أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - عبد الحسين شعبان - الدستور العراقي الحالي حمّل أوجه وألغام















المزيد.....



الدستور العراقي الحالي حمّل أوجه وألغام


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3946 - 2012 / 12 / 19 - 18:10
المحور: دراسات وابحاث قانونية
    


الدستور العراقي الحالي حمّل أوجه وألغام*

مقابلة مع الأكاديمي والمفكر العراقي
د. عبد الحسين شعبان(أستاذ فلسفة اللاعنف والقانون الدولي)

أجرى المقابلة علي شكر – بيروت

1- ما هي قراءتكم للتغيرات العربية الراهنة، أو ما يسمى بالربيع العربي؟
ما نطلق عليه " الربيع العربي" هو جزء من قانون اجتماعي عام لمرحلة تأريخية طويلة نسبياً، خصوصاً صيغتها الجديدة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فبعد انحلال الحلف المعادي للفاشية والنازية، وانفكاك عرى الإئتلاف الرأسمالي- الاشتراكي، بدأت الحرب الباردة تستقطب المعسكرين في إطار صراع آيديولوجي محموم، حين رفعت الرأسمالية شعارات العالم الحر والحريات الفردية وهو ما دعا الزعيم البريطاني وينستون تشرشل لإطلاق صيحة "الحرب الباردة" لمواجهة الخطر الشيوعي، في حين رفعت الاشتراكية شعارات العدالة الاجتماعية والحقوق الجماعية والقضاء على الاستغلال في المواجهة الكونية مع الرأسمالية.
ــــــــــ
• نشر هذا الحوار بشيء من التكثيف في مجلة معلومات العدد 108، تشرين الثاني (نوفمبر) 2012.
لقد ركّز الغرب على الديمقراطية السياسية والحقوق الفردية، في حين كان اهتمام الشرق تعظيم شأن الديمقراطية الاجتماعية " التشاركية " والحقوق الجماعية، لا سيما الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وفي هذه المواجهة لم تصمد الكتلة الاشتراكية في الصراع الدولي، الذي استخدم فيه الغرب سباق التسلّح وصولاً لحرب النجوم، إضافة إلى الاختراقات الداخلية وفقاً لنظرية بناء الجسور التي قال عنها مجمع العقول والأدمغة الحربي - الصناعي الأمريكي منذ الستينيات أنها جسور ستعبرها الأفكار والسلع ونمط الحياة، إلى قلاب المعسكر الاشتراكي لتقوم بتغييره.
وإذا كانت المدرسة الرأسمالية قد قطعت شوطاً بعيد المدى في درب الديمقراطية السياسية، فإن ثلاث بلدان غربية ظلّت استعصاء حتى أواسط السبعينيات، وهي البرتغال التي حكمها الدكتاتور سالازار الذي أطيح به في العام 1974 وإسبانيا التي حكمها الدكتاتور فرانكو نحو أربعة عقود من الزمان حتى وفاته واليونان التي كان للعسكريتاريا دوراً كبيراً في فرض الدكتاتورية العسكرية، وقد اتجهت هذه البلدان نحو الديمقراطية، وأعدّت دستوراً ديمقراطياً وأجرت انتخابات في إطار التعددية، استناداً إلى مبادئ سيادة القانون وفصل السلطات وإشاعة الحريات والتداول السلمي للسلطة.
أقول أن هذا القانون العام وموجة التغيير الثانية وصلتا إلى أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات، وشملت دولاً مثل بولونيا وهنغاريا وألمانيا الديمقراطية وتشيكوسلوفاكيا، ورومانيا ويوغسلافيا، وفيما بعد بلغاريا وألبانيا والاتحاد السوفييتي، حيث أطيح بالأنظمة الشمولية التي حكمت ما بعد الحرب العالمية الثانية ولغاية انتهاء الطور الأول والأساس من الحرب الباردة في العام 1989.
وهكذا وصلت الموجة الثالثة للتغيير إلى الوطن العربي بعد أن كانت قد تحاقبت فترة التغيير الديمقراطي مع عدد من دول أمريكا اللاتينية، وبعض دول آسيا وأفريقيا التي سبقتنا إليه.
وإذا كانت تونس ومصر وليبيا واليمن قد أنجزت الخطوة الأولى الأساسية لعملية التغيير بالإطاحة بالأنظمة السابقة، على الرغم من بعض التداخلات الخارجية بما فيها للناتو في ليبيا وما تركه من تأثيرات سلبية، فإن مشروع التغيير وخصوصاً لتحقيق أهداف الثورات العربية، لا سيما في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد، لا يزال ينتظره الكثير، خصوصاً وهو يتعرّض لتعثرات وتراجعات، لكنه يبقى جزءًا من موجة عامة ستطال بلدان المنطقة، وإنْ كانت ليست قدرية أو استنساخية ، فلكل بلد ظروفه الخاصة وأوضاعه المختلفة، وإنْ كان هناك نوع من المشتركات الجامعة للثورات العربية، إلاّ أنها في الوقت نفسه تحمل طبعتها الخصوصية وسماتها المحلية، حتى وإن استفادت من الظروف الدولية والإقليمية.
كان التغيير في العالم العربي قاب قوسين أو أدنى، فقد بُذلت تضحيات كبيرة ودفع الإصلاحيون ثمناً باهظاً وكانت الظروف الداخلية ناضجة والعامل الذاتي يستكمل قوامه، الاّ أن العامل الخارجي لم يكن مهيئاً أو مستعداً.
وهكذا تعثر التغيير الداخلي، وذلك لأسباب ثلاثة: الأول وجود إسرائيل وعدوانها المتكرر على البلدان العربية، التي انصرفت فيها ما سمّي بدول المواجهة وغيرها إلى التسلّح مبررة تعليق الديمقراطية والتنمية على شماعة الصراع العربي- الإسرائيلي، وهو ما تعكّزت عليه الأنظمة لعقود من الزمان، خصوصاً وأن الديمقراطية لم تكن من أولويات الحركات السياسية العربية بجميع تياراتها.
والثاني وجود النفط ودور القوى الامبريالية في وضع اليد عليه والهيمنة على مصادره والتحكّم بانتاجه وأسعاره وأسواقه وطرق مواصلاته وغير ذلك، وهو عامل يوازي عامل حماية ما يسمى "أمن إسرائيل" الذي ظلّ سياسة شبه ثابتة للقوى الغربية الكبرى، ولا سيما للولايات المتحدة منذ أواخر الخمسينيات.
والثالث بسبب الصراع الآيديولوجي الدولي الذي كان دائراً بين الرأسمالية والشيوعية وكان كل فريق يريد أن يهيمن على جزء من المنطقة ويوجهه أو يستفيد منه في صراعه ضد الفريق الآخر.
وعندما انهارت المنظومة الاشتراكية كان من المتوقع أن تصل رياح التغيير إلى شواطئ البحر المتوسط، لكنها انكسرت عندها، وكان للعامل الخارجي دوراً أساسياً في ذلك، فلم ترغب القوى الإمبريالية خوض الصراع على جبهتين قبل ربع قرن من الزمان، فضلاً عن عدم استعدادها أو تمكّنها من الدخول في ذلك، حتى لو أرادت، خوفاً أو حذراً من نتائج لم تكن قادرة على استيعابها آنذاك.
لكن هذه العوامل لا تعني أن التغيير هو إرادة خارجية، بقدر ما كانت تواصلاً وتفاعلاً مع المحيط الدولي ونضالات طويلة ومتشعبة لدعاة التغيير والإصلاح من المناضلين العرب، خصوصاً في ظل احتدام العوامل الداخلية الأساسية، ونعني بها شحّ الحريات وهدر حقوق الانسان ووصول التنمية بمعناها الاجتماعي إلى طريق مسدود، فضلاً عن هدر المال العام وانتشار ظاهرة الفساد المالي والإداري وازدياد التفاوت الطبقي، خصوصاً وأن نسبة الفقر ارتفعت في جميع بلدان المنطقة، في حين ارتفعت نسبة الأغنياء على حساب الفقراء، مع تردّي ظروف التعليم والصحة والخدمات والضمان الاجتماعي بشكل عام.

