أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - تفروت لحسن - الممكن والمستحيل في نظرة نيشه للعالم















المزيد.....



الممكن والمستحيل في نظرة نيشه للعالم


تفروت لحسن

الحوار المتمدن-العدد: 4740 - 2015 / 3 / 6 - 03:04
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


اعتاد دارسو الفلسفة نسبة نظرية " العوالم الممكنة " إلى ما يعرف بمنطق الموجهات logique des modalités الذي تأصل في الأورغانون الأرسطي وتطور في الفترة المعاصرة مع كريبك Kripke، هنتيكا Hinttika، كواين Quine، لفيس .Lewisبل جرت العادة عند المناطقة والفلاسفة أن ينسبوا إلى الفيلسوف الألماني " ليبنتس "(1)Leibniz السبق في الكلام عن العوالم الممكنة، بناء على دعواه الشهيرة التي تقول بأن عالم الواقع ليس هو العالم الممكن الوحيد، بل إن هناك عوالم متعددة، وأن عالم الواقع هو أفضل هذه العوالم."(2) فلما كان " ليبنتس " معروف باتجاه فلسفي تفاؤلي، فقد رأى أن هذا العالم هو أحسن العوالم الممكنة، وأن الشرور مفيدة وضرورية لخير أعظم ولعالم أجمل، وأن من الممكن أن يبلغ الجنس البشري في مجرى الزمان كمالاً أعظم مما نستطيع تخيله في الوقت الحاضر. فمبدأ التفاؤل عند "ليبنتس" مقتضاه أنه لما كانت أفكار الله تحتوي على عدد لا حصر له من العوالم الممكنة التي يستحيل أن يوجد منها إلا عالم واحد، فيلزم أنه كان هناك سبب كاف لاختيار الله، جعله يفضل هذا العالم، وهذا السبب هو أن هذا العالم هو أحسن العوالم الممكنة.(3)
ورغم أن موضوع العوالم الممكنة يكثر تداوله وتناوله في الدرس المنطقي، فإننا نروم في هذا المقال الإنزياح عن هذا التقليد. فمقصدنا هو تفحص موضوع العوالم الممكنة عند نيتشه.
ربما يبدو للبعض أن هذا النظر غير مناسب للمقام. بل وقد ينازعنا البعض الآخر في هذا الاختيار إن لم يعترض علينا بدعوى أن نيتشه بمعاداته للمنطق وللعقل ولكل حقيقة عقلية أو فلسفية لا يمكنه أن يجنح إلى النظر المنطقي في نظرته للعالم، سواء في هدمه للعوالم النظيرة الذي شيدها الفلاسفة قبله، باعتبارها أوثانا، أو في تأسيسه لعالمه الممكن الخاص.
دفع هذا الاعتراض المفترض، يقتضي منا الاستناد إلى ما يعرف عند المنطقة بالمحجاجة، أي البحث عن الأدلة الذي ترد هذا الادعاء وتؤسس لمشروعية الحديث عن العوالم الممكنة عند نيتشه الذي هو موضوع نظرنا في هذا المقام. لذا فإن تناولنا لهذا الموضوع ليس إسقاطا تعسفيا للتأويل المنطقي على فلسفة نيتشه، وإنما هو استثمار لبعض ما استجد في منطق الموجهات من أبحاث بغرض كشف بعض المغمور في نقد نيتشه لمفهوم العالم.
أما نظرنا للموضوع فيشمل التحقيق في بعض الفرضيات، ومنها : الإمكان النسبي للعالم الصادق مع أفلاطون ، الإمكان البعيد للعالم الصادق عند الكاهن، الاستحالة العقلية للعالم الصادق في تصور كانط، الاستحالة الكلية للعالم الصادق مع الوضعية، أفول العالم الصادق، وأخيرا الإمكان الجذري للعالم بعد القضاء على العوالم المتوازية- الإمكان المثالي -.
أما الداعي الذي يدفعنا إلى التوسل بهذا الإرث المنطقي بربط الحديث عن العالم عند نيتشه بالإمكان المنطقي فيقوم على الأدلة التالية :
1- صحيح أن نيتشه يصنف نفسه خارج استبداد المنطق التقليدي، فهو لا ينضبط للقيم الصدقية، ولا يعترف بمبادئ الاتساق المنطقي ولا بالتقويم الماصدقي للقضايا والاستدلالات ولا حتى بأسلوب النسق في صياغة أفكاره(4). لكن هذا لا يفيد أن نيتشه ليس منطقيا، و لا يعني أن قوله مجرد سلاطة وهدر. فنيتشه ليس منطقيا بالمعنى التقليدي، لكن عنده منطق يخصه، إنه منطق الفلاسفة الجدد، فلاسفة المستقبل، ذوي العقول الحرة. هذه هي الملاحظة عبر عنه ليوطار François Lyotard في ما أسماه " هذا المنطق الذي يلزمنا"(5) - " Cette logique qu il nous faut " -.
2- يشهد المتن النيتشوي على الأهمية التي يحظى بها مفهوم العالم عند نيتشه، فنجده يستخدم هذا المفهوم أحيانا بصيغة المطلق كما في قوله : " لنترك العالم ليكون العالم "(6)، كما أنه يوظف غالبا مفهوم العالم كموصوف تسند له صفات أو محمولات مختلفة. وباعتماد هذه الخاصية يتكلم نيتشه عن العالم بصيغة الجمع، أي أن العالم عند نيتشه ليس واحدا، بل عندنا عوالم متعددة : متشابهة أو متباينة. ولكل عالم مميزات تخصه، معرفيا، أنطولوجيا وأخلاقيا...فالعالم بلسان نيتشه متعدد، من ذلك مثلا : العالم الصادق، العالم الكاذب، عالم الظاهر، عالم المظاهر، عالم الضعفاء، عالم الأقوياء، العوالم الأخرى، عالم الماوراء، عالم الصيرورة، عالمنا...وهذه شواهد تجعل تناول العوالم عند نيتشه مشروعا.
3- لما كان منطلقنا الأساسي في تناول موضوع " العوالم الممكنة " عند نيتشه هو الاستناد إلى نصين قصيرين في نظمهما وكثيفين في معانيهما من مؤلفه المترجم إلى العربية ب " غسق الأوثان " أو " أفول الأصنام "(7)، أي الفقرة السادسة من الفصل المعروف ب " العقل في الفلسفة " و الفصل الذي له عنوان " كيف أصبح العالم الصادق ، بالنهاية، خرافة : تاريخ غلط "(8). يعمد إلى استخدام العالم كموصوف بصفة الصدق، أي العالم الصادق – يضعه في نهاية النص الثاني بين قوسين خلافا لباقي مواقعه داخل نفس النص -. فاستخدام نيتشه لهذا الاقتران " العالم الصادق " ونقيضه المستلزم عنه بمقتضى قياس النقيض، أي " العالم الكاذب " ومقارنة العالمين، سلبا أو إيجابا مع عالم الظاهر، يدفعنا دون جهد في التأويل إلى نسبة العوالم كما يتناولها نيتشه إلى نظرية العوالم الممكنة، أو على الأقل إلى التأويل الإمكاني للعالم. فالتعبير عن العالم يكون إذن بصيغة الجمع، وتصبح العوالم عند نيتشه عوالم ممكنة، منها الصادق والكاذب والضروري و الظاهر..
4- - إن تقد نيتشه للميتافيزيقا وهدم تصوراتها هو قلب للعالم الصادق ونقض للتمييز بينه وبين العالم الظاهر سواء على الطريقة الأفلاطونية أو الاعتقاد المسيحي أو التصور الكانطي أو التقويم الوضعي . وهذا النقد هو في نفس الوقت بناء للعالم الخاص لنيتشه، عالم الصيرورة و العود الأبدي والإنسان الأعلى. وإذا كنا نلاحظ أن موضوع العالم الصادق حظي باهتمام المتخصصين في فلسفة نيتشه(9)، من أمثال هايدغر، دولوز، أرندت...فإن هذه الدراسات ركزت على الجوانب الأنطلوجية والميتافزيقية للموضوع دون الخوض في علاقته بالمنطقيات. لذا فإن مقاربتنا لموضوع العالم ستعتمد مقاربة أخرى، مقاربة مغايرة.
5- يشير نيتشه في مواقع متفرقة من متنه إلى "ليبنتس" مؤسس نظرية العوالم الممكنة، بل ويعتبره إلى جانب كانط المسؤولين عن تأخر شيوع الصحة الثقافية في أوروبا. ولذا فإن معرفة "ليبنتس" مؤشر على إطلاع نيتشه على تصوره للعوالم الممكنة. أكثر من هذا يمكن أن نصنف نيتشه كنقيض لليبنتس؛ فمادام نيتشه يعترف بثأثره الشديد بفولتير الفرنسي، ومادام هذا الأخير قد ألف روايته " كنديد أو في التفاؤل " لنقض مفهوم العالم الأفضل عند ليبنتس، جاز أن نستنتج أن نيتشه ينتصر لأطروحة فولتير.
