أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ابراهيم الحيدري - النظام الأبوي/البطريركي وتشكيل الشخصية العربية















المزيد.....


النظام الأبوي/البطريركي وتشكيل الشخصية العربية


ابراهيم الحيدري

الحوار المتمدن-العدد: 3881 - 2012 / 10 / 15 - 17:06
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


النظام الابوي البطريركي هو بنية اجتماعية متميزة ناتجه عن شروط وظروف تاريخية واجتماعية وثقافية تتكون من سلسلة من المراحل التاريخية والتشكيلات الاجتماعية المترابطة فيما بينها حيث ترتبط كل مرحلة منها بمرحلة انتقالية تسبقها حتى تصل الى مرحلة النظام "الابوي الحديث". ومن الناحية البنيوية فالنظام الابوي يتكون من طرائق التفكير والعمل والسلوك ويرتبط بنمط معين من التنظيم الاجتماعي والاقتصادي التقليدي السابق على الرأسمالية. وهو يتخذ من المجتمع العربي شكلا نوعيا متميزا يقابل المجتمع الحديث، من خصائصه قابليته على الاستمرار وعلى مقاومة التغير والمحافظة على القيم والعصبيات العشائرية والاعراف التقليدية القديمة.
وعلى الصعيد الاجتماعي يهيمن النظام الابوي على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تغلب عليها الانتماءات القبلية والطائفية والمحلية، لان المجتمع الابوي هو نوع من المجتمعات التقليدية التي تسودها انماط معينة من القيم والسلوك واشكال متميزة من التنظيم. وهو يشكل بنى نوعية متميزة تتخذ اشكالا مختلفة من بينها بنية المجتمع الابوي العربي، الذي هو اكثر ابوية واشد تقليدية واكثر محاصرة لشخصية الفرد وثقافته وترسيخا لقيمه واعرافه الاجتماعية التقليدية وتهميشا للمرأة واستلابا لشخصيتها، لانه ذو طابع نوعي وامتداد تاريخي وخصوصية ترتبط بالبيئة الصحراوية والقيم والعصبيات القبلية التغالبية.
ومن المعروف ان العالم العربي هو اعظم موطن للبداوة مثلما هو اكثر مناطق العالم تأثرا ومعاناة في الصراع بين قيم البداوة وقيم الحضارة، كما اشار الى ذلك علي الوردي، ذلك الصراع الذي ما يزال يؤثر في بنية الثقافة وسمات الشخصية العربية .
تمتد جذور النظام الابوي العربي الى النظام القبلي الذي يقوم على صلة الدم والقربى والعصبية القبلية، وتكون من شروط تاريخية وجغرافية وثقافية وذلك عن طريق سيطرة الثقافة البدوية على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية عن طريق نظام القبيلة ( المشيخة) الذي كان بديلا للدولة وادارتها كتنظيم اجتماعي يقوم على العلاقات العشائرية. وبالرغم من ان الاسلام حاول تغيير البنية القبلية وجاء بمفهوم "الامة" بديلا لمفهوم العصبية القبلية، الا ان النظام القبلي بقي مهيمنا على المجتمع والدولة حيث استمرت القيم والتقاليد في تأثيرها على العلاقات الاجتماعية. كما استمرت الصحراء العربية برفد القرى والارياف بموجات بدوية مستمرة خضع لها سكان الارياف والمدن وتأثروا بقيمها واعرافها وعصبياتها وذلك بسبب ضعف الدولة المركزية، بعد سقوط الدولة العربية ـ الاسلامية وعاصمتها بغداد على يد هولاكو عام 1256 مما سبب هيمنة النظام القبلي والمحلي على المجتمع وبصورة خاصة على بنية العائلة الممتدة في علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية واستمرت حتى العصر الحديث بشكل او بآخر، بالرغم من دخول كثير من عناصرالتحديث اليها، لان الدولة الحديثة ما زالت لم تكتمل وتنضج ، وكذلك مفهوم الوطن والمواطنة والهوية ، التي ما زالت مفاهيم هلامية اولا ، ولان تركيب بنية العائلة العربية في شكلها الأولي لا يختلف كثيرا عن تركيب بنية القبيلة العربية لعصر ما قبل الاسلام، الا في بعض مظاهرها الخارجية التي تأثرت بالتحديث، وليس في سلوكها ومضامينها وقيمها وذهنيتها ثانيا. كما ان النظام الابوي هو بنية سايكولوجية ناتجة عن شروط تاريخية وحضارية نوعية تكونت من مجموعة من القيم والاعراف وانماط من السلوك التي ترتبط بنظام اقتصادي تقليدي له خصوصية وبواقع اجتماعي حي، وليس مجرد خاصية من خواص نمط انتاج معين بالعالم العربي.