2- وهل هناك تأثير بين ما حصل في العراق وبين الثورات العربية؟

إن الزعم بأن الاحتلال العسكري للعراق كان "ربيعاً" عراقياً، فيه شكل من أشكال الإقحام وربما التعسف أو التجنّي في استخدام ما تحقق من منجزات للربيع العربي، وهو أمرٌ لا علاقة له لا من بعيد أو قريب بالاحتلال أو تشكيلاته، لكن بعض أخواتنا من القيادات العراقية الحاكمة والمشاركة في العملية السياسية، يريد أن يعطي مثل هذا الانطباع ناسباً " الريادة" في الربيع العربي " للعراقيين"، علماً بأن الإطاحة بالنظام السابق استندت بالأساس على العامل الخارجي، الذي عوّلت عليه بعض القوى العراقية وتوافقت معه في سبيل ذلك، في حين أن عملية التغيير في البلدان العربية كانت داخلية أساساً، حتى مع وجود جيوب خارجية.

وإذا كان حلم العراقيين بغالبيتهم الساحقة الخلاص من الديكتاتورية، فإن الإحتلال كان وجهاً آخر للديكتاتورية البغيضة. صحيح أن مستلزمات كثيرة قد توفرت اليوم بفعل الإنسحاب الأميركي من العراق، لكن ذيوله وتبعاته لا تزال باقية ومؤثرة، منها الانقسام الطائفي والإثني ونظام المحاصصة والفساد المالي والإداري وظاهرتي الارهاب والعنف، ناهيكم عن ضعف الدولة وانكسار هيبتها.
ومع ذلك فموضوعياً فقد تهيأت فرص للتغيير التطوري التدريجي في العراق، ولا يمكن لعراق اليوم أن يعود إلى الماضي. فقد وصلت الدولة البسيطة المركزية إلى طريق مسدود، خصوصاً بعد أن تميّزت بالصرامة والواحدية والغاء الآخر والتفرد في إتخاذ القرارات، في إطار حكم شمولي شديد البأس، لكن ذلك لا يعني أن الدولة الفيدرالية المركبة، أي التي توزّع الصلاحيات بين المركز والأقاليم قد تأسست أو تم بناء تركيبتها على نحو مستقر أو واضح.
فما هو قائم اليوم هو مرحلة انتقالية فيها إرهاصات غير مكتملة، وبعضها تطبيقات متناقضة ومتداخلة، وهناك نقص في الفهم والوعي لمركب الدولة الفيدرالية وآفاقها ومستقبلها ومثل هذا يشمل جميع الفرقاء، خصوصاً إذا أراد البعض أن ينظر إلى الفيدرالية باعتبارها صفقة سياسية مؤقتة، وليست نظام حكم متطور وعصري يقوم على أساس تفاهم وعقد اجتماعي بين المجموعات المختلفة ويأخذ مصالحها جميعاً بنظر الاعتبار، سواء كانت فيدرالية قومية أو إدارية أو جغرافية.
إن المنطق الذي يقول أن ما حصل في العراق كان النموذج الأول للتغيير في المنطقة فيه تغول على الحقيقة، خصوصاً وأن التغيير الذي حصل لم يكن بفعل العوامل الداخلية، وإن كانت هذه ناضجة ومهيأة ، لكن التغيير الذي حصل كان بفعل شن قوات التحالف هجوماً حربياً واسعاً على العراق بعد حصار دولي جائر دام نحو 13 عاماً، أدت إلى احتلاله تحت حجج ثلاث واهية:
الأولى: إن العراق يملك أسلحة دمار شامل يمكن أن يستخدمها لتهديد السلم والأمن الدوليين وذهب البعض إلى زعم أنه يمتلك مادة الانتراكس التي يمكن أن تقضي خلال وقت قصير على ملايين الناس، ودفع مثل هذا الزعم وكلاء عراقيين بعضهم من المثقفين إلى ترويج ذلك، بحجة أنه يمكن استثمار صناعة الانتراكس خلال 45 دقيقة.
الثانية: زعم علاقة العراق بالارهاب الدولي، ولا سيما تنظيمات القاعدة ورسمت سيناريوهات مختلفة عن صلات واجتماعات وغير ذلك، مثلما تم نسج علاقة من صنع الخيال بدولة النيجر وغيره بشأن أسلحة الدمار الشامل، وكل ذلك أخذ طريقه إلى الاعلام الدولي، لا سيما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية الاجرامية في الولايات المتحدة.
والثالثة: إن العراق يشكّل عقبة أمام النظام الدولي الجديد بسياسته الخارجية العدوانية إزاء دول الجوار خاصة بعد غزو الكويت في العام 1990، وفي سياسته الداخلية ولا سيّما في ميدان حقوق الإنسان، وهي قول حق يراد به باطل، فالنظام العراقي الدكتاتوري القمعي الذي يكشف سجّله الحقوقي انتهاكات سافرة لحقوق الإنسان سواء إزاء عموم الشعب أو إزاء الأكراد بشكل خاص، كان مقبولاً إن لم يكن حليفاً للغرب، خصوصاً في فترة الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988، وتم غض النظر عن ارتكاباته السافرة والصارخة عندما تم قصف حلبجة بالسلاح الكيمياوي أو شن حملة الأنفال التي راح ضحيتها عشرات الآلاف، أو ملاحقة القوى اليسارية والقومية العربية والدينية وخصوصاً تهجير عشرات الآلاف إلى إيران بحجة التبعية الإيرانية.