صحيح أننا لا نجد عند نيتشه اقترانا صريحا بين مفهوم العالم والجهات المنطقية، كالإمكان أو الاستحالة، لكننا نقف في عدة مواقع من المتن النتشوي على استخدام هذه الجهات. فنيتشه يستخدم " الممكن " و " المستحيل كأدوات تعبيرية لصياغة بعض مواقفه الفلسفية، مثلا :
- " من الممكن أن نعيش بدون ذكريات، وأن نكون سعداء مثل ما يبينه الحيوان، لكن يستحيل أن نعيش بدون نسيان."(10)
- " لا يخلو الفن من الجمع بين الصدق والكذب، ففيه يمكن أن يتواجد النقيضان مجتمعين."
- " يستحيل على الإنسان إدراك الأخلاق بذاته."
- " يستحيل أن لا يكون هذا العجوز قد علم بموت الإله."(11)
- " يستحيل أن لا يكون لكل إنسان خصائص وراثيه من أبويه وأجداده."(12)
- " يمكن أن توجد طبقة اجتماعية مستحيلة." (13)
لما كان غرضنا في سياق هذا القول ليس هو إحصاء المواقع التي أعمل فيها نيتشه هذه الجهات المنطقية، ولما كان قصدنا هو النظر في إمكانية قراءة تصور نيتشه للعوالم الممكنة والمستحيلة، فإننا سنركز الاهتمام على ما يتعلق بهذا الموضوع.
الراجح أننا لا نصادف عند نيتشه استخداما صريحا للعوالم الممكنة، لكننا نقف عنده على بعض المفاهيم التي لها علاقة بدلالات العوالم الممكنة. من ذلك مثلا :
v القيم الصدقية : إذا كان الصدق هو المعيار الذي يقوم عليه العالم الممكن(14)، سواء من حيث تركيب قضياه : اتساقه أو تناقضه أو من حيث البث في صلاحية استدلالاته – وهذا ما يعرف ب la logique alhétique ، فإن نيتشه يستحضر قيمة الصدق والكذب في حديثه عن العالم. فهو يخصص جزء من كتابه " غسق الأوثان " للفصل مع الغلط الذي سيطر على النظر الفلسفي، والقطع مع خرافة العالم الصادق الذي استبدت بتاريخ الفلسفة. هذا الفصل معروف ب : " كيف أصبح العالم الصادق خرافة : تاريخ غلط ".
v رغم أن نيتشه، في هذا الفصل المخصص لقلب العوالم المعتبرة صادقة، لا يستعمل بالصريح من اللفظ مقولتي الإمكان والاستحالة، فإنه استخدم مفهومين لهما علاقة وطيدة بنظرية العوالم الممكنة. يتعلق الأمر بمفهومي الولوج أو علاقة الولوج(15). ففي مطلع حديثه، في هذا الفصل، عن العالم الصادق نقرأ الصيغة التالية :
- " العالم الصادق، ممكن الولوج(16)، للحكيم، للمتدين، للفاضل، إنه يحيا داخله، إنه هو."
- " العالم الصادق، غير ممكن الولوج الآن، لكنه موعود للحكيم، للمتدين، للفاضل، للخطاء الذي كفرعن ذنبه."
والمعلوم أن مفهوم الولوج أو عدمه يعتبر من بين المداخل التي أسس عليها كريبك دلالة نظرية العوالم الممكنة. ومقتضى الولوج في نظرية العوالم الممكنة يفيد أن العوالم في تشذرها تكون مترابطة فيما بينها. هنا يكون التعريف المضبوط للعالم الممكن هو ما يسميه كريبك (Kripke frame) أي الزوج المعطى(W,R) حيث أن W مجموعة تسمى عناصرها عوالم و R هي علاقة إثنانية بين هذه العوالم. هذه العلاقة تسمى علاقة الولوج relation d’accessibilité.
فاستنادا إلى منطق الموجهات، يظهر النموذج أن قضية P تكون ضرورية في العالمw إذا وفقط إذا كانت صادقة في كل العوالم الممكنة الولوج للعالم w باعتباره عالم الإحالة. يسمى هذا العالم بالعالم الحالي أو الواقعي monde réel ou plus exactement le monde actuel le ، ويكتب اختصارا ب AW – actual world -. بل يمكن أن نتساءل مثلا عما إذا كانت كل العوالم الممكنة قابلة للولوج انطلاقا من العالم الحالي AW، وفي حالة الإيجاب يمكن أن نتساءل عما إذا كانت كل العوالم الممكنة قابلة للولوج فيما بينها.
فلو افترضنا أننا أمام عالمين M1 و M2، فإذا أردنا أن نعرف إذا ما كان العالم M2 قابلا أو غير قابل للولوج انطلاقا من العالم M1، ننظر في قضاياه. فالقضية " من الضروري أن P " تتحقق في العالم Mإذا صدقت بالمنى العادي في الدلالة المنطقية بالنسبة لكل عالم N القابل للولوج انطلاقا من .N والعبارة " P ممكنة " تتحقق في العالم Mإذا وجد عالم N قابل للولوج انطلاقا من M ، بحيث أن القضية " ب " تكون صادقة بالمعنى العادي ل N. فعلاقة الولوج يفترض أنها تتصف بخاصيتي التبادل و التعدي المنطقي. فالحقائق الملية للمنطق الموجه تتحقق في كل العوالم. فالعالم يجب أن يكون قابلا للولوج انطلاقا من العالم الحالي إذا أمكننا أن نستخدم صورتنا عن هذا العالم الحالي.(17)
v يمكن أن نستخرج من نص نيتشه حول العالم الصادق مفهوم العالم الموازي، ويقصد بالتوازي(18) في نظرية العوالم الممكنة أن عالمين على الأقل لهما نفس الشروط التركيبة يتصفان بإمكانية التحقق، بحيث ما يجري على أحدهما يجري على الآخر، فإثبات أحدهما أو نفيه يستلزم إثبات أو نفي الثاني. وإذا كان نيتشه لا يصرح بعلاقة التوازي، فإن الفقرة الأخيرة من نصه تحيل إلى هده العلاقة. هذا ما تتضمنه الومضة التالية في نهاية نفس النص :
" لقد ألغينا العالم الصادق، أي عالم سيتبقى ؟ ربما عالم الظاهر ؟ ... كلا ! فمع العالم الصادق قد ألغينا أيضا عالم الظواهر! "(19)
إذا كان اجتماع هذه الأسباب يمثل سندا لنا لإمكانية التوسل بنظرية العوالم الممكنة بقصد إعادة قراءة نظرة نيتشه للعالم، للعوالم، فإن التساؤل الذي يحضر في هذا السياق هو : أين تتجلى أهمية استعمال منطق الموجهات في نقد نيتشه للعوالم الأخرى وإقامة عالمه الخاص؟ و ما هو أفق الذي يمكن لهذه القراءة ؟
قراءة النص السابق يفيد أنه نص مصيري، إنها لحظة الحزم، لحظة اتخاذ قرار القطع النهائي مع خرافة " العالم الصادق ". فالعنوان الفرعي للنص يشير إلى أن الأمر يتعلق بتاريخ " خرافة "، مما يعني أن تصورات الدين بكهنته، والفلاسفة أو أنصاف الكهنة، حول العالم ما هي إلا تخيلات أو أوهام لا صلة لها بعالم الواقع، العالم الحالي. فخرافة العالم الصادق هي غلط، غلط كبير يجب وضع نهاية له.
إذا كان النص يتضمن في بنيته ستة لحظات، ستة فقرات تمثل مواقف متباينة من العالم، وبمعنى أدق تمثل تأويلات العالم، فإننا يمكن ردها إلى ثلاث أطروحات حول العالم، نقصد العالم الصادق. فرغم أن نيتشه يشير إلى موقف أفلاطون والمسيحية وكانط إضافة إلى الوضعية ثم زرادشت، فإننا يمكن أن توسل بقانون التعدي المنطقي لنرد كل هذه المواقف إلى ثلاث تأويلات للعالم : العالم المجرد والعالم الوضعي وعالم نيتشه. فلما كان نيتشه يعتبر كانط "مسيحي مقنع" أو "مسيحي ماكر" أو "نصف فيلسوف" (20)، وكان يصنف المسيحية ك"أفلاطونية للشعب"، فإن النتيجة المنطقية الأولى المترتبة عن هذه المقدمات هي :
- الأصل المجرد لفكرة العالم الصادق هو أفلاطون. فكما قال لويس 14 " الدولة، هي أنا " أو " الدولة، التي هي أنا " أو " أنا سبينوزا...أنا الحق."، يقول أفلاطون : " أنا، أفلاطون، أنا الحق."
- العالم الأخر عند المسيحية، مجرد عالم أفلاطوني معدل ومبسط، مخصص للرعاع، إنه عالم مشوه.
