أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - أم الجميع ابنة روما















المزيد.....



أم الجميع ابنة روما


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3638 - 2012 / 2 / 14 - 15:36
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الأعمال المسرحية النثرية (3)

د. أفنان القاسم

أم الجميع

ثلاثية مسرحية

ابنة روما

المسرحية الثالثة


الطبعة الأولى عالم الكتب، بيروت، 1989
الطبعة الثانية دار النسر، عمان، 1995
الطبعة الفرنسية دار لامارطان، باريس، 2004


إلي أصدقاء الطفولة الذين لم يكبروا
أليف العنبتاوي
وباهر يعيش
ويوسف الخوري
ومجدي المصري
ومازن العنبتاوي
ومصطفى البشتاوي
وعلي الخليلي
وعمر الشكعة
ولبيب الشكعة
وحاتم الشكعة
وكل الآخرين


الشخصيات

- صنيعة بنت المقدادي المعروفة باسم أم الجميع
- ابنها الأكبر درويش نَفَس المرتينة
- ابنها الأوسط حمد أبوريش
- ابنها الأصغر حسن الشاطر
- ابنتها ميمونة
- حفيدها سيف الدين
- فيروز الجبلية
- أبو أرز
- المارشال أبو الجماجم
- ضوء الليل
- فدائي
- فلاح
- أعوان أبو أرز
- فلاحون
- عمال
- مقاتلون
- جنود


اللوحة الأولى
(تفتح الستارة)

حسن الشاطر: (في أحد المواقع الخلفية) لقد وقع قراري. لا تنس أنني خالك وقائدك. أنا من سيذهب إلى إنقاذ أمك، وأنت ستبقى لتأخذ مكاني. الحرب ليست عند خطوطنا هنا، الحرب في كل مكان من لبنان، والنار المتفجرة هنا أو هناك نار واحدة!
سيف الدين: ولكن هناك أمي، أمي قبل أن تكون أختك أو ابنة أمك، وعليّ أنا الذهاب إلى إنقاذها. ليست النار المتفجرة هنا أو هناك نارًا واحدة. هناك أمي، التنين هناك يقذفها بلهبه كالجحيم، وأمي تصرخ، وتنادي!
حسن الشاطر: سألبي نداءها.
سيف الدين: بل أنا من سيلبي نداءها، فأنا من تناديه. سأقتحم بناري الحصن المحاصر قلبها إلى النار، وأختطفها من قلب اللهب! لن يمنعني عن تحقيق ذلك قرارك. لن يمنعني عن تحقيق ذلك قرارهم. أنا وحدي من يستطيع إنقاذها! ألم أنذر لذلك؟
حسن الشاطر: (صائحًا من شدة الغضب) لم تنذر للموت! (ثم بهدوء) في مواقعنا الخلفية مهمات كثيرة بانتظارك. الحرب لن تقف غدًا، والحرب تحتاج إليك من بعدي قائدًا.
سيف الدين: أنت ذاهب إلى الموت إذن؟
حسن الشاطر: لا أخفي صعوبة المهمة.
سيف الدين: لا تخفي صعوبة المهمة؟ تذهب إلى الموت بينما أمي أسيرة! أكون في كارثة لأصبح في كارثتين! تطارد الموت لينتصر الموت عليّ! ولكنني أستطيع أن أخدع الموت إن لم أقهره، فأفعل شيئًا لأجل أمي ولأجلك، أفعل شيئًا لأجلنا.
حسن الشاطر: الموت هناك لن يخدع، وأمك... (يهمهم بأسى) لا يمكن إنقاذها!
سيف الدين: (مهتزًّا) لماذا تخاطر بنفسك إذن من أجل حلم محترق؟ لأصبح أبا الكارثتين؟
حسن الشاطر: علينا أن نفعل شيئًا ما دامت أمك تصرخ.
سيف الدين: (ضاربًا جبينه) آه، أيتها الرصاصات العاصية!
حسن الشاطر: ابقَ هنا، واستعد للجولة القادمة. الحرب لن تقف غدًا. أنت صنعتك أمك للحرب. صنعتك الحرب رصاصة! وهنا... (يتردد) هنا فيروز الجبلية، فلا تنسها. هي بحاجة إلى ساعدك. تحبك أنت، وأنت تحبها.
سيف الدين: (بأسى) تحبني أنا، وأنا وأنت نحبها! لماذا تهرب من الحقيقة؟
حسن الشاطر: لا يكفي أن أختار أنا أو أنت.
سيف الدين: (مهمهمًا لنفسه) فيروز الجبلية!
حسن الشاطر: من عادة الحب أن يجمع اثنين في ناره.
سيف الدين: (هاتفًا) أو ثلاثة أو عشرة أو أمة بأكملها.
حسن الشاطر: (يهم بالذهاب) أنا ذاهب.
سيف الدين: (راجيًا) لماذا لا تنتظر لحظة أخرى؟
حسن الشاطر: سيطول انتظار أمك.
سيف الدين: لماذا لا تنتظر لحظة أخرى، فتعيق الموت؟
حسن الشاطر: سأعيقه بالتقدم منه.
سيف الدين: رغم أنه الأقوى؟
حسن الشاطر: رغم أنه الأقوى؟
سيف الدين: (يلحق بخاله لهفًا) أيها الخال! مر على فيروز الجبلية، وقل لها وداعًا، قبل الموت نقول للأصدقاء وداعًا.
حسن الشاطر: (مترددًا ثم مستجيبًا) سأمر على فيروز الجبلية لأقول لها وداعًا.


































اللوحة الثانية
فيروز الجبلية: (من داخل خندق) جئت تودعني لتذهب إلى القتال أم لتهرب من حبك لي؟ أعرف أنك معذب، وأنني السبب في عذابك! (تخرج من الخندق بسلاحها مقتربة منه) هل هو ذنب قلبي الذي اختار على هواه؟ نار الحب كنار الحرب مدمرة! (تطلق زفرة) ولن ينقذك ذهابك شيئًا مما أنت فيه. أنت تحترق قريبًا مني أو بعيدًا عني، والمصير الذي ينتظرك واحد إذا ما ذهبت أو بقيت، فلا تذهب! ودّعني، على الأقل، وأنت قربي!
حسن الشاطر: بل أريد وداعك من بعيد، فالموت قربك غير محتمل، الموت قربك يجعلني أحس بالعار. آه، يا لعاري من حبي الذي يدمرني، وأنا على مرأى من عيني حبيبتي الباردتين!
فيروز الجبلية: أريدك أن تبقى.
حسن الشاطر: لن أبقى لإذلالي؟
فيروز الجبلية: أو أن تأخذني معك.
حسن الشاطر: (متفاجئًا) هل هي فيروز الجبلية التي تقول هذا؟ أن آخذك معي؟ وابن أختي الذي يحبك وتحبينه ماذا عنه؟ أهو شرط حبك لي؟
فيروز الجبلية: بل شرط حبك أنت لي.
حسن الشاطر: (حائرًا) أنا لا أفهم شيئًا! كيف يمكنك المغامرة مع ذاهب إلى الموت، وقربك أترك ابن أختي مقاتلاً جسورًا يمنع عنك الموت؟
فيروز الجبلية: (مطلقة العنان لأحلامها) معك الأمر يختلف، معك أجد في حبك لي نكهة غريبة على مرارتها إلا أنها مفعمة بحلاوة اليأس! بإرادة الاستسلام! بعنف الهدوء! حبك لي يجعلني أشعر بحبي له. دون أن أمتنع عن التفكير لحظة واحدة في أنك هنا، ترصد مواقع العدو، وتفكر فيّ، تأمل بعدم الهزيمة، وتفكر فيّ، تضرب سلاحك، وتفكر فيّ، فأنا الأمل الذي لن يتحقق!
حسن الشاطر: هو أيضًا يفعل كل هذا، ويفكر فيك.
فيروز الجبلية: ولكنه مطمئن إلى أنني له.
حسن الشاطر: (محذرًا) حذار فيروز الجبلية! ها أنت تلعبين لعبة خطرة!
فيروز الجبلية: (نافية بابتسامة) بل على العكس، لعبتي تكشف عن نفسي كامرأة، هل تنسى أنني امرأة؟
حسن الشاطر: لا أنسى.
فيروز الجبلية: أنت تنسى! لن يمنعك حبك لي من اعتباري تلك التي اعتادت الوقوف في الخندق. هل أذكّرك بحبي دومًا كيلا تنسى أنني امرأة؟ هل أذكّرني بحبه دومًا كيلا أنسى أنني امرأة؟
حسن الشاطر: (صائحًا من شدة الغضب) أنت امرأة! أنت امرأة! ولكنك امرأة خطرة! (ثم مبتهلاً) لا يمكنك أن تكوني امرأة على حساب موتي!
فيروز الجبلية: لن أتركك تموت وحيدًا. سآتي معك إلى النار المحرقة حيث أنت ذاهب لإنقاذ أختك.
حسن الشاطر: (مضنى) حيث أنا ذاهب لإنقاذ نفسي. آه، أيها الموت الذي أتحدى إدبارك!
فيروز الجبلية: سآتي معك إلى النار المحرقة، حيث المواقع تحال إلى جمر، وإيقاع القنابل إلى موسيقى!
حسن الشاطر: (مبتهلاً) توقفي فيروز الجبلية، توقفي! شهوة النار ستدمرك! الآن أعرف أي حب جعلته يحرقني.
فيروز الجبلية: هل أتحول إلى شيطان في عينيك، وأنا ملاكة تعلمت الضرب على بندقية؟ المواقع هنا لا تنطق، وعند الأفق البعيد السحاب يقترب، وأسمع للعصافير أحيانًا وشوشات عاشقة. في زمن الحرب كل هذا يبدو غريبًا!
حسن الشاطر: (مهمهمًا بيأس) الحرب لن تقف غدًا.
فيروز الجبلية: وأنا، لهذا، ذاهبة إلى حيث تكون بعد أن أصبحت هذه المواقع الخلفية تسئمني. إن لها رائحة سلم متعب، تمامًا مثل حبي له. هل يمكنه أن يعرف؟

(يجيء أحد الفدائيين لاهثًا والغبار يتصاعد من قدميه إلى بندقيته)

الفدائي: ابن أختك تركنا، وذهب إلى الحصن المحاصر أمه لينقذها!
حسن الشاطر: (متفاجئًا) ماذا؟ يتركني إلى ناري، ويخونني!
الفدائي: وبعد تردد ذهب برفقته بعضنا، وأقسم الجميع على أن يفكوا الحصار، أو يموتوا معًا.
حسن الشاطر: (لفيروز الجبلية) ها هو يحبك الآن كما تريدين أن يحبك.
فيروز الجبلية: (دون أن يبدو عليها السرور) إنه يحب أمه! ألا ترى كيف يتركني في المواقع الخلفية؟ يتركني معك؟
حسن الشاطر: (محتدًا) لن أجعل للموت الصامت منفذًا إلى قلبي (يتجه إلى الخندق، ويبدأ بإطلاق النار) أهذا هو الطريق إلى قلبك؟
فيروز الجبلية: ولكننا في المواقع الخلفية.
حسن الشاطر: سآتي بالحرب إليها.
فيروز الجبلية: (بسعادة) ها أنت تفهم لعبة الحرب في الأخير! (تقفز في الخندق من وراء سلاحها).
حسن الشاطر: لعبة الحب أم لعبة الحرب؟
فيروز الجبلية: (تضرب النار بحماس وشوق) كلتاهما. كلتاهما.












اللوحة الثالثة
ميمونة: العب آخر لعباتك، فنهايتك تقترب، ألا تسمع رصاصات ابني محاولة فك الحصار؟ هو هناك على مرمى حجر، شاب متفجر بالعزيمة والغضب، يضرب بالنار، ومن ورائه قافلة من الوقائع والأحداث! هو بداية تاريخ يتحرك بين الخنادق المصممة على هزمك، وأنت نهاية تاريخ لم يبدأ، أو أنه بدأ، وانتهى! كيف أملّكك نفسي، وأنت كالسحالي الهاربة من جحر مهدم؟ من ورائها الخراب، ومن أمامها الطريق محطم وقصير، عند حافته هاوية الموت! كيف أملّكك نفسي، وأنت حقدي؟
أبو أرز: (بلهفة ورجاء) يكفي أن أكون حقدك! فلأكن حقدك، ولتكوني في قلبي قاربًا! لا بأس أن تكوني قاربًا يذهب إلى الموت!
ميمونة: أن أكون قاربًا محطمًا يغرق بعد أن حطمتني!
أبو أرز: أن تكوني قاربًا محطمًا يغرق في دمي! (يشدها بين ذراعيه، ويقول محتدًّا مبتهلاً) الشوق يدمرني! كل هذه الحرب لم تفعل شيئًا في نفسي، أما شوقي إليك، فهو يدمرني! فلأكن حقدك، ولتكوني حبي، ولنتحد! سننجب أطفالاً خياليين، وفي زمن السلم، سيكونون عمالقة هذا الكون قوة ومعرفة! التناقض بيني وبينك من طبيعة الأشياء النازعة إلى التسامي! وذبائح اليوم هي قربان حبي لك وحقدك عليّ! والنار (يصرخ بعظمة فاتحًا ذراعيه على الجانبين) هي تطهير روما من عناء الخطيئة التي ارتكبها أجدادنا! (ثم بهدوء ولكن بلهجة مفخمة) نحن متحدون على طريق الموت أيتها العابثة بقلبي دون أن نشاء، والحياة رحلة قصيرة، فتعالي بحقدك إلى أحضاني، أنا ابن عشتروت الشقيّ، أفتح اليك ذراعيّ القويتين كي تأتيهما!
ميمونة: بل كي أذهب عنهما بعيدًا.
أبو أرز: (مهتزًّا من شدة الغضب) سأدمرك، أيتها اللعين! حقدك يكفيني كي أشعل جهنم! أحرقت أبنائي، ألا أستطيع إحراقك؟ هدمت أكواخ الصيادين، ألا أستطيع هدمك؟ أطفأت القمر، ألا أستطيع إطفاءك؟ ولكن جمالك مكبل، وتاريخ ابنك يجعلني حاسدًا، ورصاصاته ترعبني! آه، يا إلهي! كيف يفتك بي حبي لك وحقدي عليه؟ لو كان بيدي لجعلت منه ضحيتي إلى قلبك!
ميمونة: (ساخرة) لو كان بيدك!
أبو أرز: أتشككين في قواي؟ أتشككين في سلاحي؟ أتشككين في إخلاصي لك؟
ميمونة: إخلاصك لي بقتل ابني؟
أبو أرز: (بينما يدخل الابن الأوسط حمد أبو ريش، ويصب له كأس خمر) أنت لا تفهمين معنى التضحية! قوتك في جمالك، ما عدا ذلك غباء ورثته عن أبويك! (يشرب خمرًا، الرصاص يقوى، يتوجه إلى حمد أبو ريش ببعض القلق) الرصاص يقوى! ما هي أخبار ابن أختك؟
حمد أبو ريش: يحاول فك الحصار دون أن ينجح.
أبو أرز: عليه ألا ينجح.
حمد أبو ريش: نحن في صدد حصاره وأسره.
أبو أرز: ألهذا يقوى الرصاص؟
حمد أبو ريش: إنه رصاصنا المدمر!

