أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدة عفيف - في انتظارِ حَبّْ الرّْشادْ















المزيد.....

في انتظارِ حَبّْ الرّْشادْ


سعيدة عفيف

الحوار المتمدن-العدد: 4023 - 2013 / 3 / 6 - 17:07
المحور: الادب والفن
    


ما زالت فْتاتْ الشَّطْبَه تنتظر حَبّْ الرّْشادْ(1) في كل الأوقات، بالرغم من عدم وجود أية إشارة توحي باقتراب موعد وصوله. بحثت عنه في كل الأسواق المجاورة و في كل الأماكن التي يرتادها، و سألت عنه الأصدقاء و الأقرباء المقربين إليه ، غير أن كل محاولاتها باءت بالفشل. و لم يتعبها البحث، فقد خطر لها أيضا أن تبحث عنه بلفافاتها الورقية الموجودة بدرج مكتبها أو بأحد كتبها ، لكنها لم تجد سوى حديث مستفيض عنه و عن فوائده و محاسنه، أما هو شخصيا فلم تلتقي به. هاتفته على أرقامه و أرسلت إليه رسائل، لكنه دائما لا يجيب.
و لقد كان هرّْبَلّْ الْمَفْهُومْ، و الشَّرْشْمَة الَحِْبيبَة، و بْرْكوكْشْ الَْبَاهِي، و العْصيدَة، و تالْخْشَة (بيصارة)(2) و غيرهم من الأصناف المخصصة لفطور بلدي لذيذ، يلهون على نار هادئة، بأوان فخارية بديعة الصنع و الهندسة، مطمئنين فرحين باقتراب موعد الحفل الكبير الذي أقيم على شرف كل ذوق تقليدي رفيع، هذه الفرحة التي لم يكن مصدرها غير تلك المكانة المميزة التي خُصصت لهم في وجبة الفطور في إطار الملتقى الوطني الثالث للذوق البلدي الأصيل.
و بينما هم كذلك، كانت فْتاتْ الشَّطْبَه ترفض بشموخ أن تلهو بدورها على النار الهادئة، متحججة في ذلك بأن نضجها الحقيقي و طعمها اللذيذ لا يتأتى إلا بحضور السيد حَبّْ الرّْشادْ الذي ما زال غائبا حتى الآن و بدون إعلام و على غير عادة.
لهيبُ نار أخرى و ظنون مرعبة كانت تلتهمها من الداخل، بسبب غياب رفيق عمرها الذي لا يغيب عنها أبدا إلا بعد أن يقوم بإخطارها، و حتى في هذه الحالة لم تكن غيبته تطول كثيرا، فهو إما يزور صديقا.. أو يذهب إلى البحر، حبه الكبير، كي يسبح قليلا أو يغوص في عمقه مع بعض من أصدقائه ممن كانوا مولعين بالغطس و الغوص في غور البحر للامتلاء من حضرة الجلال و الجمال. و بعد عودته إلى البيت غالبا ما كان يدخل في حديث طويل لا ينتهي مع رفيقته فْتاتْ الشَّطْبَه. يحكيان لبعضهما عن كل ما مر بهما في يومهما و عما قاما به خلال بُعدِ أحدهما عن الآخر، و غالبا ما كانت أحاديثهما محركة لأفكار جديدة لا يتداولانها عادة. و سرعان ما يثير ذلك أفكارا أخرى ثم تأخذهما روعة التواصل و سحره، و لا يحسان بمرور الوقت.
و أحيانا عندما يفكران بالامتزاج، تكون الطبخة غاية في اللذة المتجذرة في أصالتهما و في كنههما ككيانين يكتملان في كل لقاء، مكونين بذلك وحدة موضوعية و نوعية تثير اهتمام كل من سمت به أفكاره إلى مستوى ذواقة رفيع. و لشدَّ ما تكون لوعتهما و اشتياقهما للقاء آخر، لو كان الإقبال كبيرا عليهما إلى درجة نفاذهما إلا من رائحة شهية يتركانها وراءهما عندما يغيبان، الشيء الذي يتيح لهما فرصة العودة و الولادة المتجددة في كل لقاء. و كثيرا ما كانا يرددان أقساما ومقاطع ملحونية من قصيدة "الزردة" و التي لا يملان من تكرارها:
ضِيفْكْ أجاري شبَّعْني . زيدْ بِيَا للدَّارْ . لِيسْ تَعْمَلْ بْشْوَارْ
بْلَحْسَانْ كْرَمْني وَ لاَ تْكَثَّرْ هْضْرَة.
...............
