أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سرفراز علي نقشبندي - ولیمة الفطر















المزيد.....



ولیمة الفطر


سرفراز علي نقشبندي

الحوار المتمدن-العدد: 3922 - 2012 / 11 / 25 - 07:19
المحور: الادب والفن
    



‏&_ بعد أن أتاهت الطریق ، وقفت سعاد کعمود حجري جامد بین ألوف الصخور ‏حولها، ثم تدحرج جسدها المتعب علی الأرض وسندت بظهرها علی صخرة ‏أشبە بجدار مهجور ، أحتواها البرد والظلام کمعطف الوبر وأرتمت في أحضان ‏الخوف ،حیث لا مأوی سواە ،فهي لا تدري الی أین ستذهب !!‏
‏ الودیان العمیقة غریبة وفجة ، الطرق مفقودة الآثار وکأن الرحالة لم یکشفونها ‏بعد ، عصرت ذاکرتها، کیف وصلت هنا؟.‏
في لحظة هجوم العدو المفاجئ علی مجموعتها، سقطتا رفیقتیها (پلشین) و ‏‏( درسیم) برصاص الجنود، وبقیة الرفاق أین ذهبوا ، في أي أتجاە رحلوا .؟
افهي لا تتذکر سوی شعر درسیم وجدیلتها المغروقة بالدماء.‏
‏ أغمضت عیونها برهة ، الخلیة الوحیدة في ذاکرتها الصماء هي جدیلة درسیم ‏المغڕوقة في الدماء.‏
حرکت جسدها وحاولت أن تجمع بقایا ذهنها المنشطر في اللاشیئ، هاهي ‏تحاول أن تحدد الأتجاە ، ولکن کل الصخور تبدو متشابهة والأشجامنسوخة من ‏بعضها، والجبال وکأنها قد تناسلت عن عشرات القمم المتشابهة.‏
‏ زخات خفیفة من المطر تتدحرج علی خصلات شعرها الأحمر ، تختلط ‏بدموعها ، لقد أضاعت رفاقها وغدها مجهول والطریق مفقود، ربما تسقط في ‏ید الأعداء . ‏
اأرجعت بذاکرتها الی البدایة ، حینما وقعوا في الکمین المنصوب لهم ، کل ‏رفیق کان یقاوم من جانبە لئلا یقعوا في الأسر ، سمعت صراخ قائد المجموعة ‏وهو یقول:‏
‏-‏ هیا أنقذوا أنفسکم ، هرولوا أنا سأحمیکم .. ودون أن تستدیر سعاد الی ‏الوراء ، سمعت الرصاص یقحم جسد قائد المجموعة ویختلط بصراخە ‏الذي تحول الی آهة ثم شتم فصمت.‏
همست :‏
‏-‏ الأوغاد ، کانوا کصیادي الغزلان معدومی الضمیر، فقدتک یا درسیم والی ‏الأبد.‏
‏ عندها تحولت سعاد الی ریح راکض تفر من صیاح الجنود و طلقاتهم الهوجاء، ‏تعبر الصخور والأشواک تهرب دون بوصلة لتجد نفسها في هذا المکان المقفر ، ‏الآن صار الظلام یعیق الرٶیا ویضیف سدا إضافيا لمعاناتها، قررت البقاء هنا في ‏هذە اللیلة ،ربما ساعدها النهار القادم لإيجاد طریق تسلکە.‏
احتضنت بندقیتها وتکورت علی نفسها کدودة الماء التي تتقلص في المخاطر، ‏الأفکار السوداء تغزوا کیانها دون رفقة.‏
مدت أناملها المتجمدة تبحث في جیوبها عن طعام تأکلە، فهي منذ صباح ‏الأمس لم تذوق الطعام ، لقد جف ریقها ولعاب فمها صار کثیف اللزوجة ‏وحنجرتها تلتصق ببعضها من الداخل ، نهضت بحذر یلفە الأرهاق لتبحث عن ‏الماء.‏
