ترحموا على جدي والنخيل

مفيد بدر عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 3899 - 2012 / 11 / 2 - 15:17
المحور: الصناعة والزراعة
    

ذهبت مع أصدقائي ذات مرة في نزهة واخترنا أرضا خاليه على ضفاف شط العرب لنلعب كرة القدم ونصطاد السمك ، وبعد نزولي من الباص تذكرت بان هذه الأرض كانت تعود لجدي وهجرناها منذ ثلاثة وعشون عاما تقريبا واذكر أن حب جدي المفرط لنخيلها كان سببا في وفاته بالجلطة الدماغية ، كان ذالك بعد عودتنا من التهجير القسري في نهاية الثمانينيات يوم صعق جدي بعدما رأى ما فعلت السواتر الترابية من تجريف لأرضه وأجهزت على كل النخيل فخر مغشيا عليه وبقى لأيام معدودة قبل وفاته في كوخه حزينا باكيا ينظر الى العصف المأكول من شرفة الكوخ ، حتى صوت العصافير التي ألفها جدي اختفى فلم تجد مكانا لها ولأعشاشها ، اذكر أن مبلغ التعويض عن البستان رفض استلامه بإصرار شديد وكأنه الأب الذي يرفض اخذ الديه عن قتل أبنائه فالنخيل وهبها ما وهب أبنائه من سهر وعطاء . كنا نواسيه ( جدي سنزرع كل ما دمر ) وها نحن اليوم وبعد ثلاثة وعشرون عاما نلعب كرة القدم في ارض جرداء ... كم انا خجل من نفسي ومن جدي ، ما استطعت أنا ومن على شاكلتي أن نزرع لأننا صرنا نلهث وراء الربح السريع ولا نرتقي لفكرة أن نزرع ليأكل الآخرون فأدرنا ظهورنا للنخلة فخاصمتنا ووصل بنا الحال أن نأكل تمرا من غير بصرتنا أو من غير عراقنا . كانت النخلة عشق جدي الأول وما اذكر يوما رايته بلا منجل أو مسحاة وحتى شكل الكوفية والدشداشه المرفوعة بالحزام وإقدامه الحافية المتشققة تنم عن استعداد كبير للعطاء ، يبدو أن المسحاة أنجزت مالم تنجزه المحاريث اليوم والدلو أثمر ما لم تثمره المضخات ألحديثه ، فبالمسحاة والدلو ملئوا عشرات ( الجراديغ ) مراكز تجميع التمور بأجود أنواع التمور وجعلوها صاخبة متدفقة بالحياة وأوصلوا تمورهم لمشارق الدنيا ومغاربها وجعلوا من النخلة لبيوتهم السقف ولجلوسهم البساط ولخبزهم الحطب ، وبعد برهة أفقت من ذاكرتي ورجوت أصدقائي أن نذهب بعيدا عن هذا المكان لإحساسي بالضيق والإحباط وحتى أسفي وحسراتي ما وصلت للحد الأدنى لجدي ، ولدى صعودي الباص بكيت قليلا على جدي وكثيرا على النخيل وعاهدت نفسي أن ازرع في كل عام نخله في ذكرى وفاته .
ما يدمي القلب أن نجد من استهان بعرق الأجداد ليقتلع الأمل وتعب السنين بدم بارد فما أنجز بعشرات السنين يهدم بساعات ، ما أخشاه ان ياتي اليوم الذي نخجل من ذكر عبارة ( البصرة مدينة الخليل والنخيل ) فالخليل مات من زمان رحمه الله والنخيل اليوم يحتضر فلنهب جميعا لنصرة النخله ونعيد لبصرتنا رونقها وجمالها ، فالبصرة عروس الخليج حلتها النخيل ، فالعروس أبها وأجمل بالحلة .

#مفيد_بدر_عبدالله (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات