أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - محمد عادل زكى - مسخ الاقتصاد السياسى















المزيد.....



مسخ الاقتصاد السياسى


محمد عادل زكى

الحوار المتمدن-العدد: 4469 - 2014 / 5 / 31 - 00:52
المحور: الارشيف الماركسي
    


من الاقتصاد السياسى إلى الاقتصاد
تصفية الاقتصاد السياسى من محتواه الاجتماعى
(1)
الاقتصاد السياسى علم أوروبى النشأة، والنكهة. ظهر كى يفسر ظواهر(جديدة!) على المجتمع الأوروبى. ظواهر لم يألفها، بل لم يعرفها من قبل، أو هكذا صور المفكرون الرسميون الأمر: الآلة. السلعة. الإنتاج من أجل السوق. الهدر الاجتماعى. الرأسمال. الرأسمالى. القيمة الزائدة. المصنع. بيع قوة العمل. الأثمان. المبادلة النقدية... إلخ؛ فكان من المتعين ظهور العلم المفسر لهذه الظواهر والكاشف عن قوانينها الموضوعية. ولذا ظهر الاقتصاد السياسى كعلم هدفه البحث فى ظواهر نمط الإنتاج الرأسمالى. وبعبارة أكثر دقة: هدفه البحث فى القانون الموضوعى الذى يحكم عمليتى الإنتاج والتوزيع فى المجتمع. هذا القانون هو قانون القيمة. وحينما يمسخ هذا القانون، أو يحرّف تخريباً أو تخريفاً، يتوقف الحديث عن الاقتصاد السياسى. ويستدعى (علم!) الاقتصاد الذى يتجرعه علقماً الطلاب فى المدارس والمعاهد والجامعات فى العالم الرأسمالى المعاصر بوجه عام(1)، وفى عالمنا العربى بوجه خاص. ومصر بالأخص... وتكمن المأساة فى استمراء الخلط بين الاقتصاد السياسى والاقتصاد، بل فى الكثير من الأحيان، كما سنرى، يتم تلقين نظريات الاقتصاد بداخل كتاب كُتِبَ على غلافه الخارجى: محاضرات فى الاقتصاد السياسى، أو مبادىء الاقتصاد السياسى!
(2)
خلال قرنين من الزمان(1623-1871) تبلور الاقتصاد السياسى ونضج كعِلم إجتماعى انشغاله المركزى بنمط الإنتاج الرأسمالى (ابتداءً من قانون القيمة) فى الإنتاج عند آدم سميث، وفى التوزيع لدى ديفيد ريكاردو، وفى هيكل النظام لدى كارل ماركس. لكنه توقف عن التطور بعد صدور المجلد الثانى مــن كتاب رأس المال الذى أنجزه ماركس، المفكر لا الصـنم، وراجعه فريدريك إنجــلز عام 1885 فى هامبــورج. عدا بعض الدراســات والأبحاث الجــادة (إيمانويل، فرانك، أمين، سنتش، براون، بتلهايم، أوتار، على سبيل المثال بالطبع) إلا إنها لم تصل لمستوى الحديث عن استكمال عِلم لم يكتمل، ومن هنا كذلك، لا أعتبر إطلاقاً التيار الفكرى الذى سوف يتربع على عرش الفكر المؤسسى امتداداً لعِلم الاقتصاد السياسى، كما يقولون للطلبة الذين يتم إعدامهم فكرياً كل صباح، بل أعتبر ذلك التيار، وهو ما سنراه أدناه، ممثلاً لفن جديد يستلهم بعض الأفكار العامة جداً من عِلم الكلاسيك.
فكما علمنا أن ماركس تلقى عِلم الكلاسيك وحاول أن يستكمل بمقتضاه الاقتصاد السياسى، ولكنه كان أكثر قسوة من أسلافه الذين مفصلوا حول القيمة جملة من القوانين التى تتيح فهم النظام وتطوره عبر الزمن. وفى الوقت الذى كانت فيه شوارع أوروبا تغلى بالثورات العمالية، كانت المؤسسة التعليمية الرسمية (الجامعة الأوروبية) تعد العدة للحرب الفكرية المضادة.
- ما الذى يريده هؤلاء الثوار من العمال؟
إنهم يريدون حقهم فى القيمة الزائدة التى أنتجوها وذهبت إلى جيوب الرأسماليين والريعيين والمرابيين.