الظلام لا یزال ستارا خفیفا علی الأرض ، وقع بصرها علی حفرة صغیرة لامعة ‏وسط الظلام الشفاف ، اقتربت من الحفرة ، کما تبدو انها وقع حوافر حصان ما ‏وقد تجمع فيها المطر، ارتمت علی بطنها وأقربت رأسها من فوهة الحفرة ‏وأخذت تبلل لسانها ثم مدت شفتیها وأخذت تشرب بنهم غیر مکترثة بالطین ‏وبقایا القش والطین الملتصق بجوف فمها أو الوخز الذي تحسە علی شفتیها ‏الرقیقتین.‏
مسحت شفتیها وعادت تبحث عن مکان تحتمي بە من المطر الذي بدأ یبلل ‏الأرض، حشرت نفسها تحت صخرة مائلة ، أشبە بمظلة لکنها گیر مستویة ‏الأطراف، مکان جاف تحاول النوم فیە حتی الصباح ، لکن الخوف والجوع والهلع ‏صارت مطرقة تدق علی بطانة عقلها و تهشم خلایا الأغفاء فیها، قلصت ‏جسدها محتضنة البندقیة تشحذ الدفء من حدیدها البارد.‏
‏ أنهکتها لکمات الخوف الملفوفة علی معدتها الخاویة ، أقيضت المعانات حنینها ‏إلی حیاتها القدیمة في قریتها ، حیث کانت قد ترکت البیت قبل أعوام ،وهي ‏الأخت الوحیدة لخمسة أخوة یحبونها.‏
‏ تذکرت باحة الدار والأیوان العالي المطل علی بساتین الکروم، غرف الدار ‏والنوافذ الصغیرة المتعددة فیها تلمع أمام نور الشمس وتملأ کل حیز بنور ‏ساطع، حتى الأواني وأباریق الشاي الزجاجیة فوق الرفوف یزید بریقها وتعکس ‏ظلا متعدد الألوان علی الحائط الکلسي الأبیض.‏
طغی اشتياقها إلی أبیها فوق شریط الأحداث ، آنذاک کانت تتکأ علی طرف ‏الوسادة الدائریة الکبیرة في غرفة الدیوان وأبوها متکأ علی الطرف الآخر یملأ ‏قلیونە بالتبغ الأصفر الناعم و یتسامران، تهمس لنفسها:‏
‏-‏ أیها الاشتياق ما بالک الیوم بعد کل هذە الأعوام تذکرني بتلک الحیاة ، ‏ولماذا مشاعري تختلف عن کل المرات التي تذکرت البیت فیها.؟
‏ هنا غرفتها الدافئة ،الضوء الأحمر یتراقص في فوهة المدفأة السوداء ، ودولاب ‏ملابسها الرفیع والسریر ذو الغطاء الأبیض ، کانت قد طرزت اطرافة بعناقید ‏العنب الحمراء والمرآة البیضویة ذو الحوافي الناتئة معلقة علی الجدار، المزمار ‏الکبیر في أسفلە یحمل قلادات الخرز الملون والأساور .‏
في کل صباح کانت تتزین أمام الـمرآة وتنتعل خفا مفتوحا رفیع الکعب تطرق به ‏أرضیة الدار.‏
کانت سعاد مدللة ، وحیدة أبوها الأغا في منطقة (کربوران) ،کل شباب ‏المنطقة کانوا یتمنون ودها، سخطت علی القدر الذي أفقدها تلک الحیاة ‏الناعمة ورماها في آتون الخوف الذي یخنقها وكأنە طوقا منفولاذ، بکت بحرقة ‏ثم حولت جسدها علی طرفها الآخر والصخور تنغرس في أضلاعها وتوجع ‏جسدها النحیف .‏
في الصباح فتحت عینیها تنظر الی ما حولها ، کانت الشمس مختفیة تحت ‏غیوم سوداء والودیان تستضیف الضباب الکثیف والأشیاء تطل من بینها کهامات ‏خرافیة ، یهب علی جسدها نسیم بارد یوخز المسامات ویحول هدوء خصلات ‏شعرها الأمامیة الی صخب مقلق، تبرز من تحت هذا الصخب المجنون وجها ‏منحسر الأحاسیس وباهت الضیاء، أنفها الصغیر قد أحمر من البرد وبیاض ‏وعیونها العسلیة یغزوها الاحمرار والحزن قد أکمل کحلها.‏
