أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الاغتراب















المزيد.....



الاغتراب


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3631 - 2012 / 2 / 7 - 21:58
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
المجموعات القصصية (3)


د. أفنان القاسم

الاغتراب

قِصْرِوَاية

ما بين القصص والرواية


الطبعة الأولى الدار العربية للكتاب تونس – طرابلس الغرب 1984
الطبعة الفرنسية تحت عنوان المغتربون دار لارماطان باريس 2003


إلى فدوى طوقان
شاعرة الجبلين
جبل الحزن وجبل النار



الفصل الأول
محاولة للكتابة

اليوم، ودعت نانسي. اليوم أيضًا، استلمت رسالة من أمي تعلمني فيها أن أخى قد هرب من سجون الأراضي المحتلة. في الليل، حاولت أن أكتب روايتي الملحمة عن المقاومة. حاولت، لكني لم أفلح، رغم أن كلَّ شيء واضح في رأسي: الفكرة، الوقائع، الشخصيات. منذ عام أو أكثر، وأنا أريد كتابتها، ولا أدري هل سأحقق ذلك في المستقبل؟ كنت قد دعوت نانسي، للمرة الأخيرة، إلى مطعم فخم، تناولنا طعام العشاء، وتمشينا قليلاً في الشانزلزيه. عند فوهة المترو، قبلتها من جبينها، ومضى كل شيء مثلما اتفقنا، دون آهات أو دموع. بعد أن ذهبت، لم أدر إلى أين نقلتني قدماي. وجدتني فوق إحدى قناطر نهر السين، كان الضباب يتساقط في كل مكان والنهر ينساب مبتعدًا. فكرت في الانتحار. مضى ذلك في ذهني مضيًا سريعًا، فلم أشأ تصديقه. تركت كل شيء ورائي: كتل الضباب القطنية، هالات أضواء المصابيح القديمة، النهر الصامت، وعُدْتُ سريعًا إلى حجرتي.
لم يكن للخبر وقع كبير في نفسي، فأنا أعرف مبالغات أمي. من عادتها أن تصوغ رسائلها بطريقة عجيبة، وقد جعلت من هروب أخي حكاية أشبه بحكايات أبي زيد الهلالي. وفي النهاية نجحت في قول: إنها لا تؤيد ذلك. لقد سبق أن أوضحت لي كيف كان الجنود الإسرائيليون يوقفونه على الحدود كلما حاول اجتيازها، أما هذه المرة، فمن يضمن لها أنهم سيتركونه يمضي إلى الطرف الآخر للنهر. كل هذا سببه أبي الذي لم يستطع إقناعه، وهو في السجن، بانتظار نهاية مدة عقوبته بعد أن فشلت كل محاولاته السابقة. لكن أبي كبر قبل الأوان، وهي لهذا تطلب مني العودة إلى الدار كي أعيد الأمور إلى نصابها. وقد حذرتني - إذا لم أعد بالسرعة المطلوبة - من تدهور حال الأسرة لدرجة يصعب بعدها إنقاذ ما يمكن إنقاذه، مشيرة إلى رسالتها السابقة التي تكشف لي فيها عن علاقة أختي العاطفية برجل لم يدخل قلبها، وأعلمتني أنها قدمت من أجلي طلبًا إلى السلطات الإسرائيلية للحصول على تصريح (( لَمِّ الشَّمل)).
لا فائدة. ورقة أخرى للدعك. أنا أعرف لماذا؛ لأن هذه تسمى كتابة بالإكراه، كتابة سيزيفية. الفكرة أجلى من الشمس، لكن القلم عنيد. العالم يقف في وجهي كالطود، وأنا لا أفعل أكثر من تحطيم المرايا. منذ ستة شهور، والأمور تسير من سيء إلى أسوأ. كنت قد أحببتها، رغم أني لم أكن أفكر يومًا في أن تكون نانسي الأمريكية هذه فتاتي. كنت أبرر ذلك بمعجزة الحب. بالإلهام. بقدر العلاقات العبثية. وبعد أن انقطع كل شيء بيننا، سألت نفسي إذا ما كنت أحبها. كانت لها طبيعة غريبة، بسيطة ومعقدة، طبيعة مركبة. كانت شفافة كضوء القمر، وفي داخلها جهنم. كانت الحلم، وكانت النار. كانت إرادة النار خاصة، تشعلها متى أرادت، وتطفئها متى أرادت. كانت ترعبني إرادتها. خلال ستة شهور ما فتئت تردد ((أحبك))، فطلبت منها الزواج، لكنها لم توافق. وقبل لقائنا الأخير، قالت لي إنها تؤلهني!
مرة أخرى، سأحاول الكتابة:
(( كنا نتبعثر هنا وهناك منهوكين. كانت نظرة واحدة إلينا تكفي لمعرفة أننا أناس حفرنا طويلاً في الصخر، وأن الشمس أحرقت جباهنا بالنحاس. كان لنا أنين واحد نتبادله كلَّ مساء كأنَّما هو ترتيل قدري، ونَفَس واحد يتصاعد رغم بطئه مع ذلك الخليط العجيب من رائحة الأحذية والعرق. كنَّا كالتماثيل التي تحاول النهوض، فقلوبنا، رغم الأسى، مترعة بالصمود، وكان النبض تحت.....)).
تحت ماذا؟ بحركة آلية دعكت الورقة، ورميتها. غبت قليلاً مع أفكاري، ثم تناولت الورقة، وفردتها. قرأت ما جئت على كتابته، فاستحسنته، وبدأت أعيد صياغته مع بعض التعديل:
(( كنا نتبعثر هنا وهناك منهوكين. كانت نظرة واحدة إلينا تكفي لمعرفة أننا حفرنا في الصخر طويلاً، وأننا لم نزل نحمل على ظهورنا عبء الاحتلال البغيض، حتى الهواء علينا كان ممنوعًا. أحرقت الشمس جباهنا بالنحاس، وها نحن لا نستطيع التمييز بين قدم هنا ورأس هناك. كنَّا نرتمي على الأرض، وكان يتصاعد منَّا أنين واحد، نتبادله كأنَّما هو ترتيلٌ قدريٌّ كل مساء. كان لنا نفس صامد واحد مع ذلك الخليط من رائحة الأحذية والعرق. وكنَّا نتلوى على الأرض كالديدان، أو نتكوَّم على بعضنا كالحيايا. كان الليل المتساقط حولنا.....)).
لا فائدة. الكلمات تراوغ. تناوئ. تقاوم. تفلت. أمام عجز كهذا، كنت أتعارك حتى النزيف، أو أتداعى حتى النزيف.
(( نظرة واحدة إلينا تكفي لمعرفة أننا أناس مسحوقون وصامدون. كانت أنفاسنا المتشبثة بالحياة تتصاعد في أجواء الزنزانة مع ذلك الخليط العجيب من رائحة الأحذية والعرق. كنَّا مبعثرين هنا وهناك، بعضنا يتكوَّم، وهو يئن دون أن يفوه بكلمة، وبعضنا الآخر يتبادل همسًا بعض الكلمات. كانت هذه هي حالتنا في المعتقل، بعد أن يعودوا بنا من رحلة تقطيع الصَّخر كلَّ مساء.
نظرة واحدة إلينا تكفي لمعرفة أننا أناس مسحوقون، ولكننا عازمون....)).
إنه لمن المستحيل. لم تكن قدرتي على الكتابة فقط مستحيلة ولكن الأجواء التي أصورها أيضًا، الشخصيات التي أنحتها، هذه الشخصيات الفاقدة لذواتها، فالشخصيات الخالدة هي الشخصيات التي كل منها ذات وفكرة. كل شخصيات هيغو، كل شخصيات همنغواي، كل شخصيات فوكنر، كل شخصيات مورافيا، كل شخصيات محفوظ، كل شخصيات كازانتزاكي، شخصيات كل منها ذات وفكرة. كما أن الشخصيات التي لا تُنسى بناتُ الغربة، وكانت الغربة الحقيقية هناك، تحت الاحتلال، أقصى غربة. أية دار تريدني أمي العودة إليها، وأية أسرة تجعلني أنتمي إليها؟ والبلد، أي بلد؟ لم يكن موجودًا. البلد تحت الاحتلال هو المعتقل، المعتقل أينما ذهبت، وليس فقط وراء القضبان. كان على الناس الذين غدوا ماورائيين أن يحرروا البلد بإرادة ماورائية، أشبه بإرادة أخي، ذلك المجنون، ويجعلوا منه بلدًا أولاً، وأن يحرروني من عبء الانتظار، ومن عبء الكتابة. حتى الكتابة في هذه الظروف غدت عبئًا. دعكت الورقة، ونظرت من النافذة: كانت على الرصيف المقابل أنقاض عمارة. وفي الهدوء المطلق، انفجر صوت امرأة من الطابق العلوي:
- تعالى هنا، يا ماما الصغيرة!
أخذت خطوات تبتعد بسرعة، ولا تلبث أن تقترب ببطء. رفعت رأسي إلى السقف، وفجأة رنَّت بعض الصفعات:
- خذي! خذي! خذي!
انفجر ضحك وبكاء. توقف الضحك، وبقي البكاء. جاء صوت المرأة محتدًا مؤنبًا:
- كفى، أيتها العجوز! الناس نيام!
ثم ليّنًا طالبًا المغفرة:
- حقك عليّ، يا ماما الصغيرة!
وعندما لم تحصل على شيء بالمقابل، انهالت عليها ضربًا من جديد.
أمضت العجوز فترة، وهي تبكي. فجأة، صمتت، وسقط الكون في هاوية السكون.
لم أستطع النوم: رسالة أمي ونانسي وصفحاتي الخائبة عن المقاومة رغم أن كلَّ شيء قد سقط في هاوية الصمت. رحت أتقصى الخيالات حول النافذة، وأعاين خريطة لفلسطين على الجدار. كان ما دونها كرسي من كراسي البحر، وطاولة صغيرة. لم تكن الخيالات في حجرتي تتحرك، وكانت ستارة التَّل ساكنة. أين الحدود بين الساكن والمتحرك؟ بين الواقع والخيال؟ وعندما تُلغى الحدود، هل هو شرط الواقع علينا أم شرط الخيال؟ وفي وضع الغريب الذي هو أنا، هل يغدو الكذب صفة للأشياء؟ لأن الغربة مثل الكتابة كلتاهما استئناء. تذكرت ما كانت تقوله لي نانسي: ((الظلال في حجرتك كثيرة، ولكنها ساكنة لا معنى لها، كالظلال في القصور!)) كانت تريد أن تعبّر عن الحضور الوهمي الذي لنا، فتنتصب بجسدها العاري، وتأخذ في بعثرة الظلال إلى أن تهلك من التعب، ثم تسقط فوقي، والعرق يغسلها، وتهمهم: يا أميري! يا أميري! بينما أنا، كنت أراها تارة كبائعة هوى وتارة كبنك من البنوك.
فراقنا كان متوقعًا، ولكني لم أشأ تصديقه. كانت تقول لي: ((ستعيش سعيدًا دوني))، وكانت تقول لي: ((سنعيش معًا أكثر الناس سعادة)). هل سأجد غيرها؟ كنت أقول إذا ما ذَهَبَتْ وجدتُ غيرها، فرنسية هذه المرة. وفي فترات الأسى الشديد، كنت أنتظر في مكاني من سأجدها، وأنسج في خيالي القصص الطويلة. وعندما كنت أنشلُّ في عزلة تامة، كنت أصيح بمرارة: من أجل هذا! من أجل هذا!
في الصباح، نهضت فزعًا على صراخ جارتي العجوز، وابنتها تبكّتها:
- اخرسي، أيتها العجوز! أيتها العجوز العاقّة!
ارتديت ثيابي بسرعة، وخرجت إلى الشارع الممتلئ بضجيج الجرافات التي تصرُّ على إزالة أنقاض العمارة المقابلة. عبرت بعمال يصيحون، وهم يتبادلون الحديث فيما بينهم، دون أن يبالوا بعبوري، وقطعت الشارع كالغريب.