- العالم الصادق، عالم الشيء في ذاته، ليس في عمقه إلا فكرة مسيحية متنكرة، عالم شاحب اختفت شمسه خلف السحب الرمادية، السحب الألمانية.
هذه العوالم التي يبدو لنا اختلافها الظاهر، هي بالتحقيق عوالم ممكنة متشابهة من حيث أنها حسب قول نيتشه تعمل على التعالي عن عالم الواقع وابتداع عوالم بعيد تحققها، إنها عوالم " الإمكان المثالي ". ف" تقسيم العالم إلى عالم " صادق " وعالم " الظواهر "، سواء على طريقة المسيحية، أو على طريقة كانط ( مسيحي ماكر بالنهاية )، ليس سوى فكرة من وحي الانحطاط، عرض عن حياة في طرقها إلى الانحطاط..."(21)
يمكن إذن أن يتبدد الغموض عن الدافع الذي يجعل نيتشه يجمع بطريقة التوالي والتساوق و الترتيب الزمني الفيلسوف والمتدين والفاضل في خانة واحدة، حيث يضع الحكيم أولا، يليه المتدين ثم الفاضل. أي أن الأفلاطونية هي الأصل، تتبعها المسيحية التي هي مجرد أفلاطونية مخصصة للعوام – للشعب –، فالأخلاق الكانطية التي هي مجرد مسيحية متنكرة في لباس العقل العملي كما اعتمده كانط.
لا يختلف كثيرا حكم نيتشه ضد كل أصناف المثالية عن موقفه من التصور الوضعي للعالم. فالمعلوم أن نيتشه يلخص، في نفس النص و بنفس أسلوب الومضة الفلسفية التي تميز كتاباته، التصور الوضعي للعالم كما يلي :
" العالم الصادق، عالم متعذر الولوج؟ لم يلجه أحد على أية حال. وكعالم لم يلجه أحد، فهو مجهول أيضا. وبالتالي لا هو بعزاء ولا بمخلص أو ملزم : بأي شيء يمكن لشيء مجهول أن يلزمنا."(22)، ( صباح قائم. التثاؤب الأول للعقل. صياح ديك الوضعية. )
لهذا يمكن أن نلحق حتى النظر العلمي للعالم الصادق الذي يجسده الاتجاه الوضعي بالتصورات السابقة، بالإمكانات المثالية. فإذا علمنا أن نيتشه في" جينالوجيا الأخلاق "، وخاصة في نقده للمثل الزهدية التي يبتدعها الكهنة، يضع العلماء والكهنة في كفة واحدة. بل يعيب على العلم عدم قدرته على تجاوز المثل الزهدية، إن لم يكن هو نفسه منتج للعدمية على شاكلة التطبيب الكهنوتي في مواجهة شرور العالم وعلى رأسها المعاناة. فالعالم والكاهن لهما إذن نفس القيمة عند نيتشه ولا يختلفان إلا من حيث الأسلوب.(23)
تبعا لهذه الملاحظة، وباستخدام قانون الإبدال المنطقي يمكن أن تتكون لنا هذه النتيجة :
- نظرة الكاهن للعالم الصادق هي نفسها نظرة العالم، فهما تستلزمان العدمية.
- عالم الكاهن كعالم العالم يتصفان بنفس الإمكان، فهما متماثلان أو نظيران.
عامة، يمكن أن نستنبط أن التأويلات الثلاث، المسيحية والكانطية والوضعية، للعالم هي مشتقة بالمعنى المنطقي من العالم الأفلاطوني. إنها مجرد فروع لعالم أفلاطون الذي هو الأصل. فهي تشترك جميعها في نفي العالم، عالمنا، وفي نكران الحياة والتنكر لها. وبلغة المنطق الموجه، فإن ما يجمع ما كل هذه التأويلات هو:
- تصنيفها لعالم الواقع كعالم ناقص أي عالم غير تام وكعالم متناقض أي عالم يجمع بين الشيء ونقيضه، خلافا للعالم الصادق المتصف بالاتساق والتمام.
- اعتبارها عالم الواقع عالم الفساد، وإيمانها بأفضلية العالم الأخر، عالم الماوراء. علما أن مبدأ الأفضلية يعتبر ركنا أساسيا في نظرية العوالم الممكنة. بل إنها تقر بلا أفضلية عالم الواقع كما عرفه "ليبنتس".
لكن، لا يعني هذا أن نيتشه يتوقف عن حدود هذا التشابه حول العالم الصادق، بل يقيد عباراته، داخل نصه، بحواصر منطقية خاصة " الولوج " و"عدم الولوج". وهذا المفهومان، في نظرنا، هما اللذان سيمكنان من إماطة اللثام عن جهتي " الإمكان" والاستحالة" في نظرة نيتشه للعالم، للعوالم الممكنة.
1- الإمكان النسبي للعالم الصادق :
يؤسس نيتشه نقده للفلاسفة على نكرانهم للحياة واختلاق عوالم وهمية. " الفلاسفة كلهم، وعبر العصور، يجمعون على حكم واحد على الحياة : إنها لا تساوي شيئا. وسقراط نفسه سئم من الحياة. والشاهد على تعبه وملله من الحياة ونقمته عليها قوله لحظة احتضاره : " ليست الحياة سوى مرض عضال "(24). لا يخرج أفلاطون عن هذا الحكم، بل إن نيتشه يعتبر أفلاطون جبان لهروبه من الواقع وعدم قدرته على مواجهته. وإذا كان سقراط في نظر نيتشه مجرد مريض قد طال به المرض، فإن أفلاطون منحط نموذجي، فمثاليته وككل مثالية عرض مرضي، عرض انحطاط.(25)
في هذا السياق يمكن أن نفهم عمق النقد النيتشوي للعالم الصادق كما تصوره أفلاطون. وهذا ما يلخصه المدخل المختصر من نصه : " كيف أصبح العالم الصادق ، بالنهاية، خرافة : تاريخ غلط ". نحن إذن أمام ومضة أو شعلة فلسفية، تلخص الضربة القاضية لنيتشه ضد أفلاطون. وإذا كان كانط قد شبه مجال الميتافزيقا بحلبة الملاكمة التي يتصارع فيها الفلاسفة على مر التاريخ، دون منتصر ولا منهزم، فمن الجائز أن نشبه هذا النص بمثابة الضربة النهائية للميتافيزيقا، ليس فقط ضد أفلاطون، بل ضد كانط والمسيحية والوضعية، وكل أشكال المطلق. وإذا جاز لنا تشبيه الومضة أو اللمحة الفلسفية عند نيتشه، كشكل للكتابة ضد كل نسق للتعبير الميتافيزيقا، بقطعة من رياضة "الكاتش"، فإن العبارات القصيرة المكونة لهذا النص، هي حرب على العوالم المثالية، إخضاعها لضربات المطرقة، هدمها وإقامة عالم الحياة. يعبر نيتشه عن ذلك بقوله : " في العالم من الأصنام أكثر مما فيه من الحقائق : هذا ما علمتني "العين اللامة" التي ألقيها على العالم، وكذلك "الأذن الشريرة" التي أصغي بها إليه، هنا أيضا تكون المساءلة بضربات مطرقة، أي أن الإصغاء بشك لكل نص مقدس، والنظر بريبة إزاء كل القيم يدل بصورة جوهرية على القراءة المتميزة ".
إذا كان هذا النص، موضوع هذه الدراسة، قد قرأ أكثر من مرة، فإن قراءتنا له، في سياق هذا النظر، سوف تقتصر على مفهوم الإمكان وما يترتب عنه.
يبدأ نيتشه نصه ب"كلم جامع"(26) كما يلي:
" العالم الصادق، ممكن الولوج للحكيم، للمتدين، للفاضل – إنه يحيا داخله، إنه هو.
( الشكل الأقدم للفكرة، ذكية نسبيا، بسيطة، مقنعة. بصيغة أخرى : " أنا، أفلاطون، أنا الحق.)"
القراءة المألوفة التي تقربنا من مفهوم العالم الصادق عند أفلاطون تبين أن هذا الأخير يؤكد أن معرفة حقائق الأشياء تقتضي أن تكون الحقائق خارجة عن الطبيعة المحسوسة. لذلك نجده يقسم موضوع المعرفة إلى قسمين: المثل الموسومة بعدم الفناء واللانقراض و الأشياء المادية المتغيرة والتي تكون عرضة للصيرورة بحيث يلحقها الفساد.
تسعفنا أسطورة الكهف في تمثل صورة هذا التقسيم، فهناك عالم الداخل في مقابل عالم الخارج. فالعالم الأول هو عالم المظاهر والوهم والفساد بخلاف عالم المثل المعتبرة حقائقه مطلقة وثابتة.