‏ سعاد تستعید في ذهنها حوارها الصامت لیلة أمس، البکاء ..الحنین الی الدار ‏، شعرت بخجل من ضعفها ونهضت فجأة تقول:‏
‏-‏ اللعنة ، هل نسیت بأني مقاتلة في صفوف الثورة، ألم أقسم بقداسة ‏أرض الوطن، ألم أقل أني ابنة الثورة ، لعنني اللە علی هذە التخیلات ‏الجوفاء.‏
تصمت، تتنفس بشهیق عمیق ثم تخرج زفیرها بقوة وکأنها تطرد بە کل تلک ‏اللعنات، ثم تقول :‏
‏-‏ الآن یجب أن أجد طریقا ، هکذا سیعصرني الجوع و أموت هنا ، وسوف ‏تمزق الذئاب جسدي المیت في العراء وستحوم النسور حول ولیمة ‏موتي.‏
اعتلت صخرة عالیة ، تمشط الودیان بعیونها ، ثم تقول في حزن:‏
‏-‏ أیها القدر الأحمق، لماذا جعلتنا جزء من وحوش هذە الجبال، لماذا ‏سلمت مصیرنا لمحتل یبیح إبادتنا .‏
أخرجت ورقة السیجارة و لفتها علی التبغ بأناملها المرتجفة ، أشعلت فیها ‏النار وسحبت نفسا قویا من الدخان وهي تنظر في کیس التبغ ، وتخرج ‏الدخان من منخریها ثم تهمس :‏
‏-‏ بقي لي مایکفي لسیجارتین.. ثم تحسست بیدها البندقیة وحزام ‏الطلقات المربوط علی خصرها، یسري الاطمئنان في دمها ، تهمس :‏
‏-‏ هذە هي أنیابي ومخالبي ، هذە هي قوتي التي ستحمي روحي من ‏الوحوش والأعداء، لکن کیف سأحمي نفسي من وتنین الجوع و الخوف ‏‏.؟
‏ تذکرت الحفرة التي شربت منها الماء مساء أمس، سرت نحوها تقول:‏
‏-‏ نعم أنها بصمات حوافر الحصان ، لماذا لا أتبعها ، الخطوات منقوشة علی ‏الأرض الرطبة.. سارت عدة خطوات فجأة توقفت ، تقول:‏
‏-‏ من یقول لي لمن کان هذا الحصان ، ربما کان لجنود العدو ، عندها ‏سأقع في الفخ.‏
‏ ثانیة غارت في أمواج الیأس دون بوصلة، تتجە نحو أسفل الوادي ثم تصعد ‏الجبل المقابل والوادي الذي یلیە وهکذا حتی المساء.‏
‏ مع الغروب وقفت علی تل مغمور بالأوراق الساقطة ، تستعرض في ذهنها ‏المواقع التي مرت بها قبل أمس ، أخیرا وقع نظرها علی تل صغیر في جهة ‏الیسار ، تخیلت بأن خلفە قریة ما، لکنها مع کل ومضة أمل تتعثر بهیکل الخوف ‏القائم أمامها، تسأل نفسها:‏
‏-‏ قریة ، لنقل هناک قریة.. لمن تکون یا تری و هل فیها جنود العدو ، هل ‏هي في جنوب کوردستان أو في شرقها ، الوطن المنکوب مسور ‏بالمخاطر من کل الجهات ؟!‏
‏ تتوالی ولادة الأسئلة في رأسها والأجوبة عاقرة ،لکنها لم تتوقف بل ظلت ‏سائرة نحو التل بخطوات سریعة قبل أن یحل الظلام، تارة تسیر في استقامة ‏وأخری تکور جسدها بین الأحراش وتخطو علی یدیها خوفا من وجود أبراج ‏المراقبة علی القمم ، وصلت الی حیث أرادت ولک لا وجود لأي قریة کما ‏توقعت،إنها غابة كثيفة الأشجار علی طرف الوادي ، وکأن هناک من صفف ‏أشجارها وسورها و المساء قد أحتلها قبل أطراف الوادي، نظرت الی الغابة ‏بأرتعاب وهي تسأل نفسها:‏
‏-‏ أي سر یکمن في هذە الغابة الکثیفة؟!‏
وقفت علی طرف الغابة لا تتجرأ دخولها ، أسندت بظهرها علی جذع شجرة ‏کهلة ، وشعرت بالوهن في أوردتها و تخدرت أطرافها،ثقلت جفونها و لازمها ‏رغبة قویة للنوم ، هلعت وهي تقول بأرتجاف:‏
‏-‏ هذە هي علامات الموت ؛ نعم أنا أموت ببطئ.‏
تذکرت حکایة عزرائیل حین یقع علی جسد الإنسان ویسحب روحە ، بعدها ‏یصبح المرء جثة میتة ، مخیفة ومقززة یجب أن تدفن في التراب.‏
دفعها الخوف من الموت للوقوف ، أمسکت ببندقیتها وعدلت قامتها وهي ‏تقول :‏
‏-‏ کم أنا سخیفة وجبانة ، أیخیفني الموت الی هذا الحد .. تذکرت صراخ ‏قائد مجموعتها الذي ألهی العدو حتی عبروا رفاقە الخطر ثم قتل وهو ‏یصرخ هیا أعبروا..!! ردت تقول:‏
‏-‏ أنا مقاتلة منذ أعوام، شارکت في عشرات العملیات ، ولم ینتابني ‏الخوف مثل الآن.. ثم ردت علی نفسها قائلة :‏
‏-‏ لا لا؛ الموت في القتال ومن أجل الوطن حق ولە معنی مقدس ، لکن ‏هذا الموت الممل لا فائدة منە.‏
‏ بدأت تدخل الغابة وأقدامها تغور في الوحل المتجمع في الحفر ویتسرب الی ‏حذائها المشقوق، یمتزج بعرق أرجلها اللزجة .‏
‏ الغابة ملیئة بالأشجار الکهلة والیافعة ، والظلام الدامس قد تسرب الی کل ‏حیز ، تسیر سعاد کأعمی دون عکازة ، فجأة تتعثر بصخرة مزروعة وسط ‏الأشجار ووقعت علی وجهها، سحبت جسدها لیستقر علی کومة من الأوراق ‏الساقطة وهي تقول في ألم :‏
‏-‏ تلاحقني یا ملکوت الموت ، لکني لن أموت فأذهب من هنا.‏
‏-‏ شعرت بشيء دافئ یسیل فوق جبینها، لمستە فتبللت أصابعها ‏فأشعلت قداحة التدخین، الدم یسیل من جبینها، مدت یدها الی ‏مندیلها ووضعتە فوق الجرح ، وهمدت في مکانها .‏
حین أفاقت من النوم ،کان شروق الشمس ولیدا، یحاول أن یطل برأسە ‏من بین أغصان الأشجار النصف عاریة، فرکت عیونها ونهضت من رقادها ‏وأول ما فکرت بە هو الطعام والماء، حرکت أنظارها بین الأشجار،‎ ‎لقد ‏هجم الخریف وفات موسم الثمار وسواعد الأشجار خالیة من الأوراق ، ‏وقع نظرها علی مجموعة من الفطر النابت عند جذع شجرة کبیرة ، ‏لمست الفطر ، لکنها خافت ربما کان ساما ، بدأت بتدخین آخر سیجارة ‏بقیت في کیسها ثم رفعت المندیل عن جبینها المجروح ، کان الجرح ‏رطبا ومدمیا، جمعت رماد سیجارتها في کفها ووضعتە فوق جبینها ‏وغطتە بالمندیل، وعادت تفکر في الفطر هل تأکله أم لا ؟ تناقشت مع ‏نفسها قائلة:‏
‏-‏ ربما إذا أکلت الفطر أموت أو ربما لا أموت، لکني أذا لم أفعل سأموت جوعا، ‏کلاهما ممیت ولکن الموت الأول إحتمال.‏
مدت یدها الی قبعة الفطر ووضعتە في فمها وأخذت تمضغە بهدوء و وجل، ‏طعمە غیر لذید لکن الحنجرة بلعتها بسرور .‏
جلست فوق ولیمة الفطر ، تدور بعینیها بین الأشجار الباسقة ، أغصانها ‏العالیة تعانق الشمس بشوق عارم ، الأغصان تتسابق علی الدفئ ‏الخریفي الهارب والأوراق القلیلة الباقیة تشحذ القوة من الشمس کي لا ‏تسقط ، لکنه أمل خائب ، لقد کهلت والاصفرار قد غزا سحنتها و ستسقط ‏عاجلا أم آجلا .‏
