أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - أنس فاعور - ميشيل سورا و باتريك سيل مشروع طاولة مستديرة حول نظام البنية المستعصية في سورية















المزيد.....



ميشيل سورا و باتريك سيل مشروع طاولة مستديرة حول نظام البنية المستعصية في سورية


أنس فاعور

الحوار المتمدن-العدد: 1191 - 2005 / 5 / 8 - 11:48
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


‎ ‎في الخامس من آذار ١٩٨٦ أعلنت منظمة أطلقت على نفسها اسم " الجهاد الإسلامي في لبنان "(١) ‏إعدامها الباحث الفرنسي ميشيل سورا بعد أن اختطف مع مجموعة من الرهائن الفرنسيين منذ ٢٢ أيار ١٩٨٥ و كان ‏هو وحده ضحية حكم الإعدام. عندما نتساءل لماذا ؟ و لماذا شطب اسم ميشيل سورا و كأنه لم يكن و لماذا كل هذا التنكر ‏لميشيل سورا ؟ يكون الجواب في ذلك الكتاب الذي صدر بعد وفاته (٢) " الدولة المتوحشة " و الذي قدم فيه قراءة ‏نقدية واقعية مبكرة للواقع السوري كلفه حياته مثبتاً للعالم أن المعركة ضد الظلم و الاستبداد و البربرية و العنصرية ‏معركة إنسانية ليست حكر للون أو دين أو فكر أو جماعة و مقدماً نموذجاً عز تكراره لمناضل جمع بين النضال من أجل ‏الحقوق الفلسطينية بالوسائل السلمية و النضال من أجل كشف مظالم الشعب السوري في ظل تلك الدولة المتوحشة على ‏عكس المناضلين العرب الذين فقدوا بوصلتهم و ضحوا بالشعب السوري من أجل الحقوق الفلسطينية على هامش أكذوبة ‏قلعة الصمود و التصدي التي لم تنطلي على سورا في الوقت الذي انخدعوا ببريقها الكاذب و فتنوا حتى كلما إستبرق لهم ‏مشوا فيه فكادوا ينسوا أنهم جاؤوها مناضلين شرفاء فمضوا إليها و مضى ميشيل سورا في ما آمن به منذ أن ترك ‏باريس ليحل في لبنان بعد دمشق مدافعاً عما تراءى له من أنه الحق فجند له عقله و قلبه و قلمه و أخيراً جسده و روحه ‏و كأنه هو المقصود فيما قاله الشاعر أحمد شوقي عن الليبي عمر المختار:‏
‎ ‎
‎ ‎خيرت فاخترت المبيت على الطو ى لم تبن مالا أو تلم ثراء‎ ‎
‎ ‎
‎ ‎و لكي نفهم هذه الظاهرة الفريدة التي جسدها هذا المناضل الفرنسي و الباحث الجريء و في محاولة ‏لاستحضاره في وقت تجاهله الكثيرون حتى في الظروف الأخيرة التي يجب أن يذكر فيها و لعلي الآن أحاول في هذه ‏المقالة المتواضعة أيضاً تلمس شخصية " الدولة المتوحشة " كما سماها ميشيل سورا في محاولة لتلمس أبرز ملامح ‏الأزمة السورية الراهنة التي كان من أوائل من دقوا ناقوس الخطر فيها لأنها ليست وليدة اللحظة بل هي استمرارية ‏تاريخية لأزمة مستعصية بدأت و تطورت منذ منتصف الستينات و لعله يكون من المفيد عقد طاولة مستديرة لفهم هذه ‏الحقائق الإشكالية تجمع صاحبنا ميشيل سورا و نظيره الإنكليزي باتريك سيل الشهير تقارن بين ما يطرحانه و ما يبدو ‏من تناقض ظاهر رغم التطابق الباطن الذي سننتهي إلى توضيحه و لكن يكون أيضاً من الأجدى توسيع هذه الطاولة ‏لنستكشف خلالها ما طرحه باحثون آخرون سوريون و عرب و غربيون حول ملامح هذه الأزمة الراهنة عبر إعادة ‏اكتشاف دقيق للصراعات و للذكريات الخاصة بها أي عبر مزاوجة بين المعارف العميقة و معارف الناس بعد إزاحة و ‏رفع طغيان و هيمنة الخطابات الكلية و الدوغماتية مع تراتيبها و أفضلياتها كطلائع نظرية أي بشكل أوضح مزاوجة بين ‏المعارف العميقة و الذكريات المحلية التي تشكل الترمومتر الأنجع لسبر حقيقة هذه المعارف كما تقول الحكمة الصوفية ‏‏" أقلام الحق ألسنة الخلق " و هذه المزاوجة تسمح بتأسيس معرفة تاريخية جينيالوجية لتطور الأزمة مع توظيفها في ‏فهم الأحداث الحالية و استشراق المستقبل. ‏‎ ‎
‎ ‎
‎ ‎في صباح الثامن من آذار ١٩٦٣ أذاع صابر فلحوط (٣) الأمر العسكري رقم ٢ بإعلان حالة الطوارئ في‏
‏ البلاد إلى إشعار أخر بعد تشكيل مجلس قيادة الثورة و حكومة تنفذ سياسات المجلس. (٤) و بخلاف الانقلابات العسكرية ‏السابقة التي شهدتها سورية و التي كان فيها الجيش أداة لحسم الصراعات السياسية بين القوى المتنافسة وضع انقلاب ‏آذار البلاد بين أيدي العسكر فتحول الجيش لا إلى قوة أساسية في الحكم بل إلى قوة الحكم الأساسية و بمقدار ما أخذ ‏الجيش يتسيس أخذت السياسة تتعسكر ذلك أن جناح الحزب الذي كان ضعيفا و قليل العدد إذ لم يكن عدد أعضائه عند ‏قيام الانقلاب يزيد عن ٤٠٠ عضو بل كان أقل بكثير. (٥)‏
‎ ‎
‎ ‎و كانت النتيجة تغول الأجهزة العسكرية و الأمنية التي لم تعد آلة للحرب بل أصبحت تلتهم أكثر من ثلثي ‏ميزانية الدولة (٦)تحت بند (الأمن القومي ) المزعوم و يشخص ذلك سورا: " آلة الحرب ليس غرضها الحرب إن لها ‏منشأ أخر هي تنظيم أخر غير جهاز الدولة و هي ضد الدولة بمنشئها البدوي فإذا عدنا عن فهم البداوة بمعناها الضيق ‏المأخوذ به عموماً لنفهمها في علاقتها ب " داخل ريفي واسع و منحدر جبلي و بور فسيح حول إحدى المدائن " و ذلك ‏التصدع الذي يكون مستوى أخر لقراءة الواقع السوري و الاحاطة بالأزمة و الذي ينطوي على أهمية كبيرة رغم أنه ‏غالباً مهمل. (٧) ‏
‎ ‎
‎ ‎ربما تكون هذه الحقيقة مفتاحية لسبر أغوار النظام الشمولي في دمشق حيث ترافق تشكل هذا النظام مع ‏انهيار البرجوازية الوطنية في نهاية الخمسينات و بداية الستينات و صعود نخبة قيادية من أصول ريفية حلت مكانها و ‏هذا ما أدى إلى تغيير وظيفي في أسلوب بناء هذا النظام الشمولي على نحو أفدح و أجسم من أي نظام شمولي أخر ‏كالأنظمة الشيوعية السابقة في أوروبة الشرقية حيث كان عمل هذا النظام على التركيز الشامل للسلطة من جهة و نظام ‏العصبية من جهة أخرى بشكل ضاعف من تراكم القوة و شكل محرك انفجاري لتسريع النقل الخالص للسلطة و الثروة ‏في زمن قياسي احتاج إلى حوالي ثلاثين عام رغم أنه يجب أن يستغرق قرن من الزمن في الحالات العادية. (٨) حاصل ‏القول بأن ذاك المحرك الذي رافق تشكل النظام الشمولي أنتج تلك الطبقة الجديدة إنتاجا وعراً و قسرياً ترك أثاره المدمرة ‏على الواقع السوري بما ينطوي عليه تكوينها من اغناء لها و إفقار مقابل لباقي فئات الشعب السوري و لقد أوضح ‏ظروف تكونها باتريك سيل في كتابه المعروف: " الأسد: الصراع على الشرق الأوسط " فيقول: " و على قمة الهرم ‏الاجتماعي كانت هناك مجموعة قليلة من ذوي الثراء الفاحش تثير الغيرة و الغضب و تعيش في عالم بعيد جداً عن عالم ‏الجماهير الكادحة و حتى عن الطبقة الوسطى ذات الرفاه المعقول من رجال المهن و صنا عيي القطاع الخاص و التجار و ‏في معظم الحالات كان أولئك الأغنياء من أصول و خلفيات فلاحية أو برجوازية ممن بنوا مع الأسد الدولة البعثية و لكنهم ‏تخلوا منذ زمن طويل عن أي تظاهر بالمثل الاشتراكية و كان أفراد هذه المجموعة منتسبين إلى المراتب العليا في الجيش ‏و أجهزة الأمن و الحزب و الحكومة و بامكانهم الوصول إلى واردات و خزائن الدولة بطرق شرعية و غير شرعية ‏فكانوا يمتازون بقدرتهم على شراء ما يريدون و التصرف كما يشاءون دون أن يحسبوا حساباً للرأي العام و لا لتعليمات ‏الدولة و طوال سنوات قامت هذه المجموعة بحلب الميزانيات و حصلت على حصص من المشروعات الحكومية و شغّلت ‏أبنائها في العمل الحر و عقدت صفقات فيها نسب مئوية مع كل وكلاء المجهزين الأجانب و نصبت صنائعها في شركات ‏القطاع العام و ضاربت في سوق العقارات و الأراضي و خلقت أرباحاً و كونت مزيداً من الثروات و كانت بعض هذه ‏الثروات ضمن القانون و بعضها الأخر خارجاً عليه و كانت فعالياتهم غير مقيداً أبداً و كانت شبكة التعامل التي أقاموها ‏بين الرعاية و العمولات و تبادل المنافع من الامتداد الأخطبوطي بحيث تحدث بعض الناس عن " المجمع التجاري ‏العسكري " و حتى عن طبقة حاكمة جديدة عدد أفرادها عدة ألاف. (٩) و ما رواه باتريك سيل عن الطبقة الحاكمة ‏الجديدة و تشكل القطاع الخاص الجديد في سورية يتطابق روحياً مع ما رواه أيضاً الكاتب الأمريكي فلنت ليفريت بأن ‏بشار الأسد قال له عندما إلتقاه في دمشق بأن الحرس القديم في سورية ليس اثنين أو ثلاثة أشخاص يمتلكون مناصب ‏رفيعة في أعلى النظام بل هم حرفياً ألاف البيروقراطيين العاديين و المتحجرين على امتداد النظام و الذين تخندقوا في ‏مواقعهم على مر السنين و العقود و ليست لديهم أية مصلحة في أن يسير أي شيء على نحو مختلف و أكثر من هذا ‏الحرس القديم هو أيضاً القطاع الخاص الذي لا يحمل من صفة القطاع الخاص إلا الاسم و الذي يواصل الوجود في علاقة ‏جينية مع هذه البيروقراطية المتخندقة و هذه هي العقبة الحقيقية أمام التغيير في سورية. (١٠) وقد نجد الإجابة بسرعة ‏على شبهة بشار بذلك القطاع الخاص لأنه صنيع أولئك الذين حلبوا الميزانيات و مرروها إلى أبنائهم ليشكلوا ذلك القطاع ‏الخاص كما بين لنا باتريك سيل و من هنا نحيط ببعض جوانب الفرق بين الحرس القديم و الجديد كمفهومين ضبابيين ‏نجد التباس لفهما و التمييز بينهما هذه الأيام و الذي يشكلان بالمحصلة تلك الطبقة الحاكمة الجديدة التي تحدثنا عنها و ‏قد بدء هذا الواقع ‏بالتبلور كما سبق و أشرنا منذ نهاية الخمسينات و بداية الستينات و لا سيما منذ انقلاب ٢٣ شباط ‏‏١٩٦٦ حيث قامت ‏حكومة متشددة جذرياً عملت على إعادة تركيب المجتمع من السقف إلى القاع و من المؤكد أن حافظ ‏الأسد كان يؤيد ‏من قلبه الهدف العام العريض لقلب تركيب سورية الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي (١١) و قد لا ‏يستغرب ‏المراقب للأمور بأنه قنن متابعة إشرافه المباشر على هذا الانقلاب حيث قام الحقوقي إبراهيم فوزي و غيره من ‏‏الحقوقيين المقربين من حافظ الأسد بتفصيل الدستور انطلاقاً من فكرة مخاطر السلطة القضائية (البرجوازية ) على ‏‏استقرار سلطة الرئيس لذا أعدوا نصاً مغلقاً لسلطة تسلطية تستفرد بزمام الأمور (١٢) فكان له بذلك تمرير دستور ‏‏١٩٧٣ الذي ترجم تلك ‏السلطة التسلطية إلى ترأسه و من بعده وريثه ابنه بشار للسلطات الثلاث التنفيذية و التشريعية و ‏القضائية دون منافس ‏أو رقيب و متحصناً بالعديد من القوانين و المحاكم الاستثنائية (١٣)بحيث تمكن من السير بقوة في ‏متابعة تنفيذ ‏هذا الانقلاب الديناميكي المسير.‏‎‏ ‏‎ ‎