(قعقعة أسلحة، ثم تخفت، ثم تنقطع)

أبو أرز: هل انتهت المعركة بمثل هذه السرعة؟
حمد أبو ريش: انتهت المعركة.
أبو أرز: وأين هي ضحيتي المقدسة؟
حمد أبو ريش: في الطريق إليك.
أبو أرز: (جارعًا كأسًا ثم آمرًا) أعطني خمرًا! (يعطيه).

(يدخل بعض المسلحين بالحفيد مسلسلاً غائبًا عن الوعي وجريحًا)

ميمونة: (هارعة لتأخذ ابنها في أحضانها) أتيت إلى النار بقدميك وكان عليك أن تبعث بغيرك! لماذا تتركني أحترق معك؟ (تلتفت إلى أبي أرز مرتاعة مبتهلة) دمه ينزف!
أبو أرز: لم تعد تسكرني رؤية الدماء! (يملأ حمد أبو ريش كأسه خمرًا).
ميمونة: (مرتاعة دومًا) دمه الساخن الحار يتفجر، ولا تفعلون شيئًا! هو جرحي، ولا تفعلون شيئا! (لأبي أرز) كيف يمكن لحبك أن يراني شلال دم ولا يتحرك؟
أبو أرز: (يقهقه، ثم يرفعها عابسًا، فيسقط ابنها على الأرض) هذا الجرح هو حقدي الآن، وأنتِ من أرادته!
ميمونة: لم أكن أعرف أن رصاصاته ذات نفس قصير (متوسلة) أنقذه أهبك نفسي.
أبو أرز: (يدفعها، فتسقط على صدر ولدها) لن أنقذه، وستهبينني نفسك!

(ميمونة تبكي. يشير أبو أرز إلى حمد أبى ريش ليجهز على سيف الدين. ترجو ميمونة، وتصرخ. ينبثق بين أياديهم ثعبان يبرق بلون الليل، فيتراجعون فزعين، ثم يهربون. تخرج أم الجميع من ثوب الثعبان، وتقترب من ميمونة بالدواء والضماد)

أم الجميع: جئتك بدواء وضماد، أليست هذه مهنتك قبل أن يأخذوك أسيرة؟ (تأخذ ميمونة الدواء والضماد، وتبدأ بمعالجة جرح ولدها) هناك الجرح القاتل والجرح غير القاتل، اطمئني، جرح ولدك غير قاتل، اسأليني أنا، أفهم في الجراح أكثر من طبيب! منذ مولدي، وأنا أمشي على الجراح! أقطع من جرح إلى جرح! طريقي كلها جراح، ولكني لم أزل أتقدم!

(خلال ذلك، تتوقف ميمونة عن معالجة الجرح، وتجعل الدم يهجم على أصابعها، ترفعها نشوانة، تأخذ في القهقهة كالمجنونة، إلى أن تصفعها أمها، فتنفجر بالبكاء)

أم الجميع: صار يسكرك الجرح، أيتها اللعين! ولكنه جرح ابنك، مهجتك، فلذة كبدك! يسكرك الجرح، ويبكيك! يا لتعاستك! في الماضي أردتِهِ أن يكون شيئًا آخر، كان ذلك يوم كان رضيعًا، واليوم تريدينه أن يكون شيئًا آخر! جرحه هو قدره! (تأخذ في تضميد الجرح) بدلاً من أن تداويه ليتابع عليه الطريق تريدين أن تفجريه دفعة واحدة! أنت أمه وعذابه!
ميمونة: (متحدية دمعها) وأنت أمي وعذابي!
أم الجميع: هكذا أفهمك على حقيقتك! هكذا نفهم بعضنا البعض لنقطع الجرح!
ميمونة: (ناهضة متحدية) ولكنني سأتحداك، وسأتحداه! (مشيرة إلى ولدها الغائب عن الوعي دومًا) سأتحداكم جميعًا!
أم الجميع: هل ستبحثين عن جريمتك وحدك؟
ميمونة: بل عن كياني! عن قدري!
أم الجميع: حتى في المهانة؟
ميمونة: أريد أن أحس بنفسي حتى في المهانة!
أم الجميع: هذا ما ينتظره أبو أرز!
ميمونة: (تنفجر غضبًا) أنت لا تفهمين شيئًا، أيتها الأم الحمقاء،
لا تفهمينني مع أنك أمي! (تصمت فجأة، ثم تعيد القول) أريد أن أحس بنفسي حتى في المهانة!
أم الجميع: لا وقت لذلك في زمن الحرب.
ميمونة: بلى! ولهذا لسبب! لأن هذا الزمن لن يعود من جديد.
أم الجميع: (مفكرة) تريدين القول لن يمضي غدًا، وإنه طويل، بطول الجرح الذي قطعته إلى اليوم طوال حياتي! تريدين القول إنه زمن التحدي عندما نكون في داخله!
ميمونة: ولكن تبقى لي حاجاتي، حاجاتي أنا، احتياجاتي. أتنسين يوم بكينا معًا في عمان، وذهبنا؟ تركناك تصعدين الجبل مع صورتك لأنها كانت حاجتك، ولأنك تكرهين السفر والمسافات.
أم الجميع: ورغم ذلك، فأنا ألحق بكم.
ميمونة: عندما تنتهي حاجتك، أو تبدأ من جديد، وأنا الآن تبدأ حاجتي. أريد أن أكون ما أريد لبعض الوقت قبل أن يقتحمني الموت. أعطيتكم كل شيء، والآن لا آخذ منكم، بل أعطي لنفسي. نعم، في زمن الحرب اللعين؟
أم الجميع: (بآهة) ويلتاه! (بينما تنفجر ميمونة بالضحك كالمجنونة) وابنك الجريح؟
ميمونة: أنا لا أريده!
أم الجميع: ولكنه يريدك.
ميمونة: إذا كان هو يريدني، فهذا أمره، أما أنا، فأنا لا أريده!
أم الجميع: أيتها الجاحدة! أيتها المتحجرة القلب! أيتها العاق!
ميمونة: نعم، إذا كان هو يريدني، فهذا أمره.

(يدخل أبو أرز بصحبة حمد أبي ريش وأعوانه وفي قبضاتهم يرفعون السيوف، وفي اللحظة ذاتها تتحول أم الجميع إلى الثعبان الأسود ذي البرق الليلي. يهوون بسيوفهم قاطعين رأسه، فيثب الرأس متحولاً إلى صقر جبار، ينقل بمخلبه الحفيد أمام ذهولهم، ويطير به محلقًا من فوق النار)



اللوحة الرابعة
(حصان بلون الجمر الأسود ينبثق من الأفق الممتد عاديًا. تلاحقه قذائف الابن الأصغر حسن الشاطر، بينما يتقدم الحصان بإصرار نحو الموقع. تقفز أم الجميع من ثوب الحصان، وهي تصهل بغضب)

أم الجميع: (ترفع ابنها في قبضتها معنفة) تريد قتل أمك، يا ابن أمك؟
حسن الشاطر: تخيلتك كتيبة من العدو.
أم الجميع: (دون أن يزول غضبها) جعلتك النار أعمي العينين، فلا تميز بين أمك وعدوك! (تتركه وتتوجه إلى فيروز الجبلية) أغفر له لأنه ليس ذنبه!
فيروز الجبلية: إنه ذنبي!
أم الجميع: وليس ذنب فيروز الجبلية!
فيروز الجبلية: بلي! الجميع يعرف أنه عاشقي، وهو يضرب النار لأن في ذلك سعادتي! الذنب ذنبي، لأنه ذنب سعادتي!
أم الجميع: (مجمجمة) يا للغضب! في زمن الحرب كيف تنقلب المعاني!
فيروز الجبلية: (بسعادة) دعينا نعيش، يا خالة! أن نعيش على طريقتنا ولو مرة واحدة! لنبدل المعاني، ولنجعل من رغائبنا مركبًا يبحر بنا! هذه اللحظات كم هي قليلة وثمينة! هي الحرية!
أم الجميع: (بغضب) بل العبودية، أيتها البائسة!
فيروز الجبلية: (دوما بسعادة) في زمن الحرب كل شيء ممكن، الخندق والرصاص والموت ووجودك ما بيننا. والتناقضات كحد السيف تتحدد: حبه لي أو حقدي عليه. قربه مني أو بعدي عنه. صرخة فرح لأجلي أو صرخة أسى لأجله... ولا مكان لما هو حيادي! لا بد من عاشق أو حاقد، قتيل أو قاتل، وليدٌ أو سِقْطٌ خائب! وأنا عندما أطلق الرصاص إلى جانب ابنك أفكر في حفيدك، أعرف أني للآخر، ولكني أبقى هنا. أنتشي من وضعي المعقد. وأرى. ماذا أرى؟ من أرى؟ أراك حصانًا بلون الجمر الأسود، وابنك يريد قتلك! (تقهقه) هذه هي الحياة معراة، منطلقة، متوترة، متصارخة، متصادحة، متفجرة! الحياة التي تتفجر قبل أن تتحول إلى موت يقوم، ويقفز! (تقفز في حضن حسن الشاطر، وتقبله بعنف) أنا أمتلك إرادتي! أنا متعته وهو عاري! ما دام حفيدك هناك يفكر أنني سأكون مخلصة له في غيابه، مع أنه حاضر معي، هو هنا! هاتان شفتاه الأدونيسيتان كربيع تائه! (تلمس شفتي حسن الشاطر) وهذا شعره الغزير كفروة كبش! وهذه رائحته النقية كندى الجبل! هو هنا، رغم أنه هناك! حتى الأبعاد في هذا الزمن الخاص تنطبق! كل شيء يتحد! (تقبل حسن الشاطر مرة أخرى، بعنف، وتتقلب وإياه في تراب الخندق، ثم تنهض مقتربة من أمه) لو لم تكوني هنا لجعلته يأخذني تمامًا كما تفعل الظباء!
أم الجميع: (بحزن) هذا لأنه زمنكم!
حسن الشاطر: (يلف أمه بذراعه) لا تحزني أماه!
أم الجميع: أحزن لأني معكم ولست معكم! إنه زمنكم. وبعد قليل، سيقول من يراني لقد مرت من هنا!
حسن الشاطر: (بحماس) ولكنك تأتين دومًا!
أم الجميع: (مفكرة) عندما تنتهي حاجتي أو تبدأ حاجتي. أستمر. تمامًا كالزمن. ولكن الفرق أنني من لحم ودم. أتوجع وأتوجع وأتوجع
ولا أبحث عن الفرح بعد أن هجرني، بل أفرح أحيانًا عندما أرى النار التي تحرقنا كالمشاعل من بعيد! أعود إلى طفولتي بضع لحظات قليلة، ثم أبحث عن ليلي. أقول هذا ليلك، يا أم الجميع، هذا ليلك، فكوني سعيدة لأنك تملكين شيئًا! أقول هذا ليلك، يا أم الجميع، هذا ليلك، فكوني سعيدة لأن النار مؤقتة أمَّا أنت فدائمة، دائمة لأنك مرآة ليلك الطويل! أقول هذا ليلك، يا أم الجميع، هذا ليلك، فكوني سعيدة لأنك ذات ليل ليس لك وحدك بل لك وللجميع، وهو لهذا ينهض كالحيوان العملاق، كالجبل الخيالي! أبتسم عندما أراكم. أتذكركم لما كنتم تمضون على ساعدي (تتوجه إلى حسن الشاطر) أنت لما كنت مشاغبًا ابن مشاغب، وأخوك الأكبر لما حبسوه لا لذنب إلا لأنه كان يريد استرجاع الحلم القديم، وأخوك الأوسط لما كان يسرقني قروشي من جوف تلك الشجرة الخائنة، وأختك الصغرى لما تركت ابنها (تتوجه إلى فيروز الجبلية) حبيب فيروز الجبلية الذي تركته على باب أحد الأغنياء ليشرب الحليب كسائر الأطفال السعداء في العالم، وليأكل خبزًا أبيض طريًّا، وأختك الكبرى التي تركناها هناك، ولم أعد أنساها. أنساها مرة، وأذكرها مرات، كيف أنساها، وهي في كل يوم تذكرني؟ أذكركم واحدًا واحدًا، وأقول هؤلاء هم نهارك، يا أم الجميع، فأبتسم، وأتابع طريقي.
فيروز الجبلية: ولكن أبناءك ليسوا ملائكة، يا خالة.