هَاتْ لِي فُولْ مْدَمَّسْ مَنْ هْواهْ هَاجَتْ لَفْكارْ . وُ مْنَ الْحَمَّصْ قَنْطارْ.
طَيِّبْ وُ الْبَاقِي تَكْلِيهْ دُونْ الشَّهْرا.
جِبْ لِي بَرْكُوكَشْ بْحْلِيبْ طَايِبْ عْلَى الْمَقْدارْ. فِيهْ نَفْدِيوْ التَّارْ.
مْنَ الصّْغَرْ يَعْجَبْنِي مَا صَبْتْ عَنُّو صَبْرا. (3)
و لو عاد حبّْ الرّْشادْ يوما و لم يجد فْتاتْ في البيت أو كانت منهمكة في أشغالها الفنية التي كانت تبث فيها شيئا من خلجات روحها. يلجأ كعادته إلى مرسمه كي يحظى بالسكون و التأمل قليلا. فاختلاءه بنفسه أيضا ينمي ملكاته و طاقاته و يجعله أكثر تفتحا على مدارك جديدة و نادرة ترقى بقيمة العطاء لديه.
يبادر هرّْبلّْ فْتاتْ الشَّطْبَه قائلا:
-لقد تأخر الوقت يا فْتات، تعالي نلهو، و عندما يصل حَبّْ الرّْشادْ سيلحق بنا لمشاركتنا. تعالي.
تستجمع فْتاتْ الشَّطْبَه أفكارها الشاردة و تجيبه بإصرار و حزم:
-سأنتظر حبّْ الرّْشادْ إلى أن يأتي يا هرّْبلّْ، أنت تعرف جيدا أنني لم ألْهُ يوما مع غيره، ثم إن مكانه و دوره في اللعبة لا يمكن تعويضه، و مادام غائبا فلن تنجح اللعبة و لن تتوخى منها أية فائدة.
لم يعقب هرّْبلّْ بأي اعتراض بل قال في إيجاز:
-أرجو أن يصل قريبا.
و تقول هي بصوت مشفوع بالرجاء:
-أرجو ذلك يا هرّْبلّْ.
سرحت بها تخيلاتها و أفكارها بعيدا و هي تنتظر رفيقها، فتذكرت مساء ذلك اليوم الشتوي من أيام يناير الشديدة البرودة، حيث تنكمش كل الكائنات على نفسها، إن لم تجد كائنات أخرى تستأنس بها أو تسكن إليها لمحاربة التجمد و الصقيع.
مدت فْتاتْ يدها في الهواء ثم أسرعت بإرجاعها تحت لفائف ثوبها الذي كانت تلف به ركبتيها، حتى أنها كانت تضع منديلا على اليد الأخرى التي كانت تمسك بها الكتاب الذي تقرأه، و كلما تعبت قلبت الصفحة و أمسكته باليد الأخرى. وبينما هي مبحرة في عالمها، سمعت طرقا خفيفا على الباب قطع حبل أفكارها فقامت من مكانها متجهة نحو الباب. فتحت فإذا بالأحباء، كُسْكُسْ و الدّْشيشَة و السّْميدَة و بْرْكوكْش(2) يلقون عليها التحية مسرعين بالدخول للاحتماء من قسوة طقس تلك الليلة غير منتظرين أن تدعوهم للدخول. رحبت بهم السيدة فْتاتْ كعادتها و بعد أن قامت بواجب الضيافة نحوهم، كان السيد كُسْكُسْ يهم بقول شيء ما. وقد كان يبدو من ملامحه أنه ليس على ما يرام، مهموما بأمر لم يعد بعد قادرا على إخفائه، و ما لبث أن وجه خطابه للسيدة فْتاتْ قائلا:
-قبل مجيئنا كنا نتناقش حول أمر شديد الأهمية، و قد كان لكل منا رأيه الخاص. إلا أننا لم نصل إلى رأي حاسم في الموضوع. فأحببنا أن نشرككما أنت و السيد حبّْ الرّْشادْ، كي ننهي الجدل بهذا الخصوص.