‎ ‎و هذه الحقائق الواضحة هي المدخل الأوحد لفهم أحداث الثمانينات بحكم العلاقة الحميمة التي تربط هذين ‏الحدثين و لذلك نجد باتريك سيل يعكف على الربط بينهما و يربط ذلك الشرخ الطبقي بأحداث الثمانينات كمسبب أساسي و ‏رئيسي لكل ما حدث و لكنه ذهب إلى أبعد من ذلك في تشخيص بذور المشكلة فوصف ذلك الانقلاب الطبقي الذي تم في ‏سورية ب"الانتقامي " (١٤) و ضيق الأفق لا بل أنه ذهب إلى أبعد من ذلك حيث وصف النزعة اليسارية في حزب البعث ‏العربي الاشتراكي باليسارية ذات الأصول المحلية و التي لم تتشكل بإيحاء خارجي له علاقة بالاتحاد السوفيتي و الكتلة ‏الشرقية السابقين (١٥)و هذه معضلة رئيسة قل من أدركها حول حقيقة تلك النزعة اليسارية و التي أدرجت في أدبيات ‏البعث تحت اسم اليسار الطفولي ( أو كما سماه أيضاً باتريك سيل ضيق الأفق ) فقط لتبرير انقلاب ١٦ تشرين الثاني ‏‏١٩٧٠و قد سبق و وضحنا التجانس الفكري لطرفي الصراع في المرحلة التي سبقت هذا الانقلاب المسمى " الحركة ‏التصحيحية « و العلة الأكبر أن الكثيرين من الكتاب العرب أخذوا يعلقون كل مصائب سورية على اليسار السوري برمته ‏و ليس على ذلك اليسار بإيحاء محلي أو ذلك اليسار المقيت الذي تماهى مع السلطة في صيغة الجبهة الوطنية التقدمية ‏بسبب التباس بين ذلك " الانقلاب الطبقي الانتقامي " و الطروحات اليسارية العالمية حول الصراع الطبقي و ربما بشكل ‏أدق " العدالة الطبقية " بالمفهوم الماوي و قد يكون أخر المتحدثين الكاتب غسان الإمام في مقالة نشرتها صحيفة ‏الشرق الأوسط اللندنية بتاريخ ٣ أيار ٢٠٠٥ إذ يقول: " بعد موجة مثقفي الأربعينات القوميين جاء مثقفو الستينات ‏الماركسيون الذين نظروا لكوميونة صلاح جديد " رغم أن عنوان مقالته " إشكالية الهلال السني في سورية " يوحي لنا ‏بالمشكلة الطائفية في سورية بيت القصيد في فهم تلك الإشكالية الطبقية و تماشياً مع هذه الحقائق نجد أن باتريك سيل ‏يقول في روايته لأحداث الثمانينات في الفصل التاسع عشر من كتابه" الأسد: الصراع على الشرق الأوسط " تحت ‏عنوان فصلي " العدو الداخلي «: " و مع تضخم الموازنات السورية تكاثرت مشاريع التنمية و تصاعد الاستهلاك على ‏الأقل عند بعض الناس في عام ١٩٦٣ كان في سورية ٥٥ مليونيراً - بالليرات السورية أما في عام ١٩٧٣ فقد كان ‏عددهم ألفاً و أصبح ٢٥٠٠ مليونيراً في سنة ١٩٧٦ و كان عشرة بالمائة منهم يملك الواحد منهم أكثر من مائة مليون ‏ليرة سورية (أي ما يعادل ٢٥ مليون دولار أمريكي بسعر صرف آنذاك ) و شكل أصحاب الملايين السريعة لب الطبقة ‏البرجوازية الجديدة و قد أثرى كثيرون منهم من العمولات و من إعادة الأموال المسلفة لأغراض غير مشروعة و حتى ‏من السرقات التي أصبحت ممكنة من عشرات المشاريع ذات التمويل الحكومي. (١٦) ‏
‎ ‎
‎ ‎و هذه الحقيقة لم تكن غائبة يوماً عن أي مراقب للسياسة الداخلية السورية اقتصادياً و اجتماعياً و سياسياً ‏فبعد عام ١٩٧٠ وخاصة في الفترة التي بدأت بالتدخل السوري في لبنان ١٩٧٦ استغلت النخبة السياسية و العسكرية ‏سلطتها لتزداد ثراء و أخذ الفساد يتفشى داخل الجهاز الحزبي و النظام و لم يكتب للعديد من الحملات التي كانت ترمي ‏لاقتلاع الفساد إلا نجاح محدود جداً حيث كان من الصعب النيل من العناصر الفاسدة العسكرية العلوية ( و أيضاً غير ‏العلوية ) التي كانت تتمتع بمراكز مرموقة و التي كانت تنتمي إلى حاشية الرئيس و ما يتبعها فاتخاذ أي إجراء تأديبي ‏ضد أهم مؤيدي الرئيس كان من شأنه تقويض وضع السلطة ككل داخل النظام بشكل مباشر و لذلك لم تتخذ مثل هذه ‏الإجراءات و قد كانت النخبة العلوية تشكل في الأصل إحدى القوى العظمى داخل النظام التي تميل إلى التغيير الجذري و ‏بعد أن ازدادت ثراء و حصلت على شتى أشكال المزايا الحصينة أصبحت هذه النخبة بعينها حجر عثرة كبيرة أمام عملية ‏إصلاح التعسفات التي شملت الدولة لقد كون الضباط العلويون الأثرياء نوعاً من الائتلاف مع البرجوازية الثرية من أهل ‏المدينة و بالذات مع الدمشقيين السنيين و أيضا مع آخرين بما فيهم مسيحيون و تولد لدى الأخيرة رغبة مباشرة في ‏الحفاظ على نظام البعث الواقع تحت سيطرة العلويين طالما كان بإمكانهم الاستمرار في أعمالهم الناجحة. (١٧) ‏