طلبت من أمينة مكتبة الكلية كتابًا لبارت، وأخذت مكانًا أعطيها فيه ظهري. كانت لا تتوقف عن الابتسام لي، فتصدمني بصفرة أسنانها. وكان جسد الحوت الذي لها لا يثيرني، وأخاله أحيانًا يريد التهامي. كنت أحسُّ بثقل نظراتها على ظهري، فأشعر بالتعب. متى سيكون بإمكاني البدء بكتابة أطروحتي والتوقف عن البحث في الكتب؟ أزحت بارت جانبًا، ووجدتني أفضُّ رسالة أمي خارجًا عن إرادتي: (( لقد هرب أخوك من السجن في الليل، وأخشى أن يضيع طريقه. إنه في حسابنا، أنا وأبوك، لم يزل طفلاً لا يتجاوز التاسعة عشرة. أنت أيضًا ستبقى في حسابي، أنا وحدي، طفلي الذي لا يكبر أبدًا، في الوقت الذي أدعو الله فيه أن يجعلك موفورًا بالصحة والسعادة، وأن يهبك العمر المديد. لذلك أخبرك بأنني في قلق دائم ووسواس مُمِضٍّ، فإذا فقد أخوك طريقه، معنى ذلك فقداني له إلى الأبد، وضياعه الذي لا مرد بعده. ثُمَّ، سأقول لك بكل صراحة، إنني لا أحتمل قسوتك أولاً، وقسوته ثانيًا. أنت في غربتك التي لا معنى لها، وهو في تمرده الذي لا معنى له. هنا لدينا جامعات ليست بقيمة السوربون هذا صحيح، وعندنا شباب ليست لهم أفكار تماثل أفكار أخيك. ليبقَ هذا الكلام ما بيننا، إذ لا يمكنني قوله على مسامع الناس، حتى ولا على مسامع أبيك. أولاً لأنه متأثر كثيرًا بعملة أخيك، فأخشى أن أسبب له مضاعفات هو في غنى عنها. وثانيًا لأنني أخاف أن أثيره ضدك، وأدفعه دون إرادة منى إلى أن يقطع عنك ما يبعثه لك من مصروف أول كل شهر. أنت تعرفه صعب المراس، وعلى الرغم من تبدله لكبر سنه، فإنه لم يزل صعب المراس. وما يهمني أكثر من أي شيء لهو أمر راحتك النفسية على حساب راحتي أنا النفسية. أنت تعرف جيدًا أنني أفضل بقاءك إلى جانبي دون شهادة، على أن تكون بعيدًا عني بشهادة، حتى ولو كانت أعظم شهادة، كالدكتوراه التي تسعى للحصول عليها. وفوق ذلك، بعد عملةِ أخيك التي تكررت، والتي لست راضية عنها مثلما سبق أن أخبرتك، صرنا هذه المرة على كل لسان، وقد أكبرنا الجميع ممن نعرف وممن لا نعرف. قال الجميع عنه: ((ولد شهم! ذهب في الليل ليعود في النهار. هرب من سجون الاحتلال ليعود محررًا إيانا من رِبقة الاحتلال)). ولا أكتمك أن الحاكم العسكري قد استدعى أباك قصد استجوابه، وأراد أحد جنود الاحتلال أن يلطمه على وجهه لطمة قوية لولا أنه سارع إلى إعلان البراءة من ولده. أرجو أن تعذره، يا عزيزي! أنت تعرف لو أن الجندي لطم أباك لسقط ميتًا، وعلى الخصوص أنه مريض هذه الأيام، يسعل طوال الليل، وينهض قبل آذان الفجر دون أن يأتيه النوم، الله يساعده! إنه يفكر فيكم يا أولاده واحدًا واحدًا، كيف كنتم، وأين صرتم، وفي أي جحيم؟ وأظنني أعرف السبب لكل هذا، لقد تقدمت به السن كثيرًا قبل الأوان، وصار عاجزًا بما فيه الكفاية. لهذا عليك أن تحضر إلينا، ولو لعدة أيام. احضر إلينا بالسريع العاجل لتقف بنفسك على كل ما يجري في الأسرة، وإلا تقوضت أركانها تحت جرافات العدو! ولا داعي لتذكيرك بأن أختك تمهد للزواج ممن حكيت لك عنه في رسالتي السابقة، لعنه الله ولعنها! أنا أشتمُّ في الجو ما يبعث علينا، وعليك أنت على الخصوص، يا أخاها الأكبر، العار والشنار، فحذار والتهاون في أمر كهذا. لا تنسَ أن لك ثلاث أخوات أخريات، فأي مستقبل سينتظرهن إذا حصل وهربت معه؟ وأي ((عيب شوم)) إذا ارتكبت أختك مثل هذه الجريمة؟ أخوك رفع رأسنا بين الناس، وأختك سترميه لنا في الوحل! يا للعار! بالأمس صفعتها صفعة شديدة جعلتها ترقص على إثرها، وأردت أن أعضها من إليتها لكني لم أفلح. أقسم لك إنها المرة الأولى، لنقل المرة الثانية التي أرفع فيها يدي عليها منذ أن بلغت وصارت فتاة. ولكن ذلك، كما تعلم، في مصلحتها، وأنا لا أخطئ أبدًا، وعلى الخصوص في أمور حساسة كهذه، أمور الحب والغرام. لقد شرحت لك كل شيء بالتفصيل في رسالتي السابقة ولا داعي للتكرار. يجب حضورك)).
غربتي التي لا معنى لها! ظلالي التي لا معنى لها! حياتي التي لا معنى لها! هنا أو هناك أو في أي مكان في العالم! مرة أخرى، أشعرتني كلمات أمي بكوني غريبًا عن نفسي، منذ قليل كنت غريبًا عن الناس، والآن أنا غريب عن نفسي. أشد غربة من ذي قبل. عندما التقت عيناي بعيني نديم، أشار إليّ من باب المكتبة، وهو يفغر فمه الكبير، ويبتسم بإعزاز فيه لذة خاصة. قمت من مكاني، وذهبت إليه. قال لي:
- إنه موعد سيجارتك.
وأعطاني سيجارة، أشعلها لي، ثم أخذنا نقطع الممر الطويل، كما هي عادتنا، ذاهبين آيبين.
- يجب أن أوقفه.
- ماذا؟
- الدخان.
- لماذا؟
- أشعر بوجع شديد في معدتي.
لكنه كان يفكر في أمر آخر. فجأة، قال لي بنبرة شديدة الاستثارة، وهو يصنع تفاؤله:
- وجدت عملاً.
ربما كانت المرة العشرين التي يجد فيها عملاً صغيرًا دون أن يشغله أبدًا. وكان يعلل ذلك تارة بسوء الطالع، وتارة بسوء الأوضاع. أضاف غير منتظر رد فعلي:
- منظف! مهما يكن من أمر، المهم أني وجدته.
- أين؟
- في شركة طيران عربية. إنه، كما ترى، عمل بين
((أقارب)). سأعمل كل ما في وسعي من أجل تلميع الواجهة الزجاجية أكثر من حذاء ليرى فيها كل عابر صورته. وسأحذق في تطبيق كل تجارب علماء المماسح في تنظيف المراحيض مستعملاً أحدث مبتكرات المساحيق في عالم القذارة، أقصد النظافة؛ وسأبدع أكثر من أي منظف في العالم في إزالة أوساخ أرضية المحل.
قلت له وأنا أبتسم للصورة المسخية التي رسمها لنفسه:
- يبدو أنه يزعجك عمل كهذا.
فقفز للمفاجأة:
- يزعجني! يزعجني كيف؟ هذا عمل ملوكي إلى جانب الأعمال الأخرى التي وعدت بها، والتي بقيت تنتمي إلى عالم الأحلام. إنه عمل ليس له مثيل.
تباطأ قبل أن يأخذ نفسًا بين لذة الأمل ولذة الخوف:
- آه لو أوفق في الحصول عليه هذه المرة!
- ألم تتفق معهم؟
- لم أتفق معهم بعد، ولكن سيتم كل شيء كما يجب. مدير الشركة الحالي صديقي. تعرفنا على بعضنا، أول ما أتيت، في أليانس فرانسيز. كم كان بليد الذهن! وكنا نسكر معًا على حسابه.
نفخ سيجارته، وغطى نفسه بالدخان بينما راح يحرك رأسه بمرارة كأنه لا يلوم إلا ذاته. لم يكن ذاته، كان ذاته، ولكن بطريقة أخرى، وبشكل آخر.
همس نديم بحقد وأسى ويأس:
- الله يعطي الجوز لمن لا أسنان له! ها هو الآن في منصب يحسد عليه.
وما لبث أن عاد إلى القول بحماس زائف:
- سأذهب إليه غدًا، وستسير الأمور على أحسن ما يرام.
- كيف عرفت؟
- عرفت ماذا؟
- أن هناك عملاً.
- قال لي صديق حميم لصديقي المدير.
- ولماذا لا تذهب إلى مقابلته الآن؟ سيأخذونه منك.