(يأخذ حسن الشاطر بإطلاق النار بغزارة، ومن الناحية الأخرى تصل بعض صرخات الموت)

أم الجميع: أعرف هذا. أقول هذا زمنكم. نحن كنا، في أيامنا، أبرياء طوال الوقت، وعذارى كالفراش (فجأة تهب بابنها) كف عن قتل الآخرين أيها العاشق! (يقهقه حسن الشاطر) وتقهقه، يا صغير أمك! سأعلمك معنى البكاء! (تحاول ضربه بقبضتها، لكنه يمنعها، ثم يثنيها بين ذراعيه مقهقهًا. تأتيهم طلقات قاتلة من الطرف الآخر، فتهب بابنها) يريدون قتلك، ولا تفعل شيئًا! افعل شيئًا قبل أن يفعلوا فيك أشياء، اذهب، واقتلهم قبل أن يقتلوك، واتركني أجعل من جثثهم أشرعة سوداء! (يعود حسن الشاطر إلى إطلاق النار. تنثني أم الجميع على نفسها بحزن، وتجمجم) هذه الحرب هي لعنتك، يا أم الجميع! (تنفجر بالبكاء صارخة بكل قواها) هذه الحرب هي لعنتك، يا أم الجميع! لم تقتلك بعد لتبقى لعنتك! (ترتمي على صدر فيروز الجبلية منتحبة) كان على الحرب أن تقتلني، فلا أعيش رعبها! آه، يا فيروز الجبلية، أكاد أموت قهرًا وعذابًا!
فيروز الجبلية: هوّني عليك!
أم الجميع:(منتفضة مجففة الدمع) سأهوّن عليَّ! وماذا أنا بفاعلة؟ أنا أهوّن عليَّ دومًا ليهون عليَّ وضعي! هذا الوضع الجحيمي! أما عن الجنة التي كنت أحلم بها، وما زلتم تحلمون بها، أحيانًا أريدها أن تحترق، وأحيانًا أخرى أقول لا بد من طريقة للوصول إليها. حربنا هي الطريق، نعم، ولكني أقول لا بد أن هناك طريقة أخرى. لست أدري، ربما كان هذا نوعًا من التأمل الماضي المختنق في عروقي. أقول لا بد أن هناك طريقة أخرى (بعض الطقات تكاد تصيبها هي وفيروز الجبلية، فتصرخ بابنها) لم تزل تجهل أين هم أعداؤك؟ آهٍ منك أيها الولد الصغير! جدهم، وحدد مواقعهم جيدًا، وإذا لم تستطع عليهم، فحاول، على الأقل ألا يقتلونا، وواحدة فينا شيخة لم يعد بإمكانها أن تفعل شيئًا، والأخرى تتفجر عزيمة وشبابًا.
حسن الشاطر: (مضاعفًا من رصاصاته مقهقهًا صائحًا) الموت! الموت! الموت!
أم الجميع: (لفيروز الجبلية) صار يسحره الموت، وغدًا سيصبح كغيره! (تضرب صدرها وتهرع موقفة إياه) آخر ما يمكن لي تصوره يا صغيري أن تصبح كغيرك، فتحرق لي قلبي! (تلطمه، ثم تضمه) كن القدوة غدًا إن عجزت اليوم، كن أنت الذي نشاء، وتعال إلى قلبي كي أسمعك دقات ثورته! لا، لن أهدهدك في أحضاني بعد أن كبرت، ولن أرفع رأسي بك فخارًا إذا لم تكبر! أتفهمني وحدك من بين كل أخوتك، فتأتيني بكل ما تمنيت، وعجزت عن تحقيقه، ترى هل ستأخذني من يدي إلى قبر أبيك الذي تركناه في الفضاء البعيد، فلا يصبح الوطن وأنت في أحضاني لمسة من أصابعي على خدك؟ إياك أن تغضبني، فأدعو عليك وعلى الوطن بالدمار! وإياك أن تدفعني إلى الغضب على نفسي، فأقول يا لي من امرأة ظالمة، يا لي من امرأة أنانية، وجاحدة، ولئيمة! لكنني سأنهض، سأتحدى الدمع في عيني، وأنهض! لا بد لي من النهوض، وإلا من سيأتيكم غيري في الدماء؟ (تشده من شعره لترفع إليها وجهه، وتقول فجأة) جئتك لتذهب إلى عون ابن أختك!
حسن الشاطر: (واقفًا) ألم يزل مصرًّا على القتال؟
أم الجميع: أمه لا تريده، وهو يريد أمه، فما العمل إذن إذا كان مثلك يوم كنت في سنه ولدًا عنيدًا؟
حسن الشاطر: لا أستطيع أن أترك فيروز الجبلية وحدها في المواقع هنا.
أم الجميع: فيروز الجبلية ستأتي معك إلى حبيبها، هي تحبه، وهو يحبها.
حسن الشاطر: وأنا أحبها.
أم الجميع: وهي لا تحبك.
حسن الشاطر: ولماذا تراني أقتل وأحرق؟
أم الجميع: لن تشعل نار الحب في قلبها، أما إذا أشعلت شيئًا، فنار الشباب والتمرد والغضب. انظر إلى عينيها الواسعتين! انظر إلى قامتها المنتصبة! انظر إلى نهديها المندفعين... تشتعل بنار الشباب والتمرد والغضب، لتحبه هو أكثر! أما أنت، أنت يا طفلي المسكين، فستدفع وحدك الثمن!
حسن الشاطر: (محتدًّا محتجًّا) بل سأظفر بحبها لي! سأظفر بحبها لي بشجاعتي وبأسي!
أم الجميع: أتتحدى ابن أختك الآن؟ حفيد أمك الذي تحبه، وترأف به؟ أتتحداني أنا، وتصبح فتى مغرورًا؟ حفيدي يخاطر بحياته، ولا تهرع لنجدته!
حسن الشاطر: ولكنه يخاطر بحياته في سبيل قضية خاسرة.
أم الجميع: لن يتخلي عن أمه! هل يمكنك أن تتخلى أنت عن أمك؟
حسن الشاطر: (مترددًا، ثم بعزم) يمكنني!
أم الجميع: (ضاربة صدرها) هذا هو يوم القيامة! يوم العقاب يحل بنا نحن العصاة المنبوذين! وهذا هو مصيرنا! نعم إنه مصير المغضوبين! وأنا إذا ما ندبت أحدًا، فهو أنت، ولدي الذي لن أنكره يومًا، وها هو اليوم ينكرني!
حسن الشاطر: اسمعي، يا أمي، لماذا كل شيء يتغير في هذا العالم إلاك؟
أم الجميع: لأنني كالرصاصات العاصية!
حسن الشاطر: (لفيروز الجبلية) ماذا أفعل يا فيروز الجبلية؟
فيروز الجبلية: لو كنت مكانك لما ذهبت دفاعًا عن قضية خاسرة.
أم الجميع: (نابرة) لكنه حبيبك! وهو سيموت حتمًا إن لم يجد عونًا!
حسن الشاطر: لن أذهب دفاعًا عن قضية خاسرة.
أم الجميع: (لهما) إذن أقنعاه ألا يحارب.
فيروز الجبلية: أن نقنع ابنًا عنيدًا؟ إنه يريد أمه!
أم الجميع: وأنت تريدين روما! إذا كان ذلك يثير في قلبك بعض الغيرة أيتها الفتاة، فهاءنذا أعيدها للمرة الألف، أمه لا تريده!
فيروز الجبلية: هذا لا يعني شيئًا ما دام يريدها.
أم الجميع: لتكن الغيرة إذن طريقك إليه، ولتنقذيه من مصير ابنة قدرها الموت المحقق!
فيروز الجبلية: (ذاهبة إلى سلاحها) تركني دون أن يودعني، فكيف تريدينني أن أثق بعد بغرامه؟ (تنفرج أسارير حسن الشاطر) إنه
لا يحبني، أو على الأقل، يحب أمه أكثر مني، وأنا، لهذا، لم يعد يربكني مصيره.
أم الجميع: (بأسي) يا لقلب المرأة المتقلب!
فيروز الجبلية: الحيوان في قلبي يحفر جحرًا آخر!
أم الجميع: (بينما حسن الشاطر يقترب من فيروز الجبلية مهتمًّا) ماذا تقول فيروز الجبلية؟
فيروز الجبلية: قلبي يبحث عن حب جديد.
حسن الشاطر: (متحمسًا مبتهلاً) كيف يبحث وحبي القديم لك يتجدد في كل لحظة ألف مرة أنا العاشق الأزلي؟
فيروز الجبلية: تعال إذن نحارب معًا!
حسن الشاطر: سأحارب معك على الجبهتين، سأحارب معك ضد المدينتين, ولكن أحبيني فيروز الجبلية، أحبيني!
فيروز الجبلية: انتصر أولاً ثم اسألني حبي.
حسن الشاطر: (مفجرًا قذائفه) سأنتصر! سأنتصر لأجل ثغرك!
أم الجميع: (لاهفة) والآخر؟ سيموت حتمًا إذا لم يجد عونًا! (أمام عدم اهتمامهما تبحث في الأنحاء عن متطوعين. يدخل بعض العمال والفلاحين، فتصيح بهم) هيه، من هنا، إلى أين أنتم ذاهبون هكذا؟ النار المتفجرة في كل مكان، وأنتم تدورون بوجوه تبدو عليها الضياع! من أين أنتم آتون؟ إلى أين أنتم ذاهبون؟
الفلاح: نحن آتون من الجبهة الأخرى، أردنا أن نقاتل، لكنهم رفضونا. نصحونا بأن نأتي إلى هنا، إلى هذه الجبهة، فربما نجد من يقبلنا.
أم الجميع: وهل تتقنون ضرب النار؟
الفلاح: بعضنا يتقن، وبعضنا لا يتقن، لماذا؟ هل أنت من هنا، أم أنك جاسوسة متسللة من هناك؟
أم الجميع: (تضربه على صدره) جاسوسة، أيها اللعين! شكلي شكل جاسوسة أم جاموسة؟ أنا لست من هنا ولا من هناك! أنا لي جبهتي وحدي!
الفلاح: (متلعثمًا لاغتباطه والآخرون يلتفون بها باهتمام) يعني، يعني، يعني أنك ستأخذيننا إلى جبهتك؟ حقًا نحن مناضلون غير محترفين، ولكن الزمن سيبدلنا!
أم الجميع: اتجاه طلقاتك من سيبدلك، أيها الفلاح الساذج، فلا وقت للضياع والحرب آتونًا على كل الجبهات (تصيح بهم) تعالوا من ورائي! (تسير وهم يحثون الخطي من ورائها إلى خارج الخشبة) بشرط أن تقاتلوا حتى الموت!



































اللوحة الخامسة
ضوء الليل: (بينما ميمونة تفك قيده) تخاطرين بحياتك من أجلي، أيتها الحبيبة! هذا القيد الذي حاولت كسره دون أن أفلح كي أهرع إلى إنقاذك! يقولون إن الحب مدمر! والحب محفز، والحب في اليأس مثور، والحب مطمحة الحرية! يعطي للحرية معناها، وتعطيه الحرية معناه! (تكون قد فكت قيده، فيحتضنها) كم أحبك! ولكن في اللحظة التي أطلقت فيها يديّ من أسرهما، وحررتني، أوقعتني في مأزق حريتي! الحرية مأزق وقت العجز! كيف لا تكون كذلك، وأنا لا أستطيع إخراجك من هنا؟
ميمونة: على الأقل سنقضي بعض اللحظات معًا (تتنهد، وتبتسم، وقبل أن تلقي مفتاح القيد ترفعه متألمة إلى أعلى) فأبو أرز لن يكتشف سرقتي للمفتاح إلا بعد أن ينهض من نومه. ولأنه كان منهكًا ومخمورًا، فسيحتاجه ذلك إلى بضع ساعات، بضع ساعات أقضيها إلى جانب حبيبي. أيها الحبيب! (وهي تبحث عن الدفء في أحضانه الباردة مرددة بانتشاء) أيها الحبيب! أيها الحبيب!
ضوء الليل: (مبعدها) منتشية في أحضاني الباردة!
ميمونة: (تلتصق بصدره مرغمة إياه على احتضانها) إنها أحضانك، باردة كانت أم ساخنة، أحضان حبيبي! الدفء أمر يصنعه كلانا من خفق القلب، والتنهد، والقبلات. عندما نعرف أنها بعض لحظات سوف تمضي، ولن تعود ثانية. لن نشدها مانعين، فلتذهب إلى الجحيم، ولكننا نشد بعضنا، نشد أحدنا إلى الآخر، إذ بعد أن تمضي، وهي حتمًا ستمضي، سيأتينا الجلاد! قدومه نهاية متعتنا، وبداية عذابنا! قدومه كدرنا وكربنا، ونحن عندما نعرف هذا، نقدم على المتعة بكل قوانا! طوال عمري لم أضمك إلى صدري بمثل هذه الحرية، بمثل هذه الرغبة! حجر السجن الصقيعي يصبح سريرنا الدافئ! نحن نتحول، والمكان أيضًا يتحول! ضمني إليك! الحب سيد الأكوان!
ضوء الليل: (مبعدها ثم ناهضًا) يسعدني ويعذبني وجودك! أنتِ، أيتها القلب! عندما أحببتك كنت قد وصلت المعسكر لأول مرة. رأيتك في ثوب الرحمة حمامة بيضاء. وأنا أحمل قيثارتي وسلاحي. قلت لنفسي الحرب تأتيك بنصفك الآخر. وعزفت لك في المساء لحنًا رومانسيًّا. كانت القذائف تحطم بعض البيوت خلفنا. وكنت أعيش لحظتين، تمامًا كالآن، ولكن الآن أين قيثارتي؟
ميمونة: أنا هي قيثارتك، متعتك، كل وجودك! أريد أن أكونك!
ضوء الليل: (محتدًّا) ولكن الآن أين سلاحي؟
ميمونة: لا تفكر في سلاحك الآن، فكر في أمر واحد فقط: لحظاتنا القليلة هذه. طوال عمري وأنا أعجز عن الوصول. أحاول، وأعجز. والآن عندما أنجح في الوصول إليك ترتد عني!
ضوء الليل: لأني أحبك بعنف!
ميمونة: أحبني بهدوء الآن، الآن فقط، وتعال إلى أحضاني!
ضوء الليل: لا أستطيع إلا أن أحبك بعنف. الحرب لم تقف بعد. وأنا أسيرها وأسيرك. ألم تفكي قيدي لأكون لك؟
ميمونة: (متأوهة) يا لعذاب قلبي الطويل! في الإرادة نحاول أن نصبح غيرنا، ولكن الإرادة تمنعنا! الإرادة في زمننا هي الحرب. أنت تفهم ذلك، أيها القلب المعذب، ولكنك تحاول أن تنهج نهجًا آخر. أن تذهب بعيدًا نحو الوصول. قبل أن يرحل عني زوجي إلى الأبد كان يشدني الحلم، والآن، وأنا أحبك، أشد الحلم أنا، ولا أنجح! (متأسية)
لا أحلام في هذا الزمن اللعين بل كوابيس! أيمكن لنا العودة لحظات إلى الوراء؟ أنت ترفض متعة الآن، ولكن (بأمل) تعال نعد إلى متعة الأمس! قبل أن نولد في الحرب ضحايا! قبل كل الحروب! عندما كنّا أطفالاً! عد بي إلى طفولتي، عد بي إلى طفولتك لو شئت، ولتكن لنا متعة البراءة!
ضوء الليل: قبل أن أتعلم العزف على قيثارتي أردت أن أكون عصفورًا.
ميمونة: (بسعادة) كن عصفورًا، وأعنّي على أن أكون أغنية.
ضوء الليل: وكان شرط العصافير أن أتعلم العزف على قيثارتي.
ميمونة: وتعلمت العزف، ووفيت بالشرط.
ضوء الليل: في ذلك الوقت، كنت لا أفرق بين الشمس والليل، وكانت السياسة ترعبني. أردت أن أهرب من السياسة إلى الحلم، فوجدت السياسة بانتظاري. صرت الذي صرت، وفهمت معني أن يعيش المرء لحظتين.
ميمونة: (وقد عاد إليها الحزن) إلى متي؟
ضوء الليل: إلى أن تقف الحرب.
ميمونة: (مجمجمة بأسي غضب) لن تقف الحرب غدًا! يا للمأساة! يا لمأساة حبيبي الممزق بين لحظتين لا نهاية لهما!
ضوء الليل: (مكررًا) إلى أن تقف الحرب.
ميمونة: لقد فهمت بؤسي الآن في حبك! أنت لن تتبدل حتى بعد أن تقف الحرب!
ضوء الليل: أتبدل عندما أبدل الأشياء.
ميمونة: الذي أعرفه أن قلبي سيقف عن الدق! في الماضي، أردت أنا أيضًا أن أكون عصفورة، وكان شرط العصافير أن ألد صبيًّا. تزوجت، ووفيت بالشرط عندما ولدت طفلي الجميل، لكن العصافير خانتني! في ذلك الوقت، كنت أفرق بين الشمس والليل، السياسة والحلم. كانت الشمس ضدي كالليل والحلم والسياسة، وكان يتركني الناس بعد كل حرب دومًا وحيدة. في عمان كان هذا وضعي، وقبل ذلك في يافا، وبعد ذلك في جنين. وفي بيروت الآن هذا وضعي، فها أنت تتركني. أنت الذي لن يتبدل، ولن تبدل الأشياء، فهم الذين يتبدلون، ويبدلون الشعارات!
ضوء الليل: (مبتهلاً مطوقًا لها من خاصرتيها) ولكني أحبك، ولن أتوقف عن حبك!
ميمونة: (بأسى) الوقت يمضي!
ضوء الليل: عندما كنت أغني في الخنادق أو الملاجئ كنت أغني لك، وعندما كنت أضرب برصاصي مواقع الأعداء كنت أضربها برصاصي من أجلك. في النار كنت أرى صورتك، وعندما يصعد القمر في الليل، وفي الصباح الضبابي! الآن أرى النار في حضورك، وأرى العشب!
ميمونة: (لاهفة مبتهلة) لماذا تجعلني خيالك، وأنا حقيقة منتفضة بين ذراعيك؟ مارس في جسدي صبوتك، فلم تبق لنا سوى بعض اللحظات قبل أن يأتي الجلاد بالحديد! مارس في جسدي النار التي تفجر في قلبي الشهوات والأماني! لن أكون حرامك، فأنا قد دخلت بأمر نفسي هيكلك! الغد سيكون بعيدًا، واليوم أنا لك! بعد ذلك سنبحث معًا عن قيثارتك، وربما وجدنا منفذًا إلى مواقع القتال!
ضوء الليل: أترين؟ تقولين ربما، لأنك لست واثقة.
ميمونة: (محتدة) لست واثقة من شيء إلا من حضورنا معًا.
ضوء الليل: حقًّا أنا عاجز، ولكنني لست يائسًا.
ميمونة: حسن، اجعلني عجزك! (تبتهل بصوت محرض) اجعلني عجزك، ولأظفر بمتعتي بك! أريدك!
ضوء الليل: (وهي تتشبث بذراعيه) لا أريدهم أن يقتلوني في أحضانك.
ميمونة: بل أريدهم أن يقتلوني في أحضانك.
ضوء الليل: والحرب لم تنتهِ بعد؟
ميمونة: سيقاتلون من بعدنا.
ضوء الليل: تأتينني بنبوءتي.
ميمونة: (لاهثة من الشوق) إذن خذني، ولنترك في جسدينا آثار المعارك المنتصرة!
ضوء الليل: أردت الاشتراك في المستقبل.
ميمونة: (لاهثة دومًا من الشوق) المستقبل سيذهب إلى حيث تريد (تتفاجأ من قولها) أترى كيف تحولني اللحظات؟ أثق بك أكثر كلما أقترب أكثر من متعتي، عندما أقول المستقبل سيذهب إلى حيث تريد أنت ولا أقول سيذهب إلى حيث يريد هو أن يذهب. لقد بدأت أثق بالأشياء لأول مرة منذ أن خانتني العصافير! تعال!

(يتعانقان بجسدين حارين إلى أن يدخل عليهما أبو أرز فجأة)

أبو أرز: هاءنذا أراكما تتعهران أمام عيني! (ينفصلان، وينهضان) السلاسل لم تمنعكما، ولا قوة الأخلاق، ولا الرصاص! أنتما، أيها الفعلان الناقصان! العار والمذلة! ولكن غضبي أعظم! (تبدأ أصوات القذائف بالوصول إلى مسامعهم).
ميمونة: (مبتسمة متحدية) وغضب ابني يعود... هو على مقربة مني، بانتظار أن يقطع الخطوة القادمة إليّ.
أبو أرز: تحتاجين إليه عندما تسقطين في مأزق، أيتها اللعين! (ثم مبتهلاً) أنا أحتاج إليك، إلى نهديك، وفخذيك، وشفتيك! أرغب فيك رغبتك في هذا الضوء المعتم (مشيرًا إلى ضوء الليل بازدراء) أريدك أن تكوني قوتي ولو للحظات! قوة معصمي! أريد أن أكونك، فأحس بقدري، ثم لا بأس أن أنتهي في ظل أرزة محترقة! الموت عند ذلك يصبح نهاية عذبة، وصمتًا مقبولاً! يصبح النهاية التي لم يردها يوحنا المعمدان! (يقترب منها بهيام) ألتاع عند اقترابي منك! أشعر أني على مقربة من جسدك، وجسدك بعيد! أصابعي قرب نهديك، وبيننا يقوم سد منيع! بنوكي تركع على قدميك، وتتوسل رأفة قلبك العاتي، أنا ابن عشتروت، وأسمع خفق قلبك، وفي الوقت ذاته، يوغل هذا القلب الملحد مع قوافل المحاربين أغنية حرب في بلاد كنعان القصية! أتمرد على وضعي بشرب الخمر، ولم تعد تؤثر فيّ بعد أنهر الدماء! (يدخل حمد أبو ريش مقدمًا له كأس خمر ضخمة) وأتمرد على حقدك بلجم حبك! (يحاول حمد أبو ريش إعادة القيد لمعصمي ضوء الليل فلا ينجح) يظن أنه سيبقى طليق اليدين! أين المنفذ، وقد أوصدت من حولكما كل شيء, وجعلت من نفسي قدركما الخائن؟
ميمونة: (والقذائف من الخارج تتضاعف) المنفذ يكمن في صراخ الحرب! مع الريح سيأتيني ولدي! وسيبعث من فكيه بنار التنين إلى مجدك، لتسقط بغمضة عين، ويعتقني!
أبو أرز: (مقهقهًا) يا للحلم الأحمق الخيالي!
ميمونة: بل حلم معقول (يهتز حصن أبي أرز للمتفجرات التي تحصل حوله) وحصنك يوشك على التهاوي! أنا سأبقى مع حبيبي (تشد يد ضوء الليل) سأبقى معه رغم أنفك! وإذا كان باستطاعتك قتلي، فاقتلني معه، وحقق أقصي رغائبك الجحيمية!
أبو أرز: (يجرع كأس الخمر ويطلب منه المزيد ويشرب بعصبية) تظنين أنك ستحمينه بدمك وقد أعجزني حبك! (غاضبًا) سأبيح دمك بعد أن أذلك، يا ابنة الجحيم!

(عندما يتقدم حمد أبو ريش وأبو أرز منهما من أجل الفتك بهما، ينبثق من جحرٍ الثعبانُ الأسودُ ذو البرق الليلي، مما يفزع أبا أرز والابن الأوسط، ويربكهما)

ميمونة: (لضوء الليل) هذا الجحر سيذهب بك حتمًا إلى الخارج، اذهب إلى ابني، وقل له أمك تريدك أن تأتيها، وتعجل في إنقاذها، وعد معه إليّ بعد ذلك.
ضوء الليل: لماذا لا تأتين معي؟
ميمونة: ليس في الجحر متسع لجسدينا.
ضوء الليل: ولماذا لا تذهبين أنت؟
ميمونة: أنا إذا ذهبت قتلوك.
ضوء الليل: وهل سيرأفان بك بعد ذهابي؟
ميمونة: سيرغمهما جمالي.
ضوء الليل: (مستجيبًا) كوني يقظة، وليرغمهما دهاؤك.
ميمونة: (حاثة إياه على الذهاب) أسرع قبل أن يقطعا رأس الثعبان.

(ضوء الليل يذهب من الجحر. أبو أرز وحمد أبو ريش يهويان بسيفيهما على رأس الثعبان، ويفصلانه، فينطلق الرأس عصفورًا يعلو في الأجواء)

أبو أرز: (لميمونة غاضبًا) سأجعلك لعنتك، فأنقذ نفسي، وترضخين! (يجرد حمد أبا ريش من سيفه، ويمزق عنه ثوبه جاعلاً إياه عاريًا كالداخل إلى الجحيم، فتقفل ميمونة عينيها عن عورة أخيها الذي يأمره) اجعلها لعنتها أو أقتلك!
حمد أبو ريش: (فزعًا ممسكًا بأهداب أبي أرز راجيًا) بل ستجعلني لعنتي! أواه! (يسقط على قدمي أبي أرز) اطلب إليّ أن أذبح شعبي على ألا أفعل بأختي ما عجزت أنت عن فعله!
أبو أرز: (متخلصًا بكبرياء) إذن ستختار موتك، أيها الفأر الجبان!
حمد أبو ريش: (متوسلاً) لا أستطيع أن أختار موتي، رعب نفسي عندما أجد نفسي!
أبو أرز: (آمرًا دافعًا) انهض إليها! صلني بها أترك لك الحياة!

(أمام قرار أبي أرز القاطع، يتقدم حمد أبو ريش، ويعب الخمر من الإبريق، والخمر تتدفق من فمه. يتقدم من أخته بحماس جندي مصر على الهزيمة، ويأخذها في أحضانه، وأخته تهدر كالبركان، إلى أن يصبح هديرها همسة مستسلمة. عندما ينهض عنها أخوها يتحول إلى وطواط أبيض يصرخ صراخًا ثاقبًا، يطير إلى السقف، ويتعلق بقدميه مسقطًا جسده فاتحًا عينين محدقتين في ظلال اللهب العملاقة التي بدأت تحدق بهم من كل جانب. الابنة متحجرة، يرفعها أبو أرز، فتنهض طائعة إلى أحضانه، ويأخذ في القهقهة بلمم الغضوب)



































اللوحة السادسة
سيف الدين: (لضوء الليل غاضبًا على مقربة من النيران والخنادق المقاتلة) أفعل ما بوسعي لإنقاذ روما من روما، فتخونني روما بك، وتخونك بقيصر، ونقاتل معًا من أجل رفع الحصار عنها. رفاقي يموتون قتلاً أو حرقًا، والأدخنة تقتحم عالمي، وأحدق في الرماد والعتمة، ولا أرى إلا صورتها. حتى حبيبتي تركتها لأجلها! أضرب صورتها في خيالي، وأحيانا تمتزج صورتها بصورتها، وصورتها بكل الصور، لكنني لا أمتنع عن ضرب الرصاص، فالذنب دومًا هو ذنب الآخرين، أقول أحيانًا، وأحيانًا أخرى أقول يمكن للحرب أن توقف الحرب، فأضاعف القتال. هل هذا لأوقفها؟ لأجعل أبا أرز يقبل بشروطي أو يتراجع إلى مواقعه القديمة؟ لأجعله ينهض عن جسد أمي؟ ألا يستمر بالعبث به؟ كل هذا لأجل أن أعيدها إليك، وأبقى متفرجًا! تلونني الحالات، وأرى في حكمة الأخلاق عجزها تارة، وتارة أخرى قدري. تمامًا مثلما تطاردني فخذا روما المشرعتان على سرير مخضب. في كل لحظة أقتحم الشكل، تصلني الحرب، مثلكم جميعًا، بالجوهر، وبانقلاب المعادلات! الطهارة قذارة، والقذارة طهارة، وإلا ما أمكن الاستمرار! وأتساءل عن المعني، فأحارب لمجرد السؤال، وكيف عندما تتحرر في النار كل المعاني؟ لا يكفي أن نقلب الأشياء، بل أن نحددها، وأن نلاحق تطورها، فهي تتبدل، تتلون، تتشكل، أن نعيش لحظة خلقها من جديد! النار ستنطفئ بعد قليل، وتصبح رمادًا، ثم غبارًا، ثم زرعًا أخضر، ثم لحمًا ودمًا وقبضة تقحم العالم مرة أخرى في النار! هناك دائرة، ولكنها لا تنطبق أبدًا. إنها استمرارنا! وتلك أمي، الضحية والضمير، تقف في قلب الأشياء مرشدًا. تقودنا أحيانًا إلى الخطأ، وأحيانًا إلى الصواب. لهذا لا أستطيع إلا أن أقاتل لأجلها ولأجل أن أمنع عن نفسي حلم الدمار، وتبقى ماردة هناك كجبل محطم! تقف أحيانًا كأسوار جهنم، تطلب إلينا أن نصلها لنرفعها أو نهدمها، ونذهب لنعود إليها بعد الحرب!
ضوء الليل: (محملقًا مرتكزًا على بندقيته) أبو أرز يفهم على طريقته ما تقول، ولا يفهم إلا لغته، وهو حتمًا سيقتل أمك.
سيف الدين: إذا ما قتل أمي حاربت من أجل موتها، وجعلته يفهم أن للحرب لغات، وأن الحرب تتأول مثل كل استعارة. أتعتقد أني مجنون قتال؟ وأني ابن للأساطير؟ أتنسى أنني أتعب بعد العمل في المساء؟ وأنام مثل كل الناس؟ وأحلم، وأصرخ، وأشخ، وأبكي؟ أنا ضعفي أولاً وقبل كل شيء! وهذا ما يجعلني أفكر، رغم تقدم مواقعنا وإحساسنا بالنصر، أن أتحادث مع أبي أرز.
ضوء الليل: لو سمعك الآخرون لانفضوا عنك، واعتبروك خائنًا.
سيف الدين: ها نحن نعود، مرة أخرى، إلى لعبة الكلمات. الخيانة ماذا تعني في عالم التفجر والتحرر والموت الحاسم والدمار السريع؟ ماذا تعني كل هذه الكلمات أمام زهرة منكسرة أو شفة مصطبغة بشهوة التوت؟ ماذا تعني كل هذه القيم عندما تمضي على ساعدك طلقة رصاص تبحث عن قتيلها، فتظن أنها الريح المحرقة أو عناق لن تحصل عليه؟ ماذا تعني كل هذه الأفكار - الوقائع التي تصبح في الغد ماضية، ونحن نتقدم في زمن لا يتوقف أبدًا؟ كل شيء نتركه في الوراء، وهم لو اعتبروني خائنًا لخانوني، فنحن معًا في جبهة واحدة، وسيكون أبو أرز المنتصر الأوحد!
ضوء الليل: أبو أرز لن يتحادث معك. أمك رهينته لإيقاعك، وهو يشدد حصاره حولها ويتقن استعمال النار.
سيف الدين: ونحن نشدد حصارنا حوله.
ضوء القمر: حوله وحول أمك.
سيف الدين: (غاضبًا) أتعتقد أنني أنسى؟
ضوء الليل: لا أريد أن يصبح أبو أرز قدرنا الخائن كما يقول.
سيف الدين: (معاتبًا) ها أنت تتكلم كما توقعت أن يتكلم عني الرفاق.
ضوء الليل: تعرف أنني أقاتل إلى جانبك حتى الموت.
سيف الدين: وأعرف أنك عاشق أمي. أمي التي عمرها بقدر عمر أمك.
ضوء الليل: العمر لن يغير شيئًا.
سيف الدين: وأعرف أن الحرب تغير كل شيء حتى الأعمار (يسكت قليلاً، فتعلو أصوات لمعركة) أحس أنني في عمر جدي الآن! إحساس لا يفارقني هذه الأيام! في الدم أرى وجهه، بلحيته البيضاء، وابتسامته البيضاء العميقة! أرى الماضي سليمًا رغم كل الهزائم، محتفظًا ببكارته رغم كل مغتصبيه! أيصبح ذلك حافزًا؟ تعبر في مخيلتي القصة، وأجدني عازمًا على القتال أكثر، ثم يقتحمني التعب والشيخوخة، فما الذي ينقذني برأيك؟
ضوء الليل: الغد، المستقبل، أهداف القتال، وآمالها العظيمة.
سيف الدين: (متأسيًا) بل الماضي دومًا.
ضوء الليل: (متلعثمًا مرتبكًا لا ينطق بحرف).
سيف الدين: كل هذه الحرب ولم تنقذك من النظرية! نعم، الماضي هو ما يدفعني، واليأس!
أقوم بالخطوة الأولي، وبعد ذلك، الأمل سيأتي. الأمل يأتي دومًا فيما بعد (يتهدم تعبًا على حجر) أقول آه، في هذه اللحظات أقول آه من التعب، وأفكر أن عليّ إنقاذ أمي الرهينة. أتمني لو أعجز عن التفكير في إنقاذها، فلا أستطيع. كي أستريح قليلا. انظر إلينا ونحن على وشك أن نقتحم أسوار الجحيم. أتمنى لو أعجز عن خسارة هذه المعركة، فلا أستطيع. لو أعجز عن الوصول إلى قدرنا المخلص، فلا أستطيع.
ضوء الليل: (دون توقع) سأتزوج من أمك بعدما نحررها. حتى ولو لم تنته الحرب.
سيف الدين: (يتفجر ضاحكًا) هذا أيضًا من سحر الحرب!
ضوء الليل: ماذا تعني؟
سيف الدين: علينا أن نتوقع في الحرب أي شيء وكل شيء.
ضوء الليل: ألا تثق بي؟
سيف الدين: أثق بشبابك.
ضوء الليل: ماذا تعني؟
سيف الدين: هو كذلك يثق بشبابك.
ضوء الليل: من هو؟
سيف الدين: أبو أرز.
ضوء الليل: ماذا تقول؟
سيف الدين: لن يجعلها تفلت من بين أصابعه، سيحاول بكل الوسائل، فهو يثق بأنك ستستطيع. ليس أخذها فقط، بل والزواج منها. يحبها هو الآخر. على طريقته. وعند ذلك أقول لنفسي، ما معني أن نقاتل؟ وهل أقاتل حقًّا من أجلها؟ ليست هي الوطن، وليست حقلاً مغتصبًا، وهي نفسها قبل أن تكون أمي، والتي يمكن أن تكون عاهرة مثلاً أو شهيدة! وأنا لا أقاتل من أجلها لأن هذا أمر عسكري أو هو ما تقوله الأخلاق. عند الفضيلة يمكن أن نحس بالذنب، ولحظة الجريمة يمكن أن تجرفنا النشوة. أعود دومًا إلى نفس النقطة: المعنى. علينا أن نبحث عن معانٍ أخرى للمعني، فنستعمله بطريقة أخرى. المهم هو هذا: تلك الطريقة الأخرى.
ضوء الليل: لهذا سأتزوج من أمك.
سيف الدين: وأنا لهذا سأكرهها.
ضوء الليل: ستجدني دومًا إلى جانبك.
سيف الدين: هذا لأنك مثالي. منذ سنة 48 وأنت مثالي.
ضوء الليل: لم أولد في سنة 48.
سيف الدين: بل ولدت قبل هذا الزمن بكثير. إن لك الآن من العمر ما لأمي! (بعد قليل من الصمت، يطلب إليه، وقد بدا جد متعب) اتركني وحدي!