‎ ‎بكلمة أوضح نستطيع القول بأن الطبقة الجديدة استطالت بتحالف التهمت فيه بقايا الطبقة القديمة التقليدية ‏من أغنياء المدينة رغم التباين الطائفي الواضح بينهما و لكن الأسباب النفعية لأثرياء المدينة كانت ثاني الأسباب لأن ‏المسألة أولاً كانت قرار اضطراري أتخذه هؤلاء الأغنياء التقليدين و هذه الأسباب يوضحها باتريك سيل بقوله: " ففي ‏دولة الأسد لم تعط فكرة حرية الفرد أي محتوى مادي برغم الأجهزة و ( المؤسسات حسب سيل طبعاً ) فليس هناك قضاء ‏مستقل استقلالاً حقيقياً و لا حرية معلومات و اتصال و تعبير و لا جامعة مستقلة بذاتها و في غياب قواعد واضحة تحكم ‏العلاقات بين الفرد و الدولة يشعر المواطن العادي بأنه غير آمن و حتى السوريون الأغنياء يخشون أن يغضب منهم ‏زبون أو وكيل فيجدون أنفسهم قيد الاستجواب على يد واحد أو آخر من أجهزة الآمن فالناس يتوقون إلى قوانين يحترمها ‏الجميع لأنه في غياب مثل هذه القوانين يبدو أن الحماية الوحيدة تكمن في التقليد العربي القديم: الوساطة أي وجود ‏علاقات في أماكن عليا تسمح بالشفاعة و التدخل نيابة عن المرء. (١٨) أي أن هذا التحالف المقيت و إن بدا نفعياً مع ‏مرور الأيام و لكنه نشأ بدافع الفوبيا الاجتماعية لأولئك الذي نجوا من محرقة ذلك الانقلاب الطبقي الانتقامي.‏

‎ ‎في الحقيقة عندما نباشر بفهم هذا الانقلاب الطبقي " الانتقامي " و أن ما عنى به باتريك سيل بمقولة " ‏اليسار بإيحاء محلى " و إدراك ما قاله ميشيل سورا و أيده عليه نيقولاس فان دام و ما كلف الأول حياته في لبنان نجد ‏أن المدخل المباشر لفهم مقولة " اليسار بإيحاء محلي " هو مدخل الطائفية التي نمت و تغولت في أحضان الاستبداد - ‏كما سنوضح بعد قليل - و إذا كنا نتحدث عنها بشكل علني في لبنان و العراق المجاورين تحت أسماء الطائفية السياسية ‏و المحاصة الطائفية و الديمقراطية الطائفية كشرور لم يعد بالإمكان تجاوز حضورها المقيت و المرعب و على الرغم من ‏حظر تناولها العلني و لكنها تبقى حقيقة فظة و مؤلمة و قد عززتها قصة إقصاء أحد أعمدة النظام عن مركزه أي اللواء ‏علي حيدر حين فضح هذا المحظور في اجتماع ضمه مع رئيس الأركان السابق العماد حكمت الشهابي: " نحن مؤسسي ‏النظام لا ينبغي فقط مناقشة خطط طوارئ بل نريد أن يكون لنا رأي في عملية السلام ذاتها " و على الرغم من ذكر ‏الطائفية بشكل غير مباشر فقد كانت مفهومة لدى جميع أركان النظام (١٩) بشكل لا يدع مجال للشك أن حجم الطائفية ‏خرج عن المألوف لدى الجميع. ‏
‎ ‎
‎ ‎و من بوابة ذلك " الانقلاب الطبقي الانتقامي " يمكن الولوج إلى فهم أحداث الثمانينات و إلى فهم فشل أي ‏برنامج إصلاحي ‏أو أي جهد أو عمل أو محاولة في هذا الاتجاه لا يتلمس ما يسمى ب" المعارف الخاضعة " عند ميشيل ‏فوكو (٢٠) أي جملة ‏المضامين التاريخية المختفية و المقنعة في تماسك وظيفي أو في انتقائية شكلية التي يجب الشروع ‏بممارسة نقد حقيقي فعال ‏بعد إعمال العزل و السجن فيها لأنه بواسطة تلك المضامين التاريخية وحدها يمكن الحصر و ‏الكشف عن انفلاق ‏المواجهات و الصراعات حيث كان غرض الترقيعات الوظيفية و التنظيمات النسقية إخفاء المضامين ‏التاريخية و طمسها و ‏تقنيعها تلك المضامين التاريخية هي التي أطلقت على هذا النظام اسم نظام البنية المستعصية ‏‏(٢١)على الإصلاح فمع نشوء ‏هذا النظام و تطوره و أسلوب تعامله مع التحديات الداخلية سواء مع تناقضاته السابقة أو ‏مواجهاته الدامية مع الطليعة ‏المسلحة آو قمعه الوحشي للنقابات المهنية أصبح واضحاً تهدم أي آمال وطنية تساعد على ‏تجاوز الهوة و تحقيق الحد الأدنى ‏من التواصل الذي يحفظ مظهر الوحدة الاجتماعية و من هنا شكلت هذه الأحداث نقطة ‏فاصلة في تطور النظام فبدأ معه ‏التدهور الاقتصادي و الاجتماعي رغم كل محاولات الإصلاح حتى اللحظة و قد انقطعت ‏الروابط القائمة بين الدولة و ‏المجتمع بقدر ما تحولت الدولة إلى دولة الفريق المنتصر وحده و انهارت الأسس ‏الضرورية لقيام جماعة سياسية موحدة و ‏متضامنة و متفاهمة و متفاعلة (أي بمفهوم الدولة بحد ذاته ) و تجلت أزمة ‏عميقة في شرخ اخترق جميع هيئات المجتمع و ‏مؤسسات الدولة و المجتمع و قسمه إلى مجتمعين متنابذين و متباينين ‏تماما هما المجتمع الغالب و المجتمع المغلوب و ‏النتيجة هي ما يميز الأوضاع السورية الحالية من ركود اقتصادي و ‏إفقار اجتماعي و شلل للمؤسسات و الهيئات المدنية و ‏إحباط معنوي و عجز واضح من القيادة عن تحفيز الأفراد و ‏دفعهم إلى المبادرة و العمل و بذل الجهد و على الاستثمار و ‏التثمير في الحاضر و المستقبل. (٢٢) ‏