- لن يأخذ منى أحد هذا العمل. أنا متفائل هذه المرة. سأذهب غدًا.
تأملته، فوجدته يغرق دومًا في محيط من الحقد والأسى واليأس. وقفنا قرب نافذة الممر الطويل التي تطل على حديقة مهجورة، فقال نديم بحماسه الزائف إلى الأبد:
- ولن يقف الأمر عند ذلك، فأنت لا تدري، لربما يحصل أن يترك أحدهم منصبه في المستقبل، فيضعوني مكانه، هكذا يصبح لي منصب إداري.
أضاف بطمأنينة خادعة:
- كل شيء ممكن.
راح يقرص شفته، وهو يبعد عن خياله التوقعات المخيبة دون أن ينجح.
قلت له:
- هذا إذا ما أثبت جدارتك كمنظف.
فقفز من جديد، أشبه بحشرة لطيفة تحاول تبديل شكلها في كل لحظة إلى شكل آخر أكثر لطفًا أو أقل لطفًا، وراح يحرك سيجارته قرب أنفي:
- لا، لا، كن مطمئنًا، إنني صاحب جدارة! ليس في هذا الميدان، لكني صاحب جدارة!
وسكت دفعة واحدة، وقد زحفت على وجهه أمارات الشك والتساؤل وعدم اليقين، وبدا يسقط في هالة من الشعور المشوش تحيط بالشعور الجليّ:
- أتظن أن الأمور ستسير على ما يرام؟
ابتسمت دون أن أعلق، فعاد يسأل:
- ماذا تقول؟
- كنتَ واثقًا منذ قليل.
تلعثم نديم:
- نعم، أقصد، لكني لم أرَ بعد المعنىّ بالأمر. وعلى أي حال، مثلما قلت لك، إنه صديقي.
بدأت أساريره تتحلل وآماله تتركب:
- تصور، تصور أن الأمور ستسير على ما يرام، وأني منظف، ثم موظف، ولربما عملت في مكتبهم الذي في أورلي. إن لهم مكتبًا هناك كما تعرف، مكتبًا فخمًا حسبما قيل لي. وعلى أي حال، مكاتب الطيران في أورلي كلها فخمة! إذا ما عملت هناك، ستتبدل حياتي كلها. ولا تنس أنهم يدفعون جيدًا لموظفي شركات الطيران.
ثم قال فجأة:
- عند ذلك، سأستغني عن ليندا.
وجمجم بنوع آخر من الحقد، ليس الحقد الأعمى ولكن البصير المستوعب لقدر الذات في لحظة من لحظات الاستسلام القصيرة والتي يمكن أن تدوم طوال العمر أحيانًا:
- بدأت تهينني.
- قلت لي إنها تحبك.
- أشك الآن في أنها تحبني.
- إذن؟
- لم أعد أحتمل، تظن أنني خلقت كي أكون تحت إمرتها.
- لكنك قلت لي إنها تحبك.
- فقط ونحن في السرير.
- إذن؟
- أشك الآن في أنها تحبني.
سحقت سيجارتي، وشعور بالسوداوية يسيطر عليّ، وقلت:
- سأعود إلى المكتبة، عليّ أن أعمل قليلاً.
- ألم تبدأ بعد في كتابة أطروحتك؟
كذبت:
- بدأت.
- على أي حال، لديك كل الوقت، وحوالة أول كل شهر.
لم أعلق.
- وروايتك؟
كذبت للمرة الثانية:
- على وشك الانتهاء.
- لا بد أن أكتب روايتي أنا يومًا. وصديقتك الأمريكية، ما هي أخبارها؟
كذبت للمرة الثالثة:
- جيدة.
- لم لا تتزوجها وترتاح؟
كذبت للمرة الرابعة:
- سأتزوجها.
- عَجِّلْ، يا أخي، وخذها معك، ستفلق عيون كل الحساد، وستكون بها أمك فخورة.
آخذها معي؟ إلى أين؟ كانت بالأحرى أمنيته هو دون أن يكون واثقًا على الإطلاق.
أضاف يسأل كالمعتاد:
- ما هي أخبار الأهل في الضفة؟ معنوياتهم؟
كذبت للمرة الخامسة.
- قوية كالحديد.
كانت تلك هي الحياة التي لا معنى لها، حياة مليئة بالأكاذيب. وصلتنا ضوضاء الطلبة الخارجين من القاعات، ضوضاء وحش مفترس، وضجيج قوة فاعلة، والعالم غير مبالٍ. كان نديم قد بُهت لما يجري حوله، سمعته يهمهم بكلمات غير مفهومة، كلمات من لا يجد نفسه، ولا يجد مكانًا يذهب إليه، وخُيِّلَ إليّ أنه يترنح.




