أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد فيصل يغان - صراع الهوية في رواية موسم الهجرة الى الشمال















المزيد.....

صراع الهوية في رواية موسم الهجرة الى الشمال


محمد فيصل يغان

الحوار المتمدن-العدد: 4604 - 2014 / 10 / 15 - 22:14
المحور: الادب والفن
    


إن كان هاجس الهوية هو سمة عامة لشعوب العالم و خاصة في المراحل القلقة و الإنتقالية من تواريخها, الا ان هناك خصوصيات واضحة لتشخٌُص هذا الهاجس في المقاربات الفكرية لمسألة الهوية و تعريفها لدى كل شعب على حدة. في الحالة العربية بالذات, نجد ان معاقرة التاريخ و التراث و النبش في الماضي بحثا عن الهوية و عن الذات هي السمة الطاغية على النشاط الفكري العربي المعاصر المعني بإشكالية الهوية بأشكاله, سواء البحثية منها أو الإبداعية.
المقاربة التاريخية و التراثية للهوية هي تعريف بالسلب لها. الآخر و حضوره الطاغي في مجالنا الحيوي و حصاره لأسوارنا من الخارج-الحاضر هو الإيجاب, و هو الحضور و الحصار الذي دفع بنا الى إستيلاد الداخل-الماضي. و الدليل الأقرب على هذا الحضور الطاغي للآخر, يظهر من مقارنة حجم اهتمام المثقف العربي بالإنتاج الثقافي الغربي مقارنة باهتمام المثقف الغربي بانتجنا الثقافي و خاصة المعاصر. و إن كان هناك من اهتمام من قبل بعض المختصين الغربيين, فجلٌه بالجانب التاريخي من ثقافتنا و التي يعتقدون جازمين (و غالباً بحق) أنها تمثلنا حتى اليوم. و هذا الإهتمام ليس لضرورة فرضناها من خلال تواجدنا كآخر يملأ عليهم حيزهم الحيوي, وإنما كحالات دراسية ضمن مشروع أوسع. أما نحن, فتحْت ظل الحصار الحضاري و الخوف من فتح البوابات, إنكبت جهودنا الفكرية على النبش في آبار التراث داخل الأسوار بحثا عن اسباب الحياة, فمن بئر جفٌت الى اخرى أسن مائها تذهب هذه الجهود سدى.
القراءة التالية هي قراءة من خلف كتف الكاتب, فهو موجود و بقوة بفكره و تجربته, وإن كان ثمة من إسقاطات من جانبنا كقرٌاء, فهي في حدود مشاركتنا للكاتب في التجربة و تفهمنا للخلفية الثقافية التي منها ينطلق.
في ثنايا عمله الإبداعي, رواية موسم الهجرة الى الشمال, يمثل الطيب صالح هذه المقاربة للهوية و حضور الآخر الطاغي و الردٌة المصاحبة لهذا الحضور نحو التاريخ من خلال توظيف رائع للرموز, فالمكان عنده يصبح زماناً من خلال توصيف (تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل) التي توقف التاريخ عندها عن الجريان (النهر بعد ان كان يجري من الجنوب إلى الشمال, ينحني فجأة في زاوية تكاد تكون مستقيمة, و يجري من الشرق إلى الغرب), و (النهر الذي لولاه لم تكن بداية و لا نهاية يجري نحو الشمال, لا يلوي على شيئ). نهر النيل هو التاريخ, و الجنوب هو الحميمي المألوف, الزمن الذي يعيش معنا دون تغيير, هو الجد المعمٌِر الذي يراه مصطفى سعيد بطل الرواية و الشخصية المحورية فيها (جزءا من التاريخ) و هو القباب العشرة في المقبرة و القائمة منذ الأزل, (و القبور اعرفها واحداًً واحداً ...