‎ ‎و الحقيقة أن هذا التقسيم للمجتمع السوري إلى فئتين أو مجتمعين مجتمع المنتصرين و مجتمع المغلوبين ‏عنى بأن الفرد بحاجة إلى دعم عصبيته الخاصة أو طائفته لينال قسط من الأمل بحياة أفضل و الواقع أن من يستعرض ‏تاريخ سورية يعرف أن تاريخ سورية يدرك بسهولة بأن العصبوية الطائفية و العشائرية سمة لازمت النظام الاستبدادي ‏فلم يكن المجتمع السوري في أي حقبة سابقة عصبوياً و مراهناً على العصبيات العائلية و الطائفية و العشائرية كما هو ‏عليه اليوم و السبب بسيط و واضح: بقدر ما تغلق على الفرد أبواب المواطنية (٢٣) من حيث التكون و من حيث ‏الممارسة و حيث العقيدة و بقدر ما يحطم أساس الانتماء الوطني الجامع الذي هو المساواة القانونية الفعلية و يترك ‏الفرد عارياً أمام قانون العسف و التعسف الأمني و غير الأمني تعود الو لاءات العصبوية إلى الظهور و يضطر الفرد ‏حتى لو تملك ثقافة حديثة و قيماً لم تعد ذات علاقة كبيرة بقيم العشائرية و الطائفية القديمة إلى العودة إلى الأطر التقليدية ‏و الاحتماء بها لضمان أمنه أو لتحقيق الحد الأدنى من الثقة و التكافل و التواصل و التفاهم مع أقرانه و كل السياسات ‏المتبعة منذ عقود في ميادين السياسة و المجتمع و الثقافة معاً و القائمة على التمييز على أساس الولاء أو الانتماء أم ‏الاعتقادات السياسية (٢٤) أو القرابة العائلية أم القرابة الجغرافية أم القرابة الثقافية تقود إلى قتل فكرة المواطنية و ‏روحها التي هي المساواة القانونية الفعلية المعبر عنها بمبدأ تكافؤ الفرص أمام الجميع بالتساوي.(٢٥)‏

‎ ‎و هل هناك شاهد صارخ على ما نتج عن تلك الميكانيكية التي بني فيها هذا النظام المستعصي أعظم مما ‏ترتب عنه من أثار كارثية أصابت و ألمت بالإنسان العادي في سورية من سياسات إفقار و بطالة و سوء توزيع الدخل ‏ولدت في ظل أنظمة العسف و العصبيات فقدان أي إحساس أخلاقي بالمسؤولية و بالنتيجة أفضت إلى فساد مادي و ‏معنوي نخر في جميع مفاصل الحياة السورية اليومية و لكننا لا نستطيع فهم هذا الواقع إلا بلغة الاقتصاد و معطياته ‏الرقمية: ‏

‏ ١ - تشير أرقام مكاتب التشغيل التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعي و العمل إلى أن عدد طالبي العمل المسجلين لديهم بلغ ‏في نهاية العام ٢٠٠٤ أكثر من مليون طالب عمل قبل فرار العمال السوريين من لبنان مع العلم أن قوة العمل في سورية ‏تقدر بأكثر من خمسة ملايين شخص أي بحسبة بسيطة نستطيع القول بسهولة بأن معدل البطالة يصل إلى ٢٠ بالمئة ‏بخلاف الإحصاءات الرسمية التي تتحدث عن ١١ بالمئة فقط !!! .‏
‏ ٢ - في دراسة لمكتب الإحصاء فإن حاجة الفرد في الأسرة للغذاء تبلغ ١٤٢٠ ليرة سورية شهرياً أي أن العائلة ‏السورية (خمسة أفراد وسطياً) تحتاج إلى نحو ٧٠٠٠ ليرة سورية لطعامها فقط و الطعام يشكل عادة نحو ثلث نفقات ‏الأسرة و إذا أخذنا معيار ٢ دولار في اليوم للفرد لتكاليف المعيشة فإن العائلة السورية المؤلفة من خمسة أفراد وسطياً ‏تحتاج إلى نحو ٣٠٠ دولار شهرياً أي أكثر من ١٥٠٠٠ ليرة سورية و من المعروف أن رواتب معظم العاملين بأجر لدى ‏الدولة و لدى القطاع الخاص لا تصل إلى هذا المستوى بالتالي فإن معظم العاملين بأجرهم دون خط الفقر فإذا أضفنا لهم ‏الذين يعملون بدون أجر و أيضاً نسبة من العاملين لحسابهم من حرفيين صغار و مزارعين صغار ممن لا يصل وسطي ‏دخولهم الشهرية إلى ١٥٠٠٠ ليرة سورية يتضح أن أكثر من نصف المجتمع السوري ما يزال يعيش تحت خط الفقر في ‏عام ٢٠٠٤ . (٢٦) ‏
‏٣- تشير بعض المعطيات الدولية عن سوء توزيع الدخل في سورية حيث أن ٥ بالمئة من السكان يتمتعون ب ٥٠ ‏بالمئة من الدخل الوطني. (٢٧) ‏

‎ ‎بذلك كله نخلص إلى حقائق انهيار خطط التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و تعاظم البطالة هنا و هناك مع ‏تعاظم سوء توزيع الدخل في الإطار التاريخي الذي وضحناه و فوق كل ذلك الاستئثار بالقرار الاقتصادي و السياسي و ‏الاجتماعي مما يقود إلى إفقار سياسي و تفرد سياسي و تفكك اجتماعي على نحو بدء يهدد النظام السياسي برمته و ما ‏يزيد الأمور تعقيداً ما يمارسه حراس النظام بمختلف إحجامهم و مواقعهم و أعمارهم و دورهم الوظيفي من دور يعمل ‏على حصار ذلك الوضع القائم و على الحيلولة دون اختراقه بقدر أو بآخر ذلك أن هؤلاء يعلمون بحكم خبرتهم السوداء ‏في نهب الفقراء و إنهاء المؤسسات و تلويث البيئة و استفراد المثقفين و المناضلين و تدمير الكرامة الوطنية و القيم ‏الأخلاقية.......الخ أن أي اختراق لتلك الحال قد يمثل حالة من التدفق الوطني الشعبي لا يمكن الوقوف في وجهها بل ربما ‏وضعنا يدنا على ظاهرة مثيرة هي أن هؤلاء المتمرسين بخطابهم الغوغائي المضلل لم يتركوا مجالاً يفوتهم في سبيل ‏الإيحاء بأنهم هم من يبشر بآفاق الديموقراطية و العدالة و الشرف الوطني و الولاء للشعب و الأمة فيحدثون الاعتقاد بل ‏الاقتناع الجازم بأنهم طراز جديد من حصان طروادة: إنها لعبة تاريخية عريقة و قابلة للتكرار ضمن شروط و مقتضيات ‏جديدة و بهذا فإن لحظات الانفراج التي تظهر في حياة المواطن بين حين و آخر يجري الانتقاض عليها و إنهاؤها و لسان ‏حال أولئك يقول كما يعمل أن يقول الناس: عفا الله عما مضى ! و لكن التاريخ يسير ضمن آلياته و قانونياته الخاصة ‏التي يشغل الوعي الإنساني التاريخي و الإرادة السياسية فيها دوراً كبيراً فإذا جرى القفز على مرحلة تاريخية ما ‏بمشكلاتها الكبرى و الصغرى بحجة « عدم الرغبة في المس بالاستقرار الاجتماعي فيها " فإن التاريخ بمكره و ‏مراوغته يضع ذلك في حسابه بأن يحدث " تكربج ٌ " في المرحلة المذكورة كلها بحيث يظهر ذلك بصراعات و تحركات ‏تنتمي لمؤخرة التاريخ مثل الصراع الطائفي و المذهبي و الاثني و الحزبي الضيق المهم في ذلك أنه لا يذهب هباء و لا ‏تنتهي مشكلات إذا ما تم اللعب عليها تأخيراً أو تزويراً أو محاولة لإقصائها من حساب العمل السياسي التاريخي. (٢٨) ‏

