أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فالح عبد الجبار - الأفندية والملائية بين قرنين















المزيد.....

الأفندية والملائية بين قرنين


فالح عبد الجبار

الحوار المتمدن-العدد: 1224 - 2005 / 6 / 10 - 13:19
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يكره رجال الدين كلمة «العلمانية»، مثلما يبغض المدنيون فكرة الدولة «الدينية».
في نظر الأوائل، العلمانية رديف للكفر، أو في الاقل، رمز لاخضاع المقدس الى سطوة الحاكم الدنيوي. وفي نظر الثانين، الدولةالدينية هي رديف لاستبداد الاكليروس. هذا التنافي المتبادل بين العلمانية والمقدس ليس مجرد تضاد بين طريقتين في التفكير، بل هو أحد تجليات صراع جد قديم بين صنفين من منتجي المعرفة: الفقيه والفيلسوف. كانت المدرسة الدينية، التي نشأت في حاضنة الفقه فكراً، وفي أسوار الجامع فضاء، أول مؤسسة نظامية لانتاج وحفظ ونقل المعرفة. وكانت المدرسة الدينية، منذ نشأتها في النجف على يد الامام الطوسي، وفي الازهر على يد الفاطميين، وفي بغداد على يد الوزير السلجوقي نظام الملك، ترتبط بتقسيم العمل التقليدي في مجتمع زراعي ـ حرفي بسيط. خريجو هذه المدارس كانوا يتجهون الى القضاء، او الوعظ ائمة صلاة او التدريس او تولي الحسبة في الاسواق او الافتاء.
وكانت المعرفة (اي العلم) تعني شيئاً واحداً عصر ذاك: علوم الدين. فلا شيء يعلو عليها، ولا شيء يدانيها قيمة. غير ان الفقيه كان يجابه عارفاً آخر، غريماً في انتاج الفكر، هو الفيلسوف. وكان الفقيه يتميز غيظاً من الفلاسفة مثلما كان يتنابز مع اصحاب العرفان (المتصوفة) الذين كانوا يعتبرون الفقه، مثلا، ليس بعلم، قياساً الى علمهم هم العارف بما يرونه أسراراً الهية.
وكان رجل الدين، كالفيلسوف، يسعى لنيل حظوة السلطان او تفاديها. فها هنا سطوة السيف والذهب الرنان. فكم من مدرسة فقهية تلاشت لغياب الحظوة. عاش خريجو المدارس الدينية هناءاتهم وتعاساتهم طويلا، حتى ظهور المدرسة الحديثة. بفضل الاصلاح العثماني والقاجاري (ايران)، ظهرت المؤسسات الحديثة: الجيوش الدائمة بدل الانكشارية، والبيروقراطية الحديثة بدل الصدر الأعظم. قدمت اوروبا لهذا التحول حوافزه وأدواته. وخرج من بطانته المثقف الحديث، المهندس والاداري والطبيب والاقتصادي والمفكر. جاء التحديث لا من رجال الدين بل من بيروقراطية دولة تشعر بدنو الهزيمة، وأدى الى جملة تغيرات مدوية. انفصل اصحاب العمائم، مثلا، عن الاقتصاد الحديث (صناعة، مصارف، اسواق مال، الخ..) انفصالا مميتا كاد يودي بفقه المعاملات الذي لم يتطور بموازاة تطور العصر الصناعي. اصبحت المدرسة الحديثة تستقبل الملايين، اما المدارس الدينية فبالكاد تحوي بضعة آلاف، وتنتهي بأصحابها الى مهن فقيرة، يعتاش فيها بعضهم على حساء الاحسان، عدا النخب العليا من كبار العلماء والمجتهدين.
عشية الثورة الايرانية كان ثمة 70 ألف رجل دين أو نحوهم، جلهم فقراء يتراتبون في هرمية صارمة. ولم يكن في العراق، آنذاك، اكثر من 1950 طالب علوم دينية، جلهم أغراب، اما العراقيون منهم ففي حدود 200 طالب. وتعيش بلدان اخرى وضعاً مماثلاً. هناك استثناءات في بعض البلدان حيث ثنائية التعليم تنتج، مثلا، من المقرئين وأئمة الصلاة ومدرسي الدين اكثر بكثير مما تنتجه المدارس الحديثة، رغم تناقص حاجة المجتمع اليهم.
التوتر بين العلماني والمقدس هو في أحد اوجهه توتر وتنافس بين الافندية والملائية، تنافس ضار على احتكار العلم والمعرفة والموارد، منذ ان اتكسر احتكار رجال الدين في القرن التاسع عشر بظهور طبقة «الافندية»، اي طبقة الكتبة المتعلمين، مقابل «الملائية» اي طبقة المشتغلين بأمور الدين. لقد نمت طبقة الافندية نمواً هائلاً فاق كل تصورات معتمري العمائم. ولعل الثورة الايرانية عام 1979 شكلت انتقاماً تاريخياً انزله الملالي عقاباً بالمتعلم الحديث، وفرضوا شروطاً تعيد لرجل الدين مركزيته، وتزيد من طلب المجتمع عليه وعلى خدماته، رغم تناقص الحاجة الفعلية الى ذلك. الواقع ان شاه ايران، شأن كثرة من الزعماء العرب، اسدى خدمة جلى لاصحاب العمائم. ذلك انه انقض على الطبقات الوسطى، المنبع الرئيس للانتلجنسيا الحديثة (الافندية)، سحقاً وتدجيناً. وبهذا عمل الشاه على حفر قبره بالذات، بفتح الباب لعودة المثقف التقليدي، صاحب العمامة. ولما أمسك هذا الأخير بالسلطة فقد المثقف الحديث كل دفاعاته. تكررت تجربة الشاه بأشكال مشوهة في مصر على يد السادات، وفي الجزائر على يد الشاذلي بن جديد. أما الرئيس العراقي المخلوع فقد نحا النحو ذاته، وعمل على احياء كل الرموز الدينية (الحملة الايمانية). وأدى هذا الانقلاب الى قلب عالم الثقافة. ابتكر رجال الدين نظام المصارف الدينية، وحشروا أنفسهم في كل زوايا العلم الحديث، من مدخل الحق في الافتاء بما هو حلال وحرام . ثمة اطروحة قيل لي في طهران (عام 1982) ان فقيهاً وضعها لمعالجة أداء رائد فضاء مسلم للصلاة في سفينة الفضاء، وبالتحديد تعيين وجهة القبلة في هذا الموضع المتحرك. وسمعت وقتها أيضاً من يتندر بأنه كان على الفقيه ان يفكر في ايصال المسلم الى الفضاء اولا، وان يحار في صلاته ثانياً.
لكن المعركة بين الملائية والافندية التي احتدمت مطلع القرن العشرين (كما سجلها علي الوردي) تختلط اليوم على الناظر. فمشهد الانقسام بين حراك علماني مدني، وحراك اسلامي مقدس، لم يعد مقصوراً على التنابذ بينهما. ذلك ان ثلة من المدنيين انتقلت الى معسكر المقدس لأسباب شتى، بعضها متصل برغائب الصعود الاجتماعي. وترى اليوم الطبيب الاصولي-الثائر، والمهندس-القاتل، حيث تجتمع في هؤلاء خلائط من عقائد خلاصية وطهرانية جامحة، ونخبوية متعالية، تنحو الى تجميد الزمن، وتأليه العنف، والغاء كل مخالفة وخلاف، مثلما تنحو، عند آخرين، الى براغماتية دنيوية لا جامع لها بالعقائد، او عبادة للجاه والسلطان بما يفوق أية عبادة. واليوم يشهد العراق مثل هذا الاختلاط مثلما يشهد اقبالا متزايداً على المدارس الدينية. تضم الحوزات العلمية في النجف اليوم زهاء 4000 طالب جديد، وهذا رقم هائل قياسا الى مستويات ما قبل الغزو. مثلما يشهد العراق ايضاً احتداماً للجدل حول العلمانية والمقدس، مرشحاً للتفجر خلال عملية كتابة الدستور الجديد. لعل مراسيم أداء الوزارة العراقية الجديدة للقسم تشي بما هو آت، فقد كانت أقرب الى تراتيل وطقوس في جامع منها الى مراسيم دنيوية في برلمان. يصعب تخيل الوجهة التي سينتهي اليها صراع العلمانية ونقيضها. لعل هذا التنافي المتبادل مثمر فكرياً ان بقي الخلاف فكرياً محضاً، بلا هراوات أو سيوف.
مؤخراً اقترح رجل دين متنور هو السيد محمد حسن الأمين فكرة «العلمانية المؤمنة». وهي فكرة سديدة، وعميقة، رغم انها تبدو لغير المطلع بمثابة تناقض في التعريف. ان جدة هذه الفكرة ذاتها تجعلها جديرة بالتأمل والنقاش. فنحن أحوج ما نكون الى مثل هذا السجال المنفتح، نظراً لأن حضارتنا العربية ـ الاسلامية ما تزال في طفولتها من حيث تطور التكنولوجيا الحديثة، لا من حيث امتداد الزمن المحسوب بالروزنامة. ينبغي ان نفهم التكنولوجيا هنا بمعناها العريض: تكنولوجيا الطبيعة، وهندسة المجتمع، وتطور الفكر.
تبدو حضارتنا هيابة من اقتحام مرتقى الجلجلة هذا.