‏ شعرت سعاد بالسباق العنیف بین ریاح الخریف وشرایین الأوراق ، الأوراق ‏تصارع الموت والخریف یقترب منها بقوة البرق و هدوء ملکوت الموت ، همست ‏‏:‏
‏-‏ ‏ أیتها الأوراق الکهلة ، لیس أمامک ألا أن تترکي الأغصان وترمي بنفسک ‏علی الأرض کجثة هامدة لا روح فیها ، قدرک أن تفقدي الحیاة کهذە ‏الکومة الیابسة التي أجلس علیها الآن.. تنهدت وقالت:‏
‏-‏ الأشجار أکثر حظا من البشر ، حین یودعها الربیع يواعدها بلقاء یعید لها ‏الروح من جدید ، والربیع یفي بوعدە ویأتیها بالزینة والعطر .‏
‏-‏ ‏ أما نحن البشر ، وحش الکهولة یحتلنا مرة وبعدها ننتهي ، لا فصل ولا ‏ریح یواعدنا بالقیام ، الطبیعة لا تهبنا الحیاة إلا مرة واحدة ، في وطني ‏نقضي فرصتنا الوحیدة بخوف ومعاناة.‏
نعم في وطني نقضیها في ذل وتدمیر ، الشيء الوحید الذي یحمینا ‏من الألم هو الموت ، والوطن یبقی في ظلامە ولا یهل علیە الربیع أبدا.‏
تتهشم ذاکرة سعاد أمام معادلة الحیاة وسباق الطبیعة ، تبهت ‏الایدولوجیا التي صارت رکنا أساسیا کالصلاة تعیدها کل یوم ، صارت ‏تبحلق في قامات الأشجار بولع صوفي في المحراب.‏
تدور ببصرها بین قامات الأشجار وسواعدها ،هذە قد نفض الریح أوراقها، ‏تلک قد فات موسم الثمار فیها و أخری أوراقها متشبثة رغم اصفرارها.‏
دون تفکیر رفعت ردن قمیصها العسکري تحدق في ساعدها و زندها ‏لتقارن بینها وبین سواعد الشجر ، تری هل أحتلها الخریف مثلها ، هذە ‏أول مرة تمعن النظر في بیاض سواعدها منذ أن التحقت بالثورة ، ‏فالسواعد والکتف والزند لیست سوی حمالة للسلاح والعتاد، همست:‏
‏-‏ ما جدوی القامات الباسقة والسواعد البضة إذا کانت عاقرة لا تثمر ‏،الشجرة العملاقة دون ثمر ، یجب قلعها لا محال، هکذا کان تقل أبوها.‏
الثمر والتخصیب هذا ماکانت تفکر بە سعاد ، منذ طفولتها کانت تتمنی أن ‏یکون لها طفلا ، کانت تعدد صفاتە وشکل وجهە ولون عینیە ، ککل الفتیات ‏کانت تناغم دمیتها القطنیة کأنها کائن حي ، تطعمها ،تهدهدها ،تنهرها.‏
ترتفع حرارة جسمها بهدوء ، ثمة بخار یصعد من معدتها ویخرج من فمها ‏غازا برائحة الفطر ، تقول:‏
‏-‏ لم تفوتني الفرصة بعد ، لازالت کل أجزاء جسدي في ربیعها، لکن متی ‏تنتهي الحرب لأخرج من هذا الغمد، أنا الآن حرة أقدر أن أهرب وأذهب حیث ‏أشاء.. لکن کیف أفعل ولي مکانة بین المقاتلین ، وشخصیتي أکثر قوة عما ‏کنت علیە قبل الثورة ،کل قریتي تفتخر بوجودي کمقاتلة .. تبا لقد قسمت ‏بتراب الوطن بأن أٶجل کل رغباتي الشخصیة حتی یتحرر الوطن ، ثم کیف ‏سأتقبل الحیاة وسط الأوغاد المحتلین الذین یلغون وجود أمتي ، هل ‏نسیت أبن عمي الذي أمسکوا بە لأنە کان یحمل علم أمتي في رکن جیبە ‏ولازال مفقودا منذ عشرة أعوام.‏