الفصل الثاني
لماذا أتى نديم إلى باريس؟


في تلك الليلة، كنت أتلوى كالدود في حقل النار، كانت الزنزانة مرعبة، وأنا حزمة من الوجع والرضوض بعد أن أوسعوني بقبضاتهم ونعالهم ضربًا. إنهم جنود أبي. أمرهم بأن يأتوا بي، فحطموا كلَّ ما في المقهى. غلوا يديّ، وفي سيارتهم العسكرية رموني. كان أبي شاويشًا للسجن، قضى حياته مع السَّراقين والقتلة وقطاع الطرق والمساجين السياسيين. كان يعتبرهم قاصرين، ويجعل من نفسه قَيّمًا عليهم، طالما ظلوا طوع يديه. كان عليه أن يكون جهنميًا، وكانت تنهال عليه النياشين. لماذا يا ترى غلوا يديّ، وأوقفوني؟ كنت قد فتحت مقهى في المخيم، مخيم الوحدات. قرب الجامع. أنا وبعض الأصدقاء. كانت أيام عطلة. عندما سمع أبي بذلك، جن جنونه: ابنه قهوجي!
في المرة الأولى، لم يفلح أبي في إيقافي، بسبب تدخل إمام الجامع، وبعض الفدائيين. أتعرف؟ صارت مقهانا ملتقى فكريّاً، فيها تعقد الندوات، ندوات من كلِّ نوع، أدب وطرب وسياسة. ثقفنا الإمام، فصار منَّا. طلب من إسكندر بعض الكتب، سمعته يهمس في أذنه كمن يفضي له سرّاً: ((الكتب الحمراء)).
ذاع صيت المقهى في جميع أرجاء المخيم، وحتى من أقاصي عمان، من جبل اللويبدة وجبل الحسين، كان لنا زبائن. رغم بساطة أثاثنا وأدواتنا: كراسي قش قصيرة، وصحاحير، وفناجين قهوة ألمنيوم. فدائيون بأسلحتهم، وفدائيون بلا أسلحتهم، ومثقفون بكتبهم، ومثقفون بلا كتبهم، علماء، وجهلة، وأميون، ومعربدون، ومحششون، ومجانين، ومماحين، وملاعين، وكرخنجية، وسكرجية، وأونطجية من كل نوع. كانوا يفرشون بطانية على الأرض ويلعبون الشدة، ويتناقشون، ويتصايحون، ويتضاربون.
استطعت أن أجمع بعض المال، واشتريت بدلة. عندما لبستها، دعوني (( بالعريس)). قالوا: متى سنزوجك، يا أبا الندامة، لنشعل المخيم بالنار؟ أمام فرحي وخجلي، حمَّسني الإمام، ووعد بأن يزوجني ابنته الصغرى.
كنَّا ننام أنا وشركائي في المقهى، مما زاد من سعار أبي. كان سرسريّاً منذ مولده، وقد أراد أن يستعمل الحيلة معي، بعد أن فشل جنوده في غلِّ يديّ أول مرة. بعث أمي تطلب إليّ العودة إلى الدار، لكني طردتها رغم أنني أحبها كثيرًا. هي الوحيدة التي أحبها في العائلة. أحب أيضًا أخي محمود، أبو الرخ، كنا ندعوه هكذا. أبو الرخ. ترك المدرسة، وانخرط في المقاومة. كان يقوم بالعمليات. عمليات في الأراضي المحتلة. وكلما سمح له الوقت، كان يأتي إلى المقهى، فيأخذ كأس شاي. كان يغني معنا عندما نغني، وكان يرقص معنا عندما نرقص. كانت لنا أغنيتنا الخاصة، بل بالأحرى أغانينا التي يكتبها ويلحنها مطرب المقهى الحاج داود. كان يعرف عبد الوهاب، ويعزف مثله على عود مصدّف. في الماضي، قال الجميع عنه إنه مطرب فاشل. كان ذلك قبل حرب 67. لأن الحظ لم يحالفه لا في الإذاعة ولا في نوادي الليل. مع أنه فنان بحق. إنهم لا يبحثون عن الفنانين الحقيقيين في هذا البلد، لأنهم يخافون على أدواتهم الموسيقية، أقصد على كراسيهم الجهنمية، خاصة في المخيم. هناك فتيات جميلات وقعن في غرامه، رغم أنه دميم، وعمره يقارب الخمسين. كان العمال يأتون إلى مقهانا ليسمعوه، فيطلبون قهوة، وأحيانًا يشربون كازوزة. كان يغني عن الثورة، وللثورة، وكان الصبية، من الأشبال وغير الأشبال، يصفقون له بحب وحماس، بينما كان بعض الرواد يرميه بعبارات المديح والإعجاب. من أغانيه الشهيرة عن فلسطين ((شعبي هَبَّ)).
تقول كلمات الأغنية:

(( زغرط يابا
زغرطي ياما
أنا داخل والله عالحرب
ما عادش يهمني شيء
شعبي والله شعبي هب
ما عادش يهمني شيء
طلقات الغالي عناب انكب
ما عادش يهمني شيء
خي وعمي وابن خالي وابن خي
صحب بصحب
ما عادش يهمني شيء))

وأغاني أخرى، أغاني كثيرة. مثلاً هناك الأغنية التي افتتحنا بها المقهى:

(( قهوتنا على وسط الشارع قهوة صغيرة
فيها شاي فيها كاكاو بقرش وتعريفة
يا الله تعالوا... شرفوها
يا الله تعالوا... جربوها
كل ما تطلبوا فيه عنا
بس ما تبعدوا عنا
ملبس حلقوم شكلاطة
وإذا حبيتوا فيه عنا بطاطا
بـ...ط...ـا....طا))