بفعل هذه العوامل الثلاث، شنت الولايات المتحدة الأميركية الحرب على العراق واحتلت أراضيه بعد معارك محسومة النتائج سلفاً دامت 3 أسابيع، أرادت من خلالها أن تجعل من العراق نموذجاً لسياسيتها في المنطقة، وكان أن حددت بعض الدول على أنها "مارقة" أو دول "محور الشر" لا بد أن يجري فيها ما جرى في العراق وهي إيران، سوريا، كوريا، وليبيا.
هكذا كان التغيير جاهز الصنع، بمعنى أنه بعد التفكيك ستأتي عملية لإعادة البناء، لهذا السبب حلّ الجيش العراقي وعدد من مؤسسات الدولة بتبرير الفوضى الخلاقة، على أمل أن يعاد بناؤها وفقاً للمخطط أو الخارطة الأميركية للبناء الجاهز، أي يجب الإتفاق على جمعية تأسيسية، ثم مجلس حكم إنتقالي، ثم دستور مؤقت، ثم دستور دائم، ثم إستفتاء وإجراء انتخابات لكي يقال أن هذه البلدان أصبحت جاهزة للسير بطريق الديمقراطية.
3- ما أهم المتغيرات التي عرفها العراق بعد سقوط نظام البعث واحتلال البلد من قبل الولايات المتحدة وحلفائها؟.
أول المتغيّرات هو وقوع العراق تحت الاحتلال، وعلى الرغم من انسحاب القوات الأمريكية المحتلة في نهاية العام 2011 فإن اتفاقية الإطار الاستراتيجي التي لا تزال تحكم العلاقة بين بغداد وواشنطن نقلت الاحتلال العسكري إلى احتلال تعاقدي، بحيث تستطيع الولايات المتحدة بموجب هذه الاتفاقية التأثير والتحكّم في الكثير من مفاصل السياسة العراقية، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ولآماد غير محددة، علماً بأن العراق لا يزال يرزح تحت تأثير نظام العقوبات الدولي والفصل السابع حتى الآن، على الرغم من تغيير النظام وإبطال الكثير من مفردات الحصار الدولي الذي فرض عليه.
أما المتغيّر الثاني فهو الإطاحة بالديكتاتورية، لكن هذا لا يعني الانتقال أوتوماتيكياً إلى الديمقراطية، فهذه الأخيرة كيانية تكاملية تدرّجية تطوّرية بطيئة الأمد وبحاجةٍ إلى بناء مُحكم يقوم على أساسات ثابتة بالأرض والبيئة، وذلك لكي تنبثق الديمقراطية وتُرعى يوماً بيوم وخطوة خطوة، لتأتي ثمارها ناضجة ومفيدة.
أما أن تنتقل الديمقراطية جواً بواسطة الطائرات، أو تُحمل أرضاً فوق ظهر الدبابات، أو يُراد فرضها بطريقةٍ افتراضية، فهذا أمر يتنافى مع مبادئ الديمقراطية أولاً، ثم أنه مسألة غير واقعية ثانياً، حتى وإن كانت بعض مظاهر الديمقراطية قد وصلتنا، مثل إجراء انتخابات ووجود دستور وبرلمان وسلمية تداول السلطة، لكن ذلك لا يعني الديمقراطية، فما بالك إنْ كان مشوّهاً.
صحيح أن الدستور الدائم الذي تم الاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول (اكتوبر) 2005 جاء ببعض المبادئ المتقدمة بشأن المواطنة والحقوق والحريات، وهو أفضل من جميع الدساتير العراقية التي سبقته بل أفضل من الكثير من الدساتير العربية في هذا الباب، لكنه يصطدم بكوابح وعقبات أساسية تحول دون تطبيقه، لاسيما المحاصصة الطائفية والإثنية التي فرضها بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق 13 أيار(مايو) 2003- 28 حزيران (يونيو) 2004، خصوصاً افتراض تقسيم المجتمع العراقي إلى تكوينات مؤلفة من (شيعة، سنّة، أكراد) بعيداً عن الهوية العراقية الجامعة والمشتركة، الأمر الذي بدأ بالحصص ثم قرر بريمر حصة كل فريق، وقادة هذا المنطق بنهاية المطاف إلى تقزيم فكرة المواطنة وتحويل الهوية المانعة الجامعة الموحدة والمتعددة في الآن عينه إلى هويات مصغّرة وجزئية.
لقد كانت الهوية العراقية تجمع الوحدة والإختلاف، وإذا بها تتحول في إطار تقسيم بريمر وأمراء الطوائف إلى هويات فرعية خاصة متصارعة مع الهويات الأخرى، ونسي بريمر أن الديمقراطية -وهكذا أثبتت التجارب -أوجدت جدلية جديدة وعلاقة عضوية ما بين الهوية المشتركة والمختلفة في الآن ذاته على أساس ما هو موحّد وما هو خاص.
ولعلّ من واجب الهويات الكبرى إحترام الهويات الصغرى على أساس المساواة والتكافؤ، وهكذا ستكون علاقة الهويات الفرعية بالهويات العامة، علاقة تكامل وتواصل وتفاعل وليست احتراب وافتراق وتباعد واقتتال، وتلك هي الميزة التي تمنحها الديمقراطية والمواطنة والمساواة وليس العكس.
لكن تكريس الامتيازات الطائفية والإثنية وخصوصاً لأمراء الاحتراب الداخلي والتمترس المذهبي وبسبب سيادة العنف والارهاب وانتشار الفساد وتفشي الميليشيات فقد تعرضت الدولة العراقية التي ضَعُفت هيبتها إلى حدود كبيرة إلى التعويم وضاعت المسافات أحياناً، بينها وبين مكوّناتها، وربما أراد البعض تقديم هذه المكوّنات عليها، فأخذ ينسب نفسه إلى الطائفية أو القومية أو العشيرة أو الدين قبل الوطن وهويته الجامعة لجميع هذه التكوينات.

4- كيف يسهم الدستور العراقي في التغير الحاصل، وما تأثيره على مستقبل النظام السياسي؟.

لقد انتقل العراق من سيادة فكر مركزي شمولي استبدادي بوليسي طويل الأمد وعلى نحو مفاجئ إلى شكل من الفوضى والحريات غير المنظمة المصحوبة بتنازع المصالح وتضارب الامتيازات، تلك التي ولّدت صراعات حادة طائفية وإثنية. صحيح أن حرية التعبير اليوم أفضل بما لا يقاس عن السابق، لكن حرية التعبير جاءت في ظل غياب الهوية الوطنية العراقية الموحدة وتمترس العديد من الجهات في الهويات الفرعية التي بدت متناحرة للحصول عن المواقع الطائفية والمذهبية والإثنية.
كل ذلك وجد بعض تبريراته من خلال صيغة بريمر وبعض مواد الدستور، سواء قانون أدارة الدولة للمرحلة الإنتقالية الذي كان بإشراف بول بريمر الحاكم الأميركي بالعراق، أو دستور العام 2005 الذي تم الاستفتاء عليه في 15/10/2005 وأجريت الإنتخابات على أساسه في 15/ 12/ 2005، وكلاهما كان من صياغة نوح فيلدمان اليهودي الأميركي الجنسية، الصهيوني التوجّه، حتى أن بعض أحكام قانون إدارة الدولة إنتقلت أوتوماتيكاً وبالكامل إلى الدستور الدائم الذي حمل في داخله ألغاماً كثيرة موقوتة وغير موقوتة، وكنت قد أطلقت عليه في حينها وعند عرضه للاستفتاء عبارة: الدستور غير الممكن دستورياً، لإن ما أعطاه بيد أخذه بالأخرى.
فمثلاً: جاء فيه: لا يمكن سنّ أي قانون يخالف أحكام الشريعة والدين الإسلامي مصدر أساس من مصادر التشريع، وفي الوقت نفسه وبنفس المادة جرى التأكيد على أنه لا يمكن سن أي قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، فماذا لو حصل اختلاف بين الديمقراطية والشريعة؟ ثم كيف تخرج من تحت عباءة المفسرين أو المؤولين وهم كثر بظل الازدحام في الفتاوى وأغراضها ودور أمراء الطوائف الذين وظفوا الدين في خدمة السياسات الأنانية الضيقة.
هذا واحد من الألغام الكبيرة، وهناك لغم آخر يتمثل بالنص على أنه لا يمكن لأي قانون (القضايا الرئيسية خاصة) أن يسري إذا اعترضت عليه (3) محافظات من مجموع (18) محافظة، وبالتالي يمكنها تعطيل قانون يسرى على (15) محافظة بتبرير منع تغول الأكثر العربية على الأقلية الكردية.
وكان يمكن وضع ضوابط من نوع آخر بإطار المجلس الإتحادي الذي تتمثل فيه الأقاليم والفيدراليات على نحو متساوٍ والذي لم يتأسس على الرغم من مرور (7) سنوات.
وهناك أيضاً لغم آخر يتعلق بالتنازع ما بين القانون الإتحادي "الفدرالي" والقانون (الإقليمي) فإذا ما تعارض نص ما في القانون الإقليمي مع نص في القانون الاتحادي فإن هذا الأخير يخضع للقانون للإقليمي وهو عكس على ما تأخذ به الأنظمة الفيدرالية جميعها.
وقد استندت إدارة أقليم كردستان فيما يخص إستثمار النفظ والغاز إلى تفسير ما ورد في الدستور وهو أمر يثير التشوش والالتباس أيضاً، فقد جاء فيه أن "النفط والغاز ملك الشعب" وورد في نص آخر أنه يتم إستثمارهما من جانب السلطات الاتحادية في الحقول المستخرجة. أما في الحقول غير المستخرجة فستكون بإدارة الأقاليم بالتعاون مع السلطات الإتحادية، وإذا ما شرّعت سلطات الأقاليم قوانين تضمن "حقوقها" في التصرف والتوقيع والإستثمار حسب تفسيرها، فإن المشكلة ظهرت إلى السطح واصطدم الأمر بالسلطات الإتحادية وهو ما حدث فعلاً بشأن توقيع عقود النفط والغاز.
وهكذا نجد العديد من العقد والإشكالات التي تضمنها الدستور الذي لم يناقش بما فيه الكفاية، ولأن كل طرف اعتقد أنه وضع ما يريد فيه دون أن ينظر إلى ما وضعه الفريق الآخر، ولذلك ظهر مثل في كشكول جامع وشامل ولكن دون انسجام أو تواؤم، حيث أخذت كل مجموعة تكتشف أن أحكامه تميل إلى الطرف الآخر الذي وضع أيضاً ما يريد في الدستور، وهنا ظهر التنازع، على الرغم من أن الجميع من المشاركين في العملية السياسية يقول أنه لا يزال يتمسك به، الأمر الذي خلق حالة تنازع وتنافر وتراشق بالنصوص، ولهذا يعلن كل طرف انه يريد تطبيق الدستور قاصداً النص الذي يعينه دون سواه، وهو ما أبقى الكثير من الأمور عائمة وغير محدودة وغامضة.
ورد في نحو (55) مادة من الدستور أنها بحاجة لإعداد قانون لتصبح نافذة، وعلى الرغم من مرور 7 سنوات فإن سنّ قوانين بخصوص تلك المواد لم يزد عن عدد أصابع اليد ما يجعل الأمر يحتاج إلى دورتين أو أكثر لصياغة القوانين التي يتطلبها الدستور، لتصبح مواد الدستور نافذة، خصوصاً إذا كان تشريع القوانين يتم على هذه الوتيرة.
يحتاج الدستور إلى إعادة نظر جذرية به وبنصوصه ومعالجة الثغرات الأساسية التي وردت فيه وإزالة الألغام التي احتواها والتي يمكن أن تنفجر في أية لحظة، ودون ذلك ستبقى العملية السياسية تراوح في مكانها والنظام السياسي يتعثر والمستقبل سيكون محفوفاً بالمخاطر، ولكن تعديل الدستور أو إلغائه أو سنّ دستور جديد يحتاج إلى توافقات سياسية ورؤية قانونية وحقوقية جديدة عابرة للطائفية والإثنية، رؤية تكرّس الهوية العامة الجامعة مع احترام الهويات الفرعية الخاصة والتنوّع الثقافي ووفقاً للشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

5- كيف ترون مستقبل الحياة السياسية في العراق شعبياً ومؤسساتياً، وما رؤيتكم لمسألة الفدرالية؟.