من العار أن ألغي هذا التأریخ لأجل رغبة أحادیة ضیقة ، أنا تافهة فعلا، لو ‏تملکني الضعف فعلا ، لسوف أقتل نفسي لأني غیر جدیرة بالحیاة ، ‏فجأة صاحت :‏
‏-‏ لبیک أیها الوطن ،أعذرني أیها الوطن ، سامحیني یادرسیم فأنا لن أنسی ‏جدیلتک المغروقة بالدم.‏
أجهشت سعاد بالبکاء ،لمن تبکي لواقعها المریر أم أحلامها المٶدة ، ‏لضعفها أم لرفیقتها التي قتلت أمامها.؟! فجأة سمعت خشخشة بین ‏الأحراش ، أستدارت وأمسکت ببندقیتها متأهبة لأي حدث ، هاهو ‏سنجاب رشیق یطفر هنا و هناک ویخبئ شیئا ما تحت الصخر هناک ، ‏نهضت سعاد متجهة نحوە ، أختفی السنجاب کالظل سریعا ، مدت یدها ‏تحت الصخرة ، قسمت الجوز المخبوء فیها بینها وبین السنجاب ، ‏وشربت من ماء المطر في حفرة قریبة قالت:‏
‏-‏ أعذرني أیها السنجاب اللطیف ، لقد هد الجوع أقدامي ویجب أن أسیر.‏
سارت في الغابة وأدرکت الآن بأنها مقبرة، وما تعثرت به لیلة أمس کان ‏شاهد قبر لیس إلا.. أسرعت الخطی فهذا المکان یذکرها بالموت الذي ‏تهرب من ملکوتە.! ثم قالت:‏
‏-‏ المقبرة دلیل بأن المکان مسکون ، ولا بد من قریة قریبة ، لکن اذا کان ‏اکمکان داخل الحدود العراقیة فحتما غیر مأهولة بالسکان ، لأن صدام قد ‏هدم القری ورحل أهلها ، ربما عادوا بعد الأنتفاضة.‏
تسیر حتی حافة الوادي ، هناک قریة نصف نائمة أمامها ، أتاها صوت دیک ‏وهمهمة الدجاج ، الدخان یعلو من مداخن البیوت بمللە المعتاد.‏
‏ قفزت کالطائر فرحة :‏
‏-‏ لقد أنتهی الضیاع ، یجب أن أری طریقا أدخل بها القریة ، لأعرف أین أنا.‏
دارت من خلف أول دار في القریة بمحاذاة السیاج المصنوع من أغصان ‏البلوط وأوراقە الجافة ثم رفعت رأسها بحذر من فوق الأغصان المتشابكة ‏،رأت امرأة شابة جالسة أمام تنور ملتهب النار محفور في الأرض تفتح ‏قرص العجین بخفة.‏
ترددت لا تدري کیف تحاور المرأة وکیف ستستقبلها ربما تکون القریة تحت ‏سیطرة الجحوش أو الجیش ، لا حیلة لها یجب أن تجازف،نادت علی المرأة ‏بهدوء مرتبک:‏
‏-‏ أختاە هل لي أن أطلب قرصة من الخبز؟
انتفضت المرأة خائفة ، تردد الصلوات من تحت شفتیها وبید مرتبکة تعدل ‏غطاء رأسها الشفاف :‏
‏-‏ من تکوني یافتاة ، أأنس أنت أم جن تطلین علي في هذا الصباح
‏-‏ أنا عابرة سبیل یا أختاە، لا تخافي مني فأنا بشر مثلک.‏
‏-‏ ‏ هیا أرفعي قامتک أكثر لأراک و أتأکد. وضعت سعاد قدمها علی طرف ‏السیاج حتی بان نصف جسمها. ‏
قالت المرأة:‏
‏-‏ بل أنت مقاتلة یا فتاة ، ها أنت تردین الزي العسکري و تحملین السلاح ، ‏ماذا تفعلین هنا قرب بیتي بحق الله ؟! قالت سعاد بأرتباک:‏
‏-‏ نعم أنا منهم ، لا أرید خبزا ، فقط أخبریني ماذا تسمی هذە القریة وأین تقع ‏؟