‎ ‎و ضمن هذه الحقائق نفهم بوضوح الدور السلبي لهذه الطبقة على الاقتصار و المجتمع السوري انطلاقا من ‏تلك الحقائق و الأرقام السابقة أو التسميات المختلفة المطلقة عليها ذات المدلولات الوظيفية مثل الطبقة الجديدة أو ‏الحرس القديم و الجديد أو حراس مصالحهم أو المجمع التجاري العسكري.........الخ و هذا الدور السلبي لا يمكن فهمه ‏بمعزل عن دورها الوظيفي في الحفاظ على استمرار النظام و حراسة وجوده أي أنها كيان متماهي مع النظام و السمة ‏الأساسية في كينونته الذاتية و النظام لا يستطيع أن يبقى يوم واحد يدونها و لا يمكن لأحد أن يتصور خروجها القسري ‏أو التطوعي من مسرح الأحدث دون أن يخرج معها النظام برمته لذلك نفهم بسهولة أسباب فشل أي محاولة جرت ‏للإصلاح يعلن النظام عنه فيظهر أنه يدور في حلقة مفرغة رغم شعارات الإصلاح الاقتصادي أو الإداري أو جلب الخبراء ‏الدوليين......الخ لسبب بسيط مفاده أن يريد البقاء في السلطة إلى ما لا نهاية و لا يتصور هذا النظام نفسه خارجها لذلك ‏هو مستعد لتقديم التنازلات الخارجية الواحد تلو الآخر مع رفضه لأي تنازلات داخلية و بقاءه في السلطة رهن بقاء تلك ‏الطبقة و استقرار وجوده رهن تماسكها فمجرد محاولة تغيير جدي بعيد عن عمليات التجميل و الترقيع هنا و هناك في ‏جسم هذه الطبقة يعرضه للاهتزاز الذي يهدد وجوده فلا يستطيع أن يقوم هنا بأكثر من إصلاحات شكلية بعيد عن أي ‏تغيير جذري و هنا تكمل العلة الكبرى هو أن التغيير يحتاج إلى طرف قوي يقوم به خارج النظام و المنطق يقول بان هذا ‏الطرف هو الشعب و هنا نعود إلى نفس الحلقة المفرغة للدور الوظيفي لتلك الطبقة و الذي سنوضحه بعد قليل الذي ‏أضعف الشعب و حركته و هذه هي النقطة الساخنة التي يطرحها دور الخارج و هذا ما أريد مناقشته في هذه المقالة و ‏لكن نستطيع القول بأن التغيير يتطلب أن تقوم به جهة قوية غير النظام و يكون بيت القصيد في التغيير هو وجود هذه ‏الطبقة الوظيفية و معالجته بين الرؤى المعتدلة و المتطرفة في هذه المعالجة مع إدراك حقيقة أساسية مفادها استحالة ‏القيام بمعالجة تامة لها أي بكلمة أخرى يستحيل العودة إلى حدود السابع من آذار ١٩٦٣ أو الخامس عشر من تشرين ‏الثاني ١٩٧٠ إن جاز التعبير لأن ذلك سيعنى فوضى خلاقة أخرى و انقلاب طبقي أخر لا يمكن إدراك نتائجه إلا بعد فترة ‏طويلة لان التجربة في المجتمع ليست كالتجربة في الفيزياء تستغرق دقائق أو ساعات بل سنوات أو عقود أو أكثر من ‏ذلك و إن اعتقد البعض بضرورة تحقيق العدالة المنشودة و لكن يجب أن تتشكل قناعة بضرورة إعادة ترتيب ما يمكن ‏ترتيبه في البيت السوري على أساس يستند إلى تحقيق سياسي سلمي يؤدي إلى بناء ما يسمى الجمهورية السورية ‏الثالثة على أساس عقد اجتماعي و طني ينتج بالنهاية دولة تعمل على إعادة ترميم هيكل الاقتصاد و المجتمع السوريين.‏

‎ ‎و لكن السؤال الذي يطرح نفسه هذه اللحظات الهامة في تاريخ سورية الحديث هو تحديد ملامح أكثر ‏تفصيلية و أكبر تمثيلية للدور الوظيفي الحساس لهذه الطبقة و الذي اشرنا إليه و بكلمة أكثر راهنية النصف الأخر ‏للحقيقة التي أخفاه بشار الأسد و اظهر نصفه الأول كونها تخندقت و تماهت عضوياً مع القطاع الخاص الجديد الذي ‏كونته بأبنائها الذين اقتحموا قطاع العمل الحر و احتكروه لابد لذلك أن تكون دفعت ثمناً باهظاً و عملاً ضخماً كوفئت عليه ‏و نالت هذا الأجر الباهظ و لا يمكن لنا أن ندرك هذه العلاقة المتشابكة إلا إذا قمنا بعملية تشريحية مبسطة و سريعة ‏لمكونات النظام الشمولي الذي عادة ما يتألف من ثلاثة أركان: ‏
‏١- نخبة متسلطة (عسكرية أو مدنية ) أو حزب حاكم.‏
‏٢- هرم بيروقراطي قائم على مبدأ الولاء الشخصي. ‏
‏٣- بنى موازية كالتضامنيات العشائرية و المذهبية و الإثنية و المهنية. (٢٩)‏

‎ ‎هذه الأركان الثلاث أحسن بنائها في سورية بتجلياتها التكوينية و الوظيفية و انعكاساتها في البناء الطبقي ‏و السياسي و الأخلاقي في داخل المجتمع السوري و قد زاد من قوتها و تحصينها أو بكلمة بشار "خندقتها في مواقعها ‏‏" تجليات أخرى رئيسية في بناء أي نظام شمولي هي الإرهاب و الأيدلوجية و الإعلام الموجه و ثلاثة مبادئ تضمن هذه ‏التجليات و تعززها هي:‏
‏١-‏‎ ‎مبدأ الاحتكار الفعال: احتكار السلطة و الثروة و القوة و احتكار الحقيقة و احتكار الوطنية وهذه الاحتكارات الثلاثة ‏هي التي بنته و أخرجته إلى الوجود و مكنته من الاستمرار حتى الآن و هي التي صنعت تلك النخبة الحاكمة و ضمنت ‏ثراءها الفاحش. ‏
‏٢-مبدأ الغلبة و القهر و هو ما سنوضحه بعد قليل لأن الوظيفة الأساسية لتلك الطبقة المتخندقة مع باقي وظائفها التي ‏نسردها هنا . ‏
‏٣-مبدأ شخصنة السلطة و عبادة القوة أي تماهي الشخص و المنصب الذي يشغله و انتقال قوة المنصب المادية و ‏المعنوية إلى الشخص الذي يغدو مثال القوة و العظمة و النفوذ و في أي حال تحل الأوامر محل القوانين و الامتيازات ‏محل الحقوق و الولاء و المحسوبية محل الكفاءة و الجدارة و الاستحقاق.‏

‎ ‎و لكن شخصنة أكبر من تلك هي التي أحيط بها حافظ الأسد نفسه و التي وصلت إلى طقوس عبادة الشخصية ‏بدليل تكرار الجميع لاسمه باستمرار و صوره الضخمة المعلقة في المباني البارزة و تماثيله التي أقيمت من أقصى البلد ‏إلى أقصاه و المذهل أن هذه الطقوس ورثت مع كافة المناصب و الصلاحيات الواسعة إلى ابنه بشار و النكتة السوداء ‏التي تجسد هذه المهزلة هو ما نقلته صحيفة النهار اللبنانية في الخامس من نيسان ٢٠٠٥ نقلا نيويورك صان الأمريكية ‏بقلم كلوديا روزيت ترجمة نسرين ناضر في مقالة بعنوان " لبنان يؤمن للمعارضين السوريين.... مكبراً " قصة مثيرة ‏عن مجند كردي سوري وشم على ظهره اسم حافظ الأسد لمنع الضابط المسؤول من ضربه بالكرباج " رواها الشاعر ‏ماهر شرف الدين و لكن و مع ذلك السؤال المثير المطروح هو مفاده ما الذي يجعل ولاء الضباط وكوادر الحزب ‏والموظفين الكبار وغيرهم ممن يشكلون تلك النخبة الحاكمة و محدثة النعمة خالصاً لهذا القائد أو ذاك؟أهي العصبية ‏‏الحزبية العقائدية أم العصبية الطبقية أم العصبية المذهبية أم العصبية الجهوية أم هناك أسباب أكثر موضوعية من هذه ‏‏جميعاً، لا سيما أن الزعماء المتنافسين كانوا غالباً من الحزب نفسه ومن الطبقة نفسها ومن أتباع المذهب نفسه ومن ‏‏الجهة ذاتها؟ لعل سبب الولاء الرئيس لهذا القائد أو ذاك هو الامتيازات التي يمنحها لأتباعه والمكاسب الشخصية التي ‏‏يبيحها لهم إضافة إلى إغراء السلطة والوجاهة ومن ثم فإن السلطة قد تحولت تدريجاً إلى مصدر للثروة والقوة والجاه‎ ‎‏بقدر ما كانت الحاجة تمس إلى الموالين والأتباع والأزلام‏‎ ‎‏ وربما كان بالإمكان تسويغ ذلك أخلاقياً أن هؤلاء المنعم عليهم ‏‏يستحقون ما يحصلون عليه لقاء ما يقدمونه من خدمات للوطن الذي تقلصت حدوده حتى تطابقت مع حدود الحزب ‏‏والسلطة وفي ظل غياب القانون وغياب مبدأ المحاسبة والمساءلة وتعطيل المؤسسات وشل القوى التي يمكن أن تقوم ‏‏بهذه الوظيفة تحولت الامتيازات والمنح والهبات وإطلاق أيدي "الرفاق المخلصين" في دوائر عملهم إلى قاعدة في ‏‏الحكم ويمكن القول: إن جميع العصبيات كانت تتقاطع في بؤرة واحدة هي المصلحة الخاصة التي راحت تحل تدريجياً ‏‏محل المصلحة العامة فلم تعد الدلالات السياسية تنعقد إلا عليها فأعيد إنتاج المبادئ والأسس التي كانت تقوم عليها ‏‏الدولة السلطانية وهي مبادئ وأسس مستقرة في اللاشعور السياسي تلخصها مقولات‎ ‎العشيرة والعقيدة والغنيمة ‏وأعيد ‏إنتاج الفرار من الدولة / السلطة أو الدولة السلطانية أو الدولة التسلطية والفرار من السلطة هو إما فرار منها ‏وإما فرار ‏إليها والذين فروا إلى السلطة لاتقاء شرها أو ابتغاء "خيرها" غدوا جماهير الحاكم وهالته وأعمدة عرشه ‏وبساط نعمته ‏ولم ينجوا مع ذلك من الحيف والقمع والإرهاب بل كانوا مضطرين دوماً إلى إثبات ولائهم بالتزلف ‏والنفاق أو بالوشاية ‏بالرفاق والأصدقاء والأقرباء وزملاء العمل وجيران السكن وتجلى الفرار من الدولة بانضواء ‏‏"الجماهير" في الحزب ‏الحاكم وفي "المنظمات الرديفة": طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة واتحاد الطلاب والاتحاد ‏النسائي والاتحاد الرياضي ‏واتحاد الفلاحين واتحاد الحرفيين والاتحاد العام للعمال واتحاد الكتاب واتحاد الصحفيين فضلاً ‏عن النقابات المهنية التي ‏يسيطر عليها الحزب وأجهزة الأمن سيطرة تامة. لقد أخضع المجتمع لعملية انتقال "ثورية" ‏من الحالة الرعوية إلى ‏الحالة الجماهيرية وأهم سمات الحالة الجماهيرية هي التأييد السلبي والاستجابة الشرطية ‏‏(كاستجابة كلب بافلوف) ‏لأوامر السلطة الصريحة والرمزية.‏‎ ‎‏(٣١)‏