وأعرف ساكنيها الذين ماتوا قبل أن يولد أبي و الذين ماتوا بعد ولادتي) فالأموات ليسوا حقيقة أموات في هذا الزمان الأسطوري, و هو كما يناجي الراوي نفسه حين أوبته للقرية بعد اغتراب (نعم الحياة طيبة, و الدنيا كحالها لم تتغير) و(النخلة القائمة في فناء دارنا...عروقها ضاربة في الأرض....أحس أني لست ريشة في مهب الريح, و لكني مثل تلك النخلة, مخلوق له أصل, له جذور له هدف) أي ان له هوية شكلٌها هذا الزمان المتوقف. أما الشمال فهو المستقبل المجهول و الاحتمالات, و المغامرة بالخروج من حالة السكون و الطمأنينة الزائفة و انكشاف الأكذوبة كما حصل لمصطفى سعيد (و لكل الشخصيات الأخرى التي خبرت حضور الآخر بشكل من الاشكال) الذي خبر الشمال عن كثب و تفاعل معه بكل كيانه فصرخ بداخله في النهاية (هذا المصطفى سعيد لا وجود له. انه وهم, أكذوبة). إذن, فمسرح الأحداث ليس بمكان, بل زمان, الماضي-الداخل الذي نتحصن به أي الجنوب كما يرمز له الطيب صالح, و الحاضر-الخارج الذي يحتله الآخر أي الشمال. هذه التحويلات النسبية (نسبة إلى نظرية النسبية) للمكان و الزمان, تؤسس للأجواء السيريالية لمجريات الرواية و تفتح الباب واسعاً للتوظيفات الجمالية للغة.
تتخلٌق الرواية أمامنا من خلال المفارقة التي يرسمها لنا الكاتب, و يفككها امام اعيننا على مدار الرواية, مفارقة الأختلاف الجذري ما بين تجربة بطل الرواية مصطفى سعيد مع الشمال و تجربة الراوي الذي عاش في نفس البلد, انكلترا, سبعة أعوام. الأول خاض تجربة تراجيدية عنيفة, تجربة وجودية بكل معنى الكلمة, تجربة تركت آثارها عميقا في أعماقه و أعماق من تفاعلوا معه من الطرف الآخر, اما الثاني فتجربته كانت سطحية و عابرة كما يعتقد هو نفسه إذ يقول (لقد عشت أيضاً معهم, و لكني عشت معهم على السطح, لا أحبهم و لا أكرههم), و لكنه يسلم لنا طرف الخيط لحل هذه المفارقة و تجاوزها حين يستمر قائلاً (كنت أطوي ضلوعي على هذه القرية الصغيرة, أراها بعين خيالي أين التفت...الوجوه هناك, كنت اتخيلها, قمحية أو سوداء, فتبدو وجوها لقوم أعرفهم. هناك مثل هنا, ليس أحسن و لا أسوأ). الراوي ذهب إلى الشمال المكان, و لكنه في وعيه لم يغادر الجنوب الزمان, حصٌن نفسه بفقاعة تراثه حتى عاد إلى الجنوب المكان, كما كان. ولكن احتكاكه بمصطفى سعيد و بتجربة الأخير اللافحة أثارت في نفسه الهواجس (هل كان من المحتمل أن يحدث لي ما حدث لمصطفى سعيد؟ قال أنه أكذوبة؟ فهل أنا أيضا أكذوبة؟). نعم سيكتشف لاحقا أنه أكذوبة, فمهما حاول أن يموه الحقيقة بتمنيات مثل (و لكنني من هنا, كما أن النخلة القائمة في فناء دارنا, نبتت في دارنا و لم تنبت في دار غيرها. و كونهم جاؤوا إلى ديارنا, لا أدري لماذا, هل معنى ذلك أن نسمم حاضرنا و مستقبلنا إنهم سيخرجون من بلادنا إن عاجلاً أو آجلاً...