نفضت المرأة یدیها من الطحین وقامت متجهة نحو السیاج تمعن النظر في ‏وجە سعاد المتعب والدم المتجمد فوق جبینها المجروح وشفتیها المدمیة من ‏التشقق، فقالت في حزن:‏
‏-‏ هیا أعبري السیاج یا فتاة لا حاجة للخوف، فنحن مثلک أکراد.‏
قفزت سعاد بخفة السنجاب لتعبر السیاج وجلست قرب المرأة، تتمعن فیها ‏وهي تلصق العجین علی أطراف التنور الملتهب، تمام کما کانت تفعل أمها ‏في القریة .‏
إنها امرأة ذات وجە حیوي وشعر أسود تربط في قمة رأسها وشاحا صغیرا ‏متعدد الألوان یضفي الجمال علی ضفائر المتدلیة ،وقد أحمرت وجنتیها ‏بفعل النار حولها ، أنتزعت قرصة خبز من التنور وضعتە أمام سعاد و وهي ‏تقول :‏
‏-‏ قلبي یتفطر علیکن ، کیف تعیشن وتحاربن في هذە الجبال الوعرة و أنتن ‏فتیاة، المرأة لم تخلق للقتال فهي ضعیفة الأقدام. بلعت سعاد لقمة الخبز ‏وهي تجیب:‏
‏-‏ لا لا تقولي هذا یا أختاە ، للمرأة قوة تماثل الرجل ان لم تکن تفوقە ، قوة ‏أقدامنا تنبع من أرض الوطن الذي نسیر علیە. تنهدت المرأة و قالت:‏
‏-‏ فلیکن کما تقولین ، هل تریدین خبزا أضافیا ، أم أجلب لک ما تأکلینە مع ‏الخبز ، انک جائعة ألیس کذلک؟!‏
‏-‏ ‏ نعم ، لکن هذا لیس مهما .. فقط أخبریني کم تبعد هنا عن منطقة( ‏خاکورک) ؟
‏-‏ هوووو.. خاکورک عند الحدود ، ها أنت الآن في ضواحي (لیلکان) هل أنت ‏نائمة أم ماذا ، هیا معي لندخل الدار زوجي یعرف المنطقة أکثر مني ؟!‏
‏-‏ لا لا شکرا لقد تأخرت یجب أن أذهب ‏
‏-‏ هل لازلت تخافین مني ، الدم یا أختاە لا یصبح ماء مهما جری.. نشکر اللە ‏علی انتهاء القتال بین الأخوة ، أنە قتال قبیح الکل کان یقول هذا .‏
‏-‏ نعم یا أختاە قتال قبیح و مشین ،المحتلین یشلون فتیلها، هم السبب
‏-‏ أنا لا أفهم السیاسة ،لکني دوما أقول الی متی سنعیش هکذا دون ‏أستقرار ،کل واحد یلعب بنا من جانبە؟!! .‏
‏-‏ قولک صحیح ، ولکن لم تخبریني کیف وقف القتال؟!‏
‏-‏ أنائمة أنت في أذن الثور أم ماذا.. کأنک لست مقاتلة ، من تکوني یا فتاة.؟!‏
‏-‏ لا.. لا یا أختاە أنا کنت في مهمة وقد تأخرت في العودة ‏
‏-‏ حسنا ، هناک فتیات من جماعتک في بیت المختار ، سنأخذک هناک.. لقد ‏اتفقت قیادتکم مع قیادة الجنوب ، هذا ما قالە زوجي حین سألتە عن سبب ‏وجود کل هٶلاء الفتیات في ضیافة المختار .‏
رفعت سعاد رأسها و تنفست عمیقا وطفحت دموعها تملأ المآقي الحمراءو ‏هي تقول :‏
أشکرک أیها الرب ،أنتهی اقتتال الأخوة قبل أن أموت .. أشکر ربي بأن ‏بندقیتي لم تتلوث بقذارة هذا القتال . ‏



#سرفراز_علي_نقشبندي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المکیال
- أأنت عارف بشیمة المطر
- لا لسنا سیان
- صباحیات أربیل
- مجنون عند عتبة لوزان
- حصیلة النداء
- من سیکون (فیلي براندت ) العراق


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سرفراز علي نقشبندي - ولیمة الفطر