أرادت فْتاتْ أن يدخل السيد كُسْكُسْ في الموضوع مباشرة بدون مقدمات طويلة، فقاطعته قائلة:
-عن أي موضوع تتحدث سيد كُسْكُسْ ؟
فهم كُسْكُسْ قصدها فأسرع مجيبا:
-عذرا فْتاتْ، إنه بشأن تمثيل عضويتنا في الملتقى السنوي و كذا الموسمي الذي يقام لأجلنا حفاظا على استمرارية أنواعنا و أصنافنا البلدية الأصيلة الشعبية التي تعتبر لبنة أساسية و شكلا من أشكال ثقافتنا و هويتنا الشعبية الواسعة النطاق. فصديقتنا الدّْشيشَة و السّْميدَة و حتى الأخ السي بَدَّازْ(2) الذي تعذر حضوره معنا الآن، يرون أنه ليس من الضروري تمثيل أنفسهم شخصيا في كل لقاء، و أنه من الممكن جدا أن ينتخبوا من يقوم مقامهم أو يمثلهم في كل مناسبة وطنية أو جهوية، و ذلك راجع لكثرة انشغالهم، ثم بدعوى أنهم متشابهين في عدد كبير من الأشياء، و أن الاختلاف الحاصل لديهم جد بسيط. هذا من جهة، و من جهة أخرى، فالسيد بَرْكُوكْشْ يرى أن يكون تمثيل عضويتنا بالتناوب في كل ملتقى. أما أنا فلست موافقا على الموقفين معا.
فسألته فتات عن سبب موقفه فقال بنبرة الواثق من نفسه:
-أنت تدركين يا صديقتي أننا أصناف متفردون. لكل منا عالمه الخاص. مكوناته و حيثياته و كل دقائق جزئياته التي يلزم تنفيذها بحذر و مهارة متناهية الدقة، كي ينجح الصنف نوعيا. ناهيك عن الطقوس الروحية التي نحتاج منها مقدارا محددا حتى يتأتى لكل صنف منا روح و نفَس يميزانه عن باقي الأصناف. ثم كيلا نكون مجرد مظهر بلا روح.
سكت قليلا كأنه يستشعر رأي فْتاتْ الذي لم تعبر عنه بعد، ثم تابع:
-و حتى لو اتفقت بعض الأصناف في الشكل النهائي، فهي تختلف ضمنيا في تركيبتها الباطنية. و من ثم يتحتم علينا أن نحترم هذا الاختلاف و أن نحافظ عليه ضمانا لاستمرارنا. ثم إن هذا سبب كاف لوجوب حضور الجميع في كل لقاء، كي يعبر كل منا بوجوده عن ماهيته و ضرورته في تشكيل ذوق أصيل شامل، و في تكوين هذا العقد الفريد المتميز. الذي سيكون من العبث و العته مجرد التفكير في إمكانية تعويض حباته بعضها ببعض.
كانت فْتاتْ تمعن في كل كلمة تصدر عن السيد كُسْكُسْ، و تظهر اهتمامها بكلامه في كل مرة بإيماءة من رأسها ثم عقبت قائلة:
-ماذا عساي أن أقول صديقي، فالفضل كله يرجع إلى هؤلاء الناس الغيورين الذين يسعون جاهدين متخطين جميع العراقيل لأجل تنظيم هذه الملتقيات، قصد الاحتفال بنا و تعزيز مكانتنا في المنظومة الذوقية الأصيلة، و تحييننا كذاكرة شعبية ما تزال واقعا ملموسا بالرغم من كل المضايقات العصرية الراهنة التي تقوم بها أصناف المعجنات المصنعة، السهلة و السريعة التحضير، و مختلف الأكلات الخفيفة التي تَجْهَز في دقائق، تبعا لما تعيشه المجتمعات اليوم من سرعة في كل المجالات. فأنت قد تتناول أكلك و أنت بمكتبك، أو بموقف التاكسي أو بالحافلة، إلى غير ذلك من المشاهد المشينة و التي تسيء كثيرا إلى هذه العملية التي تتطلب راحة نفسية قبل كل شيء. فلم يعد أحد ينعم بلذة ما يأكل للأسف.
-أشكرك صديقتي، هذا ما أردت الإشارة إليه. لا يمكن بأية حال أن نحارب هذه المستجدات الراهنة و لا مشكل السرعة الذي يفرض نفسه بشكل خطير في حياة الناس، و ما يسبب لهم من قلق و من أمراض خطيرة قد تودي بحياتهم و بسلامة عقولهم و أجسامهم التي لم تعد غاية في حد ذاتها.
-أجل. صحيح.
و تحرك فْتاتْ حاجبيها إلى الأعلى و شفتيها تأكيدا لموقف كُسْكُسْ بينما الآخرون احتفظوا بالإصغاء و الصمت لأنهم لم يجدوا ما يعترضون به .
جال كُسْكُسْ بعينيه حول الجميع و قال:
-أرجوكم. نحن نريد فقط أن تحفظ لنا مكانتنا على مر العصور و أن تنتقل هذه المهارات في إعدادنا و الخبرات بتذوقنا من جيل إلى جيل، و أن نحظى بقابلية شعبية واسعة استشرافا لغد أفضل. و إلا فسنسير قدما إلى الانقراض و الزوال.