توسلنا في قراءة النقد النيتشوي للعالم الصادق عند أفلاطون بمقتضيات نظرية العوالم الممكنة يمكن أن يولد لدينا استنتاجات يمكن إجمالها في مبدأ الضرورة المنطقية وخاصية الإمكان النسبي ومعيار أفضلية العالم الصادق. وهذا ما نفصل فيه القول كما يلي:
q مبدأ الضرورة المنطقية: ومقتضاه أن العالم الصادق في التأويل أفلاطون يتصف بخاصية الضرورة من حيث نظمه، فهو عالم ضروري، فللمثل منزلة الحقائق المطلقة، فوجودها لا يتوقف على شيء، بل يتوقف كل شيء عليها، إنها مبادئ الكون الأولى ولها حقيقتها الذاتية المستقلة عن أي شئ أخر، وهي ثابتة وغير فانية ،لأنها توجد خارج الزمان والمكان. إنها بمثابة كليات أي ماهيات ثابتة للأشياء، هذه الحقائق المطلقة تتصف بالأزلية، إنها سرمدية.
ولما كان التسليم بفرضية العالم الصادق أو عالم الكليات يستلزم استحضار العالم النقيض، فإن العالم الكاذب هو عالم- الداخل، عالم داخل الكهف. فعناصر هذا العالم هي جميع التمثلات الخاضعة للحواس، تجعل الإنسان خبيثا وشهوانيا وبالتالي مضطربا. إن عالم المظاهر خادع. يتضح هذا التمييز في قراءة ليوطار. فهو يصنف العالم الأول كعالم يخص الرجل الصادق - L’homme véridique - والعالم الثاني كعالم عضوي أو عالم الإنتاجية.(27)
q خاصية الإمكان النسبي: وتتمثل في أن هذا العالم الصادق ممكن الولوج، أي يمكن إدراكه. لكن هذا الإمكان بعيد التحقق. فهو إمكان مشروط، أي أن ولوجه ليس في متناول الجميع، فليس كل من في الكهف يمكنه التحرر من القيود والصعود إلى عالم المثل. نحن أمام ولوج مقيد ومشروط. فولوج العالم الصادق محصور ومقصور على الحكيم – الفيلسوف المثالي – وعلى المتدين وعلى الفاضل أو صاحب الفضيلة. يمكن تبسيط هذه الفكرة بالقول أن المثل الأفلاطونية، في العالم الصادق، لا يمكن الوصول إليها أو إدراكها إلا من خلال العقل ،الذي يرتقي خطوة خطوة، منتقلا من المحسوس إلى المعقول، وهذا ما يجعل معرفتنا ممكنة. هذا الإمكان الذي يتحول إلى استحالة إذا ما اعتمدنا إي حاسة من حواسنا بغية ولوجه.
ولوج العالم الصادق عند أفلاطون يكون ولوجه ممكنا داخل ثلاثة مجالات هي:
- مجال المعرفة أو الفلسفة الذي يحيل إليه مفهوم "الحكيم" كمحمول في النص.
- مجال الدين أو الخوف من الإله المشار إليه بحد المتدين.
- مجال الأخلاق الذي يرمز له لفظ الفاضل أو صاحب الفضيلة.
طبعا هذه المجالات مترابطة وليست منفصلة. هنا يظهر تأويل عالم المثل، فالفيلسوف، صديق الجدل، يصعد به إلى الماهيات حتى يدرك الحقائق في ذاتها ويتعلم الخير والفضيلة والعدالة والحكمة. فصورة الفيلسوف، عند أفلاطون، هي صورة الجدلي الذي يتجاوز كل فنون الخطابة والكتابة من أجل الكشف عن مجال المفاهيم واقتناصها وبلوغ المعرفة الكاملة؛ وبالتالي الحياة الكلية وسط التجريدات الأكثر صفاء مع ازدراء الغير واحتقار العالم الواقعي. فكما أن ولوج الأكاديمية عند أفلاطون مشروط(28)، فكذلك ولوج عالم الأفكار الذي لا يمكن ولوجه إلا بالتحرر من قيود الكهف لمعانقة الشمس الحقيقية. وهذه إمكانية تخص الفيلسوف دون أصحاب القوى البهيمية، قوة الغضب والقوة الشهوانية، ولا حتى ذوي الحس المشترك حتى ولو كانوا من الرعاع السياسي . وإذا استثمرنا النظرة السابقة لليوطار، فإن الحاصل المترتب يفيد أن العالم الصادق لا يمكن ولوجه إلا من طرف الرجل الصادق، رجل العالم العضوي الذي يستطيع أن ينتج ما يطابق الفكرة الصادقة، فالفيلسوف هو هذه النسخة، النسخة الأيقونة، الفيلسوف وحده يعرف طبيعة الأشياء كما هي في ذاتها وفي ماهياتها، فهو أيضا الوحيد الذي باستطاعته استعمال الأشياء الموافقة للموضوعات المراد معرفتها معرفة صحيحة. أما النسخ الرديئة – السيمولاكر – فمحكوم عليها بالبقاء في عالم الظاهر، عالم الأشباه والخداع.
عالم المثل أو العالم الصادق كما نظر له أفلاطون وناظر حوله سقراط ممكن الولوج، لكن هذا الإمكان يبقى بعيد التحقق، فهو لا يلزم إلا فئة مخصوصة، فئة الخاصة. فالعالم الصادق يتصف بالإمكان النسبي، ولوجا وإدراكا.
q معيار الأفضلية: ومداره على أن تصور عالم المثل عند أفلاطون يتضمن الإقرار بأفضلية العالم الصادق و لا أفضلية العالم الكاذب، عالم الظاهر، عالم الكهف. وإذا كان هذا الاعتقاد يخالف المتعارف عليه في نظرية العوالم الممكنة حيث أن عالم الواقع هو أفضل العوالم المتعددة الممكن وجودها، فإن أفلاطون يعتبر أن عالم الأيقونة أفضل من العالم الرديء. فالتمييز بين النسخة الجيدة والنسخة الرديئة هو في حد ذاته احتقار لعالم المظاهر وإعلاء لعالم المثل. هنا نشتم تبخيس عالم الواقع واحتقار قيمه التي هي قيم الحياة كما نحياها في العالم المحايث.
إذا كان التأويل الأفلاطوني قد أقام مشروع العالم الصادق على ضرورة قضاياه الكلية – الأفكار- وعلى إمكانية تحقق هذه الكليات في عالم متعال عن عالمنا الأرضي مع جعله من صفة الأزلية والأبدية لعالمه الصادق مبررا للانتقاص من عالمنا الظاهرباعتباره عديم القيمة، عالم رديء، فإن نيتشه سيعترض على هذا التأويل، فالعالم الصادق مجرد خرافة ليس لها ما يقابلها في الوجود المحايث. إنها خرافة لا تستوفي خاصية التحقق، فهي لا توجد إلا في ذهن أفلاطون، إنها من نسج خياله. ولذا فإن هذا العالم يصبح مستحيلا. فالولوج يقتضي أولا الوجود. أو بلغة المناطقة لتصح عبارة العالم لابد من المقتضى، أي ما يقتضيه القول لغة وعقلا. فللحكم مثلا على القضية " ملك فرنسا أصلع " لا بد أن يوجد أولا ملك لفرنسا، بعد ذلك يمكن الحكم عليه. كذلك عالم أفلاطون، لنحكم عليه بإمكانية الولوج أوعدمه لابد له من وجود. والحال أنه مجرد خرافة فهو عالم مستحيل، أي ممتنع الإدراك والولوج. وبذلك سيحكم عليه نيتشه بأنه " فكرة لم تعد صالحة لشيء، وليست حتى بملزمة، شيء مهمل، فكرة غدت فائضة عن اللزوم، وبالتالي، فكرة مدحوضة: لنلغها إذن."(29)
هنا يجد نيتشه نفسه ملزما بعد ضربات المثل-الأوثان الأفلاطونية بمطرقته، مضطرا لقلب الأفلاطونية بتصحيح صورة العالم.
لكن، لما كانت خرافة العالم الصادق عند أفلاطون مجرد غلط من بين الأغلاط التي ابتلي بها تاريخ الفلسفة، فإن نيتشه أصبح مجبرا للعودة إلى حلبة الصراع – الملاكمة – لمواجهة الخصم/ العدو التاريخي. إنه العدو ممثلا في التصور المسيحي للعالم الصادق. هنا تظهر الجولة الثانية:
2 – الإمكان البعيد للعالم الصادق :
يحيلنا نيتشه إلى اللحظة الثانية من حكايته – خرافة العالم الصادق-، بهذا القول المختصر:
- " العالم الصادق غير قابل للولوج الآن، لكنه موعود، للحكيم والمتدين والفاضل ( "للخطاء الذي كفر عن ذنبه").
( تطور الفكرة: تصير أكثر رهافة، أكثر مراوغة، أكثر استعصاء على الإدراك، تصير امرأة ، تصير مسيحية...)