لقد انتهت صيغة الدولة العراقية التي تأسست في (1921)، أي الدولة البسيطة المركزية، لكن الدولة الفيدرالية المركّبة، أي التي توزع الصلاحيات بين المركز والأقاليم لم تنشأ بعد، وكما أشرت أن ما هو قائم اليوم هو مرحلة انتقالية لا تزال ملامحها ملتبسة، حتى وإن كان خطها العام يميل إلى اللامركزية، لكنها تصل أحياناً إلى كونفيدرالية في حين أن الثقافة المركزية لا تزال سائدة، الأمر الذي يخلق تناقضاً حاداً في الواقع القائم، ولا سيّما في فهم القوى السياسية من جهة، وفي مصالحها ورغباتها من جهة أخرى.
فمثلاً: يفترض النظام الفيدرالي،-وهو النظام المطبّق في (25) بلد وينضوي تحت لوائه نحو 40 في المئة من سكان الأرض-، أن تكون السياسة الخارجية والعلاقات الدولية والسياسات المالية الرئيسية والخطط الإقتصادية والتنموية الكبرى والعملة بيد السلطة الاتحادية، وكذلك القوات المسلحة والسياسة الدفاعية بشكل عام. ولكن صلاحيات السلطة الاتحادية في الدستور العراقي النافذ لا تزال محل نقاش اليوم بين إدارة الاقليم والسلطة الاتحادية، وهناك نصوصاً لا تزال تحتاج الى تفسير ويتم تأويلها أحياناً بما يرضي هذا الفريق أو ذاك. وحسب قراءتي القانونية وخارج نطاق الصراع الدائر بين الكتل القائمة فإنني أرى أن النظام القائم حسب مواصفاته هو أقرب إلى نظام كونفدرالي، فحتى الآن تعتبر قوات البيشمركة قوات خاصة بإقليم كردستان وهي غير تابعة للقوات الرسمية للجيش العراقي وقد رفض رئيس الوزراء العراقي تخصيص موازنتها للعام 2013 من الموازنة العامة.
صحيح أن قوات البيشمركة تأسست في مرحلة سابقة وفي خضم النضال ضد الدكتاتورية وسبقت الإطاحة بها، لاسيما في المنطقة الكردية التي كانت شبه مستقلة لما يزيد عن عقد من الزمان، لكن وجودها كقوات مستقلة اليوم حتى من باب الأمر الواقع، يعني قيام كيانية مستقلة عن كيانية الدولة داخلها، ولعل مشكلة إقليم كردستان الذي نشأ قبل السلطة الاتحادية، لا بدّ من حلّها بعقل بارد وقلب حار، بحكم "Status que" "الوضع الراهن"، خاصة وقد عاش لفترة من الزمن في إطار ما سمي بالملاذ الآمن Safe heaven وثم فرض الحظر الجوي No Fly Zone على الطيران العراقي، إضافة إلى الدعم الغربي، وانسحاب الدولة العراقية إدارياً ومالياً وعسكرياً من منطقة كردستان. ودون حل مشكلة الإقليم فإن مشكلات الدولة العراقية ستتفاقم وتزداد تعقيداً، علماً بأن لهذه المشكلة ذيولها مثل المادة140 من الدستور الخاصة بكركوك وكذلك المناطق المتنازع عليها وغيرها.
أعتقد أن الفيدرالية كنظام إداري متطور يصلح للعراق، لا سيما إذا اعتمدنا وجود إقليم كردستان كواقع قائم منذ ما يزيد عن عقدين من الزمان، لكن الأمر يحتاج إلى تنظيم وتأطير وتفاهم وتوافق، وحل المشكلات القائمة على أساس سلمي وبما يرضي مصلحة السكان وينسجم مع شرعة حقوق الإنسان الدولية.
لقد عاشت كردستان شبه استقلال منذ نهاية عام (1991) ولم تنشأ السلطة الاتحادية بتراكيبها المفككة والمتصارعة المطيّفة والممذهبة والمؤثننة الاّ بعد الاحتلال الذي بدأ بعد العام (2003)، وإذا أردنا الدقة أكثر بعد انتخابات العام 2005، وهي لا تزال للآن تعاني إرباكات وإشكالات تتعلق ليس بإقليم كردستان فقط، بل بالأقاليم الأخرى التي تعلن عن نفسها ورغباتها يوماً بعد آخر كالبصرة وصلاح الدين وسارت على منوالهما الأنبار وديالى وهناك من دعا بالموصل لاقليم للسنة بحجج مواجهة المدّ الشيعي، وهو ما ذهب إليه رئيس البرلمان العراقي أسامة النجيفي.
إن حديث الساسة في العراق عن الفيدرالية بمفهومها العصري الحضاري المدني السلمي التفاهمي التواقفي التصالحي بين الجماعات الدينية والقومية التي تتشكل كجزء من التنوع الثقافي لا زال ملتبساً، وهناك أكثر من صورة. فأي فيدرالية يقصدون؟: فيدرالية قومية لمنطقة "كردستان" مثلاً؟ أو إدارية،أو مذهبية طائفية، أو مناطقية جغرافية؟.كل ذلك يجري الحديث عنه بعموميات ودون معرفة في الكثير من الأحيان، بل في إطار ردود فعل سياسية.
حتى الآن فإن قانون الأقاليم الصادر بالدورة الأولى للبرلمان والذي تم تأجيل تطبيقه إلى (18) شهراً ما زال معطلاً أو غير نافذ. وهناك عقبات جديدة أمامه، لاسيما وقد انقلب بعض خصوم الفيدرالية إلى أنصار متحمسين لها، وهم من حاول إفشال حصول الدستور الدائم في ثلاث محافظات على الأغلبية المطلوبة، تلك التي كانت ستعني الإطاحة به، ومن مفارقات السياسة العراقية، أن بعض دعاة الفيدرالية وقد يكون بعضهم متحمساً كجزء من غنيمة أو صفقة تمنحه بعض الإمتيازات، تحوّل إلى خصم لها، لا سيما عندما أصبحت السلطة السياسية كلّها بيده أو هكذا يريد أن تكون .

6- هل الفيدرالية مصير محتوم ، وما هي حسناته وسيئاته؟.