- ومنَ الذى قال لهم مثل هذا الكلام الخطير الذى سيطيح بعروش أباطرة المال؟
مَن قال لهم ذلك هو علم الاقتصاد السياسى.
- حسناً.
- القيمة! فلنمسخ القيمة. فلنقل لهم أن القيمة تُقاس بالمنفعة. وليس بعرق العمال.
- الاقتصاد السياسى! فلنفرغه من محتواه الاجتماعى.
- فلنخرب العِلم.
- ولنجعل من الاقتصاد السياسى علماً معملياً. فلنحوله إلى معادلات وأرقام واحصاءات.
- فلنصرف الأنظار عن المحتوى الطبقى والثورى لهذا العلم.
- فلنجعله على أرفف التاريخ.
- ونستبدله بعلم، أو هكذا نقول للناس، آخر. يخلو من الوعى بمعنى الحياة والهدف منها.
- ولنسم ذلك (علم الاقتصاد)!
وذلك هو الذى حدث تماماً مع تيار النيوكلاسيك، وفى المقدمة: فون ثنن(1783-1850) كورنو(1801-1877)، هيرمان جوشن (1810-1858) وليم ستانلى جيوفنز(1835- 1882)، كارل منجر(1840-1921)، الفريد مارشال (1842-1924) وفريدريك فون فايزر(1851-1926)، بوهم بافرك (1851-1914)، ولودفيج فون ميزيس (1881-1973)، وفريدريك هايك (1889-1992).
(3)
ولأن كتابنا مخصص لعلم الاقتصاد السياسى، فسوف نكون حاسمين فى عدم الخلط بين الاقتصاد السياسى الذى كف عن التطور، بل اختفى من الوجود الأكاديمى والحياتى اليومى، وبين (علم!) الاقتصاد كفن تجريبى مهيمن على فكر المؤسسة التعليمية وفكر المؤسسات النقدية والمالية الدولية كصندوق النقد والبنك الدولى. نقول ولأن كتابنا مخصص للاقتصاد السياسى كعلم نمط الإنتاج الرأسمالى المتمفصل حول قانون القيمة، فلن ننشغل بنقد موسع لهذا الاتجاه فى أبحاثنا الراهنــة(2)، ونكتفى هنا بتأكيــد اتفاقنا مع ما عبّر عنـه د. سمير أمين، وببراعة، فى أطروحة باريس عن"التراكم على الصعيد العالمى"، بشأن الفن الجديد الذى طغى على المؤسسة التعليمية الرسمية؛ إذ رأى أن فناً "للتسيير"وليس"للاقتصاد"هو الذى يَركن إليه منظروا الرأسمالية والإمبريالية العالمية، لكنهم يغلّفونه بغلاف العِلم إمعاناً فى التدليس والتضليل، فقد كتب أمين:"مات العِلم الاقتصادى الجامعى إذاً كعِلم إجتماعى ميتة العجز لصرفه النظر عن النظرية الموضوعية للقيمة. لكنه خلّف وراءه فناً فى التسيير. فالملاحظة التجريبية للارتباطات القائمة بين الظاهرات تتيح صياغة جُعبة من تقنيات العمل تتفاوت فى مدى فعاليتها. فبمقدار ما تكون مفاهيم العِلم الحدى، التى تدعى الأزلية لنفسها، مستقاة مِن ملاحظة نمط الإنتاج الرأسمالى. بمقدار ما يكون بوسعها إتاحة المجال لصياغة فن فى التسيير الاقتصادى، وهو فن لا شك فى عيبه ونقصانه لأنه يقوم على الملاحظة الوضعية بلا نظرية، سواء على الصعيد الميكرو/إقتصادى فن تسيير المؤسسة أو على الصعيد الماكرو- اقتصادى فن السياسة الإقتصادية الوطنية) فالتحولات البنيوية داخل نمط الإنتاج الرأسمالى نفسه، تجعل فن التسيير هذا أمراً لازماً. طبيعة الإشكالية فى هذا الفن تصعيد بعض المقادير الاقتصادية إلى حدّها الأقصى، الربح، أو الإنتاج، تحت وطأة بعض الصعوبات المعينة لا سيما صعوبات ندرة الموارد فى زمن معين، وفى نظام معين (هنا نمط الإنتاج الرأسمالى، الذى غالباً ما يُصار إلى إهمال ذكره) تحول دون أن نرى فى هذه المجموعة مِن التقنيات بديلاً للعِلم الاجتماعى: فالفن ينبثق عن عِلم، ظاهراً كان العِلم أم ضمنياً، والعِلم المضمر هنا هو العِلم الحدّى. إن أدلجة ما هو إقتصادى وحدها، وهذه هى الاقتصادوية، هى التى تُتيح إنشاء عِلم مِن ما لا يمكن أن يكون عِلما على الإطلاق" (3)
(4)
فمع الربع الأخير من القرن التاسع عشر، تبلورت أفكار المدرسة النيوكلاسيكية، والتى تُســوق خطأ على أساس من كونها إمتداداً لأفكار الكلاسيك، وكى تقوم بتصفية العِلم، علم الاقتصادى السياسى، من محتـــواه الاجتماعى. بل ولا ضـــرر كذلك لديها من عزله عن العلـــوم الاجتماعيــــة الأخرى، فـ (عِلم!) الاقتصاد بالنسبة للتيار النيوكلاسيكى هو عِلم معملى، والعلاقات الاقتصادية المتمثلة فى الإنتاج والتداول والتوزيع، بين أفراد المجتمع إنما هى علاقات بين الأشياء المادية، أى إنها ليست بالعلاقات الاجتماعية.