فهم مضمون هذه الومضة النيتشوية وفك معانيها يقتضي الرجوع إلى التكافؤ المنطقي الذي يقيمه نيتشه بين أفلاطون والمسيحية، فهذه الأخيرة تساوي أفلاطونية معدلة، معتدلة ومخصصة للشعب. ولذا ما يمكن أن يجري على الطرف الأول من المعادلة ينطبق على الطرف الثاني. لكن الملاحظ أن نيتشه لا يتوقف عند هذا الأمر. فهو يضيف قيدا جديدا يجعل المسيحية تختلف عن الأفلاطونية في تصورها للعالم الصادق. هذا القيد هو "عدم الولوج" أو تعذر الولوج أو امتناع إمكانيته. فالنص يصرح أن العالم الصادق غير ممكن الولوج، للحكيم، للمتدين، للفاضل، ولا حتى للخطاء الذي كفر عن ذنبه. هذا التمييز يولد لدى القارئ المتفطن عدة مفارقات. فإذا سلمنا، حسب نيتشه، بالتكافؤ بين العالمين أو بالتساوي بين الأصل والفرع، فكيف يكون العالم الصادق الأفلاطوني ممكن الولوج ويكون نفس العالم في التصور المسيحي غير ممكن الولوج؟
تجاوز هذا الإشكال يفترض استحضار موقف نيتشه من التأويل الكنسي للعالم، وكيفية تموقعه على طرف النقيض والضد من المسيحية عامة، ومن نظرتها للعالم الصادق خاصة. هذا الموقف الذي لا يخلو موقع من المتن النيتشوي من الإشارة إليه بحقيقة اللفظ وليس بالاستعارة. ويكفي أن نشير إلى أن نيتشه لم يتوان قط في النزول بضربات مطرقته على كل تنظير للعالم الآخر. فهو يصرح أن " تأليف خرافات عن "عالم آخر" غير هذا الذي لدينا أمر لا معنى له البتة، علما أن غرائز الثلب والتحقير والتشكيك في الحياة متمكنة في داخلنا: أن ننتقم بالنهاية من الحياة ببدعة متخيلة لحياة " أخرى "، حياة أفضل".
لهذا، خصص نيتشه فصلا كاملا في مؤلفه " هكذا تكلم زرادشت " للرد على دعاة العالم الآخر. فهؤلاء حسب رأيه لم يختلقوا فكرة هذا العالم إلا للهروب من عالم الواقع، فنظرا لعجزهم عن مواجهة المعانات والآلام التي تميز هذا العالم ابتدعوا هذا العالم ظنا منهم أنه العالم الصادق. وبعملهم هذا يكونوا قد ابتدعوا نوعا من أسلوب العزاء والمواساة التي يعول عليا في تخفيف أمراضهم. هذه المهمة هي التي شغلت الدرس الجينالوجي للأخلاق. حيث أن نيتشه قام بالتشريح الطبي للأصل المرضي للمثل الزهذية التي ابتدعها التطبيب الكهنوتي لتغيير اتجاه المعاناة وتأسيس عالم الضعفاء. العالم الآخر المضاد للقيم النبيلة للحياة. فالعوالم الآخر ، في نظر نيتشه، ما هو إلا خرافة تسببت في وجودها الآلام والشعور بالعجز. عوالم أوجدها الإنسان المتعب، الإنسان المريض. (30)
يمكن لهذه المعطيات أن تسعفنا في إعادة قراءة موقف نيتشه من العالم المسيحي، العالم الصادق الثاني. وبتوظيف بعض ما تقرر في نظرية العوالم الممكنة، نصوغ الملاحظات التالية :
q استحالة العالم الصادق الثاني: إذا كان نيتشه يؤكد في العبارة المخصصة للعالم الصادق المسيحي أن هذا العالم " غير ممكن الولوج الآن، لكنه موعود"، فإن ما يسترعي الانتباه ويتطلب التروي في التحليل هو استخدامه للفظي " الآن " و"موعود". والمعلوم أن كلمة " الآن " تصنف عند أهل المنطق ضمن ما يصطلح عليه بالجهات المنطقية الزمانية وكلمة " موعود "تحيل إلى الأصل التجاري للقيم الأخلاقية، قيم الدائن والمدين كما هو معمول بها في فضاء البيع والشراء. لهذا فاستخدام نيتشه للقيدين في هذا السياق يفهم منه أن العالم الصادق ليس ممكن الولوج الآن. فرغم أن المعنيين به هم نفسهم المعنيون بعالم المثل الأفلاطوني، فإن ولوجه يبقى مقيدا بعامل الزمان، فالفيلسوف، المتدين والأخلاقي رغم أنهم يعتقدون في وجود العالم الأخر فإنهم يسلمون بتحققه لاحقا، في عالم ما بعد الحياة، ما بعد الممات. إنه عالم موعود به في الأصول المسيحية. إنه الجزاء ليس فقط لهؤلاء بل حتى للخطاء المكفر عن ذنبه. وكل من أغفل هذا التكفير ستكون عاقبته العقاب، فكل ذنب يستوجب العقاب. هذا ما يفيده خطاب الوعد بالعالم الثاني، العالم الصادق. إن المسيحية، في نظر نيتشه، باختلاق فكرة العالم الآخر " نفثت السم في الحياة، ونفت الواقع من جراء فكرة الخطيئة وهدمت نظام المراتب من جراء مساواة النفوس أمام الإله".
q نقض معيار الأفضلية : لما كانت المسيحية تعلي من شأن العالم الموعود، بنفس النظرة الأفلاطونية، فإنها تحتقر بذلك عالم الحياة، عالم الصيرورة معتبرة أنه عالم المعاناة والشرور والآلام. مفضلة عالم الماوراء الذي تنزله مرتبة عالم السكينة والثبات والدوام. فالحياة الأخرى هي " الحياة الأفضل " خلافا لنظرية العوالم الممكنة التي تسند الأفضلية لعالم الواقع. ولهذا يعتبر نيتشه " المسيحية مثل النباتات السامة التي تنمو من صلب التعفن، بظلها تسمم الحياة بأبخرتها على مدى آلاف السنين..."
لهذه الاعتبارات يلخص زرا دشت موقف نيتشه من العالم الصادق الثاني بادعائه أن العالم الثاني جد خفي عن الناس، فهو ليس سوى سماء من عدم. فولوجه غير ممكن الآن، ولا هو ممكن غدا، هو مجرد وعد للإله المسيحي. لكن هذا "الإله مات". فلم يبق إلا العدم. والنتيجة هي عدم تحقق العالم الآخر، حالا واستقبالا. أي أن العالم الصادق مستحيل.
هنا يبدو أن الجولة الثانية من ضربات نيتشه قد انتهت، لكن ما أن يهم الفيلسوف بمغادرة الحلبة حتى يضطر للعودة إلى جولة جديدة. فقد أدرك أن الإنسان الحديث، رغم إعلانه " موت الإله "، فإنه بقي حبيس ظلال هذا الإله. إنه بمجرد ما حطم أوثان المسيحية حول العالم الآخر حتى سقط في الميتافيزيقا - المسيحية المتنكرة -، فالإنسان سيعوض الإيمان بقناع العقل. هذا العقل الذي ليس إلا فكرة مسيحية محنطة، مومياء – أعاد إحياءها كانط – المسيحي المتنكر- لإعادة إنتاج العالم الصادق - في شكليه الأول والثاني – بأسلوب جديد. هنا يجد نيتشه- المحارب نفسه مرغما للعودة إلى ساحة المعركة. بعد أن قضى لحظة مع المسيحية باعتباره امرأة. والمرأة لا تحب إلا رجلا محاربا !كما يقول.(31)
سنكون مرة أخرى مشتاقين لمتابعة معركة نيتشه مع حكاية - خرافة العالم الصادق. لكن الجولة الثالثة بطلها مصارع عتيد، فهو من أشهر دعاة الحداثة وأبرز المبشرين بالأنوار. إنه الفيلسوف كانط. فما هو موقف نيتشه من التأويل الكانطي للعالم الصادق ؟
3 - الاستحالة العقلية للعالم الصادق :
نحن إذن أمام نص ثالث، إنه لقطة جديدة من مصارعة الكاتش. وهذا ما تتضمنه العبارة القصيرة التالية:
- العالم الصادق، غير ممكن الولوج، غير مدرك، غير مثبت، غير موعد به، لكنه، بفعل التفكير فيه، عزاء، التزام وواجب.
( في العمق هي الشمس ذاتها، لكن من خلف الغيوم والريبة: الفكرة وقد أضحت شاحبة، شمالية، كونكسبوركية.)
تقريب معاني هذه العبارة يتطلب الإشارة إلى أن نيتشه يعترف بإيجابيات النقد الكانطي. فنيتشه يذهب إلى أن أهمية كانط في تاريخ الفلسفة ترجع إلى كونه أول من قدم نقدا للعقل، العقل الخالص والعقل العملي. فبنقده لثوابت العقل يكون قد زعزع بذلك المعتقدات الميتافيزيقية والحقائق الأبدية للفكر الغربي.