سكك الحديد و البواخر و المستشفيات و المصانع و المدارس, ستكون لنا, و سنتحدث لغتهم دون إحساس بالذنب و لا إحساس بالجميل. سنكون كما نحن, قوم عاديون, و إذا كنا اكاذيب فنحن اكاذيب من صنع انفسنا). سيعترف الراوي لاحقا أن الأمور ليست بهذه (البساطة), و تبدأ رحلة الشك عنده إذ يقول (وإذا بمصطفى سعيد رغم إرادتي, جزء من عالمي, فكرة في ذهني, طيف لا يريد أن يمضي في حال سبيله. و إذا أحساس بعيد بالخوف, بأنه من الجائز ألا تكون البساطة هي كل شيئ). بعد أن لفحته تجربة مصطفى سعيد بدأ يشعر بأنه خاض نفس التجربة, و لكنه استطاع أن يموه على نفسه و أن يكذب عليها إلى حين, و إذا بالتجربة نفسها راسخة عميقا في لاوعيه, و أن فقاعته لم تحميه من مرٌ التجربة. يكتشف لاحقاً أن التجربة هذه ترسبت في لا وعي السودانيين جميعاً, و ما مصطفى سعيد إلا الزناد الذي يحركها و رمزها الذي يطفو بها الى سطح الوعي, هو ذا المأمور المتقاعد الذي يجاذب الراوي أطراف الحديث في ذات رحلة على متن القطار يتذكر فجأة مصطفى سعيد في سياق الكلام عن المحتل الإنكليزي, (في لحظة لا تزيد عن طرفة عين, يتوهج توهجا خاطفا كأنه شمس في رابعة النهار. و لا بد أن الدنيا في تلك اللحظة بدت مختلفة بالنسبة للمأمور المتقاعد أيضا, إذ أن تجربة كاملة كانت خارج وعيه أصبحت فجأة في متناول اليد), هذه اللحظة من عودة الوعي بالتجربة يكررها الكاتب و يؤكد طبيعتها الجمعية مع المحاضر الجامعي الشاب الذي زار الشمال هو أيضا لتحصيل العلم, فهكذا يتذكر هذا الشاب مصطفى سعيد (مصطفى سعيد. قالها الشاب المحاضر و على وجهه إحساس الفرح ذاته الذي لمحته على وجه المأمور المتقاعد). إذن هي تجربة الإحتكاك بالآخر, إحتكاك حاضرنا بحاضر الآخر, إحتكاك زماننا الجنوبي الذي توقف عن الجريان بزمان الآخر الشمالي, هذه التجربة غيرت كل شيئ, و لم تعد الامور على سابق عهدها, لقد زرع الشمال (جرثومته) فينا (جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام ...جرثومة العنف الاوروبي الاكبر) و اصبح الشمال شئنا أم أبينا حاضراً على الاقل معنا, و غالبا فينا, و أصبح هذا الحضور لقوته و عنفه تعريفاً بالإيجاب لهويتنا. ومع عودة التجربة إلى مستوى الوعي, تغيرت نظرة الراوي إلى الواقع و اصبح العادي و البسيط يبدو سيريالياً إلى اقصى حد (وأنا الآن تحت هذه السماء الجميلة الرحيمة أحس أننا جميعاً أخوة. الذي يسكر و الذي يصلي و الذي يسرق و الذي يزني و الذي يقاتل و الذي يقتل. الينبوع نفسه. و لا احد يعلم ماذا يدور في خلد الإله, لعله لا يبالي... و ردد الليل و الصحراء أصداء عرس عظيم كأننا قبيل من الجن... و عند الفجر تفرقنا), و نفس المنظر السريالي في دهاليز السياسة و الحكم نتيجة حضور الآخر كما يصورها وصف حال العاصمة و مؤتمراتها, إنها أزمة الهوية و قد استفحلت, و الآخر بحضوره هز أسس الجنوب و عكٌر سكونه. الأمور لن تبقى على ما كانت عليه بعد الآن.