ومن اهم خصائص النظام الابوي التقليدي انه يقوم على العصبية القبلية وتماهي الفرد مع القبيلة التي تبادله الولاء بوصفها مسؤولة على الصعيد الاجتماعي والسياسي عن كل فرد من افراد القبيلة، وهو ما يؤدي الى تعزيز النظام القبلي القائم على العصبية، الذي يجعل من العائلة حجر الزاوية في البنية الاجتماعية كما تفترض ان بنية القبيلة هي "كل" لا يمكن تجزئته باعتبارها عائلة موسعة او عشيرة او مجموعة من العشائر التي تكون القبيلة، التي تعزز كيانها بسيطرة مزدوجة : سيطرة الاب على العائلة وسيطرة الرجل على المرأة والولد على البنت، بحيث يبقى الخطاب المهيمن هو خطاب الاب الذكر واوامره وقراراته.
وقد اتخذت "الأبوة " صفتها من صلة القربى والدم وضرورة احترام الابن لابيه والقيام على خدمته. ولا زالت تقاليد تقديم الابن فروض الطاعة لابيه واحترامه مستمرة حتى اليوم. كما ان احترام الابن لابيه هو الاحترام نفسه لعشيرته مركزا في شخص واحد يمثلها هو شيخها. وفي الحقيقة فان سلطة الاب ما هي الا مظهر فردي لسلطة القبيلة. ورغم مرور مئات السنين بقي المجتمع العربي مجتمعا قبليا يتكون من وحدات اجتماعية اساسها القرابة التي تتمثل بالعائلة، التي هي جزء من الحمولة فالفخذ فالعشيرة فالقبيلة فاتحاد القبائل الذي يشكل المجتمع باوسع صوره.
وتتكون الاسرة العربية من عدة عوائل عموما، وهي اسرة ممتدة كبيرة الحجم التي تشكل السمة الاساسية لبنية العائلة العريبة حتى منتصف القرن الماضي وتضم كل المتحدرين من جد ذكر واحد وينصهرون في وحدة واحدة ويحمل جميع افرادها اسم الجد الاول للاسرة.
وفي الارياف العربية ترتبط بنية العائلة ارتباطا وثيقا باسلوب الانتاج الاقتصادي السائد والعلاقات الاجتماعية التي تشكل الارض والزراعة ركيزتها الاولى والاساسية، وتعكس بشكل واضح بنية النظام القرابي الذي يقوم على التضامن والتماسك والتعصب العائلي في مواجهة المشاكل والاعباء والصراعات مع العوائل الاخرى ومع الحكومات وغيرها. ولذلك تحتاج العائلة الى تكثير النسل لرفد الارض بايدي عاملة ذكورية كثيرة والزواج المبكر ومن داخل العائلة (ابن العم وابنة العم) وكذلك تعدد الزوجات التي تفرضها وحدة العمل في الارض.
وهكذا بقيت العائلة العربية الممتدة حتى وقت قصير تشكل وحدة اجتماعية انتاجية بفعل استمرار الظروف والشروط البنيوية لتطورها حتى نهاية القرن التاسع عشر.
ومن المظاهر السلوكية التي ما تزال تفعل فعلها في اعادة انتاج العلاقات القرابية ، هو الميل الى التقارب السكني في منطقة واحدة او مدينة واحدة اوفي محلة واحدة وتوثيق علاقات القرابة بحضور المناسبات العائلية المختلفة وبخاصة في مناسبات الزواج والاعياد والوفيات وغيرها.
وما زال الزواج الداخلي يشكل النموذج المفضل لدى كثير من العوائل العربية الممتدة. كما يمتد النظام الابوي ـ البطريركي العربي الى تشكيلات السلطة التي ما زالت تعتمد على النفوذ العائلي، وما زالت التكتلات العائلية والعشائرية والطائفية تلعب دورا هاما وبارزا في كثير من القرى والارياف وحتى في بعض المدن العربية. وليس من النادر ان نجد افراد قبيلة واحدة اوطائفة واحدة اومدينة واحدة او منطقة واحدة يسيطرون على السلطة والدولة والمجتمع ويتحكمون في رقاب الناس. وهذا دليل على ان السلطة الابوية ترتكز على العائلة الممتدة، التي هي النمط القرابي السائد، الذي يمتد الى النظام السياسي الحديث و يستمد شرعيته من كونه نظاما قرابيا ابويا يطرح الحاكم نفسه فيه على انه "الاب القائد" وان جميع افراد الشعب هم ابناءه، وعليهم جميعا واجب تقديم الطاعة والولاء والخضوع له دوما، وفي ذات الوقت ينتظر "الاب القائد " من ابنائه الولاء المطلق له. ان هذه العلاقة التي تتحكم بين الرئيس والمرؤوس، في العائلة والقبيلة والطائفة والدولة، هي شكل من السيطرة الابوية الهرمية التي تقوم بين الحاكم والمحكوم .

