بعد العشاء، انعقدت له محكمة التفتيش، وقف أمام الطبيب تحت ضوء المصباح، مستسلما للفحص الروتيني من ضغط بالأصابع و تربيت باليد،
"قل آه لو سمحت؟"
"آه!"
"مرة أخرى لو سمحت؟"
"آه."
"قلها مرة أخرى ببطء و حافظ عليها قدر الإمكان"
"آ ا ا ا ا اه"
"جيد"
ما أسخف هذا، و كأن الأمر له علاقة بحلقه أو قلبه او رأتيه!
أراح فكه بعد كل هذا المط العبثي و الذي آذى زوايا فمه، تجنب النظر في عيني الطبيب و حدق نحو المدفأة، متجاوزا قدمي أمه (بالخفين الرماديين) الممتدتان من على الكنبة الخضراء، و قدمي والده (بالخفين البنيين) المنتصبتين بأناقة فوق سجادة الموقد.
"همم! ليس لديه مشكلة هناك..."
شعر بعيني الطبيب ترمقانه، فرد بنظرة مجاملة سريعة و لكن بمراوغة مبررة.
"أخبرني الآن أيها الشاب-هل أنت على ما يرام؟"
"نعم سيدي، أنا بخير"
"ألا تشعر بصداع، دوخة؟"
"لا، لا أعتقد"
"لنرى، لنحضر كتابا، لو سمحتم، نعم هذا جيد، سيفي بالغرض، شكرا-الآن بول، اقرأ من الكتاب، احمله كما العادة لديك-
تناول الكتاب و قرأ المقطع التالي:
"علي أن أطري بالمزيد من المديح على هذه المدينة أمنا، الهدية المقدمة من إله عظيم، المجد الأعلى على الأرض، عنفوان الخيل، عنفوان المهور الأصيلة، جبروت البحر...فأنك أنت يا ابن كرونوس سيدنا بوسيدون قد توجت هذا الفخار، في هذه الطرقات ظهرت شكيمتك لاول مرة و التي لجمت غضب الخيل. و المجاديف الموسومة بروعة تسابق في البحار السفن ذات المائة قدم طولا... أيتها الأرض التي مجَدك الفن و رفعك فوق كل أرض، هذا أوانكِ لتجعلي من هذه الخصال أفعالا."
توقف مبدئيا و أرخى الكتاب الثقيل
"كلا-كما توقعت- لا يوجد هناك عوارض ظاهرة لإجهاد في العينين."
أطبق الصمت على الغرفة، كان واعيا للتفحص الدقيق الذي يمارسه الثلاثة الذين يواجههم...
"يمكن أن يجري فحصا للنظر، و لكني أعتقد بأن المسألة شيء آخر"
"ماذا يمكن أن يكون؟" كان هذا صوت والده.
"إنه فقط هذا الشرود الذهني الغريب-" كان هذا صوت والدته.
بحضور الطبيب ، كلاهما بدا تبريريا و معتذرا بشكل مزعج.
"أعتقد أنه شيء آخر، الآن بول- أود ان أسألك بضعة أسئلة, ستجيب أليس كذلك- أنت تعلم اني صديقك القديم جدا، هيه؟ نعم هذا صحيح!.."
لكزه الطبيب مرتين في ظهرة بقبضته السمينة، و تبسم له بتكلف بينما كان يخدش بإصبعه الزر الاعلى لصدارته. من خلف كتف الطبيب رأى النيران، أصابع اللهب كانت كأصابع الحاوي، ترسم انعكاساتها على جدار المدفأة القاتم، صوت اختلاجاتها كان الصوت الوحيد.