في آخر الشهر اشتريت لأمي هدية، وبعثتها إليها مع أخي الصغير. أوصيته أن يقول لها هذه الهدية من (( أبو الندامة)) ولدك، وهو دومًا كما تعهدينه رجل! رجل وصارت له زعامة! كان الكل يأخذ برأيي. حتى الإمام. شددت مرة لحيته منتهكًا كل الحرمات، فزع في البداية، لكنه اعتبرها مزحة. ومنذ ذلك الحين، صار يخشاني، ويطلب مني أن أحكي له عن شقاوتي المدرسية. لا أذكر تمامًا لماذا شددت لحيته؛ ربما لأنه تأخر عن دفع ما يستهلكه من قهوة وشاي لأسبوعين متتاليين، فقد كنَّا من العادة أن نلبي طلبات بعض الزبائن على الحساب، بالدَّيْنِ. كررت على مسامعه حكاية المظاهرة التي قمت بها وحدي يوم الهجوم الإسرائيلي على قرية السموع، والتي هزَّت عمان هزّاً، وفي كل مرة أحكيها له، كان يطرب طربًا ما بعده طرب، ويشرب نارجيلة دوبل، يحشوها بحشيشة سرّاً. كانت تلك حكاية حقيقية. احتللنا الباصات، وتوجهنا إلى السفارة الأمريكية. كانت الجماهير وقتها بحاجة إلى صرخة من حلق قوي، فأطلقت الصرخة. وقع ذلك عند الجامع الكبير، فالتف حول جمهرتنا الصغيرة، أنا والأصدقاء، خلال فترة قصيرة، عشرات الآلاف. في اليوم التالي، وجدنا في الشوارع بيانات من شتى الأحزاب السرية وغير السرية، يدّعي كلٌّ منها بأنه المسؤول عن تنظيم المظاهرة - القذرون! - حتى الشعارات التي كتبناها على ألواح الأردواز بالطباشير.
كل هذا لم يكن يروي غليلي، لم يكن يشبع نهمي، لم يكن يرضي غروري، وأنا المتمرد منذ كنت طفلاً صغيرًا. كنت أقرأ كلَّ ما هو ثوري، ولو قالوا لي إن التوارة كتاب ثوريّ لقرأته. ولم يكن الأمر يقف عند ذلك، كنت دائمًا مشترطًا ومعترضًا، أرفض كل رأي مخالف لرأيي. أنا اليوم لا أرفض ولا أقبل لأن لا رأي لي، أما في ذلك الوقت، فقد كنت أمارس الترجيس الفكري إلى حد الاستهتار بكل شيء. كانت تمر بنا كل يوم سيارات فدائية فيها قادة ومسؤولون، فأتقدم لأعترض طريقهم، لكنهم كانوا دومًا مسرعين، وإذا توقفوا قليلاً، قالوا لنا: ((النصر قريب))، وتمضي سيارات القادة، ونحن في مقهانا نغني عندما نتعب من الحديث عن النصر القريب، وعندما نراهن على العدو الذي يتقهقر، والتحرير.
ماذا أقول لك أيضًا؟ لما تمكن أبي من إلقاء القبض عليّ، أقفل جنوده المقهى، بعد أن حطموا كل شيء فيها. حطموا كبرياءنا وكل أحلامنا. حطموا أقدارنا. حطموا ما كنا نظنه حريتنا، ومعها كل أوهامنا. كان أبي قد زجَّني في زنزانة مرعبة، تسع البني آدم بالكاد، قلت لك في البداية. وفي الصباح، أمر بضربي لآخر مرة قبل أن يعيدني إلى الدار. استقبلتني أمي، وهي تلطم، وتبكي. ولكنها بدلاً من أن تبوس لي جراحي، ضربتني، لأني لم أكن طائعًا، ولأن كل ما فعله أبي فيّ كان سببه عنادي اللامجدي. كنت قد بقيت لأيام طريح الفراش، وعندما استعدت بعض قواي، ذهبت إلى أبي، وهو يشرب نارجيلة في إحدى مقاهي البلد، وكأنه سيد البلد والعالم. جذبته من خناقه، وأنا أصرخ في وجهه:
لن تكون أبي بعد اليوم، أيها المجرم!
بعد عدة أيام، تركت عمان، وأنا أنوي تركها إلى الأبد، وترك كل ما لي فيها من ماض، أردت أن أمحوه تمامًا، كما تمحى الآثار على رمال الشواطئ، وعملت أوتوستوب قاطعًا سوريا، فآسيا الصغرى، فأوروبا، إلى باريس.