وعلى ذلك، يؤسس هذا التيار الفكرى، الذى سيكون تياراً جارفاً، فكرة المنفعة(4) كمركز تدور فى فلكه جُل العلاقات الاقتصادية بمفهموها الذى لا يرى سوى علاقات بين الأشياء المادية الخاضعة للمعادلات الرياضية والدوال الخطية والرسوم البيانية، وبتلك المثابة يكون التيار الفكرى النيوكلاسيكى قد قام بتقديم موضوعاً غير مسبوق للعِلم، علم الاقتصاد السياسى، يعتمد على تفسير هزلى للقيمة؛ إذ المبدأ الأساسى عند النيوكلاسيك هو أن المنفعة مقياس القيمة، وهو المبدأ الذى يُناهض، كما رأينا، ما قال به الكلاســـيك، وديفــــيد ريكاردو بوجـــه خـــاص، الذى اشــــترط المنفعة فى السلعة كى تكون محلاً للقيمة التبادلية، فالمنفعة، عند الكلاسيك، شرط القيمة. وليست، كما يقول النيوكلاسيك، مقياساً لها. هنا سيكولوجية المستهلك هى نقطة البدء التى على أساسها لا تتحدد قيمة السلعة فحسب، وإنما يتحدد التوزيع ذاته؛ بعد أن تم تعميم مبدأ المنفعة على عناصر الإنتاج. لاحظ: عناصر الإنتاج، وليس قوى الإنتاج. إذ تعطى كلمة"عناصر" دلالة على انفصال الأرض عن قوة العمل عن الرأسمال عن التنظيم. ومن ثم انفصال الريع عن الأجر عن الفائدة عن الربح، فلا يعد هناك من محل لتحليل التناقض بين قوى (عناصر) الإنتاج، أو تحليل الصراع بين دخول الطبقات الاجتماعية المختلفة المشاركة، وغير المشاركة، فى عملية الإنتاج الاجتماعى! وبالمناسبة مَن يتحدثون فى الاقتصاد الإسلامى يتكلمون بلغة النيوكلاسيك مطعمة ببعض الأيات والأحاديث، وفتاوى السلف الصالح!
القيمة إذاً، وفقاً لهذا التيار، لم تعد سمة للأشياء، كالحجم أو الوزن. إنما يقيم الأفراد السلع المختلفة على نحـــو متباين باختلاف الأوقات والأماكن. فالقيمة هنا لا تكمن فى ما بذل من عرق فى سبيــل إنتاجها إنما هى فقط فى عقول الأفراد(5). تكمن القيمة فى عقل المشترى. ومن ثم فالشىء نفسه تتباين قيمته فى نظر مختلف الأشخاص؛ فالناس، وفقاً للنيوكلاسيك، مثل المضاربين بالأسهم، فيعتقد أحدهم أن هذا هو الوقت المناسب للشراء، بينما يرى الآخر أن هذا هو الوقت المناسب للبيع. فالقيمة إذاً صارت مسألة متعلقة بالتقدير الشخصى. صارت من قبيل الأمور الوجدانية. الخلط إذاً واضح تماماً بين قيمة الشىء ومنفعته. ربما تتباين المنفعة من نظر مختلف الأشخاص. وذلك من طبائع الأمور. ولكن القيمة لا يمكن أن تتباين إلا إذا تم تمييع مفهومها وتم خلطه بالمنفعة مسخاً لمذهب الكلاسيك.