فالتأويل الكانطي بين أن مقولات العقل، وجميع التصورات المستخلصة من العالم المحسوس عن طريق الإدراك الحسي لا يمكن أن تدعي معرفة الشيء في ذاته، ولا أن يكون لها أي استعمال آخر غير جعل التجربة ممكنة. فلا يمكن – حسب كانط – للعقل العلمي أو النظري أن يعرف الشيء في ذاته أو أن يتجاوز حدود الظواهر الحسية، ذلك لأن مقولاته المقتصرة فقط على إدراك الأشياء من حيث هي في مكان وزمان معينين لا يمكن استخدامها استخداما ترانسندتاليا من أجل إدراك بواطن الأشياء وجواهرها.(32)
لكن هذا التقسيم بين عالم الحس، عالم الظواهر، وبين عالم الشيء في ذاته، عالم "النومين"، هو، حسب نيتشه، تعبير عن عرض مرضي، إنه الانحطاط ذاته. فكانط بهذا التقسيم لم يعمل سوى على إحياء التقسيم الأفلاطوني والمسيحي للعالم: العالم الصادق والعالم الكاذب.
q الاستحالة المطلقة للعالم الصادق : يتضح من خلال النص السابق أن العالم الصادق ليس ممكنا مطلقا، فهو غير قابل للولوج قطعا. فالعقل لا يمكنه إدراكه. هذا هو التبرير الكانطي لإثبات استحالة هذا العالم الصادق. وتفصيله يفيد أن :
- العالم الصادق لا نستطيع إقامة الدليل على وجوده ولا نتوفر على حجج تدعم هذه الإمكانية.
- العالم الصادق غير موعود به كما هو الشأن في الإيمان الديني.
- العالم الصادق هو عزاء وسلوى، إن قيمته تتجلى في العقل العملي، في الأخلاق، في الواجب الالتزام بمعناهما الأخلاقي.
نستنبط من هذا الكلام أن التأويل الكانطي للعالم يقر بوجود عالم من القيم التي لا تقل حقيقة عن الأشياء المادية. هذا ما يعنيه كانط يقوله : "... ومن هنا يتبع أن الإله والحياة الأخرى هما فرضيتان، لا يمكن وفقا لمبادئ العقل المجرد فصلها عن الواجب الذي يفرضه علينا ذاك العقل بالذات...".(33) وهذا معناه أن عدم قدرة العقل المجرد على إدراك هذا العالم و تعذر ولوجه لا يعني إطلاقا عدم وجوده، وإنما يعني عدم قدرة العقل على تجاوز المحسوس إلى ما ورائه، فالإله والنفس وحرية الإرادة هي مسلمات ضرورية لإقامة الأخلاق يسلم بها العقل العملي، ولا يستطيع العقل النافد بلوغها ليتناولها على أساس من الفحص والبرهان.
فالمعروف أن كانط آمن بوجود حقيقة كامنة لا زمانية، وهذا التصور للحقيقة يعلو على الحقائق الجزئية في أية ثقافة أو عند أي فرد. ولقد أطلق كانط على هذا المجال للحقيقة "اللازمانية" اسم "النومين" أي الأشياء في ذاتها التي تعارض الظواهر التي تظهر لنا من خلال الحواس. ومهما حاولنا استخدام عقولنا وإدراكاتنا الحسية، فلن نستطيع أبدا أن نعرف عالم "النومين" اللازماني. رغم التأكيد على وجوده، إلا أننا مستبعدون عنه لقصور حواسنا من جهة، وحد الزمان والمكان والسببية من جهة أخرى. لكن نيتشه رفض رفضا قاطعا فكرة الحقائق الأزلية، فكل فكرة تدور في هذا الإطار "اللازماني" ليس لها معنى على الإطلاق. واتهم نيتشه "كانط" بالتعصب الأخلاقي الذي يرجع لغريزة كانط اللاهوتية، فالفضائل الأخلاقية ينبغي أن تكون من ابتكارنا، وأن تكون دفاعنا وضرورتنا الشخصية.(34)
4 - الاستحالة الكلية للعالم الصادق : بعد القطع مع التأويل الأخلاقي الكانطي للعالم الصادق، الذي ليس سوى تصور مسيحي متنكر، ينتقل نيتشه إلى النظر في التصور الحديث للعالم الصادق كما يتجسد في العلم، وبالضبط في الاتجاه الوضعي للعلم. ولما كان الإنسان الحديث- الإنسان المريض -، وكانت الحداثة بمؤسساتها وكل قيمها لم تسلم من ضربات مطرقة نيتشه، فإن نقده للعلم، وبالضبط التصور العلمي الحديث للعالم لا يخرج عن محاولاته تجاوز معضلات الحداثة. فبعد جولات الصراع مع العالم الأفلاطوني والعالم المسيحي ثم العالم الكانطي، لم يتغافل نيتشه في نصه تناول الطرح الوضعي لموضوع العالم الصادق. وهذا مختصره :
- العالم الصادق، غير ممكن الولوج، على كل حال لم يدركه أحد بعد، وكعالم لم يدركه أحد، فهو مجهول أيضا. لذلك فهو ليس عزاء وليس بمخلص أو ملزم : بأي شيء يمكن لشيء مجهول أن يلزمنا. ( صباح قائم،التثاؤب الأول للعقل. صياح ديك الوضعية.)
يلخص الطرف الأول من هذا القول الأطروحة التي تدعي أن العالم الصادق غير ممكن الولوج، لا حالا ولا استقبالا، لا بمعنى الإمكان القريب ولا البعيد، فإمكانية الولوج متعذرة كليا، بل ومنعدم الإدراك مطلقا، إنه عالم مستحيل بإطلاق. أي أن العالم المتعالي، العالم الآخر والبعيد لا يمكن ولوجه، سواء على مستوى النظر الأفلاطوني، ولا عنى مستوى العمل الكانطي، ولا حتى في الاعتقاد والإيمان المسيحي.
يمكن تفهم هذا التوجه العلمي الحديث في تأويل العالم الصادق. فميلاد الوضعية في التاريخ مؤسس على رغبتها في تجاوز التفكير الخرافي والمثالي في العالم، وكذا الاعتماد على تفسير مقنع للظواهر، بالتوسل بالمنطق والتجريب والتحقيق والقياس. مع المصادرة على السببية والعلية والحتمية. ويعتبر موقف أوغست كونت شاهدا على هذا المعطى.
رفض العلم الوضعي للعالم الصادق مبناه إذن على انعدام الدليل على إدراكه، واقعيا وتاريخيا، فلا يمكننا افتراض وجوده. وعدم إدراكه يستلزم خاصيته الأساسية والمتمثلة في كونه عالما مجهولا. فبمقتضى معيار اليقين يرفض العلم العالم الصادق، العالم الآخر. فهذا العالم يفتقر إلى وسائل الإثبات اليقينية. فما صحة هذا الرفض الوضعي للعالم الصادق ؟
لا يتنكر نيتشه للخلخلة التي أحدثها العلم الحديث لمجموعة من الثوابت، فحلول العلم هو إشعار بالتحرر من قيود الغيب، فليل الظلمة يبدو أنه راح، وهاهي بوادر الصباح بدأت تظهر، فصياح الديك هو إيذان بقرب الانبلاج. لكن تثاؤب للعقل- كما ورد في النص – يشير إلى أن العلم الحديث مازال مشدودا إلى الماضي، مازال يحمل شيئا من ثقل الجمل. فالعلم كالعقل الحديث مازال لم يتحرر من ظل الإله رغم إعلان موته. لذا نصادف نيتشه يصوغ هذه المفارقة في التساؤل التالي : هل نجد في العلماء تصورا يناقض المثل الزهدي، وهل يشكل العلماء ضدا لهذا المثل ؟
رغم أن العلماء، اعتقادا منهم أنهم المفكرون الأحرار والأحرار للغاية، يدعون الوضوح الفكري يعتقدون أنهم منفصلون عن المثال الزهدي، فإنهم، حسب نيتشه، هم أبعد أن يكونوا عقولا حرة. فهم لازالوا يؤمنون بالحقيقة، وهم لا يرتبطون فقط بالحقيقة بل يتقيدون بها. وكل هذا يعبر عن زهد في الفضيلة، عن الإرادة المطلقة لامتلاك الحقيقة، هذه الإرادة التي هي بلا شك الإيمان بالمثل الزهدي نفسه. فبما أن دعاة العلم مهووسون بالإيمان بقيمة غيبية، بقيمة الحقيقة في ذاتها، فهم يرتبطون بالمثل الزهدي. فقيمة الحقيقة وحجتها هو المثل الزهدي، فهو يضمنها ويرسخها، وهي تبقى ببقائه وتختفي باختفائه.
المؤكد أن نيتشه لا يعترف بعلم وضعي، علم مستقل عن أي اعتقاد أو أية فلسفة، علم يقني خالص. فلا يوجد، حسب ادعائه، في المنطق السليم علم دون فرضيات، دون افتراضات، لا يمكن تصور مثل هذا العلم، فمثل هذا التصور يعتبر مغالطة، فالعلم يفترض بالضرورة وجود فلسفة أو إيمان سابق عليه، يعطيه قيمة، يضفي عليه معنى ويرسم له حدا ومنهجا، بل ويعطيه الحق في الوجود. وكل من يدعي أن بإمكانه أن يفعل العكس ويقيم العلم على أساس يقيني محض سيكون عليه أن يطلب المستحيل.