(يحمل ضوء الليل بندقيته، ويذهب إلى أحد الخنادق. يترك سيف الدين نفسه مركبًا يغرق في بحر النوم رغم صخب القذائف وزعيق النار. ينام نومًا عميقًا مبتسمًا طفلاً إلى أن تأخذ النار بالانصباب في ظهورهم، فيهب ضوء الليل إلى إيقاظه)

ضوء الليل: (مرتبكًا منفعلاً) يحاصر العدو حصارنا له بعد أن فاجأنا!
سيف الدين: (بهدوء) لماذا لم تحتط لذلك؟
ضوء الليل: كنت مطمئنًا إلى متانة مواقعنا وأنا أراك تنام.
سيف الدين: ألم أقل لك إنك مثالي؟
ضوء الليل: وماذا سنفعل؟
سيف الدين: نحن الآن بين المطرقة والسنديان.
ضوء الليل: لن نصمد طويلاً حتى ولو متنا كلنا.
سيف الدين: (بهدوء دومًا) اللحظات التي قضيتها نائمًا كانت من أجمل لحظات حياتي!
ضوء الليل: (محتدًّا) ما العمل الآن؟
سيف الدين: (مستلاً سلاحه) سنقاتل حتى الموت!
ضوء الليل: لن نصمد طويلاً.
سيف الدين: تعال نقاتل أولاً.

(يذهبان للقتال. ترجح كفة المعركة ضدهم. النار تحدق بهم من كل جانب. جهنم. أم الجميع تخرج من النار)

سيف الدين: (لجدته) تخونني قواي، فأراك تتقدمين مني كالموت!
أم الجميع: (متحسسة رأس حفيدها) كم أرأف بك، أيها الرأس المسكين!
سيف الدين: (قاذفًا سلاحه بين ذراعيها) أجد الطفولة بين ذراعيك والعشب!
أم الجميع: سأدفئك، يا طفلي.
سيف الدين: الحرارة كالجحيم!
أم الجميع: سأثلجك إذن.
سيف الدين: في الجنة، يثلج المرء، وهو على مقربة من الجحيم.
أم الجميع: جحيمك كذبة!
سيف الدين: (متفجرًا بالضحك وكأنها وافته بنكتة) كل هذه النار، وتقولين كذبة!
أم الجميع: كذبة حقيقية!
سيف الدين: أشم في النار التي تحاصرني قتار زيت الاستصباح.
أم الجميع: وقتار الذهب القاتل والطلاسم والأجساد المحترقة في الصباح.
سيف الدين: لماذا كل هذا كذبة، يا جدتي؟
أم الجميع: (رادعة) قلت لك كذبة حقيقية.
سيف الدين: كي يستمر القتال؟
أم الجميع: بل ليقف ثم ليستمر ثم ليقف ثم ليستمر إلى ما لا نهاية.
سيف الدين: لن نصل الوطن إذن.
أم الجميع: هو الذي سيصلنا.
سيف الدين: (بحزن وعزم) لا يكفيني ذلك.
أم الجميع: هذا لأنك حفيدي الصغير، وعندما ستكبر ستفهم.
سيف الدين: (تلسعه سياط النار) تلسعني سياط النار، فأحلم بالماء من المحيط إلى سمك القرش متي ينطلق من إساره.

(يأخذها بين يديه، فإذا بها موجًا جبارًا يتدفق من بين أصابعه، والموج يزأر مقتحمًا أصرحة النار هادمًا. كل شيء الآن له رائحة منطفئة. دخان هنا وهناك وسيف الدين قد عاد يترامي منهكًا على حجر. ضوء الليل يأتي، وعلي شفتيه ابتسامة الفخار والانتصار)

ضوء الليل: الطريق الآن مفتوح إلى حضن أمك! لنذهب معًا إلى اعتقال أبي أرز، وإحضارها!
سيف الدين: (منهمكا) لم أعد أريد أمي.
ضوء الليل: (بدهشة) ماذا؟ ترفض حريتها لحظة انتصارك!
سيف الدين: (منهمكًا دومًا) لقد مللت القتال، وأمي، بالنسبة لي، لم تعد شيئًا، لا عاهرة ولا قديسة. أنا لا أبحث إلا عن النوم (يغمض عينيه).
ضوء الليل: (ينفجر غاضبًا) أيها الخائن الجبان! لم أعرفك في لحظة الشدة، ولكني أعرفك في لحظة اللين جبانًا خائنًا!
سيف الدين: (مغمضًا عينيه) لا أُعنى بالكلمات.
ضوء الليل: ليس في فعلك من معنى غير انهزامك!
سيف الدين: (في نفس وضعه مكررًا) لا أُعنى بالكلمات.
ضوء الليل: (لنفسه) ما العمل إذن؟
سيف الدين: (مغمضًا عينيه دومًا) اذهب وحدك.
ضوء الليل: لا أستطيع.
سيف الدين: (مغمضًا عينيه دومًا) لا تستطيع ماذا؟
ضوء الليل: أن أتركك وحدك. قاتلنا معا لأجل إنقاذ أمك، ولا أريد أن أقاتل وحدي لأجل إنقاذك.
سيف الدين: (مغمضًا عينيه دومًا) الموت لا يرعبني.
ضوء الليل: بل يرعبني أنا من أجلك!

(سيف الدين، وهو يغمض عينيه دومًا، يطلق الرصاص من بندقيته في كل الاتجاهات ليحثه على تركه. ضوء الليل يحاول النفاد بجلده، لكنه يصاب إصابة قاتلة. سيف الدين يفتح عينيه، فيجده مسجيًا إلى جانبه مخضبًا بدمائه. يأخذ بالبكاء. يحفر له قبرًا، ثم يحمله برفق، ويسوي عليه التراب برفق. يجلس من أمامه كالمتعبد، فإذا بالقبر يتحرك كزلزلة الأرض، وإذا به ينفتح، وإذا برجل شائب الشعر شاب الهيئة، غبرته خنادق المعارك، يخرج منه، وفي يده بندقية عتيقة. يعرف فيه خاله الأكبر درويش نَفَس المرتينة الذي يطلب إلى فيروز الجبلية الانتظار في الخارج بعد أن تظهر فجأة ثم تختفي)

درويش نفس المرتينة: (لابن أخته) لماذا تجلس وحيدًا مكتئبًا؟
سيف الدين: لأن المعركة توقفت، وقد قتلت أعز أصدقائي.
درويش نفس المرتينة: (مشجعًا) هذا لأنه زمن لعين! ماذا أفعل لأخفف عنك؟
سيف الدين: لا تستطيع أن تفعل شيئًا. أشعر أنني قاتل وخائن!
درويش نفس المرتينة: (مقهقهًا) يا لك من طفل صغير! (الحفيد مبتسمًا والخال مضيفًا) لما كنت في عمرك كنت مثلك، ولكني تعلمت بعد ذلك. تعلمت أن في الخيانة إخلاصًا، وفي الجريمة مغفرة العاشقين!
سيف الدين: هذا ما كنت أقوله لصديقي الذي قتلته، وأنا مغمض العينين.
درويش نفس المرتينة: (مندهشًا) تصيب هدفك وأنت تغمض عينيك!
سيف الدين: ومع هذا أخسر معاركي!
درويش نفس المرتية: مثل خالك، مثل كل أخوالك.
سيف الدين: (مسرورًا) أتعرف يا خالي؟ نسيت الغربة في اللحظة التي حضرت فيها.
درويش نفس المرتينة: هذا هو مصير كل شيء: أن ننسى!
سيف الدين: عهدي بك لا تنسى شيئًا.
درويش نفس المرتينة: (هازئًا) نسيت كل شيء! لهذا تجدني هنا!
سيف الدين: لهذا أجدك تبدأ من جديد.
درويش نفس المرتينة: بداية جديدة؟ ربما. ولكنني سأنسى، وستنسى أنت أيضًا. هذه الحرب ستنساها، كحبيبتك وأمك وصديقك الذي قتلت، وستبدأ لتنسى من جديد.
سيف الدين: أذكر الآن كل شيء عنك. أذكر كيف أرادوا قتلك مرارًا، وكيف قتلوك مرارًا، وأذكر أنك كافحت.
درويش نفس المرتينة: (ماسكًا إياه من أذنه) قلنا إننا نسينا!
سيف الدين: وأذكر أيضًا يوم كنت تعلمني ضرب النار وأنا شبل صغير في عمان، كنت تضعني على ركبتيك، وتقول لي غدًا ستكبر.
درويش نفس المرتينة: (ماسكًا إياه من أذنه) قلنا إننا نسينا!
سيف الدين: (بحزن) أذكر ابتسامتك المحترقة.
درويش نفس المرتينة: (يريد أن ينسى) أتذكر بمن جئتك؟
سيف الدين: لقد نسيت!
درويش نفس المرتينة: جئتك بفيروز فيروز الجبلية!

(تدخل فيروز الجبلية)

سيف الدين: حبيبتي هنا!
فيروز الجبلية: جاء بي خالك الأكبر بعد أن رأف بي.
سيف الدين: وماذا فعل بك خالي الأصغر؟
فيروز الجبلية: تريد أن تقول ماذا فعلت به؟ أفقدته الصواب!
سيف الدين: لأجلي!
فيروز الجبلية: بل لأجله. أردته أن يصبح بطلاً، فأحرقته النار.
سيف الدين: نار هواك أم نار الوطن؟
فيروز الجبلية: ثم ترك كل شيء للعدو، وانسحب، صار مجنونًا!
سيف الدين: علينا إجبار خالي الأصغر على عدم حبه!
درويش نفس المرتينة: بل علينا إجبار خالك الأصغر على عدم جنونه!