إذن حضور الآخر القسري كان عنيفاً, و تفاعلنا معه كان عنيفاً سواء هنا أو هناك. هناك كان مصطفى سعيد مجرد جرو حيوان متوحش إلتقطته السيدة روبنسون-أوروبا و تبنته. لم يكن لهذا المخلوق تاريخ, فحسب ما يصف نفسه (و كنت, ولعلك تعجب, أحس إحساساً دافئاً بأني حر,بأنه ليس ثمة مخلوق أب أو أم يربطني, كالوتد إلى بقعة معينة و محيط معين) و لحظة سفره الأولى إلى القاهرة يقول (ففكرت قليلا بالبلد الذي خلفته ورائي, فكان مثل جبل ضربت خيمتي عنده, و في الصباح قلعت الاوتاد و أسرجت بعيري, و واصلت رحلتي. و فكرت في القاهرة و نحن في وادي حلفا, فتخيلها عقلي جبلا آخر, أكبر حجما, سأبيت عنده ليلة أو ليلتين, ثم أواصل الرحلة إلى غاية أخرى) و يقول لاحقا (.. كان كل همي أن أصل لندن, جبلا آخر أكبر من القاهرة). كالبدوي المترحل, لا في المكان فحسب, بل بالأزمنة الحضارية, فالسودان و القاهرة و أخيراً لندن هي أزمنة حضارية, و رحلته هي من زمن الجنوب إلى زمن الشمال. أبوه كان من قبيلة تنقلت بين مصر و السودان و عمل أفرادها في خدمة حملة كتشنر, و أمه يقال أنها كانت رقيقاً من الجنوب, رجل بلا تاريخ و لا تراث. كان أهل الشمال ينظرون إليه كما يُنظر إلى وحش مروض, فقيمته لم تكن في إنتاجه الفكري, رجل الإقتصاد الإنكليزي يقول عنه (مصطفى سعيد هذا لم يكن اقتصادياً يوثق به) و برأيه أن إنتاجه الفكري و نظرياته لا تساوي شيئاً و سبب شهرته هي (كان كما يبدو واجهة يعرضها افراد الطبقة الأرستقراطية الذين كانوا في العشرينات و الثلاثينات يتظاهرون بالتحرر ... حتى منصبه الاكاديمي –لا ادري تماما ماذا كان- يخيل إلي أنه حصل عليه لاسباب من هذا النوع. كأنهم أرادوا أن يقولوا: انظروا هذا الرجل الإفريقي كانه واحد منا!) و هو بالنهاية (تحول إلى مهرج بين يدي حفنة من الإنكليز). كان إذا الوحش الجنوبي الذي دجنه الشمال و زين به قاعاته, واشتم منه (رائحة الأوراق المتعفنة في غابات إفريقيا. رائحة المنجة و الباباي و التوابل الإستوائية. رائحة الأمطار في الصحارى العربية) كما ورد على لسان إحدى عشيقاته الإنكليزيات, لم يكن الجنوب في نظر الشمال إلاٌ متحفاً أو حديقة للحيوان. هذه الهوية النمطية التي فرضها الشمال بترفعه و مركزيته على الجنوب, كانت أحد أسباب عنف و دموية تجربة التفاعل ما بين الطرفين.