‎ ‎و هنا يجب الربط بين بندين هامين يرتبط أحدهما بالأخر بشكل تتوافقي و نميا مع بعضهما البعض على نحو تؤمي ‏حتى تلاشت الحدود بينهما و صعب تفريقهما عن بعضهما البعض و حتى تغولا معاً إلى نحو مرعب فاحتكار السلطة و ‏الثروة و القوة و اختراق المجتمع المدني و تنسيق بناه و امتصاص قوته ارتبط بالجهد الذي بذله محتكرو السلطة و ‏الثروة و القوة في توثيق نظام الحكم على أساس القوة و الغلبة و القهر من خلال ممارسة الإرهاب المنظم و القمع ‏المقنن بالدستور و القوانين و المحاكم الاستثنائية و على رأسها قانون الطوارئ سيء الصيت و هذا ما لا يعترف به ‏بشار مع اعترافه قليل الأهمية بالبند الأول الذي دفع ميشيل سورا إلى اختيار لقب الدولة المتوحشة دون غيره على هذا ‏النظام القائم في دمشق و الشواهد التالية تبين لنا الدرجة التي وصل إليها هذا النظام في إمعانه في الإرهاب المنظم ضد ‏أبناء شعبه دون سواهم:‏

‎ -‎يقول باتريك سيل : " و كان من بين الانتقادات الأكثر خطراً من الفساد انتقاد سجل النظام في ميدان حقوق الإنسان ‏فالصلاحيات المطلقة لأجهزة الأمن و الظروف القاسية في المعتقلات بما في ذلك اللجوء إلى التعذيب قد لاحظتها منظمة ‏العفو الدولية و يظل سجن قلعة المزة القديم تذكرة للجميع بمنظره الكالح المتجهم من قمته فوق دمشق بين الشيراتون و ‏القصر الجمهوري «. (٣٢)‏
‎ -‎تورد جمعية حقوق الانسان في سورية و صفا مثيرا للاشمئزاز لوسائل النظام السوري في التعذيب الجسدي حيث تعدد ‏عدد من هذه الوسائل التي تسربت من السجون و المعتقلات و أقبية الأجهزة الأمنية الرهيبة فتسرد كل من الوسائل الأتي ‏ذكرها :‏

‏١ - الكرسي الألماني: هو كرسي معدني بسيط‎ ‎لم يبق فيه غالباً سوى المواسير بعد نزع المساند‎ ‎تمرر ماسورتا مسند ‏الظهر تحت إبطي المعتقل ثم تقيد يداه بالكلبشات الى الخلف وتنقلب وضعية الجلوس التقليدية بحيث يصبح الكرسي ‏جالساً فوق المعتقل بينما يغدو جسد المعني تحت الكرسي أو بين رجليه السفليتين‎ ‎لكن إبطيه وصدره معلقان بماسورتي ‏الظهر ثم تثنى أرجل المعتقل وتربط برجلي الكرسي العلويتين فيصبح جسده أشبه بقوس دائري تحت وحول الكرسي ‏عندها يبدأ الضرب بالكابلات على قدمي المعتقل وساقيه ويعاد بين فينة وأخرى شد الحبل وتشديد تقوس ظهر المعتقل ‏الذي كثيراً ما يصاب بشلل في أطرافه العلوية يدوم فترة تمتد تبعاً لدرجة تعرضه للتعذيب. ‏

‏٢ - الضرب بالكابلات: على القدمين أو اليدين أومختلف أنحاء الجسد والكابل عبارة عن مجموعة من الأسلاك النحاسية ‏المستخدمة في نقل الكهرباء تجدل بشكل جيد وغالباً ما أدى الضرب بهاإلى انتزاع قطع لحم المضروب مع سيلان دمه.‏

‏٣ - الدولاب:هو الإطار الخارجي لعجلة سيارة يوضع فيه المعتقل فينحصر كامل جسده داخله من الرأس وحتى القدمين‎ ‎عندها يتم ضربه بدون أن يستطيع أي حراك.‏

‏٤ - الكهرباء:تربط الأسلاك الكهربائية بمواضع حساسة من جسم المعتقل ويتم إرسال صعقات الكهرباء إليها وتستخدم ‏من أجل ذلك مولدات يدوية للكهرباء أو محولات يتم بواسطتها التحكم في شدة التيار المستخدم.‏

‏٥ - بساط الريح:يشد المعتقل من معصميه وقدميه بحبال إلى الجهات الأربع فيصبح معلقاً كالأرجوحة ويبدأ الضرب على ‏أنحاء جسده المختلفة مع إعادة شد الحبل بين فترات ضرب وأخرى. ‏

‏٦ - الحرق: بواسطة السجائر أو المدفأة الكهربائية لمواضع مختلفة من الجسم. ‏

‏٧ - الضرب والركل والصفع.‏

‏٨ - الجلد على أسفل القدمين. ‏

‏٩ - الحرمان من النوم.‏

‏١٠ - الإغراق بالماء: عن طريق إغراق الرأس في وعاء أو حوض مليء بالماء. ‏

‏١١ - السّلم: تربط قدما المعتقل بالحبال إلى درجات السلّم العليا ليصبح جسده العاري مقلوباً ومتدلياً إلى أسفل ويتمكن ‏المحقق الجزّار بذلك من جلده على كامل مساحة جسده المعلق.‏

‏١٢ ـ الفسخ: يمدد المعتقل على ظهره ويوضع كرسي فوق حوضه وتدخل ساقيه بعد طيهما وتثبيتهما بين قوائم الكرسي ‏فتغدو الساقان منثنيتين عند الركبتين ومفتوحتين إلى أعلى ويقف من يمينه ويساره واحد من الجزّارين صاعداً فوق ‏إحدى ركبتيه وضاغطاً بشكل متواتر مع زميله ( الجزّار المقابل) كي يتمكنا من فتح ساقي المفسوخ إلى أقصى زاوية ‏منفرجة وإذا كان المطلوب أكثر من زاوية ١٨٠ درجة فيجب رفع حوض (المعني بالفسخ) بوضع خشبة تحته مما يؤدي ‏إلى كسر الحوض وفصل الساقين عند رأس الزاوية أو نقطة المفصل العانيّ.‏

‏١٣ -الشبح: يعرّى المعتقل وتغطى عيناه بـ ( الطميشة) ثم يقيد بالكلبشات الحديدية ويعلق من معصميه أو من قدميه ‏بحبل يشده إلى سقف الغرفة فيصبح مشبوحاً كالذبيحة وهكذا يتوفر كامل جسده من كل الجهات مساحة حرة لضربات ‏الجزارين وسلخهم وفنونهم التي قد تشمل دغدغة المشبوح بصعقات الكهرباء‍‏‎.‎

‏١٤ - الضرب بالبلطة: وذلك على مشط القدم لإجبار المعتقل على الاعتراف السريع الأمر الذي كان يؤدي في غالب ‏الأحيان إلى قطع معظم أصابع القدم. ‏

‏١٥ -الإطعام الكريه: يجبر المعتقل على أكل مواد تالفة وأشياء كريهة وأحياناً يدفعه الجزارون إلى فتح فمه ودفع تلك ‏المواد دفعاً ليزلطها بلعومه كما حصل مع من أطعموه فأراً ميتاً في سجن تدمر‏‎.‎

‏١٦ - الأفعال المنافية للآداب: بعد تعرية المعتقل والعبث بعورته باستخدام العصا أو غيرها يجبر تحت الضرب والتهديد ‏على العبث بالمناطق الحميمة وقد يغصب على ارتكاب الفاحشة مع زميله أو شقيقه المعتقل معه.‏

‏١٧ - التغذية الرديئة:من المسلم به أن الطعام الذي يقدم للمعتقلين والسجناء عموماً هو غالبا رديء وقليل الكمية ويعتمد ‏المعتقل في كثير من الأحيان على موارده الخاصة فتتحول متطلباته إلى عبء آخر على عائلته أو مصادره الخارجية بينما ‏تصبح هذه المسألة منبعاً آخر للفساد في معظم السجون.‏‎ ‎‏(٣٣) ‏

‎ ‎يضاف إلى ذلك ما يذخر به نظام حافظ الأسد من مجازر ابادة جماعية في تدمر و جسر الشاغور و حماة و حي ‏المشارقة و التي حرص على وصول أخبارها الفظيعة إلى بيت سوري ليرسل رسالة مفادها " و قد أعذر من أنذر " و ‏كانت أبرز القصص التي دبت الرعب في القلوب ما حصل مع طبيب العيون و رئيس جمعية أطباء العيون في مدينة حماة ‏عمر شيشكلي حيث اقتلعت عينه لأنه طبيب عيون و اعدم مع المئات في مجزرة حماة الصغرى. (٣٤)‏

‎ ‎و هذه السياسة القمعية و إن أحلت سلام كاذب بواقع الخوف من تلك الانتهاكات الخطيرة التي تقشعر لها الأبدان ‏و لعل أبرز توصيف لهذه الحالة ما رسمه أحد قادة المعارضة السورية رياض الترك الشهير بمانديلا سورية و هو لقب ‏ذو مغزى مزدوج يقرنه بالجنوب أفريقي الشهير نيلسون مانديلا و سجانيه بنظام التمييز العنصري البائد في جوهانسبرغ ‏بأن يقول " إن إرهاب نظام حافظ الأسد خلال ثلاثة عقود حول البلاد إلى سجن للصم و البكم " و تلك الانتهاكات التي ‏مورست قمعت المعرضة السورية برمتها من يسارية و إسلامية و حتى البعثية و الناصرية منها إضافة إلى المنظمات ‏المهنية و منظمات حقوق الإنسان (٣٦) و هذا ما وضحه ميشيل سورا و تغافل عنه باتريك سيل حين اختزل المشكلة بين ‏حافظ الأسد و الأخوان المسلمون وحدهم و سنختم المقالة بكلمة حق في باتريك سيل و لكن لنوضح الصورة بمقولة ‏أخرى تلخص ما تحدثنا عنه حول الأزمة السورية قالها الكاتب الإنكليزي ألان جورج: " سورية: لا خبز و لا حرية «.‏

‎ ‎ربما الكثيرون عندما يذكر باتريك سيل يلوحون له بتهمتين قاسيتين هما أنه أولاً لم يخرج عن طقوس عبادة ‏الشخصية و الكتابة بأقلام فيلوأسدية من جهة و من جهة أخرى إخفائه حقائق الاستبداد و الدكتاتورية خلف السياسة ‏إضافة إلى ما سبق و أشرت إليه من تجاهله للمعارضة اليسارية و منظمات حقوق الإنسان السورية و إن كنا لا نحد ‏مبرر لأخر التهم و لكن نستطيع أن نناقش التهمتين الاولتين باستحضار كل ما سبق و ذكرته على لسانه و مقولة أخرى ‏له إذ يدعي: « أكانت هناك ظروف مخففة لعدم الكمال في بناء الأسد دولته ؟ لعل فترات حكمه الطويلة ما كان يمكن ‏تأمينها في ظل نظام حر أو ليبرالي و لا أمكن دحر الأخوان المسلمين و لا الصمود في وجه الهجمات الإسرائيلية و في ‏وجه منافسيه العرب " (٣٧) و لننتبه هنا إلى استعماله مفردات واضحة و ذكية مثل " الظروف المخففة " هذه العبارة ‏التي يستخدمها المحامون عندما يصيبهم اليأس من براءة موكلهم و هم يدركون أن تجريمه أمر حتمي لا شك فيه و ‏المفردة الثانية " فترة حكمه الطويل " و هي ربط جاء مباشرة بعد سرده لمظاهر الفساد و القمع في نظام حافظ الأسد و ‏كأنه يقول هذه نتيجة لتلك و بذلك يقر بعدم ديمقراطية النظام و لكن الأهم من ذلك طبيعة الظروف المخففة : ‏

‎ -‎الأخوان المسلمين الذين أصبحوا أخوته بفعل الجنسية البريطانية التي منحتهم إياها حكومته في لندن عندما آوتهم بعد ‏فرارهم من بطش حافظ الأسد أو ما نقله عنه من "عنفه الثوري «. (٣٨)‏
‏- التصدي للهجمات الإسرائيلية التي لم ينتقدها يوما قيد أنملة. ‏
‏- منافسيه العرب الذي لم ينتقد يوماً نعتهم بالمعتدلين.‏

‎ ‎‏ و عندما نقلب جيداً باتريك سيل و نتجاوز ما يعج به من تلك الطقوس الفيلو أسدية نجده و كما بينا وجه للنظام ‏بطرقته الخاصة من انتقادات فاقت انتقادات كبار المعارضين السوريين و هي طريقة تذكرنا بقصة المتنبي مع كا فور ‏الإخشيدي عندما هجاه دون أن يشعر الأخير إذ قال:‏

‎ ‎و لا تشتري العبد إلا و العصا ‏‎ ‎‏ معه إن العبيد لأنجاس مناكيد‏

و قد نجد المبرر عندما نتساءل من كان يستطيع أن يدخل إلى الطاغية في عقر داره و يأتي بوصف لسيرته و سيرة ‏نظامه دون أن يلقى مصير سورا و الحقيقة أن سيل بعمل وضح الكثير من الحقائق البشعة لهذا النظام الموغل في ‏الوحشية رغم ما ذكرناه من طقوس عبادة شخصية و كأن أراد أن يقول " إن اللبيب من الإشارة يفهم «.‏

‎ ‎و مهما تحدثنا و تعمقنا مع كل من ناقشنا طروحاتهم حول ما حدث و يحدث و سيحدث في سورية فإن أجمل ‏و أبشع ما يذكر في هذه الحالة المستعصية و في حالات مثلها هو ما قاله الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي في " إلى ‏طغاة العالم «:‏

ألا أيها الظالم‎ ‎المستبد
‏ حبيب الظلام , عدو الحياة‎
سخرت بأنات شعب ضعيف
و كفك مخضوبة من‎ ‎دماه‎
و سرت تشوه سحر الوجود
‏ و تبذر شوك الأسى في رباه‏

‏*****‏

‎*‎رويدك! إلا يخدعنك‎ ‎الربيع
و صحو الفضاء , و ضوء الصباح‎
ففي الأفق الرحب هول الظلام
و قصف‎ ‎الرعود , و عصف الرياح‎
حذار! فتحت الرماد اللهيب
و من يبذر الشوك يجنِ‎ ‎الجراح

‎*****

تأمل هنالك أنى حصدت
رؤوس الورى , و زهور الأمل‎
و رويت بالدم قلب‎ ‎التراب
و أشربته الدمع , حتى ثمل‎
سيجرفك السيل سيل الدماء
‏ و يأكلك العاصف‏‎ ‎المشتعل