(يخرجون)

























اللوحة السابعة
درويش نفس المرتينة: نحن لا نبدل الأشياء. الأشياء تبدلنا. انظر إليه! (لابن أخته سيف الدين مشيرًا إلى أخيه الأصغر حسن الشاطر) ذاك الذي خاض المعارك مخلصًا ها هو يصبح مجنونًا وسكيرًا! يغادر المواقع، وواجبه أن يبقى فيها! يتركها للأعداء دون أن يدري أنه يشكل حلفًا مع الأعداء!
فيروز الجبلية: في الماضي، كان للجنون معنى الثورة.
سيف الدين: الجنون في حالته معناه الاستسلام. وهو سعيد! (يعب حسن الشاطر الخمر من كأس ضخمة، ويقهقه) إنه حالتنا قبل الحرب.
درويش نفس المرتينة: أو بعدها.
فيروز الجبلية: (غاضبة) يا للعار! كيف يتحول القائد بين يوم وليلة إلى هذا الوضع! يخوننا جميعًا، ويقهقه!
درويش نفس المرتينة: فهو لا يعرف.
سيف الدين: هل ينسى؟
درويش نفس المرتينة: المجنون لا يذكر ولا ينسى. إنه لا يعرف. ونحن لسنا شرفه ولا عاره، لا الأصدقاء ولا الأعداء. يشرب الخمر،
ولا يجد لها طعمًا، ومع هذا، فهو مسكور! إنه مجنون!
فيروز الجبلية: (هاجمة على حسن الشاطر بقبضتها) بل خائن ومنهزم ونذل!
حسن الشاطر: (مرتعبًا مرددًا) ليس ذنبي! ليس ذنبي!
فيروز الجبلية: ذنب من إذن؟
حسن الشاطر: ليس ذنبي! ليس ذنبي!
فيروز الجبلية: بل ذنبك أنت! (وبحزن) لماذا صرت مجنونًا؟
درويش نفس المرتينة: هل هو ذنب القضية؟
سيف الدين: (بغضب) القضية تبقى كالشمس، نحاول تلويثها، فلا ننجح، وإذا بنا نلوث أنفسنا!
درويش نفس المرتينة: هل يفهم ذلك الآخرون؟
سيف الدين: من هم هؤلاء، الآخرون؟
درويش نفس المرتينة: الآخرون. أعداء وأصدقاء. هل يفهمون أن الأبيض يمكن له أن يصبح أسود، والعكس بالعكس؟ هل يفهمون معنى المواقع عندما نكون فيها أو خارجها؟ متي نكون فيها أو خارجها؟ من يكون فيها أو خارجها؟ بالأمس كان يريد (مشيرًا إلى حسن الشاطر الذي لا يتوقف عن شرب الخمر) تقديم حياته في سبيل المواقع، واليوم ينسحب منها تاركًا إياها للأعداء!
فيروز الجبلية: (غاضبة) هو المجرم!
درويش نفس المرتينة: هو مجرم اليوم، وبالأمس كان ثائرًا.
فيروز الجبلية: (غاضبة دومًا) ما يهم هو اليوم.
درويش نفس المرتينة: هذا صحيح.
فيروز الجبلية: (غاضبة دومًا) فلنتركه إذن، ولنعد إلى القتال.
درويش نفس المرتينة: وإذا كان باستطاعتنا أن نعيده إلينا؟
فيروز الجبلية: (غاضبة دومًا) مجنونًا؟ مستحيل!
درويش نفس المرتينة: (مقهقهًا) الجنون حالة.
فيروز الجبلية: (غاضبة دومًا) لقد فقد عقله، وانتهى!
درويش نفس المرتينة: أتدافعين عن نفسك بجنونه؟
فيروز الجبلية: (غاضبة دومًا) لم يشأ أن يصبح بطلاً!
درويش نفس المرتينة: هل هذا شرط حبك أم شرط الجنون من أجلك؟
فيروز الجبلية: (غاضبة دومًا) لم أشأ أن أبقى عذراء!
سيف الدين: (مهدئًا) لن يغير هذا من حبي شيئًا. أراك امرأة أكثر، وحقيقية أكثر! تعالي!
فيروز الجبلية: (ورأسها على كتفه) لا يغضبك هذا؟
سيف الدين: أحبك كيفما كنت!
فيروز الجبلية: (مشيرة إلى حسن الشاطر الذي يقوم بحركات جنونية) وهو؟ لماذا لا تحبه كيفما كان؟
سيف الدين: لأنه ليس فيروز الجبلية.
درويش نفس المرتينة: ولأنك حالتك.
فيروز الجبلية: (متوجهة إلى درويش نفس المرتينة) وأنت؟ هل تحبني كيفما كنت؟
درويش نفس المرتينة: كنت لا أحبك، والآن أحبك!
فيروز الجبلية: (متوجهة إلى سيف الدين وخاله) سأعترف لكما بشيء: هو من أحب!
سيف الدين: (غاضبًا محتجًّا صائحًا) هو من تحبين؟ تتركينني أنا الجميل القوي العاقل مقابل مجنون وسكير!
درويش نفس المرتينة: (غاضبًا محتجًّا صائحًا) وما ذنبي أنا بعد أن جعلتني رهن حالتك الجديدة؟
فيروز الجبلية: (مبتهلة) أعتقاه من جنونه لأجده، فأعيش إلى جانبه طول العمر. أنتما لا تعرفانه مثلي. لقد استطاع الجنون من أجلي!
سيف الدين: (محتجًّا) بعد أن خذلنا!
درويش نفس المرتينة: (محتجًّا) وسلم مواقعنا!
سيف الدين: (محتجًّا) وصار نذلاً!
درويش نفس المرتينة: (محتجًّا) وسكيرًا!
سيف الدين: (محتجًّا) أردت القتال هنا، ولكني ذاهب إلى مواقعي الأولي. لن أعرّض نفسي للخطر في سبيله. ثم تلك أمي!
درويش نفس المرتينة: (محتجًّا) أردت إعتاقه من جنونه، فليبق مجنونًا، وليبق غريبًا!
فيروز الجبلية: (محتجة) يا لكما من نذلين! هل هذه قيمة الحب عندكما؟ هو من أعطيه قلبي! (مخللة أصابعها في شعر حسن الشاطر) لقد استطاع أن يفعل لأجلي كل شيء: الحب والجنون والهزيمة!
سيف الدين: هو نيرون حارق روما! انظروا إلى الأدخنة كيف تقتحم العالم!
فيروز الجبلية: بل هو يوليوس قيصر المنخدع بكم أنتم يا إخوته وأصدقاؤه، وما نيرون إلا في الطرف الآخر! لقد رمى بالرماد في عيونكم، فأعجزكم التفريق بين العدو والصديق! هو يوليوس قيصر المنخدع بكم، وحبكم لي خنجركم القاتل (تبكي بينما حسن الشاطر يقهقه، ويعب الخمر).
درويش نفس المرتينة: (متأوهًا) آه، كيف تنقلب الأمور!
سيف الدين: إنه زمن لعين!
درويش نفس المرتينة: آه، كيف تنطبق الأمور! الأسود هنا أبيض، والأبيض هنا أسود، والخيانة هنا إخلاص، والإخلاص هنا خيانة! ينحذف التعارض، ونبقى متفرجين!
سيف الدين: أو ضالعين مع الذنب.
درويش نفس المرتينة: لكن الأهم يبقى، قدر المصلحة، ومعنى نصر القضية!
سف الدين: (محتجًّا) تريد أن تقدم يد العون إلى فيروز الجبلية بعد أن خذلتنا أنا وأنت؟
درويش نفس المرتينة: أريد أن أقدم لها الخنجر الذي قتل يوليوس قيصر (رافعًا خنجرًا فضيًّا يبرق دمًا في قبضته).
سيف الدين: (متفاجئًا) لتنتقم منا؟
درويش نفس المرتينة: بل لتنقذ أخي.
سيف الدين: أنا لا أفهم.
درويش نفس المرتينة: إذا توقف عن شرب الخمر توقف جنونه وعاد إلينا.
سيف الدين: أيهمك إلى هذه الدرجة أمر عودته إلينا بعد أن استلبنا إياها؟
درويش نفس المرتينة: لم نجبر العدو بعد على الانسحاب من مواقعنا الخلفية.
سيف الدين: ولماذا استعمال الخنجر؟ حطم الكأس التي بيده تمنع عنه الخمر، فيصحو.
درويش نفس المرتينة: لكنها كأس ملتحمة بأصابعه.
سيف الدين: (متفاجئًا) ملتحمة بأصابعه! لم ألاحظ هذا (يتأكد من ذلك بنفسه، فيطلق صيحة تعجب) رباه!
درويش نفس المرتينة: (مقدمًا الخنجر لفيروز الجبلية) خذي فيروز الحب.
فيروز الجبلية: (مرتعبة) ولماذا أنا؟
درويش نفس المرتينة: لأنه سيكون قربانك.
فيروز الجبلية: قرباني؟
درويش نفس المرتينة: ألم تفقدي بكارتك؟

(فيروز الجبلية مختطفة الخنجر، ثم قاطعة اليد الملتحمة بالكأس بضربة حاسمة، وهي تطلق من أحشائها آهة. تنفجر الدماء. حسن الشاطر يحمل ذراعه الدامية، وقد غادره الجنون، ويقف مع فيروز الجبلية وجها لوجه)

حسن الشاطر: (مجمجمًا) أيتها الحاقدة!
فيروز الجبلية: (متفاجئة) ولكني أحبك! أنت وحدك من أحب في هذه الدنيا! وما فعلت ذلك إلا لأجلك!
حسن الشاطر: (مجمجمًا) أيتها الحاقدة! أيتها اليد التي بترت اليد!

(فيروز الجبلية تهرع إلى درويش نفس المرتينة وسيف الدين ترجوهما أن يُفهماه)

سيف الدين: (مغادرًا) سأذهب إلى حيث هناك واجبي! سأذهب إلى إنقاذ أمي!
حسن الشاطر: (مرافقًا) سآتي معك. سأقاتل معك!
سيف الدين: بيد واحدة لن تحسن القتال.
حسن الشاطر: سأقاتل بيدي الواحدة وبقدمي الاثنتين وبأسناني!

(يذهبان)

فيروز الجبلية: (باكية) تركني حبيبي إلى النار، تركني معك، والجبهة صامتة!
درويش نفس المرتينة: (مبتهلاً) ولكني أحبك! كيف أشعل النار في قلبك؟
فيروز الجبلية: هناك الكثير من السلاح.
درويش نفس المرتينة: (مسرورًا) توافقين على حبي إذن فيروز القلب؟ يكفيني أن توافقي، وحبك لي سيأتي!
فيروز الجبلية: المواقع أخذوها.
درويش نفس المرتينة: (مستلاً سلاحه) سنستعيد المواقع.
فيروز الجبلية: (وهي تهدم متراسًا) لا يتركني الحزن.
درويش نفس المرتينة: (وهو يبني متراسًا) بالنار ينطفئ الحزن.
فيروز الجبلية: (بحماس) أشعل النار إذن، أشعلها!

(تتفجر النيران، ويصبح العالم مهرجانًا ومرايا)





















اللوحة الثامنة
أم الجميع: (لميمونة التي تنظر إلى نفسها في المرآة ذاهلة متشيئة) لم يكن أخاك، كان غريبًا من الغرباء. أتذكرين يوم لفظناه من فمنا كالنواة في عمان؟ وأنت بفعلته مارست تجربتك كامرأة تحررت من قيد البكارة. ألم تنذري نفسك قبل اليوم إلى هيكل الحبيب؟ ألم تواجه عفتك مصيرها لأول مرة من يوم رفضت زوجك؟ ولكننا زوجناك بالقوة، وجعلناك منفذًا نبعث منه كوابيس جسدنا! أجبرناك، في البداية، لأننا كنا عصاة أردنا أن نكفر عن خطايانا. وهو بعض وفاء للوطن، وقد أولدك زوجك حفيدي الذي يقاتل، فلا تنسي ذلك. ثم كانت إرادتك. ضوء الليل أنت من اخترت، هو من ارتضيت. كان غريبًا، وأخوك عنك صار غريبًا، وأبو أرز (تمتنع عن إطلاق صيحة موجعة) افرح، أيها القلب المعذب! أفروديت هي عرابة ابنتي المخصبة، أنا أم الجميع حاملة بؤسي على كفي حبة قمح في فم عصفورة أنوثة الكون!
ميمونة: (تدب فيها الحياة بالتدريج) وهو في أعماقي، هجمت على لذة العاشقة، ولكني كنت أهوي!
أم الجميع: (بنبرة مشجعة) مما يؤكد أنه كان غريبًا.
ميمونة : ولماذا كنت أهوي؟
أم الجميع: لكي يمسخ، فتصعدين من هاويتك! (تراها تتنفس وتتأوه) أنت الآن تصعدين من هاويتك إلينا!
ميمونة: (مبتسمة) أراك الآن كما كنت أراك.
أم الجميع: (مبتهلة) يا إلهي! كيف لما ننقذ أنفسنا من الهلاك!
ميمونة: (تسمع أصوات القذائف) وأسمع الآن كما كنت أسمع أصوات القذائف.
أم الجميع: (ملتهفة) هما ولدك وولدي! يقاتلان معًا!
ميمونة: (كمن تكلم نفسها) ولكنني لا أشعر نحو أبي أرز بأية ضغينة.
أم الجميع: (متفاجئة مهمهمة) العقاب لم يزل يلاحقها!
ميمونة: أليس أبو أرز عني غريبًا؟
أم الجميع: (موعية) هو عدوك، يا ابنتي! والفرق بين العدو والغريب كبير!
ميمونة: زوجي الذي تركني، الذي تركنا جميعًا، وذهب دون أن نعرف عنه خبرًا، هو عدوي!
أم الجميع: وأبو أرز، كذلك، هو عدوك قبل أن يكون عنك غريبًا. الغرباء أنواع. في الماضي، كانوا كلهم أعداءنا، واليوم، تبدلوا، وتبدلنا. صار بعضهم أعداءنا، وصار بعضنا أعداؤنا. أتفهمين؟
ميمونة: أفهم أنني أنا.
أم الجميع: أنت ماذا؟
ميمونة: الحرب والسلم.
أم الجميع: (مهتزة) كوني حربًا على أبي أرز إلى أن نستردك، ونقطع شوطًا أبعد لاسترداد أختك!
ميمونة: (مقهقهة) أتظنينني مجنونة؟ أنا أحب ضوء الليل، هو روحي! ما هي أخباره؟ لماذا لم تنقلي لي أخباره؟ أيحارب إلى جانب المحاربين ليأتيني مظفرًا؟
أم الجميع: (حزينة) استشهد ضوء الليل في ساحة الشرف.
ميمونة: (متفاجئة) كيف أمكنه أن يستشهد؟
أم الجميع: لم يكن ذنبه.
ميمونة: ماذا تعنين؟
أم الجميع: قتله ابنك.
ميمونة: (مقهقهة، ثم باكية، ثم صامتة).
أم الجميع: لأنه لم يعد عنك غريبًا.
ميمونة: (بضغينة) بل لأنه صار صديقه.
أم الجميع: الصديق لا يقتل الصديق!
ميمونة: (مشددة) بلي! هذه الحرب لعينة، ليست كباقي الحروب!
أم الجميع: (كمن تحدث نفسها) مرت علي حروب كثيرة، وهذه الحرب حقًّا ليست كباقي الحروب. عند كل حرب أمني نفسي بالانتصار، واليوم أمني النفس بعدم الهزيمة. النار محرقة! تحرقنا إخلاصًا! حرب كهذه لن تقف غدًا ليس لمثلها مثيل! وهي غريبة، تقوم بين عدم السلم وعدم الهزيمة!
ميمونة: سلمنا الآن بعيد!
أم الجميع: لن يكون أطول من بعدنا الماضي عنه، ولكنه حقًّا بعيد! وأنا لما أتذكر الحاج عرقوب، أتذكرين ذلك الحاج اللعين؟ أقول لنفسي، لم تذوقي طعم السلم يومًا، يا أم الجميع. لكل سلامه، وأنا حربي دائمة، وعذاباتي، ونقيض أفراحي. هل أستطيع أن أقف يومًا؟ أسقط، فأستمد القوة من الصواعق على النهوض. يا للكارثة! أنهض، فتستمد الصواعق القوة من نهوضي لإسقاطي.
ميمونة: ولكنك كنت ما أردت.
أم الجميع: في الحرب نعم، أما في سلم الآخرين فلا.
ميمونة: يكفيني أن أكونك.
أم الجميع: وما الفائدة وسلمنا الآتي بعيد؟
ميمونة: أكون قد حققت بعض قدري.
أم الجميع: باعتبارك أبا أرز عنك غربيًا؟
ميمونة: أليس لأبي أرز ماض ككل الناس يسبق الحرب بريء؟
أم الجميع: براءته ذنب، محرق التبغ والمعابد ذاك! (تلوح لها حركة قادمة).
ميمونة: (معجلة إياها) عجلي في الاختفاء، وانظري إليه كيف يأتيني جديدًا بعد أن نسي حاضره.