"أود أن أعرف- هل هناك ما يقلقك؟"
الطبيب كان يبتسم هذه المرة أيضا، جفناه يتدليان فوق حدقتيه السوداوين الصغيرتين، والضوء ينعكس فيهما كخرزتين مضيئتين. لم يُجيب على أسئلته؟ لم يُجيبه على الاطلاق؟ (مهما تسبب الأمر من ألم للآخرين) – ولكن الأمر برمته أصبح مزعجا، ضرورة المقاومة، ضرورة أخذ الحذر: و كأنه يقف على خشبة مسرح ساطع الاضاءة، يغمره وهج الكشافات الضوئية، كأنه لا يتعدى كونه فقمة استعراض مدربة، أو كلب استعراض، أو سمكة، أُخرجت من الحوض المائي متدلية من ذيلها. سينالون ما يستحقون لو أنه نبح او رغى. في الأثناء كان احتمال خسارته لهذه السويعات الاخيرة الأغلى على قلبه ، هذه السويعات و التي كل دقيقة فيها أعز و أثمن من سابقتها، هذا الاحتمال هو ما أرهبه. كان ما زال ينظر، كأنه على مسافة شاسعة، إلى خرزتي الضوء في مقلتي الطبيب، إلى ابتسامته الجامدة المزيفة، ثم إلى أبعد، عودا إلى خفي أمه، إلى اختلاجات اللهب الناعمة. حتى هنا، في وسط هذا الحضور العدائي و الأضواء المسلطة عليه، كان ما زال بإمكانه أن يرى الثلج، أن يسمعه – كان في زوايا الغرفة، حيث تتعمق الظلال، تحت الكنبة، خلف الباب الموارب المؤدي إلى غرفة الطعام. كان أكثر ودا هنا، أكثر لطفا، صوت هديره كأنعم الهمسات، كأنه و اكراما لغرفة الجلوس قد تعمد اظهار (أفضل طباعه)، أبعد نفسه عن الانظار، اخفى آثاره، و لكن برسالة واضحة تقول، "آه. انتظر، انتظر حتى نصبح لوحدنا معا، حينها سأبدأ بإخبارك بشيء جديد! شيء ما أبيض! شيء ما بارد! شيء ما ناعس! شيء من السكون و السلام، و الانحناء الساطع الممتد للفضاء! ابعدهم من هنا. اطردهم. أرفض الكلام. اتركهم، اصعد إلى غرفتك، اطفئ النور و اخلد للنوم-سأذهب معك، سأنتظرك، سأقص عليك قصة أجمل من قصة كيللي الصغير ذو الزلاجات، أجمل من قصة شبح الثلج- سأحيط بفراشك، سأغمر النوافذ، سأتراكم عند الباب فلا يستطعن أحد الدخول إليك بعد اليوم. تكلمهم؟..." بدا الصوت الهامس قادما من لولب أبيض من ندف الثلج، المتساقطة ببطء قرب النافذة الأمامية- لكن لم يتسنى له أن يتأكد. عندها شعر نفسه يبتسم، خاطب الطبيب دون أن ينظر إليه، مبقيا ناظريه على الأبعد-
"أوه، كلا، لا أعتقد.."
"هل أنت متأكد يا بني؟"
عندها جائه صوت والده الناعم و البارد، صوت التنبيه الحريري المعهود...
"ليس بالضرورة أن تجيب الآن، باول- تذكر أننا هنا لمساعدتك- فكر في الأمر جيدا و كن أكيدا من اجابتك، حسنا؟
شعر بنفسه يبتسم مرة أخرى لفكرة كونه أكيدا. يا لها من نكتة! و كأنه لا يعلم علم اليقين أن هذه التطمينات ما عادت تلزمه، و أن كل هذا الاستجواب ما هو الا هزل تافه، و محاكاة مسرحية بشعة! كيف لهم أن يفهموا ما الأمر؟ هذه العقول الفجة، بمداركها الرتيبة المحدودة بالمألوف و العادي؟ من المستحيل اعلامهم بالأمر! سحقا، حتى الآن، في هذه اللحظة، مع وفرة الادلة و روعتها، و طغيانها المفزع على كل أرجاء هذه الغرفة، هل بإمكانهم أن يصدقوا؟- هل يمكن حتى لأمه أن تصدق الأمر؟ لا- من الواضح أن أي كلام في الموضوع، و حتى أدنى تلميح، سيقابل باستهتار و تشكيك- سيضحكون- سيقولون "هذا عبث"- سيتهمونه بما ليس فيه...
"لا، حقا، لست قلقا من شيء-ولم أقلق؟"
نظر الآن في عيني الطبيب بجفنيه الهابطين، ركز بصره على إحدى الخرزات المضيئة، ثم نقل بصره إلى الأخرى، و أطلق ضحكة قصيرة.
بدا و كأن الطبيب قد ارتبك من الأمر، تراجع في مقعده إلى الخلف باسطا يدا سمينة بيضاء على كل ركبة، و تلاشت البسمة تدريجيا عن وجهه.
"حسنا، باول!" و صمت بوقار للحظة "أخشى أنك لا تأخذ هذا الأمر على محمل الجد كما يجب. يبدو أنك حقيقة لا تدرك-حقيقة لا تدرك-" أخذ نفسا عميقا و سريعا، استدار إلى الآخرين و كأنه عاجز عن إيجاد الكلمات المناسبة. غير أن أمه و أباه بقيا صامتين-لم يسعفاه بشيء.
"بالتأكيد أنت تعلم، أنت مدرك أنك لم تكن على طبيعتك في الآونة الأخيرة – أليس كذلك؟..."
كان من الممتع مراقبة الطبيب وهو يحاول الابتسام مرة اخرى، ظهر مرتبكا بشكل غريب، و كأنه محرج في سره.