من هنا يكون يكون الحديث عن أن النيوكلاسيك لديهم نظرية فى القيمة هو من قبيل اللغو؛ فلم يكن أبداً لهم نظرية فى القيمة إنما هى نظرية فى المنفعة. تحاول تمييع مفهــوم القيمة. ولم يكـــن أبداًلهم نظرية فى القيمة التبادلية، إنما هى نظرية فى ثمن السوق. ومن هنا نستسخف كثيراً انشغال الأساتذة. أساتذة الاقتصاد فى الجامعات. بحشو دماغ الطلاب بكلام مرسل سيال عن نظرية القيمة عند النيوكلاسيك!
(5)
وإذ ما أردنا إيجاد تفسير غير أيديولوجى، بالمعنى الإيجابى، للأسباب التى أدت إلى ظهور هذا التيار، فيمكننا أن نبدأ تحليلنا من حيث الاهتمام المركزى للكلاسيك الذى تحدد بإشكاليات النمو والتطور والإنتاج وتوزيع الدخل، وكان ذلك أمراً مفهوماً ومبرراً، فقد ظهرت الآلة على المسرح الاجتماعى بمنتهى الوضوح والفاعلية وجعلت من جميع العلاقات الاقتصادية بين أفراد المجتمع علاقة تبدأ وتنتهى حيث الآلة الأمر الذى يستدعى ظهور التفسير العلمى لتلك الظواهر التي أخذت فى التبلــور فى تلك الحقبة.
أما النيوكلاسيك، فإن دائرة التبادل، وإنما إبتداءً من الاستهلاك، هى مجال الانشغال الأساسى، وفى حقل التبادل لدى النيوكلاسيك يظهر أشخاص هم من قبل الرجل الاقتصادى، الرشيد الحكيم، الذى يسعى إلى تحقيق أقصى قدر ممكن من الإشباع لحاجاته، ولكنه حال سعيه هذا تحكمه"الحاجات المادية غير المحدودة"، ويراد إشباعها بأشياء مادية"محدودة"ومن هنا لم يجد النيوكلاسيك بدّاً من دراسة العلاقة بين الإنسان والأشياء المادية دراسة كمية، تُهمل المظهر الكيفى للظواهر.
إرتبط التغير الفكرى الذى صاحب النيوكلاسيك بالتغييرات الاقتصادية والاجتماعية التى حدثت فى دول غرب أوروبا، إذ مرت هذه الدول بمرحلة من الركود وتخلصت منه، وصار الاعتقاد بأن الاهتمام بالنمو والتطور ليس ضرورياً كما فعل الكلاسيك، إذ أن النمو، فى تقدير الغالبية من مفكرى النيوكلاسيك، يتم من تلقاء نفسه دون حاجة جدية لدراسته وتفسير ظواهره على الصعيد الاجتماعى. كما ارتبط كذلك التغير الفكرى الذى صاحب ذلك التيار، بما لحق الواقع الاجتماعى على الصعيد الثقافى، إذ انتشر الخطاب العلمى، والسعى من أجل فهم الكون بشكل علمى، استناداً إلى العلوم الطبيعية والرياضيات؛ استكمالاً للرغبة الجماعية فى التحرر من صنمية الفكر ووثنية الرأى الذين فرضا الظلام على القارة بأسرها طوال قرون من الجهل والفقر والمرض والثيوقراطية وادعاء امتلاك الحقيقة، وهو الأمر الذى إنعكس على كتابات النيوكلاسيك، فرغبوا فى الابتعاد عن اللغة المصطلحية والتعبيرات اللفظية، واتجهوا بقوة نحو القياس الكمى عن طريق التعبيرات الرياضية، واستعاروا أيضاً بعض الألفاظ، والأفكار، من العلوم الطبيعية(5)، وظهروا أكثر ميلاً إلى تجريد الظواهر الاقتصادية، ولكنه تجريد جاء مُبالغاً فيه، وقادهم إلى النظر إلى علمهم (الجديد) كعِلم منفصل عن العلوم الاجتماعية والسياسية، والسياسية بصفة خاصة، الأمر الذى عنى فصل عِلم الاقتصاد عن دائرة التاريخ والعلوم الاجتماعية، وصار يُنظر له على أنه عِلم معملى بحت يحوى نظريات ثابتة قابلة للتطبيق دائماً، حالها حال ما يتعلق بالعلم المعملى. جاءت المدرسة النيوكلاسيكية، وقد وجهت سهام النقد العنيفة جداً لكتابات ماركس، بل ولبعض أفكار الكلاسيك نفسهم(6)، وبصفة خاصة إلى نظرية القيمة، ولكى تقدم موضوعاً جديداً كما ذكرنا (لعِلم!) الاقتصاد، ولكى تنشغل بدراسة العمل وليس العامل، والمنتج الفرد وليس الرأسمالى، والمستهلك المجرد وليس الإنسان المستهلك، رغبة فى نسف التحليل الطبقى الذى أعطاه ماركس.
(6)
إبتداءً من النصف الثانى من خمسينات القرن الماضى، طرأت على المدرسة النيوكلاسيكية تغيّرات واضحة؛ فلقد تحول اهتمام التحليل من الجزئى إلى الكلى، من تحليل توازن المستهلك والمنتج، إلى تحليل توازن الاقتصاد القومى.
جاء هذا التبدل كبلورة لما أسهم به ليون فالراس (1834-1910) فى العودة إلى استخدام تحليل التوازن الشامل بكيفية لم تكن معهودة من قبل؛ وبطريقة خاصة فى التحليل باستخدام نظاماً من المعادلات الرياضية فى محاولته للبحث عن التوازن الاقتصادى العام. وقد ظلت هذه التحولات فى حقل التيار النيوكلاسيكى فى الخمسينات والستينات من القرن الماضى محصورة فى مجال النظرية الأكاديمية، والمراجع والمؤلفات العلمية. أما على الصعيد السياسى الاقتصادى فلم يكن لها أدنى تأثير، فخلال تلك الفترة كان مذهب جون مينارد كينز (1883-1946) يشهد قمة انتصاراته وطغيانه الفكــرى، واضعاً ما عــداه مـن مذاهـــب وأفكار فى الزوايا المعتمة، فحتى نشـــوب الحرب العالمية الأولى، كان مذهب الحرية الاقتصادية سائداً إلى حد بعيد فى الأوجه المختلفة للنشاط الاقتصادى. ولكن ما أن اندلعت نيران الحرب، حتى تبدلت الأحوال وتغيرت التصورات، فخلال الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين (1919-1939) وهى الفترة التى زاد فيها تركز الرأسمال وتمركزه، وتبلورت فيها الاحتكارات الصناعية الضخمة، إعلاناً عن بداية سيادة المشروع الرأسمالى فى شكله الدولى، كما تعرض النظام الرأسمالى للعديد من التوترات، بدءا بثورة العمال فى ألمانيا عام 1918، ثم أزمة الديون والتعويضات التى فرضتها معاهدة فرساى عام 1919، ثم أزمة الكساد الكبير عام 1929، وبروز الحرب النقدية والتكتلات الاقتصادية، ثم انهيار قاعدة الصرف بالذهب... فكان طبيعياً ظهور الكينزية، فى زمان الأزمة فى شكلها الدورى، ونظريتها التى تعتمد على وجوب التدخل الحكومى بوصفه عاملاً مساعداً فى تحريك الاقتصاد الذى كف عن السير، بعدما لاحت فى الأفق أزمات متتالية.
(7)
فى ظل هذه الهيمنة الكينزية، كان هناك تيار فكرى يتكون فى أحضان التيار النيوكلاسيكى، هو تيار النقديين بقيادة ملتون فريدمان (1912-2006)، الذى سيتزعم حملة ضارية على الكينزية، كى ينتهى الأمر باختلاف جذرى، وتوارى للسياسة الكينزية، وظهور التيار النيوكلاسيكى المطور. تيار النقديين. الذى سيلقى تطبيقاً رسمياً فى الفترة من 1979 حتى 1984، وبصفة خاصة فى المملكة المتحدة بزعامة مارجريت تاتشر، والولايات المتحدة برئاسة رونالد ريجان، ولم تكن النتائج سارة على الإطلاق؛ إذ تعمّق الكساد، واستفحلت البطالة، وانخفض الميل الاستثمارى، وازدادت الضغوط التضخمية، نتيجة للزيادة الواضحة فى عرض النقود، بالإضافة إلى إضعاف المركز التنافسى للاقتصاد داخل السوق الرأسمالية العالمية. ويخرج عن إطار بحثنا معالجة هذه الإشكاليات.