(تختفي أم الجميع كشعاع. يدخل أبو أرز آخذًا ميمونة في أحضانه)

أبو أرز: (ملقيًا من وقت إلى آخر كلمة غزل بالفرنسية) تعالي، يا صغيرتي! اليوم سأصطاد لك سمكة ملونة، وسأزرع لك على سفح الجبل شجرة أرز، ثم سأضرب مثل غافروش أجراس الكنائس! أبي يريدني أن أكون قسيسًا عالمًا ذا قدر، فهو كما تعلمين، صياد بائس. وأنا أريد أن أحقق رغبته، لأرفع من قدري (وبعد تردد) وقدره، لأني لست أنانيًّا. حبي لك هو الإثبات (يقبلها) أتثقين بكلامي؟
ميمونة: أثق بكلامك.
أبو أرز: إذا صرت قسيسًا سأطلق لحيتي على غرار زملائي الخوارنة الفرنسيين، ثم سيصير العالم لي.
ميمونة: ولكني سأكون خارج هذا العالم.
أبو أرز: (متفاجئًا) كيف هذا، يا سمكتي؟
ميمونة: أن تكون قسيسًا يعني ألا تتزوج مني ولا من أية امرأة أخرى غيري.
أبو أرز: (متفاجئًا) إنني حب النساء!
ميمونة: ماذا ستفعل إذن؟
أبو أرز: ألا أكون قسيسًا.
ميمونة: وقدرك؟ وقدر أبيك؟
أبو أرز: (مبتهلاً) أحبك أكثر من قدري وقدر أبي!
ميمونة: تستطيع أن تكون شيئًا آخر يرفع من قدرنا جميعًا.
أبو أرز: ماذا مثلاً؟
ميمونة: أن تكون صيادًا.
أبو أرز: (محتدا) أن أكون صيادًا بائسًا كأبي البائس!
ميمونة: صيادًا بسيطًا يفهم البسطاء ويصطاد السمك الملون.
أبو أرز: أنا رجل ذو طموح! إذا صرت للبحر، صار البحر لي، لأني سندباده، ولأني أحبك أكثر من برناديت المسيحية، أعرف أنك في أصلك مسلمة، ولكنك ستعتنقين ديني. كان ذلك شرط حبي. كي نذهب إلى الكنيسة كل يوم أحد من أجل القداس. على الأقل نستمع إلى القسيس بعد أن أعجزني حبك عن أن أكون قسيسًا. أو، سأكون قسيسًا، وستبقين حبيبتي، آتيك كلما رغبت فيك نفسي.
ميمونة: تقصد أن أبقى عانسًا؟ أريد أطفالاً يحمونني.
أبو أرز: حبي سيكفيك. أحبك أكثر من برناديت اللئيمة! ترفض أن ترميني بنظرة واحدة. ثم شكل برناديت يقول لي إنها أرمنية، وأنا لا أطيق الأرمن منذ نعومة أظافري، لا لسبب إلا لشكلهم، ولأنهم يغنون بسرعة. أبوها صار تاجرًا، وأبي لم يزل صيادًا بائسًا.
ميمونة: حبك لن يكفيني! إذا كنت فعلاً تحبني، فعليك أن تتزوجني، لأصبح عهدتك! (تعطيه ظهرها ذاهبة).
أبو أرز: (مبتهلاً) تعالي!
ميمونة: إذا كنت تريدني فاتبعني!

(يتبعها أبو رز، وهو يمد أصابع متوترة إليها، فتوقفه أصوات القذائف المدمرة للحرب القائمة، ويذكر الحاضر)

أبو أرز: (مهتاجًا مهددًا) سأدمر الأسماك التي في البحر لأجلك، ألا أستطيع؟ أنا ملك البحر وسيد الأمواج! وسأحرق في الجبل أشجار الأرز لأجلك، ألا أستطيع؟ أبو الأرز أنا، ابن عشتروت الغضبى، ملك الجبل وسيد الأشجار! وسأجعل أجراس الكنائس تقرع نشيد الموت! سأستطيع كل هذا لأجلك، فتعالي إلى أحضاني المحرقة، ولأجعل منك طريقي إلى تحقيق الأماني! (يضمها بين ذراعيه).
ميمونة: (بشجاعة ناسية الحاضر والماضي) أنت توجعني، يا سيد الانتصار!
أبو أرز: (مهيجًا) إذن لماذا تهيجينني؟ أشتهيك كقطعة سلاح، كقذيفة مدمرة، كسوط جهنمي، أشتهيك كمقصلة!
ميمونة: (ضامة إياه بقوة) تعال، أيها الغريب الكاسر! تعال، يا سيد المعارك!
أبو أرز: أحبك كما يحب قائدي أطفاله والحرب!
ميمونة: وأنا كذلك.
أبو أرز: نحن نقتلهم لأجل حريتك، لأجل حريتهم، وسلام البشرية!
ميمونة: أرى ذلك.
أبو أرز: أليست هذه روح الديموقراطية؟
ميمونة: هي كذلك.

(زعيق. حمد أبو ريش/ الوطواط ينقض على عيني أبي أرز، ويسملهما، ثم يطير فارًّا. أبو أرز ينهض أعمي والدماء تنبع من بين أصابعه، ليقود دفة الحرب)
































اللوحة التاسعة
سيف الدين: (صائحًا برعب) الدمار يلاحق العالم، وأنا أسقط في ردمه.آه، لو كان هذا وحده كافيًا لإيقاف رعبي! الدمار يلاحق نفسي، وأنا أسقط في ردمها. آه، لو كان هذا وحده كافيًا لإيقاف رعب العالم! الحرب هذه تخشاني، وأخشاها. تتقدم، فأتراجع. تتراجع، فأتقدم. وأحيانًا نتقدم معا. يتحول خوفي إلى شجاعة، ويبقي إليك الهدف واحدًا أيتها القديسة التي لا ترحم قلبي! تتوهجين في النار مثل نجمة، وتومئين إليّ، فتعبق برائحتك الساحرة أنفاسي اللاهثة. هل تخلصينني اليوم من نفسي؟ غدًا أخلصك من نفسك، ونلتقي على أعتاب جنة من رماد. ولكني خائف (مرتعدًا) أخاف من الرصاصات العاصية. الرصاصات التي تبحث عن قتيلها دون إرادة قاتلها. أخاف أن يأتيني موت صديقي، فأتهم غيري (صائحًا برعب) لست هرقل قائد طيبة! أنا ضعفي! فقدت قناعاتي في كل شيء ما عدا في الكامن هناك ما قبل كل الحروب. هل هي خيبة الأمل أم الأمل العاصي الذي يدفعني إلى هذا القول؟ وفي كل الأحوال أبقي مخلصًا. كيف أصبح مخلّصًا؟ الخلاص، نعم، الخلاص. العدالة، نعم، العدالة. كل هذه الحرب الثمن. وأنا في قلب المعركة أصبح قلبها، أصبح قذائفها. وأنا على طرفها كي أظفر ببعض الراحة، لا أرتاح لخوفي. تهجم عليّ الأماني. شرسة، قاسية، قذرة، حاقدة، واعدة، عادلة هذه الحروب اللعينة! في الطرف الآخر تصبح الهدف، وعلى مرمى بنادقنا تصبح الوسيلة. من يفهم هذا في هذا الكون؟ من يفهمني في هذا الكون؟ حتى أمي لا تفهمني! وهي إن فهمت، فهي تفهم الحقيقة بغموض. ويلفني الغموض، أصبح زورو بردائه الأسود، أو إرهابيًّا قادمًا من الصحراء! أي الطرق إلى جنة الرماد طريقي غير هذا الطريق المدمر؟ (قابضًا على قلبه) أحسني على وشك الانهيار! هرقل العظيم ينهار لخفق قلبه المارد! (جالسًا على حجر) أحسني ظامئًا، جائعًا، مشتاقًا! أنا قاتل صديقي البريء! أحسني شراعًا محترقًا! أنا صديق الظباء الجميل! كيف تخونني عذاباتي؟ أنا من يبدل الأشياء تبدلني الأشياء! أنا ناسف العبوات، مفجر المدافع، مبدع المعالم، ماحق الخنادق! أصنع عالمًا آخر بقوتي، ويصنع العالم لي ضعفي! أتناقض، وأنسحق، ولكني أنهض من طرف المعركة إلى قلبها، وبين ضجيج الموت أسمع همساتها! أسمع همساتها، ووشوشاتها، أشم رائحتها، أراها، وتومئ إليّ، فأذهب، لأذهب بها إلى جنة الرماد! (قافزًا فجأة في خندق، مهيبًا بالمقاتلين) تحدوا الموت، أيها المقاتلون! أطفئوا احتراق الأمل، أيها العشاق!

(تتضاعف القذائف، ثم تنقص بالتدريج، ثم تصمت. سيف الدين جريح. الجثث منتثرة من حوله كالبذر)

حسن الشاطر: (جريحًا أيضًا) دومًا يبقي الجرح لنا (ينهض بجرحه، ويأخذ بتضميد جرح ابن اخته) جرحك ليس بسيطًا!
سيف الدين: أستطيع أن أحرك ذراعي.
حسن الشاطر: بل عليك أن تحرك ذراعك، فالحرب لم تقف بعد.
سيف الدين: (يضمد جرح خاله بعد أن ينتهي الخال من تضميد جرح سيف الدين) نهزم الجرح، ونحاول الموت مرة أخرى، فيهزمنا الجرح، ويزداد عمقًا!
حسن الشاطر: (ناهضًا بذراعه المضمدة مشيرًا إلى جثث المقتولين) بل نترك القمح للديدان بعد أن حصدوه!
سيف الدين: (يأخذ وحسن الشاطر بالحفر بسنجات البنادق لدفن الجثث) سنذر القمح للموسم القادم!
حسن الشاطر: (يقهقه) ولكنها جثث موتي! (يقهقه من جديد).
سيف الدين: (مجبرًا إياه على الحزن) اخرس! فلتخرس، أيها الخال اللعين! (وبعد لحظات صمت) أريد أن أموت مثلها في قلب إحدى المعارك، وبالنار، هذا هو الموت الحقيقي! إنه حتمًا غير ما كان يجري في الزمن القديم، إنه حتمًا ليس طقسًا من طقوس الفداء القديمة، فقتالي ليس مجانيًّا!
حسن الشاطر: يجبرونك على الموت.
سيف الدين: هذا أمر آخر.
حسن الشاطر: وإذا ما تمكنوا منك؟
سيف الدين: أكون قد قاتلت حتى النهاية.
حسن الشاطر: (راميًا البندقية هو وابن أخته بعد أن أنهيا دفن القتلى) أحس بالجوع، وأنت؟
سيف الدين: (متهالكًا على أحد القبور) وأنا. ولكن من أين لنا بالطعام؟
حسن الشاطر: أكاد أهلك من الجوع، وأنت؟
سيف الدين: وأنا. ولكن ليس من حولنا إلا الرماد.

(حسن الشاطر ناهضًا لفكرة مفاجئة إلى أحد القبور آخذا في نبشها بأظافره، فيدفعه سيف الدين بعد أن عرف مقصده)

سيف الدين: ماذا أنت بفاعل، يا مجنون؟

(الخال يحاول نبش القبر مرة أخرى، فيطوقه ابن أخته بذراعيه إلى أن يهدئه)

سيف الدين: تريد أن تأكل جثث الموتي؟
حسن الشاطر: أريد أن أحيا!
سيف الدين: (بعد لحظة يمر بهما كلب بثلاث سيقان) سآتيك بالطعام (يذهب وراء الكلب، وبعد لحظات، يعود بالكلب ذبيحًا) خذ، واشو لنا لحمًا شهيًّا!

(يشويان الكلب، ويأكلانه، ثم يأخذان بالضحك)

حسن الشاطر: كان لحمه أشهي من كل العلب الأمريكية المحفوظة!

(يضحكان من جديد)

سيف الدين: بعد أن شبعنا، واستعدنا بعض قوانا، علينا أن نعود إلى القتال.
حسن الشاطر: لن نستطيع وحدنا.
سيف الدين: سنبعث من وراء فيروز الجبلية وخالي الأكبر وبعض المقاتلين.
حسن الشاطر: لن يتركوا مواقعهم هناك. العدو يتسلل في كل مكان.
سيف الدين: إذن سنبحث عن مقاتلين من الشواطئ أو الأرياف.
حسن الشاطر: لا أثق بالغرباء.
سيف الدين: في المعركة لا نصبح غرباء.

(فريق من الجيش يدب بقدم تعبة. نصفه يحمل نصفه. يقودهم مارشال لا يبدو عليه أنه اشترك في المعارك)

سيف الدين: (موقفًا الفريق) إلى أين؟
المارشال أبو الجماجم: (بأنفة) نحن نبحث عن المعارك، يا هذا! أتوجد معارك هنا؟
سيف الدين: أنت في قلب المعارك! ألا ترى من حولك كل هذه الخنادق والقبور؟
المارشال أبو الجماجم: (بأنفة دومًا) خنادق أرى، وقبورًا أرى، وبقايا كلب مأكول أرى، ولكني لا أرى المعارك، أنا أبحث عن معارك أشارك فيها وجنودي كالأبطال.
حسن الشاطر: المعارك هنا، يا مارشال، تعال نبدأها!
المارشال أبو الجماجم: (متصنعًا الدهشة) نبدأها! كل هذه الحرب التي مضت، ولم تبدأوا بعد؟ يبدوا أنكم غرباء عن هنا. الحرب على وشك الانتهاء، ولم تبدأوا بعد؟
سيف الدين: (بحدة) الحرب لن تقف غدًا، يا مارشال، وإذا كنت تبحث حقًّا عن المعارك، فتعال نقاتل!
المارشال أبو الجماجم: لا، فليفتح الله! (يحث جنوده على النهوض بعد أن تساقطوا من كثرة الجراح والتعب) هيا انهضوا، أيها الأنذال! لنبحث عن معارك أقل خطورة وأكثر ثمنًا! الوضع متفجر هنا... (مع السكون الساجي يتعلثم ويضيف)... بالسكون! نحن نبحث عن وضع ساكن تمامًا (يضرب جنوده بحذائه) قوموا! انهضوا! تعالوا نذهب، على الأقل، إلى الجهة الأخرى، نكون هناك أبناء عم فيما بيننا!