المقاربة القائمة على علاقة الوحش المفترِس بالمدجٌِن, يستثمرها الطيب صالح و يبلغ بها ذروتها حين يضعها في قالب الجنس, و الجنس كأحد أقوى الروابط ما بين المرحلة الغريزية و المرحلة الإجتماعية للإنسان, يتمثل في طقوس افتراس الأنثى و ترويض الذكر التي طورها المجتمع و أطٌر بها الفعل الجنسي. من خلال هذه المقاربة يصور لنا الطيب صالح طبيعة التفاعل الحضاري بين الشمال و الجنوب منذ الإحتكاك الأول لمصطفى سعيد مع الحضارة الأوروبية-السيدة روبنسون-الأنثى, تحضنه هي كما تحضن قطة شاردة او جرو فهد جائع بينما تنشغل حواسه هو برائحة الجسد الأبيض-الفريسة. منذ تلك اللحظة فصاعدا تكون كل مواجهات مصطفى مع الشمال هي مواجهة الوحش الباحث عن فريسة, الشمال, عالم جين مورس الحالم بترويض الجنوب و تحويله إلى حيوان مستأنس-فاقد للفحولة. يكسب سعيد الجولة تلو الأخرى و يفترس الأنثى تلو الأنثى (إنني جئتكم غازياً في عقر داركم. قطرة من السم الذي جقنتم به شرايين التاريخ. أنا لست عطيلاً. عطيل كان أكذوبة), كن ينخدعن بمظهره المستأنس (رأتني فرأت شفقاً داكناً كفجر كاذب) حتى يلتصق بهن, و إذا به الوحش الذي جاء غازياً, فتكون النتيجة سقوط الضحية تلو الأخرى حتى تصل الفاجعة قمتها مع جين مورس. تظهر جين مورس منذ بداية لقائها بسعيد كمروض الأسود في السيرك (وقفت امامي و نظرت إلي بصرف و برود) و في مناسبة اخرى تقول له (انت بشع.لم أر في حياتي و جها بشعاً كوجهك), و يبدو هو كالوحش المستعصي على الترويض والمصِر على الظفر بها (و حلفت في تلك اللحظة و انا سكران انني سأتقاضاها الثمن في يوم من الايام)... (أردت أن أراقصها فقالت لي : لا أرقص معك و لو كنت الرجل الوحيد في العالم. صفعتها على خدها فركلتني بساقها و عضتني في ذراعي بأسنان كأنها أسنان لبؤة), صورة للسعات سوط مروض الأسود و زمجرات الأسد. و تمثل تفاصيل علاقته مع جين علاقة الشمال بالجنوب بكل عنفها و مرضيتها حتى تنتهي المأساة بان يقتلها في الفراش في طقوسية جنسية غرائزية غابت عنها الاطر الحضارية.
هذا ما كان هناك في الشمال, أما ما كان في الجنوب فلم يكن اقل عنفاً, فالجرثومة قد استفحلت و زرعت العنف و الجنون في من أصابتهم. ما كان عاديا و بسيطاً كزواج ود الريس العجوز المتهالك من إمرأة صغيرة كأرملة مصطفى سعيد, أصبح حدثاً من قلب جهنم يحرق كل من يشارك فيه. عودة مصطفى سعيد و استقراره في (تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل) في محاولة بائسة للتحصن بتاريخ و تراث علٌه يشفى من أزمة الهوية التي مزقته و أضاعت حياته, بائت بالفشل, فهو جلب اشباح الشمال و صقيعه معه. أبقى أشباحه مسجونة إلى حين في (غرفة من الطوب الاحمر) مبنية على الطراز الاوروبي, و لكنها تسرٌبت أخيراً و نشرت الجرثومة بين أهل الجنوب. و كان لا بد مما ليس منه بد بعد أن نبذه الشمال و بعد أن خذله الجنوب, ان يسلم نفسه لمجرى التاريخ ليسير به إلى مستقر ما, فاختفى ذات فيضان في النيل.
ما كان في الشمال كان دموياً, و مثله ما كان في الجنوب, زواج أرملة مصطفى سعيد من ود الريس العجوز كان باب جهنم ينفتح على تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل, (البلد كلها كأنما حل عليها الشياطين في تلك الليلة) و (العالم فجأة إنقلب رأساً على عقب) و الراوي يقول (أنا حاقد و طالب ثأر و غريمي في الداخل... إنني أبتدئ من حيث إنتهى مصطفى سعيد). طقوس الجنس الإجتماعية سقطت هنا أيضا و تحولت إلى صراع غريزي , صراع بقاء بين حضور الشمال من خلال حسنة بنت محمود أرملة مصطفى سعيد الذي نقل لها الجرثومة و الجنوب من خلال ود الريس. فكان أن قتلته و قتلت نفسها ضمن طقوسية جنسية غرائزية و في مشهد سريالي جهنمي دلالة مرة أخرى على مدى عنف العلاقة ما بين الشمال و الجنوب.