ويرتبط بالنزعة الابوية الاستبدادية مشاكل وتحديات واجهت المسألة السياسية التي ما زالت مطروحة حتى الان، حيث بقيت الحرية وأزمة الدولة والسلطة دونما حل لتحديد العلاقة بين الحاكم والمحكومين وبقيت مجرد أمنية بعيدة عن التحقيق. ومعنى ذلك ان المسألة السياسية لم تكن تشكل محور سؤال النهضة ما عدا بعض الارهاصات النظرية ، كما جاءت عند عبد الرحمن الكواكبي وابن أبي الضياف التونسي والحسني النايني، التي بقيت حبرا على ورق . ومنذ استقلال الدول العربية والسعي لتحقيق الدولة القومية ذات المضمون الاجتماعي- السياسي وتأسيس قواعد قانونية ثابتة تقوم اساسا على الفصل بين السلطات والعدالة والمساواة امام القانون وتحقيق المواطنة الحرة، مازال العالم العربي يشهد تغيبا شبه كامل لمثل هذه القواعد القانونية والدستورية، بل وانحسارا كبيرا في شرعية السلطة والتفرد بها وبصنع القرار، مما يفسح المجال الى اعادة انتاج، بل وترسيخ ما قبل الدولة القومية بمكوناتها الاثنية والقبلية والطائفية وتحول الولاء اليها على حساب الوطن والدولة والهوية الوطنية. وهذا يعكس في الواقع تناقضا صارخا بين المبادئ المثالية التي وضعها رواد النهضة لقيام دولة حديثة وبين تطبيقاتها العملية في الواقع.
ويعود الفشل في الحقيقة الى ان المشروع القومي كان مجسدا في شخصية قانونية وليس اعتبارية، لذلك لن يكون من السهل تحقيقه بالشعارات االرومانتيكية، وانما بإرادة الشعوب العربية المشروطة بتجاوز التناقضات الداخلية، الاثنية والدينية والقبلية والطائفية، التي تنخر في جسد المجتمعات العربية وحتى في الدولة القطرية المصطنعة. وقد اعتبر قسطنطين زريق، وهو من كبار المفكرين القوميين العرب، عن قلقه وتوجسه من اشكالية الاندماج القومي والوطني والمجتمعي الهش في العالم العربي وعدم الاعتراف بالتعدد والتنوع الاثني والديني والطائفي في الواقع العملي، الى جانب الفراغ المؤسساتي الذي ارتبط بالنزعة الابوية الاستبدادية وعدم الاخذ بطموحات الثقافات الفرعية الاخرى. فبالرغم من مرور اكثر من نصف قرن على استقلال الدول العربية الشكلي، مازلنا نعيش وهم الدولة القومية، بعد ان تحولت الى انظمة استبدادية فردية، ملكية كانت ام جمهورية، قومية اويسارية او اسلامية، تنعدم فيها ابسط الحريات الفردية ولا يستطيع المواطن فيها تخطي الخطوط الحمراء التي تضعها الانظمة المستبدة والتي ترتبط بالمقدسات والمحرمات والاعراف والعصبيات العشائرية. " لقد ضحى العرب بقضية الحرية والديمقراطية في سبيل الاستقلال والوحدة، فخسروا الوحدة والاستقلال والحرية والديمقراطية".
والحال، كان من نتائج الاستبدادية والتخلف وقمع الحريات هذه الردة الحضارية التي يعيشها العالم العربي اليوم، التي انتجت دول بوليسية تتسلط بالقوة والبطش على جميع مؤسسات الدولة والمجتمع بإديولوجيتها الشمولية وتحتكر السلطة للهيمنة على المنظومات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وكذلك القوى الاجتماعية باسم الامة والشعب والقانون وكذلك تماهي الرؤساء الى رموز تأليهية تعلو على المراقبة والمحاسبة، مستخدمة جميع ادوات القوة والقهر لاخضاع الافراد واجبارهم على الطاعة والخضوع .