(تسقط قذيفة مفاجئة، فيضطر الجميع إلى أخذ الخنادق، ثم تضطرهم النار إلى الدفاع عن أنفسهم)

المارشال أبو الجماجم: (لسيف الدين وخاله يلهث غير راض) ها نحن نقاتل معكم أحسن قتال.
حسن الشاطر: أحسنت أيها المارشال!

(يسدد المارشال بندقيته نحو حسن الشاطر لما يعطيه ظهره، ويقتله)

المارشال أبو الجماجم: (ناقلاً إياه بين ذراعيه متصنعًا الأسي) قتلوك! حسرة على شبابك! يا أسى أمك!

(سيف اليد يحمل خاله برفق، ويدفنه برفق، وعندما ينتهي، تتزلزل الأرض، فينفتح باب القبر، ويخرج منه ضوء الليل مغبرًا مبتسمًا، وفي قبضته بندقية جديدة. يضم وسيف الدين بعضهما)

سيف الدين: (بشوق) لماذا تأخرت، أيها المنجل الذي لا يموت؟
ضوء الليل: كنت بانتظار قرباني.
سيف الدين: (شادًّا إياه من يده إلى قلب الخندق) تعال، المعركة شديدة!
ضوء الليل: ودموع الخنساء على ولدها. جدتك تبكي، ولشدة ما بكت جدتك طفا بردى بالماء!
سيف الدين: تعال نقاتل إذن كي يطفو النيل أيضًا بمائه.

(يقاتلان)

ضوء الليل: (فجأة) أشتاق إلى أمك!
سيف الدين: هي لا تشتاق إلى أحد بعد أن طال قدومنا.
ضوء الليل: (متفاجئًا) لماذا نقاتل إذن؟
سيف الدين: لنطفئ اشتياقنا إليها.
ضوء الليل: لنشعل اشتياقها إلينا.
سيف الدين: أتعرف؟ لا أريد أن أخاف.
ضوء الليل: لا نخاف ونحن في قلب القتال.
سيف الدين: لن نتوقف عن القتال إذن.
ضوء الليل: كنت خياليًّا وصرت واقعيًّا.
سيف الدين: (غاضبًا) كل هذه الجثث التي أحرق، وتقول عني واقعيًّا! قل بالأحري ميتافيزيقيًّا!
ضوء الليل: نيرون هو المسئول! وأنت، أنت صاحب حق!
سيف الدين: أبو أرز يقول إنه صاحب حق أيضًا.
ضوء الليل: حقك أعلى من كل الحقوق! الأعلى والأعدل! أبو أرز جعلوه (( فريدًا ))، فجعل السمك يتدني، وأحرق الأرز رغم أنه أبوه، وأخرس الأجراس رغم أنها أمه!
المارشال أبو الجماجم: (محتجًّا) لا وقت للكلام! الحق فقط للرصاص! (محاولاً قتل ضوء الليل لكنه يعدل عن ذلك ببسمة معسولة تحت ناظر سيف الدين).
سيف الدين: (لضوء الليل) حذار من المارشال!
ضوء الليل: (مرددًا متيمًا مفرغًا كل رصاصاته) كم أشتاق إلى أمك! كم أشتاق إلى حبيبتي! لو وجدت قيثارة لغنيت!









اللوحة ما قبل الأخيرة
(ميمونة ممددة ميتة. تلتف بعلم فرنسي قديم من عهد الانتداب. مرشوقة ببعض الزهور الحمر. ابنها يجلس على مقربة منها. رأسه بين يديه. الأضواء خافتة. بعد لحظات، يأخذ بالارتعاش. ينهض ساحبًا العلم الفرنسي القديم، ويلتف به طامعًا ببعض الحرارة)

سيف الدين: لا أشعر بالخوف، ولكني أشعر بالبرد. برد ماحق! أهتز على إيقاعه كطبل إفريقي! (يكلم أمه) تموتين، إذن، وتتركينني وحدي. لم أقاتل وحدي حقًّا، ولكنك تغادرينني، فتسحقني العزلة. عزلة أقوى من كل المعارك! تموتين، ولم تقتلي نفسك، وكرونوس يجرّح نفسه حزنًا! آتيك بعد كل ذاك القتال، فأجدك قتيلة. لمَ الإخلاص إذن؟ في الموت نجد خلاصنا، ونموت وكلنا رغبة في الحياة. أيتها الحياة الغادرة! (يعود إلى جلسته، ويلتف بالعلم الفرنسي القديم جيدًا) لقد ماتت بشجاعة! بشجاعتنا كنا! الكلمة هنا تأخذ معناها الجديد. لقد ماتت بأمل! هل هو حبها القاسي لي؟ لضوء الليل؟ للخنادق؟ هل هو حبها لنفسها؟ لجدتي الرؤوم؟ أم هو حقدها الرقيق؟ هي كل هذا وقمصان المقاتلين، وهي رحلة الحياة في الحرب الطويلة، والحرب وحدها ستكون أمسها. من الأمس نأتي لنذهب. من الأمس نأتي لنفتح الطريق. قاتلت مخلصًا، مثلما مت أنت مخلصة. أيتها المرأة الشجاعة في كل شيء، في طهارتك، وفي تلوثك! قاتلت لأن الحرب ستقف غدًا. موتك ينبئني. وموتي سيقول هذا للآخرين، عندما نذهب معًا إلى جنة الرماد (تعود أصوات المعركة، وتشتد الأصوات والأضواء بالتدريج) كل شيء يعود مثلما بدأ، ولكن بطريقة أخرى. ليس بسحر صولجان سليمان يبدأ حبك. أبحث عن أبنائه في نفوسهم، فلا أجد سوى جولييت. في الجبهة الأخرى كلهم يقفون. أسلحتهم كثيرة، ولكنها تفرغ نفسها من طلقاتها في صدري، صدري المفتوح كشراع، فأنقل الصواعق على يديّ، لأدك الجبل المعظم، بعد أن يهديني سليمان خنجرًا يزرعه بيد الكاهن والشماس في قلبي، ويده تبحث في ممالك العجب عن مفتاح الجنة الذي أضاعته سبأ، بعد أن صار الكل غرامه إلاي، وها هم أبناؤه قد مخروا في دمي دون أن يظفروا إلا ببراءة أصحاب الذنب، فلا الجريمة تدركهم، ولا الدم يلوثهم! ذنبهم أن هذا دمي، وهذه عيونهم الشاردة! ذنبهم أن هذا طوفاني، وهذه قواربهم السادرة! ذنبهم أن هذا جسدي، وهذه طعناتهم العابثة! آه، لما تصبح البراءة طريقًا للانتحار الطويل، واليد الدموية للمجرم صورة للولد اللطيف... آه، لما تلطف البراءة من قيام القوة في سقوطها البطيء، فلا يغدو الأمر جسيمًا، فالصواب أنه ذنبك، أو أنه جرمك، بعد أن جعلوك بريئًا، لا خيار لك وأنت تطعن بالبراءة وجودي، في حين يكتفي آخرون بوصف العسل في جنتك (أصوات القصف تزداد دومًا في لحظة أخرى) الصواب أنه جرمك، أو أنه جرمك بعد أن جعلوك رسميًّا، لا خيار لك، وأنت ترى من يطعن وجودي بتواطؤك، في حين يكتفي آخرون غير هؤلاء الآخرين بوصف ذلك! على هذا الذل أبحر سليمان في دمي بعد الخروج، وكنت أنا البحر الذي يصل الكواكب بالعواصم، ويضرب أعمدة روما الراسخة في عظام الجثث القتيلة، فيبني بعضها، ويهدم بعضها، لينقذ البراءة من جرم البريء، ويرمي الذل بين أضراس حوت الشعوب... كان الحريري قد خرج من البحر باحثًا عن امرأة ستخونه، فانشق المركب الذي رآه، نصفه راح لليابسة، ونصفه راح معه في الموجة القادمة، ولما نظر الحريري وجد نفسه عاريًا مثل أهل اليابسة الذين تركوه إلا من ورقة توت. كانت ورقة التوت مقامته إلينا عن جسدك، يا روما، وجمالك، وحقدك، وانتقامك. ولما أتم الحريري إنشاد المقامة، سقطت ورقة التوت عن البقية الزائفة، ورأينا عورته مثلما رأينا عورة أهل اليابسة الذين خذلونا. كان خالي الأصغر معهم، وخالي الأكبر، وضوء الليل. وأنا قد لاحظت أن عورتهم تشبه عورة الذي تغنى بجسدك، فقلت هؤلاء جميعًا هم سلطتك إن كانوا من أهل البحر أو كانوا من أهل البر، أنت التي تقيمين الفروق بينهم في لحظة اليأس أو في لحظة البطولة، وإلا هم جميعهم سلطتك، يا روما، التي ستدمرك بعد تحريرك مثلما يدمر عواصم شقيقة لك نيرون العربي! هؤلاء جميعًا هم سلطتك على حوت الشعوب التي ستنهض بالبحر حتمًا في الغد، والغد وحده سيكون شاهدك! من الغد نذهب لنأتي. من الغد نذهب لنغلق الطريق. لا فرق بين سلطة وسلطة ولكل هؤلاء عورة تشبه عورة! لا فرق بين عورة وعورة ولكل هؤلاء سلطة تشبه سلطة! لكني أقف مع الذي تختاره روما لزمنها مركبًا تمخر به المرحلة! أقف مع اختيارك من شعراء مدللين أو صعالكة، ومن قادة مخلصين أو قتلة! أقف مع اختيارك ضد اختياري، وضد عمري، وضد جناتي، لأني مع وردك الأسود إذا ما اخترت، ومع ليلك الأزرق إذا ما اخترت! (القصف يزداد دومًا) أن يصير أعداء الأمس أصدقاء اليوم... هذا هو اختيارك! أنت تختارين، وأنت توجهين! أن أقاتل وأبو أرز وأبو زيد الهلالي نكون أسود وأبيض يقاتلان معًا في سبيلك، فنتبدل ضد طبيعة الأشياء من أجلك، وغدًا سنعطي لكل لون رمزه الجديد، ولكل شيء معناه الجديد، والغد وحده سيكون لونك! من الغد نذهب لنأتي. من الغد نذهب لنفتح الطريق. طريق واحدة تدلين عليها بإشارة من إشارات تاريخك العريض. وتاريخك كله يشير اليوم إلى العزلة المفكرة، والفردية المبدعة، والهامشية الأصيلة، فلم يبق سليمًا إلا الهامش على صفحتك المحترقة. أنا هامشك في جزيرة تصيح! والجزيرة مخيم محاصر! والآخرون الذين قالوا إنهم الأساسي في قصتك، سنكتب عنهم برمادك قصتهم، وببولنا، وسنقول إنهم انتصار المقبرة! وعندما يصبحون في قصورهم سلطة القمر المحاق مثل غيرهم سنكون لهم معارضين يسعون لقتلنا. أنا قتيلك القادم! أما اليوم، فلنبدع قصة نكتبها بالرماد، ولنتأمل في اللون الرمادي! ها هو الفرد في كيانك الضيق يدقق النظر في جسدك، ويتناولك رغيفًا تخشاه آلهة البرابرة (يتناول ذراعها) يتناولك لحمًا، ويأخذ في أكلك بشهية! (يأخذ في أكلها بشهية على إيقاع القصف، وبرق القصف، ويرميها بالرماد) ها هو الفرد في رمادك المنتثر نجومًا سودًا وثمارًا دموية يدقق النظر في جسدي، ويتردد في تناولي رغيفًا تخشاه برابرة الآلهة، فلست بعد قتيلك الذي سأكون... أنا قتيلك الأمين!

(يرميها بالرماد، ثم يعود ويرميها بالرماد، وينثر النجوم السود والثمار الدموية، والقصف قد وصل أقصاه)

لقد خانتني فيروز القلب بنفسي مرتين قبل المرة الأخيرة، وأنا قد قتلت صديقي مرتين قبل المرة الأخيرة (يكون الثعبان الأسود ذو البريق الليلي قد تسلل من جحره إلى حضنه، وقد خرست أصوات القصف، ولم يبق إلا برق القصف الصامت. الآن يلسعه، ويهرب. سيف الدين يقبض على قلبه قبل أن يتهاوى) لا تقتلوني للمرة الأخيرة، وإن فعلتم، فادفنوني في جنة الرماد، أو في رماد الجنة، هناك المكان الأخير لجسدي، الأوسع من كل أحلامي، فلا تسقط مني قدم أو يد في الفراغ... يرعبني الفراغ!

(يسقط قتيلاً قرب جثمان أمه)


الستارة تبقى مفتوحة



باريس / خريف 1978






























أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004


[email protected]


في ابنة روما، المصراع الثالث من ثلاثية "أم الجميع" المسرحية، يتابع أفنان القاسم رسم مسار العائلة الفلسطينية التي تلقي بها السفن هذه المرة في لبنان، وتتجسد العلاقة المتناقضة بين الخيانة والحب، تلك العلاقة التي تربط الفلسطينيين بهذا البلد، في شخصيتين جديدتين، أبو أرز وفيروز الجبلية. ينتقل المشعل إلى الجيل التالي، وأم الجميع بوصفها مشاهدة وامرأة “منتَظَرة” تقول عدم فهمها لهذا “الزمن اللعين” حيث تنقلب القيم، وكل شيء ليس إلا وجهة نظر، حتى الموت ما هو إلا وجهة نظر. يعرف الجيل الجديد كيف يلعب على هذه التناقضات، وكيف يجد في إلحاحية زمن الحرب منفذًا غير متوقع لرغائبه… لا تعرف فيروز الجبلية الحب إلا في ساحة القتال، ولا تقاتل في نهاية المطاف إلا لتحب بشكل أفضل. المصراع الأخير من ثلاثية “أم الجميع” المسرحية، ابنة روما، لا تصل على الرغم من كل شيء إلى خاتمة، وتنغلق في عدم يقين اللحظة والذاتانية الأكثر كلية، عند فصل ما قبل أخير، باب مفتوح على مصير منفى متواصل إلى ما لا نهاية.



* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أم الجميع سقوط جوبتر
- أم الجميع مأساة الثريا
- الاغتراب
- الكناري
- الشوارع
- إسكندر الجفناوي
- مدام حرب
- النقيض
- شارع الغاردنز
- لؤلؤة الاسكندرية
- باريس
- بيكاسو
- قل لنا ماذا ترى في حالنا؟
- القدس
- الشعراء
- البرابرة
- الأخرق
- الباشا رواية النكبة الأولى
- تراجيديات
- تحليل قصيدة صفد لسالم جبران نحويًا ومنطقيًا ودلاليًا


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - أم الجميع ابنة روما