"أشعر بخير، سيدي" قالها و أطلق ضحكته القصيرة مرة أخرى.
"ونحن نحاول مساعدتك" قالها الطبيب بنبرة شابتها حدة.
"نعم سيدي، أدري، و لكن لماذا؟ أنا مجرد مستغرق في التفكير، هذا كل شيء"
تحركت أمه للأمام بسرعة، واضعة يدها على مسند مقعد الطبيب
"تفكر؟" ثم أردفت "تفكر بماذا يا عزيزي؟"
كان هذا تحديا مباشرا، كان لا بد من المواجهة المباشرة. و لكن قبل أن ينخرط في المواجهة، نظر مرة أخرى نحو الزاوية بقرب الباب، كمن يبحث عن التطمين. ابتسم لما رآه هناك و سمعه. ما زال اللولب الأبيض هناك، يتلوى بنعومة، كشبح قطة بيضاء صغيرة تطارد شبح ذيلها الأبيض الصغير، مصدرا همساته المكتومة المعهودة. كل شيء كان على ما يرام، إن حافظ على رباطة جأشه سيكون كل شيء على ما يرام.
"أوه، بأي شيء، لا شيء- تعلمين، كما تفعلون أنتم!"
"تعني-أحلام يقظة؟"
"أوه، كلا، تفكير!"
"ولكن تفكر بماذا؟"
"أي شيء"
ضحك للمرة الثالثة- هذه المرة تصادفت ضحكته مع نظرته إلى وجه أمه، فهاله ما بدا كأثر الضحكة عليها. فغرت فاها بتعبير عن الرعب... ما أسوأ هذا! مؤسف حقا! كان يعلم أن الأمر سيسبب ألما، بالطبع- ولكن ليس إلى هذه الدرجة. ربما- ربما لو قدم لهم تلميحا و لو صغيرا-؟
قال "بالثلج".
"بحق السماء؟" كان هذا صوت والده، و الخفين البنيين اقتربا خطوة فوق سجادة المدفأة.
"ولكن يا عزيزي، ماذا تعني!" كان هذا صوت أمه.
اكتفى الطبيب بالتحديق.
"فقط بالثلج، هذا كل شيء. أحب التفكير بالثلج"
"أخبرنا عنه يا بني."
"ولكن هذا كل شيء، لا يوجد ما أخبركم به، أنتم تعلمون ما هو الثلج؟"
قالها بشيء من الغضب، إذ بدوا و كأنهم يحاولون محاصرته في زاوية.
استدار في جلسته قليلا حت يتفادى مقابلة الطبيب، و أيضا كي يرى بشكل أوضح المسافة المكشوفة من زجاج النافذة، ما بين الحافة الحجرية و الستارة المنسدلة. هذه البوصة الباردة من نداء الليل الجميل. على الفور تحسن شعوره و استعاد ثقته.
"أمي- هل لي أن أذهب و أخلد للنوم الآن؟ أشعر بالصداع."
"ولكن ظننت أنك قلت-
"لقد شعرت به الآن، من كل هذه الأسئلة، هل لي أن اذهب يا أمي؟"
"بإمكانك الذهاب بمجرد أن ينتهي الطبيب"
"ألا تعتقد بأن الأمر يستحق البحث بعمق و الآن؟" كان هذا صوت والده، و الخفين البنيين اقتربا خطوة أخرى، الصوت كان صوت العقوبة المعهود، مجلجل و قاسي.
"أوه، ما الفائدة يا نورمان-"
فجأة حل الصمت على الجميع. كان يعلم ، دون أن يوجه لهم بصره مباشرة، بأن ثلاثتهم كانوا يراقبونه بدقة، يحدقون به بقوة، كأنه أتى بتصرف وحشي، أو انه هو ذاته كان وحشا من نوع ما. كان بإمكانه سماع خلجات اللهب الناعمة و المتقطعة، دقات الساعة الخافتة و البعيدة، تيك- تاك-تيك-تاك، دفعتين من الضحك المفاجئ قادمة من المطبخ انقطعت كما ابتدأت فجأة، خرخرة الماء في الانابيب، عند ذاك بدا الصمت و كأنه يتعمق، يمتد على طول الدنيا و عرضها، يصبح عديم الزمان و الهيئة و يبدأ باستجماع كل قواه الهائلة، ببطء و تكاسل، و يتمركز على بداية لصوت جديد. كان يعلم تماما ما سيكون عليه هذا الصوت الجديد، ربما يبتدأ بهسهسة، و لكنه لا بد، سينتهي بهدير-لم يعد هناك وقت لإضاعته- لا بد له من مخرج، لا ينبغي أن يقع الأمر هنا.
دون أن يتفوه بالمزيد، استدار و هرول صعودا على السلالم.
4
في موعده تماما، بدأ الظلام بالقدوم، بموجات طويلة بيضاء. صفير ممتد ملأ الليل، تقاطع معه بغتة هيجان متواصل بشكل عنيف- دمدمة باردة و خافتة هزت النوافذ. أغلق الباب و ألقى عنه ملابسه في الظلام. أرضية الغرفة العارية كانت أشبه بطوف أُلقي في أمواج متلاطمة من الثلج، يكاد ان يُغمر و يغرق، يبتلعه البياض حينا، و يطفو حينا، يختنق في عباب من ريش يتموج. كان الثلج يضحك: يتكلم من كافة الجهات بنفس اللحظة: تدافع ليقترب منه أكثر و هو يقفز مغتبطا في فراشه.
"استمع لنا" قال الثلج. "استمع! جئنا لنخبرك القصة التي تكلمنا عنها. هل تذكر؟ استلقي. أغلق عينيك، الآن- لن ترى الكثير بعد الآن- من ذا الذي يستطيع أن يرى في هذا الظلام الأبيض؟ سنحل نحن محل كل شيء... اصغِ-"
رقصة ثلج حميلة متباينة ابتدأت في مقدمة الغرفة، اقترب ثم ابتعد ، انبطح على طول الأرضية، ثم انتفض كنافورة نحو السقف, تمايل، عزز شحنته من سيل نُدف جديد، تدفق داخل الغرفة ضاحكا من خلال النوافذ المدندنة، اقترب ثانية رافعا ذراعين طويلين أبيضين. قال السلام، قال النأي، قال البرد-قال-
في تلك اللحظة، انشق الباب عن عامود ضوء فظيع اخترق خلال الغرفة بقسوة- الثلج تراجع و هو يهسهس- شيء غريب دخل إلى الغرفة- شيء عدائي. هذا الشيء أسرع نحوه، أمسك به، هزه بقوة- لم يكن فقط مرتعبا، كان ملؤه شعور بالتقزز لم يعرفه من قبل. ما هذا الشيء؟ ما هذا الازعاج القاسي؟ فعل الغضب و الكراهية هذا؟ بدا و كأن عليه أن يمد يده نحو العالم الآخر كي يفهم هذا الشيء- مجهود كاد أن يتجاوز قدرته. من القليل الذي يذكره من ذاك العالم كانت كلمات التعويذة الطاردة، كلمات سلخت نفسها فجأة من حياته السابقة و انهمرت-
"أمي! أمي! اذهبي! اني أكرهك!"
ببذله لهذا الجهد، حلت الأمور، أصبح كل شيء على ما يرام: الهسهسة المتواصلة عادت لتتقدم، الخطوط البيضاء الطويلة و المتموجة، عادت لترتفع و تسقط من جديد، كأمواج بحر هائلة، هامسة، الهمسات بدأت بالارتفاع و الضحكات كانت تتكاثر.
"اسمع!" قال الثلج "سنخبرك بالقصة الأخيرة، الأجمل، و الأكثر سرية- إغلق عينيك- القصة صغيرة جدا- القصة ستصغر و تصغر-ستتراجع إلى داخلها بدلا من أن تتفتح كالوردة- انها وردة تصبح بذرة- هل تسمع؟- نحن ننحني نحوك، نقترب أكثر فاكثر منك-
الهسهسة تحولت إلى هدير- العالم كله أصبح شاشة عملاقة من الثلج- لكنه الآن أيضا قال السلام، قال النأي، قال البرد, قال النوم.



#محمد_فيصل_يغان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خاطرة في اللغة
- مفهوم الحرية
- صراع الهوية في رواية موسم الهجرة الى الشمال
- لمحة عن فكر ابن خلدون
- حول موقف سارتر من العلم و المادية الجدلية
- وحدة العقل و الوحي و جدلية المعقول و اللامعقول
- الانماط الاساسية للمعرفة (ضد الجابري) الأخيرة
- الأنماط الأساسية للمعرفة (ضد الجابري) 4
- الأنماط الأساسية للمعرفة (ضد الجابري) 3
- الأنماط الاساسية للمعرفة (ضد الجابري) 2
- أنماط المعرفة الأساسية (ضد الجابري)-1
- محاولة لتعريف العقل
- في العقل
- ملاحظات حول نظرية النسبية الخاصة
- القيم ما بين العقل و الدين 2
- القيم ما بين العقل و الدين 1 من 2
- تأويل القديم أم إبداع جديد
- ما بين المفهوم و المصطلح
- الإسلام و البداوة و أزمة الهوية
- هل اللوحة الفنية سلعة؟


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد فيصل يغان - الثلج الصامت، الثلج السري قصة مترجمة