فما يهمنا هنا هو توضيح طبيعة ومحتوى (العلم!) الذى يُلقن للطلاب فى المدارس والجامعات. على الصعيد العالمى وكيف تم الانتقال من علم يوضح ويكشف إلى فن يخفى ويطمس. من عِلــم اجتماعى إلى فن معملى. وكيف تم تسويق هذا الفن وبصفة خاصة فى الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالى المعاصر، وعالمنا العربى فى مقدمة هذه الأجزاء بتفوق! ولأننا سوف نرى فى الفصل القادم كيف يتم الإعدام اليومى للطلبة، فسنكتفى هنا بمراجعة، موجزة بطبيعة الحال، لانعكاس هذا الانتقال والتحول من علم الاقتصاد السياسى إلى فن التسيير على واقع نظرية التخلف، فهى ما ينبغى أن تمثل المحل الدائم لإنشغالنا، فى عالمنا العربى.
(8)
فمن العبارات المألوفة والتى عادةً ما يتم تداولها فى الندوات والمؤتمرات، وعلى المنصات الإحتفالية للمؤسسات المهتمة بمشكلات الوحدة العربية؛ وللعجب نجد العبارات نفسها يتم تداولها فى بعض الندوات والمؤتمرات والفعاليات الفكرية والثقافية التى تنظمها الأنظمة السياسية الحاكمة، والمؤسسات الرسمية فى الأقطار العربية، تلك العبارات التى تقول: أنه يَحق لكل عربى مؤمن، بل وحتى غير المؤمن، بالقومية، ووحدة المصير، والهدف المشترك، أن يندهش، بل ويَسخر حزيناً متألماً، حينما يجول ببصره على خريطة عالمنا المعاصر، ومهما أن كانت الخريطة التى يُنظر إليها، سياسية، جغرافية، طبيعية،... أو حتى صمّاء؛ فلسوف يُدرك على الفور ان هناك شيئاً مستنكراً غريباً يحدث على أرض الواقع؛ إذ أن تلك المساحة الشاسعة الهائلة على الخريطة والتى تحتل نحو 10% من يابسة الكوكب؛ وتُسمى بالعالم/الوطن العربى، لا ينقصها أى شىء من الموارد البشرية والإمكانيات الطبيعية والمادية، حتى تنطلق نحو التقدم... نحو حياة أفضل... نحو خَلق حياة كريمة للأجيال القادمة، ومع ذلك لم يزل وطننا العربى (متخلفاً) تابعاً على الرغم من أن الاستعمار، الذى كان حُجة المتحججين، قد انقشع منذ عشرات السنين، ولم يزل الوطن العربى مكبلاً بقيود التخلف! فلماذا؟ وإلى أى حد؟ وكيف الخروج من هذا الأَسر؟ وهل هذا من الممكن إنجازه؟
أعتقد أن الإجابة على هذه الأسئلة، وغيرها من الأسئلة المرتبطة بوجودنا الاجتماعى ذاته كعرب، بل كبشر، تتعلق بمدى وعينا بالأمور الخمسة الآتية:
1- إن غالبية المساهمات النظرية، وما يُعرف بـ (التراكم المعرفى) فى حقل تحليل ظاهرة التخلف الاقتصادى العربى، بوجه خاص، لم تستطع أن ترى ظاهرة التخلف إلا من خلال بيانات المرض، والفقر، والجوع، وإحصائيات الدخل والناتج والتوزيع والتضخم،... إلى آخره. ومن ثم يصير الحل لدى هذه المساهمات، وهى المعتمدة رسمياً، للخروج من الأزمة، أزمة التخلف، هو التركيز على النداء، وأحياناً الصراخ، باتباع السياسات"الرأسمالية/الحرة" التى تتبعها الدول التى لا تُعانى من الفقر المرض والجوع؛ لكى تخرج البلدان المتخلفة من الفقر والمرض والجوع!
2- وهو ما يترتب على أولاً، إن غالبية المساهمات إنما تنتهى حيث يجب أن تبدأ، إذ عادةً ما نرى مئات الكتابات فى هذا الصدد تقترح للخروج من أزمة التخلف سياسات اقتصادية ذات مدخل آدائى/ خطى، من دون محاولة إثارة الكيفية، الجدلية، التى تكوّن بها التخلف تاريخياً على الصعيد الاجتماعى فى الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر بوجه عام، وعالمنا العربى، الذى هو أحد تلك الأجزاء، بوجه خاص. وأفضل ما أمكن تحقيقه هو الإشارة إلى الإستعمار، كتاريخ ميت، ثم القفز البهلوانى، بعد الجهل بالتاريخ أو تجاهله بجهل، إلى إقتراح سياسات السوق الحرة.