يخصص نيتشه الفقرة 344 من مؤلفه" العلم المرح" لنقض إلغاء التصور الوضعي للعالم الصادق بمبرر كونه مجهولا وغير مدرك وغير واضح. وهنا ملخص قوله :
" يثبت الرجل الصادق، بتطرفه وجرأته في صدقه بالشكل الذي يفترضه الإيمان بالعلم، إيمانه بعلم آخر غير عالم الحياة والطبيعة والتاريخ، وبإثباته هذا "العالم" ألا يكون واجبا عليه أن ينفي نقيضه، اعني " هذا العالم " الذي هو عالمنا نحن؟ لا يزال إيماننا بالعلم مبنيا على اعتقاد غيبي نحن أيضا مفكرو الوقت الحاضر الذين يبحثون عن المعرفة، نحن الذين لا اله لنا والمناهضون للماورائيين، نحن أيضا نستمد شعلتنا من تلك النار التي أشعلها اعتقاد عمره الآلاف السنين، من هذه المسيحية التي كانت أيضا عقيدة أفلاطون والقائلة أن الرب هو الحقيقة وان الحقيقة ربانية. ولكن ماذا لو أن الإيمان بهذه العقيدة صار يتناقص ولم يعد أي شيء يبدو ربانيا عدا الخطأ والضلال والكذب، ماذا لو اكتشفنا أن الرب كذبة اختلقناها، كذبة دامت أمدا طويلا؟ يجدر بنا أن نتوقف هنا لحظة ونتأمل طويلا. يحتاج العلم نفسه إلى تبرير، لا يزال العلم غير قادر على تعويض المثل الزهدي، فهو نفسه يحتاج إلى مثال للقيمة، إلى قوة مبدعة للقيم يستطيع خدمتها وتمنحه الثقة بنفسه. وليست لعلاقته بالمثل الزهدي علاقة عداوة، بل تسول لنا نفسنا اعتبار العلم هو القوة المحركة للتطور الداخلي لهذا المثل. يوجد العلم والمثل الزهدي في نفس الميدان ، ويجمع بينهما تقدير مبالغ فيه للحقيقة، بعبارة أدق: يجمعهما اعتقاد بان الحقيقة يتعذر تقديرها، ولا يمكن انتقادها، بحيث إذا حاربناهما فلن نحاربهما إلا مجتمعين، وإذا سعينا إلى تقدير قيمة المثل الزهدي فسنضطر الى تقدير قيمة العلم. هذا العلم الحديث" هو الآن افضل حليف للمثل الزهدي. مما لا شك فيه أن الانتصارات الشهيرة التي حققها العلماء هي انتصارات فعلا، ولكن على ماذا؟ فالمثل الزهدي لم ينهزم أبدا، بل على العكس، كلما هاجمه العلم وهدم أحد أسواره، أي أحد الأعمال المتقدمة التي أحاط بها نفسه فجعلت مظهره بشعا، فكلما تقوى اصبح اكثر دقة وروحانية واغراء."(35)
بعد كل هذه الجولات، يفهمنا نيتشه أنه أنهى المعركة، فقد كشف لنا عن المبررات التي استندت لها خرافة العالم الصادق بكل أشكالها، المجردة و الخفية والمتعالية و الوضعية. عوالم أماط اللثام عن استحالتها، فهي كلها تفضي إلى المحال، إلى العدمية. لهذا ينقلنا نيتشه إلى أرض جديدة، إلى لحظة الحسم مع العالم الصادق كفكرة وكمنظور. هذه اللحظة هي بمثابة تجاوز للكهنوت، للمثالية وللحداثة. هنا تنهض العقول الحرة، تبعث طيور الفنيق من جديد. إنه زمن الفلاسفة الجدد الذين سيعتبرون أن" العالم الصادق، فكرة لم تعد صالحة لشيء، وليست حتى بملزمة، غير صالحة، فكرة غدت فائضة عن اللزوم، وبالتالي، فكرة مدحوضة : لنلغها إذن !" ؟
نجد توضيحا لهذا الموقف في موقع آخر من المتن النتشوي، حيث نقرأ :
"مازلت محتفظا ببعض الكلام اللاذع للفلاسفة الذين سيعاند غضبهم الأعمى بكرة أنهم كانوا مخدوعين. ولم لا يخدعون؟ فالإيمان بأن للحقيقة قيمة أفضل من الظاهر، مجرد حكم أخلاقي مسبق... علينا أن نعترف بأن الحياة غير ممكنة دون منظور كامل من الاحتمالات والظواهر، وأنه إذا ما أردنا أن نلغي ال"عالم الطاهر" نهائيا بالنقمة والسذاجة الفاضلة اللتين يزرعهما بعض الفلاسفة فيه. وافتراضا أن هذا الإلغاء ممكن، فإنه لن يتبقى من " حقيقتكم " أي شيء كذلك. بل ما الدافع في الواقع إلى إجبارنا على التسليم بأن هناك تعارضا جذريا بين ال"حقيقي" وال"كاذب"، ألا يكفي أن نقر بدرجات ما في الظاهر، كما يقال، درجات ألوان وتالفات شبه صافية وشبه داكنة، نسب أضواء وظلال مختلفة، إذا شئنا استعمال الفانين التشكليين."
لكن قرار إبطال العالم الصادق ليس عملية سهلة. فإلغاءه قرار خطير. فهو لا يختلف عن قرار قتل الإله. فإعلان موت الإله خلق قيما جديدة، لكنها لا تختلف عن سابقتها إلا في الشكل، أما المضمون فهو نفسه. لقد تم فقط استبدال قيم عدمية، أوثان الإنسان الأخير، بقيم عدمية أخرى، أوثان الإنسان المتقدم. لفهم ذلك يمكن تستعير أن مفهوم العوالم المتوازية المستعمل في نظرية العوالم الممكنة.
5 - العالم الصادق كعالم متواز : إن تناول العالم الصادق، بالسلب أو الإيجاب، بإثباته أو نفيه، يفترض استحضار عالم آخر، عالم مخالف، مناقض للعالم الصادق من حيث مبادئه، خصائصه وقضاياه. فمثلا عالم المثل الأفلاطوني يستدعي افتراض عالم الكذب، المعتبر عالما ناقصا، فداخل الكهف تتخفى الحقيقة ويسيطر الوهم. فرغم أن أفلاطون لا يصرح بذلك فإنه يفكر في العالم الصادق بصيغة التوازي مع العالم الكاذب, إنه نوع من التوازي العمودي. فرغم أن عالم الفكرة والمثال يتجه إلى الأعلى وأن عالم الظاهر يتجه نحو الأسفل، نحو الأرض، فإن العالمين متاوزيان. بحيث أن إثبات أحدهما يستلزم بالضرورة إثبات الأخر، وأن نفي أحدهما يستلزم تفي الأخر. نفس الشيء ينطبق على التصور المسيحي للعالم، فابتداع العالم الآخر، العالم الصادق الثاني، لا يتحقق إلا بنفي العالم الموازي له، عالم الحس والمظاهر. ولا يختلف الأمر عند كانط ولا عند الوضعية. فنكران العلم الوضعي للعالم الصادق ينتج عنه نفي العالم الظاهر. فالعلاقة المفترضة بين العالمين هي علاقة التوازي، علاقة تتطلب التلازم بين العالمين كما لو كنا أمام شيء وظله. فنفي أو إلغاء هذا الشيء يستلزم تقي وإبطال ظله. هذه هي النتيجة التي خلص لها نيتشه في نهاية حكايته لخرافة العالم الصادق. وهذا ما تقف عليه في هذه العبارة :
" لقد ألغينا العالم الصادق، أي عالم سيظل هناك؟ ربما العالم الظاهري؟...كلا ! فمع العالم الصادق قد ألغينا أيضا عالم الظواهر !