ومن المعروف في المجتمعات الابوية -البطريركية ، كما في المجتمعات العربية عموما، هو ان العائلة أبوية- ذكورية تعمل على بناء شخصية خاضعة تميل الى الخضوع للكبار والاذعان للعائلة وكذلك للسلطة عبر تربية أبوية صارمة تعلم الافراد الخضوع والطاعة العمياء ، حيث يمثل الاب القوة والسلطة والام والاولاد الطاعة والخضوع. وحينما ينشأ الاولاد، يقوم الولد بتقليد الأب ومحاكاته واخذ دوره في التسلط على اخته أولا ثم على عائلته بعد الزواج ثانيا. وتقوم البنت بتقليد الأم واخذ دورها الخاضع والانصياع الى أوامرالذكر ونواهيه. وينتقل التسلط من العائلة الى العشيرة ومنها الى المدرسة والشارع والدوائر والمصانع والى جميع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية.

ان الخضوع وعدم مخالفة الأوامر تجعل الفرد ينفذ تلك الاوامر بدون أي رفض أو احتجاج.وبذلك يكون الطفل المطيع " ولدا طيبا يسمع الكلام دائما". ولكن عندما يكبر الولد المطيع ويتكيف مع ضرورات المواقف تحدث عنده ردود افعال مناقضة ويبدأ بتطوير عدوانية مكثفة ضد أبيه وضد معلمه وكذلك ضد الموظف والشرطي وغيرهم، كما يضطر، بسبب الخوف والاحترام الزائد للقيم وغيرها، الى كبت هذه العدوانية، التي من الخطر عليه اظهارها، غير انها تتحول بالتدريج الى عامل ديناميكي في بناء شخصيته وتكون لديه قلقا واضطرابا وتدفعه الى ان يخضع الى اكثر من جهة، وفي ذات الوقت، تخلق له تحديات وردود افعال موجهة الى الاخرين والى الحياة نفسها بصورة عامة. كما ان ردود الافعال هذه توثر سلبا على شخصيته وتطور بمرور الزمن سمات جديدة وتصبح جزء من شخصيته.
ومن المعروف ان السلطة الاستبدادية غالبا ما تبحث عن الانسان الضعيف الخاضع وتحاول تطويع عقله ضمانا لتطويع جسده وتستخدم لذلك آليات مختلفة من بينها قتل البعد العقلاني النقدي وتحريفه وتطوير مسلمات تبريرية، كنظرية المؤامرة والاعداء الجدد وغيرها لخلق مسوغات تساعد على فرض قيود ومحرمات وعوائق تقيد الفكر وتصب عادات وانظمة جديدة في قوالب جاهزة في البنية الذهنية تقف سدا منيعا امام أي مقاومة تبديها الفئات الاجتماعية المقهورة، التي تفضي بمرور الوقت الى تطويع الجسد واخضاع العقل واضعاف الاحساس بالمسؤولية ، التي تسهل عملية الخضوع. ولما كانت المسؤولية هي الوجه الاخر للحرية، فانها ستتحول الى شبح مخيف يهرب منه الانسان الضعيف. ونجد امثال هؤلاء الضعفاء الخاضعين في المجتمعات ذات الانظمة الاستبدادية الشمولية، الذين يعيشون سنوات طويلة تحت وطأة الاستبداد والقمع والقهر ولا يذوقون طعم الحرية ، يصبحون مسلوبي الحرية والارادة والحس بالمسؤلية ويخضعون لقناعات تسوغ لهم الخضوع والتكيف معه وتجعلهم مقهورين ومضطهدين وغير قادرين على الرفض والتحدي والمقاومة وتغيير الواقع البائس الذي يرزحون تحته. ولكن الادوار قد تتبدل حلما تسنح الفرصة المناسبة. فالشخصية الخاضعة المستسلمة للأمر الواقع، والقابلة بالخضوع للقهر والظلم والاذلال، قد تتحول فجأة الى الى شخصية اخرى وتكون مناقضة لشخصيتها الطبيعية المسالمة، خصوصا عندما يكون لديها استعداد سايكولوجي لان تتحول بدورها الى شخصية عدوانية قامعة، تماما كما حدث لكثير من الاشخاص في العراق وغيره عندما تحولوا الى الانخراط في اجهزة الامن والاستخبارات أو في الميليشيات والعصابات المنظمة وغير المنظمة واخذوا يمارسون العنف بشكل او اخر . أو حين يتحول اشخاص مقهورين وخاضعين الى اشخاص ساديين متسلطين على الاخرين، وخاصة على الضعفاء والمهمشين الذين هم مضطرين الى طلب المساعدة او العون المادي أو المعنوي، أو حين يستدرج المرء لطلب ثأر قديم أو رد ظلم منسي أو تعويضا عن معاناة طفولة بائسة أو رد على عقاب فردي او جماعي كان قد تلقاه هو في المدرسة او الشارع من زمن الطفولة أو امه او احد افراد عائلته وغير ذلك.

ان الانسان الضعيف والعاجز امام القوة الابوية المتسلطة التي يفرضها الحاكم او الشرطي او الشيخ او المعلم او الموظف الذي يمتلك صنع القرار اذا لم يستطع التملص من التسلط فليس امامه سوى الرضوخ وبذلك يفقد السيطرة على مصيره ومستقبله. وبدلا من المقاومة والرفض يقوم بسلوكات تعويضية كالتزلف والاستسلام والمبالغة في احترام المتسلط وتبجيله ، اتقاء لشره من جهة، والطمع في رضاه من جهة ثانية، والامل في العيش بسلام لانه لا يستطيع الرفض والتمرد والمجابهة من جهة ثالثة. وفي هذه الحالة تنعدم علاقة التكافؤ لتحل محلها علاقة التشيؤ، وذلك لعدم وجود اعتراف بالأنا كقيمة انسانية.وهكذا تتطور علاقة جديدة ومن نوع آخر حيث يصبح "الآخر هو الجحيم". وكلما تتضخم ذات المتسلط تفقذ ذات العاجز أهميتها واعتبارها وفاعليتها، حتى لتكاد تفقد انسانيتها مثلما تفقد الاحساس بمعاناة الاخرين والتعاطف معهم وكذلك تزداد المخاوف من الاخر والحاجة الى الامن والطمأنينة ويصبح الانسان نهبا للقلق واللامبالات، بحيث ينطبق عليه قول المتنبي :
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح ميت ايلام.