أعتقد شخصياً أن هناك ارتباك وقصور في فهم موضوع الفيدرالية، ناهيكم عن ضعف في الوعي الحقوقي والثقافي والقومي لمسألة الفدرالية، فهناك من يعتقد أنها شرٌ مطلق، ومشروع تقسيم، لذلك فهو يدعم فكرة الدولة المركزية حتى ولو قامت بالاكراه، لإعتقاده أن نقيض المركزية سيكون التفتت والتفكك والتشظي.
أما الفريق الثاني فيعتقد أن أي مركزيه مهما كانت ستقود لحكم شمولي استبدادي ديكتاتوري نموذجه في ذلك نظام حكم صدام حسين وحافظ الأسد وعمر البشير وغيرهم، ولهذا فإنه مع توزيع صلاحيات الدولة المركزية على الأقاليم، وهذا التوزيع بعضهم يراه بأساس ديني، وبعضهم قومي، وبعضهم إداري، ليحول دون إعادة الدكتاتورية عبر التسلط المركزي ووضع اليد على الصلاحيات والتفرد بإتخاذ القرار أو احتكاره.
وبتقديري كلا الفهمين لا يعبّران عن حقيقة ما هو مقصود بالدولة الفدرالية، فليس كل فيدرالية تقود إلى التقسيم أو تعرّض الدولة للتفتت والتشظي، بل الفيدرالية بمفهومها الحقوقي العصري الذي يعني توزيع الصلاحيات، هو نموذج يساعد على إعادة توحيد الدولة على أسس حقوقية وإتفاقية، لا سيّما وأن الدولة تقوم على عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم، كما هو في أطروحات الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو.
كما أنه ليست بالضرورة أن تكون الدولة المركزية نموذجاً لحكم البعث في العراق وسوريا أو حكم البشير في السودان، أو لحكم جبهة التحرير الجزائرية أو حكم القذافي في ليبيا أو الجبهة القومية والحزب الإشتراكي في اليمن الجنوبية، لا سيما إذا إقترنت بالديمقراطية والمواطنة وإحترمت الحقوق والحريات وإستندت لسيادة القانون وتداول السلطة واستقلال الغطاء وغير ذلك.
وبالمقابل ليس كل فيدرالية تقود للديمقراطية، فهناك دول غير ديموقراطية مثل النظم الإشتراكية السابقة في الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا والجمهورية العربية المتحدة ودول أخرى كانت دولاً فيدرالية، لكنها غير ديمقراطية. ولكن كل دول ديمقراطية يمكن أن تتحول إلى دولة فدرالية، فالاساس هو النظام الديمقراطي ورضى الناس وقناعتها وتوافقها وليس شكل الإدارة والدولة وإنما مضمونها وطريقة اختيار الحكّام واستبدالهم .
وليس كل دولة ديمقراطية تكون قد حلّت قضايا التنوّع الثقافي والمشكلات القومية. خذ مثلاً بلجيكا فهي ديمقراطية وفيدرالية، لكنها الاختلافات المجتمعية والقومية قد تؤدي إلى انقسام البلاد، فهناك ما يزيد على 6 ملايين من أصول فلامانية (وهم ناطقون بالهولندية) يقابلهم نحو 4 ملايين من أصول والونية وهم ناطقون بالفرنسية، والمشكلة قائمة في كندا (اقليم الكيبك) والباسك في إسبانيا وفي جنوب ِإيطاليا وفرنسا ومشكلة إيرلندا وغيرها من الدول الديمقراطية التي لم تستطع حل المشكلات القومية واللغوية، سواء كانت دولاً فيدرالية مركبة أو دولاً مركزية بسيطة.
وهكذا فإن الدول الديموقراطية يمكن أن تنشأ فيها مشكلات قومية ودينية ولا تجد لها حلولاً بنظامها الديمقراطي؟ ولا ينبغي أن يذهب بنا الوهم ونعتبر الديمقراطية حل سحري وشامل لكل شيء. لكننا نجد أيضاً أن إتحاداً كونفدرالياً مثل سويسرا الذي تحوّل إلى فيدرالية بحكم الأمر الواقع قدّم نموذجاً راقياً للفيدرالية والديمقراطية في آن، وبلداناً فقيرة كالهند تقدم بنفس الوقت نموذجاً راقياً للفيدرالية الديمقراطية. ولعل مشكلات الديمقراطية لا تحل بالعنف، بل بالمزيد من الديمقراطية وتلك مسألة مهمة وأساسية، وهذا أحد أوجه الخلاف بين الأنظمة الديمقراطية وغيرها من الأنظمة.
الفيدرالية بدون ديمقراطية لا تستطيع تحقيق التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والحقوقية والمدنية، أي التنمية الشاملة القائمة على العدل وتكافؤ الفرص وإحترام الخصوصيات، وقد وصلت بعض التجارب التنموية إلى طريق مسدود لفقدان القاعدة الديمقراطية للتنمية، وحتى لو حققت نتائج إيجابية، فستكون لفترة محددة وبعدها تبدأ مشكلاتها بالظهور كما حصل في تجارب البلدان الاشتراكية والعديد من البلدان النامية لافتقارها إلى الديمقراطية.
ولهذا فلا بدّ من توفير الأساس الديمقراطي ، لكي يتم تعميقه بالفيدرالية وهو ما يجب أن نبحث عنه بالعراق والعالم العربي ولو كان طموحاً بعيد المدى ولكن يجب وضعه هدفاً سلمياً نريد الوصول اليه.
وقد تؤدي الفيدرالية إلى التقسيم أيضاً مثلما حصل في تشيكوسلوفاكيا التي تحوّلت بصورة مخملية إلى جمهوريتين ( التشيك وسلوفاكيا) ويوغسلافيا التي انقسمت إلى خمس كيانات والاتحاد السوفييتي الذي انقسم إلى 15 كياناً، وسادت حروب ونزاعات عنفية بينها، لكن ذلك ليس مصير محتم للفيدراليات، وقد يكون مصيراً منتظراً للدكتاتوريات، أما الديمقراطيات سواءً كانت فيدرالية أو غير فيدرالية، فيمكن حل مشاكلها بصورة سلمية وبالتوافقات والتسويات الرضائية.