3- عادةً ما يتم تناول إشكالية التخلف الاقتصادى العربى بمعزل عن إشكالية التخلف على الصعيد العالمى، أى دون رؤية الاقتصاد العربى كأحد الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر، وربما كان هذا ترتيب منطقى لتناول الإشكالية من منظور أُحادى، يفترض التجانس، ولا يرى سوى الطرح "التكاملى" والمنادة "المثالية" بالتكامل الاقتصادى العربى. وكأن البلدان العربية تعيش خارج الكوكب. على الرغم من ارتباط (إنجاز) مشروع التكامل الاقتصادى العربى بالخروج من الرأسمالية؛كنظام عالمى، باستبدال علاقات اجتماعية رأسمالية الطابع بعلاقات ذات طابع اجتماعى/إنسانى. علاقات ترتكز على فك الروابط مع الإمبريالية العالمية من خلال مشروع حضارى لمستقبل آمن.
4- السؤال الأهم، وهو غالباً ما لا تتم الإجابة عليه، هو: لماذا بعد أن خرج الاستعمار، الذى شوه الهيكل الاقتصادى وسبّبَ التخلف، لم تزل بلدان العالم العربى متخلفة؟ هذا السؤال من المعتاد تجاهله، من قِبل النظرية الرسمية، وبالطبع من قِبل المؤسسات المالية والنقدية الدولية، والإنتقال، الكوميدى، إلى: كيف نخرج من التخلف "بالتكامل"؟ وهنا نرى سيلاً من المقترحات (المدرسية/الرسمية) التى لا تَعرف ما الذى تقترحه للخروج من الأزمة. لأنها فى الغالب لا تَعرف ما الذى تبحث عنه؛ وذلك أمر منطقى، أيضاً، حينما لا تَعرف هذا المقترحات ماهية التخلف ذاته، على الرغم من أن الحديث عن التكامل الاقتصادى يكون عديم المعنى والفائدة معاً إذ لم يقترن بالبحث الموازى فى ظاهرة التخلف الاقتصادى والاجتماعى فى بلدان العالم العربى، وإنما، وهذا ضرورى فكرياً وواقعياً، كأحد الأجزاء المتخلفة (وغير المتجانسة) من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر، من جهة درس ماهية ظاهرة التخلف ومحدداتها وكيفية تجاوزها التاريخى؛ فلن يُمسى مقنعاً الحديث عن تكامل اقتصادى عربى من دون الحديث عن كيفية هيكلية لتجاوز التخلف ذاته، وإنما ابتداءً من إعادة النظر فى التراكم المعرفى فى حقل نظرية التخلف ذاتها.
5- ولأن النظرية الرسمية(7) (النيوكلاسيكية فى مُجملِها) هى المعتمدة للتلقين فى المدارس والمعاهد والجامعات فى عالمنا العربى؛ فالنتيجة هى الإعدام اليومى لمئات الآلاف من الطلاب، الذين يتم تلقينهم صباحاً ومساءً بيانات الفقر وعدد المرضى والجوعى، ويُقال لهم أن هذا هو التخلف بعينه، وإذ مـــا أردتم الخــــروج ببــــلادكم من هذه الحالــة فلتنظروا إلى ما يفعله صنـــّاع القـــرار الســــياسى الاقتصـادى فى الغرب الرأسمالى، وأفعلوا ما لا يفعلون! لأنهــم حقاً يستحـون! كونوا أكثر طموحاً... إفتحوا الأسواق... حرروا التجارة... عوموا العملة...لا تدعموا الفلاح، وأتركوه نهباً للرأسمال المضاربى... سرحوا العمال... قلصوا النفقات العامة... ارفعوا أيديكم عن الأثمان... ساندوا كبار رجال المال... تخلصوا من القطاع العام... رحبوا بالرأسمال الأجنبى... وإفعلوا ما تمليه عليكم المؤسسات المالية والنقدية الدولية... قدسوا نموذج هارود- دومار... لا تقرأوا إلا للنيوكلاسيك... جوفنز، ومنجر، ومارشال، وفالراس، وجوارتينى، وفريدمان، وكروجمان، وصولو، وغيرهم من الكينزيين والنقديين والحديين؛ طبعاً بعد أن يُقال لهؤلاء الضحايا الذين يتم إعدامهم يومياً، فى المؤسسات التعليمية فى أرجاء العالم العربى، إن"الاقتصاد" هو ذلك الكم المكدس من الأرقام والمعادلات فى مؤلفات هؤلاء فقط، أما غيرهم فهم إما تاريخ مقبور، أو كفار مُلحدون... ولكى تكون المحصلة النهائية، حينما يكون بأيد هؤلاء الطلاب/الضحايا صُنع القرار السياسى، فى بلادهم المتخلفة، هى المساهمة الأكثر فعالية فى تعميق التخلف، وربما تسريع وتيرة تجديد إنتاجه.