ان هذه العلاقة ليست جامدة دوما، حيث تغلب عليها حالة التذبذب حين يحاول الانسان العاجز الانتقام لدونيته باساليب خفية وملتوية، كالامبالات والتخريب واستخدام اساليب رمزية اخرى كالتنكيت والتبخيس والتشنيع والدعاية المضادة وكذلك الغش والتملق والمراوغة والتضليل، وهي سلوكات مزدوجة في العلاقة مع الاخر تعكس رضوخا ظاهريا من جهة، وعدوانية خفية من جهة اخرى، وهي محاولة تضليل ونوع من الشطارة في رد المتسلط من قبل العاجز الذي يتربص به الدوائر لينال منه ما يستطيع ويثأر لذاته الجريحة. ولكن عندما لا يستطيع المضطهد والعاجز عن رد الاضطهاد والنيل من المتسلط، فانه يوجه عنفه وغضبه وثاره نحو الاخر وبالاسلوب االذي تسمح به الظروف، وهو حل وسط بين التمرد والخضوع. فهو يفتش احيانا عن آخر يحمله وزر قهره واضطهاده وعجزه واخطاءه وكذلك عدوانيته، وهو لا يكتفي بادانة ذاته، وانما يدين الآخرين ويشركهم معه ويوجه اللوم اليهم ، بل ويحملهم المسؤولية، وبالتالي يصب غضبه وعدوانيته عليهم، محاولا بذلك اسقاط الاحساس بالذنب وإلقائه على الآخرين، ليس على المتسلط الحقيقي، وانما على المقهور والمستضعف والاكثر عجزا. وهنا نلاحظ ايضا ان الانسان الخاضع قد يستخدم اساليب المتسلط نفسه ولغته ، مع الاختلاف في دوافع كل منها.
غيران هذا التماهي بالمتسلط هو قلب للادوار وتبريرها والتصرف بعقلية المتسلط واساليبه ، التي يحاربها. فهو يتعالى ويستبد ويظلم ويمارس اعمال القمع والقهر التي كان يرفضها. وبذلك يصبح القاتل والضحية واحدا. كما ان التماهي بعدوانية المتسلط تجر الافراد الى ممارسة التسلط على من هم دونهم او اضعف منهم، عن طريق تلمس الحضوة والتقرب من المتسلطين وتقديم الخدمات لهم وذلك من خلال استعراض القوة او حمل السلاح او المباهاة بها والتعالي على المقهورين واستغلال الفرص السانحة، كأستعمال النفوذ وفرض " الخاوة" والتهديد والخطف والابتزاز واخذ الرشوة. وهذا يعني تبني قوة المتسلط واستغلالها لحسابه وفرضها على الاضعف و تمثل قيم واسلوب حياته ونظرته الى الامور وتقليد شعاراته وازيائه وحركاته وكلماته، كما عمل بعض العراقيين في تقليدهم لصدام حسين او الليبيين لمعمر القذافي في أوج قوتهما وتسلطهما. وهكذا تتحول تطلعات المتسلطين الصغار الى مزيد من الخضوع والرضوخ لشروط المتسلط الذي يرمي لهم بالفتات، مما يحولهم الى ادوات مطيعة لتنفيذ غاياته وتحقيق اهدافه.