الماضي غير قادر على الإستمرار, ود الريس مات و الجد تهالك و بدأت علامات الموت تغزوه, الجنوب الساكن يتهالك تحت وطأة الشمال و الجرثومة القاتلة بدأت فعلها. مصطفى سعيد و الراوي و كل من لوثهم الشمال الأوروبي يبدون كمخلوقات هجينة, مخلوقات ينبذها الجنوب قبل الشمال. ضمن هذه المتاهة لا بصيص أمل سوى ربما, محجوب.
إبن الحنوب هذا يبدو كالقبطان الذي يسيٌر دفة السفينة في رحلتها من جنوبها هي إلى شمالها هي, لا شمال الآخرين, فهو (ملح الأرض) كما يصفه الراوي و هو من يجب أن يدير الحكومة في العاصمة الخرطوم, لم يلوثه الشمال الأوروبي و لم يحبطه الجنوب المتثاقل, فهو الذي كلما قابلناه في مسارات الواية كان في الحقل يقلع أو يزرع, أو في الجمعية المحلية يخطط و يدير مصالح القرية. كان الشخصية التي وظفت عقل مصطفى سعيد الآتي من الشمال في مصلحة أهله في الجنوب. أما وقد حل موسم الهجرة إلى الشمال, فهو القبطان الذي سيوصلنا إلى شمالنا نحن لا إلى شمال الآخرين.
هاجس الهوية و تساؤلات وجودية أثارها إحتكاكنا بالآخر واقتحامه لعالمنا. هوية نمطية يحملها الآخر عنا و يخلعها علينا و يتعامل معنا على أساسها, و هوية نمطية عن الآخر نحملها عنه و نخلعها عليه و نعامله على أساسها. و من الجانب الآخر للمسألة, هوية مثالية يحملها الآخر عن نفسه و يعاملنا من خلالها, و هوية مثالية عن أنفسنا نختلف عليها مع الآخر و في ما بيننا, هل هي جنوبية كما يظن أهل تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل؟ أم هجينة كما هو مصطفى سعيد و الراوي, أم هي شيئ آخر تماما تنتظرنا هناك في الشمال عند مصب النهر في البحر؟ كل هذه الأسئلة حاصرت الراوي و هو في منتصف النهر, ما بين الضفة الجنوبية و الضفة الشمالية, عارياً كما ولدته أمه, و جعلته يختم الرواية بصرخة (النجدة. النجدة).



#محمد_فيصل_يغان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لمحة عن فكر ابن خلدون
- حول موقف سارتر من العلم و المادية الجدلية
- وحدة العقل و الوحي و جدلية المعقول و اللامعقول
- الانماط الاساسية للمعرفة (ضد الجابري) الأخيرة
- الأنماط الأساسية للمعرفة (ضد الجابري) 4
- الأنماط الأساسية للمعرفة (ضد الجابري) 3
- الأنماط الاساسية للمعرفة (ضد الجابري) 2
- أنماط المعرفة الأساسية (ضد الجابري)-1
- محاولة لتعريف العقل
- في العقل
- ملاحظات حول نظرية النسبية الخاصة
- القيم ما بين العقل و الدين 2
- القيم ما بين العقل و الدين 1 من 2
- تأويل القديم أم إبداع جديد
- ما بين المفهوم و المصطلح
- الإسلام و البداوة و أزمة الهوية
- هل اللوحة الفنية سلعة؟
- تأملات في كتاب رأس المال (3) - فائض القيمة
- تأملات في كتاب رأس المال (2) - النقد
- تأملات في كتاب رأس المال (1) – القيمة


المزيد.....




- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد فيصل يغان - صراع الهوية في رواية موسم الهجرة الى الشمال