فالذى إذاً يتم تلقينه للطلاب فى عالمنا العربى، الذين يومياً يتم إعدامهم فكرياً، يرتكز على قاعدة رئيسية فى الاقتصاد قوامها: ان كل شىء متوقف على كل شىء. ولنستمع إلى الحوار التالى:
الطالب(الضحية): ما هو علم الاقتصاد؟
الأستاذ: هو ذلك العلم الذى يدرس الظواهر الاقتصادية.
الضحية: وما هى الظواهر الاقتصادية؟
الأستاذ: الظواهر الاقتصادية هى تلك التى يدرسها "علم!" الاقتصاد!
الضحية: شكراً.
هؤلاء الطلاب هم الأجيال القادمة التى سوف تتحمل مسئولية أمة!
(9)
الأدهى والأمر، أن الأساتذة. أساتذة الجامعات. الذين يتولون التلقين، لا يجدون أدنى غضاضة فى أن يقولوا لهؤلاء الطلاب، الضحايا، ان الاقتصاد هو الاقتصاد السياسى، والاختلاف بينهما هو إختلاف، مزاجى، فى الاسم، نتَج عن تطور تاريخى! على الرغم من أن الفارق بين الإثنين هو كالفارق بين الخيال والحقيقة، بين الافتراض والقانون، بين التبرير والعلم.



#محمد_عادل_زكى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نظرية القيمة عند الكلاسيك وماركس
- من ماركس إلى قانون فى القيمة
- الاقتصاد المصرى
- التبعية مقياس التخلف
- مبادىء الاقتصاد السياسى
- للحق، لا للقضاء، للمحامى المصرى رامى الحدينى
- ما قبل هيمنة ظاهرة الرأسمال
- ما قبل هيمنة الرأسمال
- نقد قانون القيمة عند ماركس
- تاريخ الرأسمال
- كل شىء متوقف على كل شىء
- السلفيون ووهم تطبيق الشريعة
- المنهج والتجريد والعلم والاقتصاد السياسى
- بعد أن تحول العالم والكاهن إلى شغيلة فى عداد المأجورين
- اقتصاد سياسى بلا ماركس. هكذا يعدمون عقولنا
- المختصر فى تاريخ بلاد فارس - الجزء الثانى
- المختصر فى تاريخ بلاد فارس
- لينين: الرأسمال المالي والطغمة المالية
- نمط إنتاج آسيوى؟
- رأسمالية الذهب والدم


المزيد.....




- الشرطة الإسرائيلية تفرق متظاهرين عند معبر -إيرز- شمال غزة يط ...
- وزير الخارجية البولندي: كالينينغراد هي -طراد صواريخ روسي غير ...
- “الفراخ والبيض بكام النهاردة؟” .. أسعار بورصة الدواجن اليوم ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...
- ضد تصعيد القمع، وتضامناً مع فلسطين، دعونا نقف معاً الآن!
- التضامن مع الشعب الفلسطيني، وضد التطبيع بالمغرب
- شاهد.. مبادرة طبية لمعالجة الفقراء في جنوب غرب إيران
- بالفيديو.. اتساع نطاق التظاهرات المطالبة بوقف العدوان على غز ...


المزيد.....

- تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)* / رشيد غويلب
- مَفْهُومُ الصِراعِ فِي الفسلفة المارْكِسِيَّةِ: إِضاءَةِ نَق ... / علي أسعد وطفة
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 5 :ماركس في عيون لينين / عبدالرحيم قروي
- علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاري ... / علي أسعد وطفة
- إجتماع تأبيني عمالي في الولايات المتحدة حدادًا على كارل مارك ... / دلير زنكنة
- عاشت غرّة ماي / جوزيف ستالين
- ثلاثة مفاهيم للثورة / ليون تروتسكي
- النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج / محمد عادل زكى
- تحديث.تقرير الوفد السيبيري(1903) ليون تروتسكى / عبدالرؤوف بطيخ
- تقرير الوفد السيبيري(1903) ليون تروتسكى / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - محمد عادل زكى - مسخ الاقتصاد السياسى