وغالبا ما تبدو الميول السادية مقنعة بالحب، حيث يزعم البعض بان التحكم بالشخص الاخر هو تعبير عن الحب. غير ان العامل الجوهري في ذلك هو الاستمتاع بالهيمنة والتسلط والتلذلذ بها.ولكن في حالات قليلة اخرى ينقلب المقهور الخاضع الى شخص متمرد فيثور ويتخطى قهره وعجزه فيكسر حاجز الخوف ويحطم سادية المتسلط وجبروته. واذا لم يستطع تحقيق ذلك، يتجه الى الانسحاب والتقوقع على الذات بدل المجابهة، بسبب الشعور الداخلي بالعجز وقلة الحيلة، لان طموحاته محدودة واهدافه قريبة المنال. فهو يحاول ايهام ذاته بتقبل هذا المصير المفروض عليه، الذي يبرره بالقضاء والقدر و" المكتوب في الجبين لازم ترآه العين ".
ان هذا التبرير يحدد بدوره طموحاته ويقلل الفرص امامه ويضطر الى ترك ذلك الى الظروف تسير حياته وترسم مستقبله، تحاشيا الى كل ما يعرضه للخطر وتجنب أي علاقة مباشرة بالمتسلط ويتهرب من كل مسؤولية ويقف كالمتفرج ويقول " انا شعلية".
ان الوقوف على السطح واللا مبالاة بما يجري على مسرح الاحداث يعتبر آخر مراحل الاستسلام والدونية، ويشكل في الحقيقة ستارا واقيا يخفي المرء فيه ضعفه وبؤسه واستلابه ويكون عنده "جرحا نرجسيا" هو اكثر عناصر الوجود الانساني ضعفا ومهانة. وهو يحاول تغطية ذلك والتستر عليه باشكال من الاستعراض الاستهلاكي والادعاء والتبجح وخداع الاخرين بالمال والجاه والقوة والحيلة وغيرها.
وهناك من يبرر التمادي في اضطهاد المواطنيين واخضاعهم ويوجه اللوم اليهم بسبب عجزهم واستكانتهم معللا ذلك بان البلد رضخ منذ مئات السنيين الى انظمة استبدادية قمعية حولته الى شعب اعزل لا حول له ولا قوة وجعلته يستهين بالرضوخ لحاكم يمنحه سلطة الأب البطريركي القائد من جهة، ويقول بان مثل هذا الشعب لا يستطيع ان يمارس الحرية والديمقراطية، واذا سمح له بذلك فسوف تعم الفوضى ويتحول المجتمع الى غابة والناس الى ذئآب يأكل بعضهم بعضا من جهة اخرى. وبالرغم من ان هذه التعميمات غير دقيقة وتبريرية، فقد تكون لها مصداقية في ظروف تحولات بنيوية قاهرة تمر بها بعض المجتمعات. ولكن يجب ان لا تستغل مثل هذه التعميمات في نشر واشاعة ان الناس هم بحاجة الآن الى "كارزما" ومخلص ينقذهم من هذه الفوضى. وبمعنى آخر، الدعوة الى سلطة قائد قوي يلوي رقابهم من جديد حتى تستقيم أمورهم. ان هذه الدعوة هي مؤشر على ميل الانسان الضعيف والمقهور للخضوع الى دكتاتور يحسم امرهم، لانهم غير قادرين على ان يكونوا احرارا ومتساوين ومسؤولين عن حياتهم وقدرهم.