في هذه الأثناء، كانت تلمع قطرات عرق على جبين السيد بَرْكُوكْشْ وكادت تسقط من أعلى حاجبيه لتتسلل إلى عينيه. فما لبث أن رفع يده بخفة ليمسح جبينه بطرف كمه. و استطرد قائلا:
-أنا لا أختلف معك في شيء عزيزي، إنما مسألة التناوب في تمثيلنا لن تنفي بأية حال وجود كل منا. هذا كل ما في الأمر.
و بلهجة الإصرار يضيف كُسْكُسْ قائلا:
-و مع كل ذلك، فوجودنا شخصيا ضروري و لن يضر بنا كما سيضر بنا الغياب. قيمتنا في وجودنا إذ يجب أن نُعايَن، كلا على حدة، بالمشاهدة و التذوق. الشيء الذي لا ينفع معه التناوب و لا غيره.
تبتسم فْتاتْ و تقول لبَرْكُوكْشْ:
-ما بك تتصبب عرقا و الجو قارس بالخارج؟
يضحك بَرْكُوكْشْ ثم يقول:
-أنا لا أشكو من البرد و لا أحتمي منه بكثرة الألبسة. فقبل مجيئي كنت أغلي بهدوء على واحْدْ المَجْمَرْ زاهَرْ لساعات طويلة و ما تزال حرارتي في الصعود الآن. يقول هذا ثم يستمر في الضحك و يكمل:
-إذا كنت سأشكو من شيء، فسأشكو من سخونتي و ليس العكس..
بينما السيدتين الكريمتي الطبع، الدّْشيشَة و السّْميدَة، تتبادلان النظرات المتواطئة و تسترسلان بدورهما في الضحك و تهمسان:
-ستنفجر حتما.
ثم يصيح كُسْكُسْ سائلا عن حبّْ الرّْشادْ:
-فْتاتْ، أين صديقي حَبّْ الرّْشادْ؟ نريد أن نراه قبل ذهابنا.
-لعله بالمرسم، هناك يحلو له أن ينسى الوقت و يختبئ لساعات.
في تلك الأثناء، حينما بدأت مناقشتهم تتشعب و تطول، محاولين ملامسة الموضوع من جميع جوانبه للإحاطة به بشكل شمولي، كان حبّْ الرّْشادْ يحاول الاتحاد بلوحته كي تلبسه و يتقمصها في محاولة أخيرة لإزالة كل حاجز يحول بينه و بين تجسيد هذا الإحساس الذي راوده و أرقه طويلا.
شغلته لوحةٌ تجسد الوعي الكامل بكل ما يعتمل بداخله من أفكار و أحاسيس. و تجسيدٌ فني ليست مهمته الكشف فقط عن خبايا هذا الكون الواسع، و إنما خلخلته من الداخل و استفزازه و التمرد عليه لأجل زحزحة مقاييسه و آلياته.
و حينما تستبد به تلك الأفكار، يجن جنونه و تأخذه سَوْرة من الانفعال بمرسمه، و عندما لا يجد من يكلمه، يخاطب الفرشاة تارة أو اللوحة أو حتى الفراغ من حوله، و تارة يكلم نفسه:
-كرهت كل المقاييس. أريد أن أقبض بيدي هاتين على مقاييس أخرى ..
ظل حَبّْ الرّْشادْ يفكر لِلَيال طويلة في الشكل الملائم و النهائي للوحة تحمل بين ألوانها و لمسات الفرشاة، هذا الزخم من الأفكار و التطلعات التي تتنازعه وتتجاذب عوالمه الخفية. و لما بدا له أن الرؤية الكاملة بدأت تتضح له خيوطها الرفيعة، تجرأ على حمل الفرشاة بأنامله التي شرعت ترقص على معزوفة الوثوق على الورق الأبيض. رسم هيكل اللوحة و أبعادها، ثم قرر أن يتركها لبعض الوقت و قال مخاطبا لوحته:
-لن أعود إلا عندما يحملني اشتياقي إليك، لأشبع لذتي الكبرى معك يا عشقي الجنوني. و لن أقنع بفراقك إلا بعد حصول الإقناع و الرضى. هذا وعد مني فتَرقَّّبيني.
قال ذلك و ابتعد شيئا ما عنها، ألقى نظرة متفحصة أخيرة و غادر المرسم، و بوادر فرحة أخذت تنمو بداخله.
لم يشعر أحد بخطوات حَبّْ الرّْشادْ إلا حين وقف بالقرب من المجتمعين مقاطعا و مرحبا بهم:
-كل الأحبة هنا. يا مرحبا يا مرحبا.
اغتبط الجميع برؤيته، حيَّوْه بحرارة فرد عليهم بأكثر من التحية و جلس بالقرب من فْتاتْ، و من ثمة استمر النقاش و احتدم. و كان أن ظفر السيد كُسْكُسْ بتزكية موقفه من طرف فْتاتْ الشَّطْبَه و حَبّْ الرّْشادْ اللذين أبديا إعجابهما بإصراره وصلابة موقفه.
مضى وقت على سرحان فْتاتْ الشَّطْبَه، و لم يأخذها من ذهولها سوى صوت صديقتها الشَّرْشْمَه، و هي تناديها بأعلى صوتها سائلة إياها إن كانت قد سمعت أي خبر عن اختفاء حَبّْ الرّْشادْ، فأكدت لها فْتاتْ أنه لم تصلها عنه أية أخبار بعد.
بقيت لساعات منكفئة على خوفها الغائر عميقا بأحشائها، مترقبة أن تحمل إليها النسمات المبللة، ذلك الصباح، أية إمارة تنبئها عن مكان وجود رفيقها وإن كان بخير أم لا.
غفت فْتاتْ الشَّطْبَه على أريكتها المفضلة بعد يوم مجهد، و على ما يبدو فالغفوة قد طالت و صارت نوما عميقا .. حيث كانت تصدر عنها أصوات و كلام غير واضح، و ما تلبث أن تفيق، و في يقينها أنها فقدت رفيقها و أن البحث عنه قد أضناها، حتى تعود من جديد إلى النوم، فيخطر لها قول الشاعر اعتقادا منها أنها لن تراه إلا بنومها:
و لكم زار في الكرى فوددنا * لو قضينا هاذي الحياة نياما
ثم تسترسل في حلمها ثانية من حيث تركته، و كأن تلك الهلوسة لم تقطع خيوطه العنكبوتية.
و بعد لحظات قليلة، أحست بيد قوية تحركها برفق و تنتشلها من كوابيسها. فتحت عينيها بمشقة فصرخت عند رؤيتها حَبّْ الرّْشادْ و صاحت برعب قائلة:
-أنت هنا؟ متى جئت و أين كنت غائبا طول هذه المدة؟ لم أترك مكانا إلا و بحثت عنك فيه و لا أحدا إلا و سألته عنك.
قال حَبّْ الرّْشادْ مهدئا:
-على رسلك فْتاتْ، اهدئي. أنا هنا بجانبك و لم أذهب إلى أي مكان.. ربما هي أضغاث أحلام ليس غير.
و عند سماعها هذا الكلام، شعرت ببادرة صحو تغمرها و برفيقها يمد إليها كأس شاي انتهى على الفور من تحضيره:
-خذي يا رفيقة الدرب، هذا كأس شاي منعنع و مْشَحَّرْ واحْدْ مولاتي التّْشْحيرَة من ذاك الطِّرازْ الرّْفيعْ لعله يفلح في إيقاظك من سباتك.. كيف تعتقدين أنني سأغيب عنك؟ نحن كلٌّ لا يقبل التجزيء. فكري هكذا. هيا خذي.
تأخذ فْتاتْ كأس الشاي منه، ترشف قليلا ثم تبتسم ساخرة مما حصل لها.
-ربما يكون السبب كثرة الأشغال التي أرهقتني اليوم.
هكذا أوضحت لحَبّْ الرّْشادْ الذي سألها أن تحكي له عما حدث بالحلم. لكنها أجلت ذلك إلى وقت آخر، لأنها لا تحب أن تتذكر أن رفيق عمرها ضاع منها أثناء كابوس عابر.

سعيدة عفيف
مراكش 20 غشت 2011
.......................................
(1)- حبّْ الرّْشادْ: (الثُّفَّاء) نوع من البذور تستعمل لتحضير الأكلة الشعبية فْتاتْ الشَّطْبَة.
(2)- فْتاتْ الشَّطْبَة - هرّْبَلّْ - الشَّرْشْمَة - بْرْكوكْشْ – العْصيدَة - تالْخْشَة (بيصارة) - كُسْكُسْ - الدّْشيشَة - السّْميدَة – بْرْكوكْش - بَدَّازْ: أكلات بلدية شعبية.
(3)- من قصيدة "الزردة" (الوليمة) لشاعر الملحون الحاج محمد بن علي المسفيوي.



#سعيدة_عفيف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شَطَحاتْ
- على المرقصْ
- حوارٌ سُفْلِيّ
- في عيد الحبّ
- رِهانْ
- رَيْثَما...


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدة عفيف - في انتظارِ حَبّْ الرّْشادْ