( ظهيرة: لحظة الظل الأقصر، نهاية أطول خطأ، أعلى أعالي الفلسفة، هنا يبذأ زرادشت)
إلغاء أحد العالمين يستوجب إلغاء العالم الآخر، فيكون الحاصل هو العدم، أي أن موقف الإلغاء يسقطنا في العدمية، ولكنها عدمية إيجابية، لأنها استطاعت أن تقطع مع خرافة العالم الصادق وتضع حدا لأطول غلط في تاريخ الفلسفة. فالعدمية في مظهرها الإيجابي تقتضي إرساء جغرافية جديدة للتفكير الفلسفي، فضاؤها ليس سماء المثل الأفلاطونية، وإنما هو سطح المحايثة حيث يحدث الحدث وتتدفق الحياة. يقول نيتشه : "نحن نروم ونستهدف أرضا بكرا لا أحد وضع حدودها، إنه ما وراء كل الأراضي والخبايا المعروفة إلى حدود الآن، عالم يفيض بأشياء جميلة، غريبة، مرعبة وإشكالية؛ وهناك كثير من الأراضي البكر التي يجب اكتشافها. لقد حان الوقت أيها الفلاسفة فلترضعوا مدادكم".(36) فما هو العالم الممكن لنيتشه ؟
6 – الإمكان الجدري للعالم :
لما كان العالم الصادق لا يوجد لا في الأذهان ولا في الأعيان، وكان مجرد خرافة استبدت بتاريخ الفلسفة، منذ أفلاطون حتى العصر الحديث، حيث أختلق هؤلاء، إضافة إلى المسيحية، خيالات وأوهام حول العالم الصادق ظنا منهم أنه المخلص من المعاناة والآلام التي هي من صميم هذا العالم، أي العالم الأفضل، وإذا كان نيتشه أعلن عن القطع الجذري مع الأغلاط التي وقع فيها كبار الفلاسفة في منظورهم للعالم، فإنه كان ملزما لبسط منظور جديد وتأويل مغاير للعالم الممكن.فما هو هذا العالم ؟
مقاربة هذا التساؤل تقتضي منا تسجيل بعض اللوازم المترتبة عن المقدمات السابقة، وهي :
- لا يقبل نيتشه تعويض العوالم المستحيلة – العوالم الصادقة – بعالم آخر، عالم خارج عن هذا العالم، عالم الأرض، هنا والآن. العالم عند نيتشه ليس "العالم المتسامي" بمعنى العالم المتجاوز لعالمنا، عالم الحواس، أي ليس عالم الأفكار والمثاليات والمطلقات والثوابت والقيم الأخلاقية. فما يطمح إليه نيتشه هو التخلص من التمييز القديم بين العالم الصادق، العالم الحقيقي وعالم المظاهر، بإبقاء هذا العالم الأرضي فقط ، أو بمعنى آخر، إن الفكر النيتشوي يقوم على رفض الفكر الآخر القائم على النظرة الثنائية التي فحواها أنه إلى جانب عالمنا الوهمي، المتغير، المتناهي، يقوم عالم حقيقي خالد، مناهض للعالم الظاهر.
- يشارك نيتشه دعاة نظرية العوالم الممكنة اعتقادهم أن هذا العالم هو أفضل العوالم. يبدو أننا على مرأى عالم فيه وفرة كبيرة من الأشياء الجميلة، الغربية والمريبة، المرعبة والرائعة. عالم الصحة الكبرى، عالم نستمتع فيه، عند كل محنة، بصحة أفضل.(37)
- لا تعني أفضلية العالم أنه عالم الثبات والهدوء، عالم الاستقرار والسكينة. العالم هوالتغير والصيرورة بلا ثبات. هنا نجد تصورا جديدا لهذا الوجود على نحو لا يفهم فيه أنه عكس الصيرورة، بل يحمل الصيرورة في داخله. وإذا كان التأويل الميتافيزيقي السابق ينم عن كراهية الصيرورة لمناقضتها للأبدي والسرمدية ولمفارقتها لفكرة العالم الثابت، فإن نيتشه سيوحد بين الوجود والصيرورة، ويقرنهما معا fفكرة " العود الأبدي ".(38)
- خلافا لخصائص العوالم الممكنة، ليس العالم عند نيتشه متسقا، بل هو متناقض. وليس تاما ولكنه ناقص. إنه عالم اللانظام. ففي العالم فوضى الوجود ومتاهته. " إن طبيعة كل العالم هي منذ الأزل طبيعة الفوضى، ليس بسبب غياب النظام، التمفصل، الشكل، الجمال، الحكمة، وذلك مهما تكن مقولاتنا الجمالية الإنسانية... فما هو بكامل ولا جميل ولا نبيل، ولا يريد أن يحاكي شيئا من هذا القبيل، إنه لا يطمح لأن يحاكي الإنسان... إنه لا يعرف قانونا قط. لنحذر أن نعلن أن هاك قوانين في الطبيعة. ليست هناك إلا حاجات.... منذ أن تعلم أنه ليست هناك غاية فإنك ستعلم أن لا صدفة هناك. فكلمة الصدفة ليس لها معنى إلا بالقياس إلى عالم الغايات."(39) ويظهر هذا التناقض في شخصيه نيتشه وفي فلسفته. فهو يجمع بين الانحطاط والصعود، بين المرض والصحة، بين المعاناة والمرح، بين ديونيزوس وأبولون، بين الظاهر والعمق، بين اللذة والألم.(40)
- العالم هو الحياة، فعالم نيتشه يتأسس على الحياة باعتبارها قيمة القيم، فالحياة هي مبدأ الكون، هي المنطلق والمقصد في العالم. والحياة لا نحتاج للبحث عنها في الخارج، لا في عالم الفكر ولا في العالم الآخر ولا في المتعالي، في" النومين". الحياة هي الحياة كما نحياها هنا والآن.
- العالم هو " إرادة القوة "، إنها الإرادة
التي يكتسب الإنسان قيمته من خلال مقدار القوة التي يستطيع تحصيلها والاستيلاء عليها. سيكون العالم المرئي من الداخل، العالم المعرف والمشار إليه انطلاقا من "خاصية معقوليته"، سيكون بالضبط "إرادة قوة"، لا غير.(41)
- عالم نيتشه تعدم فيه الحتمية والسببية بالمعنى الذي نجده في عالم الإمكان المنطقي. وهذا ما نقف عليه عند نيتشه في هذا التصريح : " لا يجب أن نرد "السبب" و"النتيجة" بطريق الغلط إلى جواهر، كما فعل علماء الطبيعة أو من سار على منوالهم... لا يجب أن نستعمل اللفظين إلا كمفهومين خالصين، أي كفعلين ناتجين عن التواضع والاتفاق وصالحين لتحديد والتفاهم لا لتفسير أي شيء ما. في "الشيء في ذاته" لا وجود للعلاقة سببية ولا للاقتران ضروري، ولا للحتمية السيكولوجية. هنا لا تكون النتيجة تابعة للسبب، لا يوجد "قانون". نحن وحدنا من اختلق السبب، التعاقب، المماثلة، النسبية، الإكراه، العدد، القانون، الحرية، العقل والغاية، كاصطلاحات. وعندما نقحم خطأ هذا العالم من الرموز المختلفة في ال"أشياء" وندمجه فيها كما لو كان ينتمي إلى " الشيء في ذاته "، فإننا نتصرف، كما نفعل دوما، أي أننا نخلق ميتولوجيا ما.
ولإعفاء القارئ عن حرقة السؤال حول إمكانية العيش في هذا العالم بهذه الصفات والخصائص. يجيبنا نيتشه بأن ذلك ممكن بواسطة " حب القدر "، وأن نقول لهذا العالم "نعم" !



#تفروت_لحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرياضة الفلسفية في زمن العدمية
- الإنسان اللاهث أو - إنسان : - هذا لي -
- القرف والاشمئزاز في المجتمع المعيف ( المعيوف )
- الإنسان الهجين و ثقافة - البغال -
- - أنا مدمن، إذن أنا موجود، عفوا أنا معدوم -
- راهن الفلسفة ورهان الفكر النقدي
- إشكالية تحديد معايير اختيار الكتاب المدرسي بالتعليم المغربي
- نيتشه : الفيلسوف طبيب المجتمع
- لدروس الخصوصية لعلوم التربية : صورة جديدة لأزمة التعليم المغ ...
- - الفلسفة كما نحيا بها - : تجربة بيير أَضُو Pierre Hadot
- الفلسفة والتربية : الإبهام المزدوج
- في الحاجة الى -الفلسفة التطبيقية-
- الفلسفة في متناول الجمهور : انتعاش أم انكماش
- درس الفلسفة بين : - الأستاذ - الطبيب - و - الأستاذ - الكناشي ...
- بعض مفارقات - مفهوم العقل - عند عبد الله العروي
- في التربية على حقوق الإنسان


المزيد.....




- قصر باكنغهام: الملك تشارلز الثالث يستأنف واجباته العامة الأس ...
- جُرفت وتحولت إلى حطام.. شاهد ما حدث للبيوت في كينيا بسبب فيض ...
- في اليوم العالمي لحقوق الملكية الفكرية: كيف ننتهكها في حياتن ...
- فضّ الاحتجاجات الطلابية المنتقدة لإسرائيل في الجامعات الأمري ...
- حريق يأتي على رصيف أوشنسايد في سان دييغو
- التسلُّح في أوروبا.. ألمانيا وفرنسا توقِّعان لأجل تصنيع دباب ...
- إصابة بن غفير بحادث سير بعد اجتيازه الإشارة الحمراء في الرمل ...
- انقلبت سيارته - إصابة الوزير الإسرائيلي بن غفير في حادث سير ...
- بلجيكا: سنزود أوكرانيا بطائرات -إف-16- وأنظمة الدفاع الجوي ب ...
- بايدن يبدى استعدادا لمناظرة ترامب


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - تفروت لحسن - الممكن والمستحيل في نظرة نيشه للعالم