2005/05/8



#فالح_عبد_الجبار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كرنفال الديموقراطية: حقيقة الأشياء أم مظاهرها
- العراق: مصادر العنف ومآله
- نحن والغرب من إدوارد سعيد إلى محمد عبده
- تأملات في العنف, لا سيما عنف أولئك الذين يفجّرون العراق
- في انتظار البرابرة... في وداع البرابرة
- تأملات في الماركسية
- العراق حيال مسألة الفصام بين الأمة والدولة
- عراق غامض المآلات مُقلق, لكن البعث... لن يعود
- التوتاليتارية، الكلمة الغائبة الحاضرة
- من يقف وراء الهجمات على الأمريكيين في العراق؟
- القتال، التمرد او التلاشي
- بين الحزب والقبائل والعشائر التوازن الهش للنظام العراقي
- مزيفو النقود
- إيضاح لا بد منه في بيان الملاكمة المأجورة


المزيد.....




- الأرجنتين تطالب الإنتربول بتوقيف وزير إيراني بتهمة ضلوعه بتف ...
- الأرجنتين تطلب توقيف وزير الداخلية الإيراني بتهمة ضلوعه بتفج ...
- هل أصبحت أميركا أكثر علمانية؟
- اتفرج الآن على حزورة مع الأمورة…استقبل تردد قناة طيور الجنة ...
- خلال اتصال مع نائبة بايدن.. الرئيس الإسرائيلي يشدد على معارض ...
- تونس.. وزير الشؤون الدينية يقرر إطلاق اسم -غزة- على جامع بكل ...
- “toyor al janah” استقبل الآن التردد الجديد لقناة طيور الجنة ...
- فريق سيف الإسلام القذافي السياسي: نستغرب صمت السفارات الغربي ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف مواقع العدو وتحقق إصابات ...
- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فالح عبد الجبار - الأفندية والملائية بين قرنين