المصادر:
1- ابراهيم الحيدري، النظام الأبوي واشكالية الجنس عند العرب، دار الساقي، بيروت 2003
2- هشام شرابي، البنية البطركية، بيروت 1987
3- مصطفى حجازي، سيكولوجية الانسان المقهور، بيروت 1984



#ابراهيم_الحيدري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خطر تنامي القبيلة والطائفة في العراق
- البداوة المقنعة
- الاختلافات والفروق البايولوجية والاجتماعية بين الرجل والمرأة
- الامزونيات الليبيات، اقاموا أول حكومة للنساء في العالم
- استلاب الانوثة
- هل الأنثى هي الاصل ؟
- حنا بطاطو وتحليل الطبقات الاجتماعية في العراق
- العولمة والمرأة في مجتمع الخدمات الجديد


المزيد.....




- ما هي صفقة الصواريخ التي أرسلتها أمريكا لأوكرانيا سرا بعد أش ...
- الرئيس الموريتاني يترشح لولاية رئاسية ثانية وأخيرة -تلبية لن ...
- واشنطن تستأنف مساعداتها العسكرية لأوكرانيا بعد شهور من التوق ...
- شهداء بقصف إسرائيلي 3 منازل في رفح واحتدام المعارك وسط غزة
- إعلام إسرائيلي: مجلسا الحرب والكابينت يناقشان اليوم بنود صفق ...
- روسيا تعلن عن اتفاق مع أوكرانيا لتبادل أطفال
- قائد الجيش الأمريكي في أوروبا: مناورات -الناتو- موجهة عمليا ...
- أوكرانيا منطقة منزوعة السلاح.. مستشار سابق في البنتاغون يتوق ...
- الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خلي ...
- موقع عبري: سجن عسكري إسرائيلي أرسل صورا للقبة الحديدية ومواق ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ابراهيم الحيدري - النظام الأبوي/البطريركي وتشكيل الشخصية العربية