لا زالت الثقافة الحقوقية والديمقراطية بالعراق متدنيّة بسببت شحّ الحريات المزمن، والصراع الدموي الذي عاشه العراقيون فضلاً عن الحروب والحصار والمعارك الداخلية. ولهذا هناك شكوكاً ومخاوفاً من الحديث عن الفيدرالية بالرغم من أن القوى السياسية إستخدمت أسهل الطرق لتمرير الفيدرالية عبر صفقات سياسية أو إتفاقات فوقية، في حين كان يجب المزيد من الحوار والتفاهم وصولاً إلى مفهوم موحد وشامل للفيدرالية وأهميتها وضرورتها وفائدتها ومستقبلها، لا سيما إذا قامت على أسسها السليمة الرصينة وفي ظل أجواء طبيعية سلمية.
لقد ربط بعض العراقيين موضوع الفيدرالية بالإحتلال وقاوموها وخاصموا الفكرة قبل التعرّف عليها وكاد مشروع الدستور يسقط بسبب تضمنه مبدأ الفدرالية، لكن من المفارقات أن أشد المعادين للفيدرالية قبل وضع الدستور أصبحوا أكثر المتحمسين لها حالياً، لا بمنظورها الفلسفي الحقوقي العصري القانوني، بل لاعتقادهم بإمكانية الحصول على إمتيازات بظلها أو تقليل من هيمنة الآخر على مقاليد السلطة، لاسيما للاتجاهات الدينية الشيعية.
فأقاليم ديالى وصلاح الدين والأنبار والموصل وأجزاء مهمة من المعارضين لفكرتها من بينهم النجيفي وأجزاء مهمة من القائمة العراقية وغيرهم اندفعوا نحو تأييدها أو لم يعارضوها عندما طرحت، الأمر الذي يعطي انطباعاً أن فهماً قاصراً لايزال يغذّي تفاصيل الحياة السياسية العراقية إزاء الفيدرالية أو غيرها من الأفكار العقدية المستعصية.
وحتى الفريق الذي كان متحمساً لها فَتِر حماسه عندما أصبح قريباً من السلطة ومتحكّماً فيها، ودليلي على ذلك دعوة رئيس الوزراء المالكي لمركزية الدولة وإعادة النظر ببعضها بنود الدستور، بل تعديله لخدمة هذا التوجه، كما نجد أن حزب الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى وكان من مناصري الفدرالية، وإنْ على مضض أيام المعارضة وأطلقوا عليها مصطلح " الولايات" تشبثاً بنظام الولايات الإسلامي ولكن عندما صاروا في الحكم إنفتحت شهيتهم لتأييد الفيدرالية أو غيرها من الصيغ التي قد تعارضها طالما تقربهم من الحكم أو تبعيتهم فيه.
الدستور الحالي حمّال أوجه فيه كثير من الإيجابيات لا سيما مواد الحريات والمواطنة والقضاء وحقوق الإنسان وهو أفضل الدساتير العربية راهناً في هذا الجانب بغض النظرعن أن فيه الكثير من العقد والألغام والمشكلات الحقيقية.
الدستور حالياً معطل فعلياً وموضوع على الرف، كل ما يجري الحديث عنه هو التوافق، أو ما سمي بالديمقراطية التوافقية، وإذا صلحت هذه الديمقراطية للسنة الأولى بمرحلة التغييرات بظل المرحلة الإنتقالية وإنهيار مؤسسات الدولة وتفكك الأجهزة الأمنية والعسكرية، لكنها أن تصبح كقاعدة، فهذا أمر مخالف لجوهر الديمقراطية وتعطيل للدستور ولإدارة الدولة، فالتوافقات أصبحت تتجاوز الدستور، فمثلاً هناك اتفاق إربيل لا موقع له في الدستور، بل هو يخالف أحكامه صراحة، فكيف يمكن إيجاد منصب ما يسمى بمجلس السياسات العليا وأن يكون الرؤساء الثلاثة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان وأعضاء بالمجلس أي رئيس فوق الرؤساء. الأمر سياسي وأريد به ترضية الدكتور إياد علاوي الذي حصلت قائمته العراقية في الانتخابات على 91 نائباً في حين حصل المالكي وقائمته دولة القانون على 89 نائباً ، وتحالف الأخير مع الائتلاف الوطني (الشيعي) الذي لديهم 70 مقعداً فأصبحوا أغلبية في تفسير المحكمة الاتحادية العليا.
إن ضعف الوعي الحقوقي والقانوني، بل والاستهانة به أحياناً، هو الذي كان وراء اتفاق اربيل غير الدستوري، وقد تبيّن للبعض عدم قانونيته، وهذا ما حدث وما سيحدث من إرباكات كثيرة في الحاضر والمستقبل، وكنت قد أشرت عند إبرام اتفاق إربيل وبغض النظر من نوايا بعض الأطراف السياسية ورغباتها في إنجاح الاتفاق، إلى أن الاتفاق ولد وهو يحمل في تلافيفه أسباب موته، لأنه اتفاق غير دستوري، بل يتعارض صراحة مع الدستور.
وكقاعدة فالدستور رغم مشاكله وقصوره والتغوّل فيه لا بدّ من إحترامه والعمل وفقاً له، لحين تعديله أو إلغائه أو وضع دستور جديد بدلاً عنه، وهو أمر مرهون بتوازن القوى وتوافقات الجماعات السياسية، وبرأيي أن أي إنتخابات جديدة ستثير المشاكل نفسها، لأن المشكلة الأساس في قانون الإنتخاب أيضاً، وهو قانون سيئ، لأنه يعطي حق تعيين النواب من قائمته وللقوائم الكبرى الحق في بعض المقاعد التعويضية.
وبسبب هذا القانون فإن عدد الفائزين بالإنتخابات كان 18 نائباً فقط من أصل 325 نائباً، أما الباقون فقد إنتقلوا بالتعيين منهم من حصل على 70 صوت فقط أو 120 صوت، فعدد الأصوات غير مهم، طالما أن رئيس القائمة سيختارهم أو يعيّنهم ليكونوا نواباً، وذلك بسبب الدور المعطي لرئيس القائمة بالأختيار. وهذا الأمر سيتكرر إذا لم يتغير القانون، والدستور بدوره لن يتغير إلا بتغيير قانون الانتخاب أو ضمن اتفاق سياسي على تعطيله أو إلغائه أو تعديله بصورة جذرية.

7- من يحكم مستقبل العراق؟.

لا يزال هناك فريقان خارجيان يتحكّمان بالوضع العراقي على نحو منظور وغير منظور حتى وإن كانت الواجهة أن من يحكم العراق هو حزب الدعوة الإسلامي وقوى أخرى إسلامية متحالفة معه، لكن الولايات المتحدة وإيران هما من لهما اليد الطولى بالعراق. فأمريكا تتحكم بالعراق بعنوان الصداقة والتعاون: ونفوذها من خلال النفط، والتسلح، والتجارة، والسياسة الخارجية والداخلية، وحتى أموا لالعراق المجمّدة لا تزال تحت هيمنة واشنطن.
وإيران لها رأي كبير في الوضع العراقي وتفاصيله من خلال أذرعها القائمة والفعلية في السياسة العراقية، سواء من خلال الصداقات مع الفريق الحاكم وبعض من كان يعمل معها ولديها إمتدادات أمنية وعسكرية ومذهبية ولوجستية ومدنية. ولم يكن موقف بغداد بشأن المشكلة السورية بعيداً عن موقف طهران وإن لم يتطابق معه.
قلت أكثر من مرّة أن الحكم في العراق نصفه لواشنطن ونصفه الثاني لطهران وهي صفقة غير مباشرة تمت بُعيد الانتخابات التي حصلت عام 2010. الأميركيون كانوا يريدون إياد علاوي بحكم علاقته التاريخية بهم لكنهم لم يفرضوه لإعتقادهم أنه سيفشل، واعتبروا أن موافقتهم على رئيس وزراء تقبل به ايران ستوفر لهم إمكانية العمل بشكل مريح وإن كان ما تعرضوا له في العراق من مقاومة سلمية وعسكرية اضطرّتهم إلى الانسحاب، لذلك وافقوا على المالكي ورجّحوا كفته لأنهم من خلاله يمكن أن يدفعوه تدريجياً للوقوف ضد ايران مقدّرين بذلك نزعته الاستقلالية ورغبته بالظهور بمظهر الزعيم العراقي .
وإيران التي لم ترغب بالمالكي رجحته بعد أن تيقّنت أن ليس بإمكانها الإتيان ببديل تريده هي، لأنه سوف لا يلعب بفنائها الخلفي أو حديقتها الخلفية، ويمكن أن يغضّ النظر عن بعض مشاريعها أو خططها بالتمدّد الداخلي فهي في نهاية المطاف عمقاً ستراتيجياً له، طالما سيشعر أنها دعمته ولن تقف ضده أو تتآمر عليه، وأظن أن هذه الصيغة ستنتهي بانتهاء الدورة الإنتخابية الحالية وسيكون الصراع حامي الوطيس، بل محموم في الدورة القادمة بين من ترغب به إيران ومن تريده واشنطن.
للأسف سيكون كلا الإستقطابين بعيدان عن هموم الناس اليومية بظل ما يعاني المجتمع العراقي من مشكلة الكهرباء والماء الصافي وتدني خدمات الصحة والتعليم، حيث تصل نسبة الأمية إلى 30% واستشراء البطالة التي بحسب المنظمات الدولية المعتمدة تبلغ 50%، بينها بطالة مقنعة تشمل القوى العاملة والفساد والرشوة والعبث بالمال العام، ويزيد هذا الشعور الذي أخذ يطغى، التمترس بالهويات الفرعية على حساب المواطنة والهوية الجامعة، وهو ما يفضي إلى التشرذم والتشتيت تحت عناوين مختلفة، لا سيما إذا غاب السلام المجتمعي والثقة الضرورية بين الأطراف السياسية والمكوّنات الثقافية الدينية والاثنية.
إن الإرهاب والعنف أصبح سمة بارزة في الحياة السياسية العراقية مع وجود منظمات القاعدة ودولة العراق الإسلامية وبقايا الميليشيات والعنف خارج القضاء وبعيداً عن القانون، وأحياناً بإستخدام القانون بصورة لا قانونية، كل ذلك يهدد وحدة وسلامة ومستقبل العراق.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اختبار جديد للحرب الباردة
- حلف الفضول!
- شكراً... للضمير الجامع
- الحلم الفضي يعود إلى بنغازي
- حكمة الضوء وشهادة التاريخ
- منصور الكيخيا والرهان على «سلطة» الضوء!
- مصر والإسلام السياسي
- هل ترسو سفينة مصر الدستورية؟
- ماذا عن أكراد سوريا؟
- غزة وعمود السحاب!
- غوته وسحر الشرق
- اعتراف هولاند الخجول بجرائم قتل الجزائريين
- دلالات الديمقراطية وحقوق الإنسان في فكر أمين الريحاني
- عن تونس والدين والدولة
- العدالة الانتقالية والعدالة الانتقامية
- الشبيبي والبنك المركزي: قضية رأي عام!
- برزخ العنف والوعي الشقي
- ما ينتظره مسلمو ميانمار
- - اللاعنف-: هل هو منتج غربي؟
- الأقليات في الدول الإسلامية المعاصرة - المسيحيون والصابئة ال ...


المزيد.....




- شهيدان بطولكرم وحملة اعتقالات جديدة للاحتلال بالضفة
- الاحتلال الإسرائيلي يمنع الأمم المتحدة من الوصول لمعبر رفح ف ...
- الأمم المتحدة: إسرائيل تمنعنا من دخول معبر رفح
- الرئيس التونسي: تدفق غير طبيعي للمهاجرين على البلاد لا يمكن ...
- الأمم المتحدة: المساعدات -محجوبة- عن غزة مع إغلاق المعبرين ا ...
- تفاؤل بشأن الاعتراف بدولة فلسطينية في الأمم المتحدة
- اعتقالات جديدة بأميركا والحراك الطلابي يتوسع بأوروبا
- نيويورك تايمز: اختلافات طفيفة بين مقترحي حماس وإسرائيل حول و ...
- مسؤولة إغاثة ترصد لـCNN صعوبات يواجهها الفلسطينيون للإجلاء م ...
- -الأونروا-: العمليات في معبر رفح ستوقف دخول المساعدات لكافة ...


المزيد.....

- التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من ... / هيثم الفقى
- محاضرات في الترجمة القانونية / محمد عبد الكريم يوسف
- قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة ... / سعيد زيوش
- قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية ... / محمد أوبالاك
- الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات ... / محمد أوبالاك
- أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف ... / نجم الدين فارس
- قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه / القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / اكرم زاده الكوردي
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / أكرم زاده الكوردي
- حكام الكفالة الجزائية دراسة مقارنة بين قانون الأصول المحاكما ... / اكرم زاده الكوردي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - عبد الحسين شعبان - الدستور العراقي الحالي حمّل أوجه وألغام