‎*****‎






الهوامش:‏

‏١- منظمة لم تعرف لا من قبل و لا من بعد شأنها شأن التنظيم الذي اغتال رفيق الحريري و أعلن عن نفسه في ١٤ ‏‏شباط ٢٠٠٥ على قناة الجزيرة القطرية.‏
‏٢ –‏‎ L’etat de barbarie, Michel Seurat, Paris, Seuil, 1989 ‎
‏٣ - صابر فلحوط: بعثي شهير من مواليد بلد عيتل ١٩٣٥ في محافظة السويداء يعتبر أحد أبرز الوجوه الإعلامية ‏للنظام السوري حيث يترأس الاتحاد العام للصحفيين السوريين منذ عام ١٩٧٠ حتى الآن كما كان مديرا لوكالة الأنباء ‏السورية سانا و مديرا لدار البعث.‏
‏٤ - سيل، باتريك: الأسد: الصراع على الشرق الأوسط، ترجمة و نشر المؤسسة العامة للدراسات و النشر و التوزيع، ‏بيروت‎ ‎‏١٩٨٧، ص ١٣١ -١٣٢.‏
‏٥ –‏
AL-Jeba’i, Jad AL karim : L’opinion …et le sabre : les mécanismes de confiscation de ‎l’etat et renforcement du pouvoir : Démocratie et Droits Humains en Syrie, Sous la ‎direction de Violette Daguerre, Traduit par : Ahmed Manai et Hakim Arabdiou, ‎Editions Eurabe, 2001, Paris, Pages 56-57. ‎
‏٦ - الهامس، جريس: مملكة الاستبداد المقنن في سورية ( السجون و المعتقلات الرهيبة ) دار بافت، ألمانية، آلن‏‎ ‎فست ‏فالن، ٢٠٠٤، ص.‏
‏٧ –‏‎ Seurat, Michel : op. cit. , Pages 32-34. ‎
‏٨ - غليون، برهان: مستقبل الإصلاح في سورية، نحو عقد وطني جديد. محاضرة ألقيت في منتدى الحوار الوطني الذي ‏أسسه النائب المستقل رياض سيف (أحد معتقلي ربيع دمشق ) في ٥ أيلول‎ ‎‏٢٠٠١.‏
‏٩ - سيل، باتريك: مصدر سابق، ص٧٣٨-٧٣٩.‏
‏١٠ - حديدي، صبحي: بشار الأسد بعد الانسحاب من لبنان: اختبار النار، صحيفة القدس العربي، ٢٩ نيسان٢٠٠٥.‏
‏١١ - سيل، باتريك: مصدر سابق، ص ١٧٣.‏
‏١٢ –‏
Daguerre Violette : Les traits d’une époque :Démocratie et Droits Humains en Syrie, ‎Sous la direction de Violette Daguerre, Traduit par : Ahmed Manai et Hakim Arabdiou, ‎Editions Eurabe, 2001, Paris , Page 433 .‎
‏١٣ - البني أنور: دراسة عن آلية السيطرة و الهيمنة على المجتمع في القوانين الأساسية السورية و معوقات الحركة ‏نحو التغيير الديمقراطي و حقوق الإنسان، نشرة ( كلنا شركاء ) ١٠ - ١٢ تشرين أول ٢٠٠٤.‏
‏١٤ -‏‎ ‎سيل، باتريك: مصدر سابق، ص ١٧٨ .‏
‏١٥ - سيل، باتريك: مصدر سابق، ص ١٨٠.‏
‏١٦ - سيل، باتريك: مصدر سابق، ص ٥١٧.‏
‏١٧ - فان دام، نيقولاس: الصراع على السلطة في سورية الطائفية و الإقليمية و العشائرية في السياسة ١٩٦١ - ‏‏١٩٩٥: الفصل العشر - استنتاجات.‏
‏١٨ -‏‎ ‎سيل، باتريك: مصدر سابق، ص ٧٤٢.‏
‏١٩ - فان دام، نيقولاس: مصدر سابق، الفصل التاسع: نخبة السلطة في عهد حافظ الأسد ( مسألة الخلافة ).‏
‏٢٠ – فوكو ، ميشيل : يجب الدفاع عن المجتمع : دروس ألقيت في الكوليج دي فرانس لسنة ١٩٧٦ ، ترجمة و تقديم و ‏تعليق : الزواوي بغورة ، دار الطليعة ، بيروت ، ٢٠٠٣، ص٣٥.‏
‏٢١ - أطلق هذه التسمية صبحي حديدي في مقلة نشرت في صحيفة القدس العربي في ٢٢ نيسان ٢٠٠٥ بعنوان: " ‏القيادة السورية: أي إنقلاب أبيض يصلح البنية المستعصية ".‏
‏٢٢- غليون، برهان: مصدر سابق.‏
‏٢٣ - وضح جان جاك روسو في كتابه "العقد الاجتماعي « في الجزء الرابع الحاشية الثانية القضية السابعة و الثلاثون ‏المبدأ الذي يوضح العلاقة بين الدولة و المواطنية: " إنه لا يمكن دفع أي انفعال إلا بانفعال أقوى منه و أن كل إنسان ‏يتجنب فعل الشر مخافة شر أفظع منه بمقتضى هذا المبدأ يمكن للمجتمع أن يدعي لنفسه حق الانتقام الذي يدعيه كل ‏إنسان لنفسه و أن يستطيع بالتالي وضع قاعدة للحياة العامة و سن القوانين و تأييدها لا بسلطة العقل الذي هو دفع لأي ‏انفعال بل بسلطة التمهيد و العقاب و إن هذا المجتمع الذي يتأيد بالقوانين و بقدرته على الاحتفاظ بذاته يسمى دولة و ‏هؤلاء الذين يُحكمون بقوانينه يدعون مواطنين ".‏
‏٢٤ - هناك المواد ٨ و ٨٤ من دستور ١٩٧٣ التي تقنن التمييز على أساس الانتماءات السياسية.‏
‏٢٥ - حسين، لؤي: حوارات في الوطنية السورية: حوار مع برهان غليون، بترا للنشر و التوزيع، دمشق، اللاذقية، ‏‏٢٠٠٣، ص ١٢٢-١٢٣‏‎.‎
‏٢٦ - التقرير السنوي الثاني لجمعية حقوق الإنسان في سورية: من اجل المواطنة و حقوق الإنسان، عام ٢٠٠٤، ص ‏‏١٩-٢٠.‏
‏٢٧ - تركماني، عبد الله: إشكالات التغيير الديمقراطي في سورية، نشرة (كلنا شركاء) ٢٣ نيسان ٢٠٠٤.‏
‏٢٨ - تيزيني، طيب: من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني، دار جفرا للدراسات و النشر، دمشق، حمص، ٢٠٠١ ‏ص ١١٩-١٢١.‏
‏٢٩ –‏
AL-Jeba’i, Jad AL karim : op. cit. , Page 51.‎
‏٣٠ -‏‎ ‎سيل، باتريك: مصدر سابق، ص ٥٥٢.‏
‏٣١ –‏‎ ‎
AL-Jeba’i, Jad AL karim : op. cit. , Pages 61-63.‎
‏٣٢ -‏‎ ‎سيل، باتريك: مصدر سابق، ص‎ ‎‏٧٤١.‏
‏٣٣ - تقرير حول واقع التعذيب في سورية: أعدته جمعية حقوق الإنسان في سورية، كانون الثاني ٢٠٠٤. ص١١.‏
‏٣٤ –‏‎ ‎
Démocratie et Droits Humains en Syrie, Sous la direction de Violette Daguerre, Traduit ‎par : Ahmed Manai et Hakim Arabdiou, Editions Eurabe, 2001, Paris,Annexe N°1 , ‎Pages 75-76.‎
‏٣٥ - حوار مع رياض الترك أجرته كاثرين زويف في جريدة نيويورك تايمز في ١١ آذار ٢٠٠٥ نقلاً عن موقع الرأي‏‎ :‎
www.arraee.com ‎بتاريخ ٢٣ آذار ٢٠٠٥.‏
‏٣٦ -‏‎ Seurat, Michel : op. cit. , Pages75-76‎
‏٣٧ - سيل، باتريك: مصدر سابق، ص ٧٤٢.‏
‏٣٨ - سيل، باتريك: مصدر سابق، ص ٥٣١-٥٣٢.‏









#أنس_فاعور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أولئك أعداؤك يا وطني
- البعث السوري من الموسولينو عفلقية الى التقية


المزيد.....




- سموتريتش يهاجم نتنياهو ويصف المقترح المصري لهدنة في غزة بـ-ا ...
- اكتشاف آثار جانبية خطيرة لعلاجات يعتمدها مرضى الخرف
- الصين تدعو للتعاون النشط مع روسيا في قضية الهجوم الإرهابي عل ...
- البنتاغون يرفض التعليق على سحب دبابات -أبرامز- من ميدان القت ...
- الإفراج عن أشهر -قاتلة- في بريطانيا
- -وعدته بممارسة الجنس-.. معلمة تعترف بقتل عشيقها -الخائن- ودف ...
- مسؤول: الولايات المتحدة خسرت 3 طائرات مسيرة بالقرب من اليمن ...
- السعودية.. مقطع فيديو يوثق لحظة انفجار -قدر ضغط- في منزل وتس ...
- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة نفط بريطانية وإسقاط مسيرة أمير ...
- 4 شهداء و30 مصابا في غارة إسرائيلية على منزل بمخيم النصيرات ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - أنس فاعور - ميشيل سورا و باتريك سيل مشروع طاولة مستديرة حول نظام البنية المستعصية في سورية