الفصل الثالث
حوار في مقهى الكاروس


قلت لعادل، وأنا أسحب كرسيّاً تحتي:
- ما هذه الأناقة، أيها الرفيق!
ارتسمت بسمة على شفتيه، بسمة المزهوّ بنفسه. أضفت معتذرًا:
- تأخرت عليك قليلاً.
- لم أطلب قهوتي بعد.
ذقن حليقة، براقة، شعر فاحم، غزير، سالفان كثيفان، متماوجان، وجه أشبه بقناع الموتى الأثرياء أو بالاسم المستعار. كنزة صوفية حمراء... حمراء...
قال لي:
- ما رأيك لو تناولنا طعام الغداء؟
- الأمر عندي سيان، لكني لا أشعر بالجوع. سنأخذ قهوة أولا.
فابتسم مستجيبًا.
سأل النادل الذي يعرفني جيدًا:
- اثنان قهوة؟
قلت له:
- نعم.
ألقيت نظرة من حولي: طلاب وطالبات من كل صنف، كانت المقهى تقع قرب الكلية، وصار يضايقني أن أرى كل أولئك الطلبة. كانوا بالنسبة لي عبارة عن كتلة صماء، أشبه بالجِرم السماوي. سمعت النادل يقول لأحدهم:
- الكحول ممنوع.
- ممنوع!
- نعم، يا سيدي، ممنوع. لدينا بيرة، ولكن بلا كحول.
قلت لنفسي: هذا واحد غريب عن المقهى، لا شك في ذلك. ليس طالبًا. واستتباعًا لذلك، نهض، وذهب، وأنا ألاحقه بعينيّ. أعادني صوت عادل إليه:
- سيكون هناك إضراب.
أشار إلى مجموعة من شبان أحزاب أقصى اليسار الذين يلصقون بمكانسهم المصمغة إعلانات على واجهة الكلية تحث الطلبة بخط عريض على إنجاحه.
- لقد اعتدنا ذلك.
إضراب لماذ؟ لم أتبين ما يريدون، وهم على أي حال لا يحتاجون إلى سبب، والجامعة حكر لهم. فجأة، أضاءت عينا عادل الفاحمتان. وضع على الطاولة محفظته، ففهمت كلَّ شيء. قلت ببسمة واسعة:
- يبدو أن حصادك كان جيدًا اليوم.
- كان جيدًا، ولكن ليس جيدًا جدّاً كالعادة.
بدأ يخرج الكتب اثنين اثنين، ويصفها أمامي.
- كلُّ هذا، وتقول ليس جيدًا جدّاً!
راح يضحك ضحكة خافتة متقطعة، وهو يهتز لشعوره بالرضى العميق.
- سيلقون القبض عليك ذات يوم.
- أنا حذر تمامًا، أدعهم يراقبونني ما شاء لهم إلى أن يصيبهم العياء، فإذا ما انصرفوا عنِّي بناظرهم قليلاً، يكون كل شيء قد تَمَّ. بالأمس مثلاً جعلت أحدهم يلطش قاموسًا.
تركت تقليب الكتب، وتأملته باستغراب. كان عادل كمن يسرق ذاته، كان لا يمكنه الصمود أمام كتاب غلافه جميل، ولا يهم أن يكون موضوعه مهمًا أم لا. أما إذا كان الموضوع مهمًا، فالكتاب يغدو كل شيء بالنسبة له، يغدو العالم بما فيه.
أضاف بنبرة عسكرية:
- كان معي صديق من (( تور))، في اللحظة الحاسمة قلت له: ((احمل القاموس!)) فحمله بجرأة لامتناهية. وضعه في جريدة، وبدا رائع الجمال. كانت تجربته الأولى، دون خوف أو اكتراث، لكن الحق يقال إني كنت أخفيه بظهري. قاموس لاروس بحاله! هل تتصور؟ في الخارج، كاد يسقط في نوبة عصبية، راح يصيح ويقهقه ويقفز ويصفق في وقت واحد. كان فعله الذي انتظره طويلاًً كي يتخلق بأخلاق عصره، فعل لم يلزمه من أجل إنجازه أكثر من بضع دقائق، بينما هو يأسن هنا منذ سنين طويلة.
راح عادل يتصفح كتابًا لألتوسر، فتطلعت إلى لوحة تمثل عربة معلقة على الجدار فوقه، كانت الخيول تنطلق بها بأقصى سرعة.
عاد عادل إلى القول، وقد أخذ شكله شكل الزائغ النهلستي:
- بعد جولتي اليوم، قلت: ستكون آخر مرة، فبعض أصحاب المكاتب قد ضاعف الحراسة. ولكن، إذا أردت، زرنا ((الرفيق)) ماسبيرو. هو الوحيد الذي إذا أمسك بك لا يسلمك إلى الشرطة. يأخذ منك الكتاب بلطافة، ويقول لك: ((سيدي، لا تعد ثانية!)) وفي النهاية، ماذا سنفعل؟ هو باستطاعته أن يحتمل سرقة بعض الكتب، أما نحن، فلا. شراء كتاب واحد في الشهر ينهك ميزانيتك، فكيف إذا ما كنت بحاجة إلى عدة كتب؟ إنها كتب باهظة الثمن لمثقفين بورجوازيين، ولحصول أمثالنا عليها ليست هناك إلا هذه الطريقة، وإلا لما استطعنا القراءة. ثلاثة أرباع أمثالنا من المثقفين المحدودي الدخل يحصلون على كتبهم (( بالمجان)). طلاب الجامعة، المساعدون، المكلفون بإعطاء الدروس، المثقفون الصغار من كل صنف. انظر إلى أسعارها...
أشار إلى رقم في أعلى الصفحة الأولى:
- تسعة وأربعون فرنك. شيء لا يصدق! والمذهل في الأمر أن دور النشر لا تأخذ بعين الاعتبار إذا كان المضمون ثوريّاً أو غير ثوري. وعلى العكس، إذا كان المضمون ثوريّاً رفعت السعر. لا أدري أبسبب رواجه أم للحيلولة دون رواجه؟ مع العلم أن تكلفة النسخة الواحدة لا تزيد في الواقع عن أربعة فرنكات.
كان عادل لا يقول شيئًا ذا قيمة، مما جعلني أشعر بالسأم. عدت أفحص اللوحة، فسألني:
- فِيْمَ تحدق؟
أشرت إلى الخيول والعربة:
- هناك عربة وخيول مندفعة، وقد اكتشفت أنها دون خَيَّال، وهي مذعورة من اندفاعها.
استدار، ورمى اللوحة بنظرة غافلة، وأنا أفكر ماذا لو تفلت روحي كهذه الخيول دون أن يستطيع أحد كبح جماحها، أن تفلت بكل حرية. لم يكن عادل يفكر مثلي، كان يسعى من وراء هاجس الكتاب الرخيص أو غير الرخيص والذي في كلتا الحالتين لن يشتريه ليبرر سرقته لذاته، وليس هذا فقط بل وادعاء المعرفة الهائل الذي لديه. عاد عادل يقول:
- تصور أن تكلفة النسخة الواحدة أربعة فرنكات فقط، وهم يبيعونها بأربعين أو خمسين أو حتى سبعين. هم يجنون أرباحًا خيالية! أتظن أن مثل هذه السرقات الصغيرة والشريفة تزعجهم؟ أبدًا. إنهم يستعيدون نفقات الطباعة من بيع النسخ الأولى. ونحن، لهذا، من واجبنا توجيه ضربات قاضية إلى الرأسمالية الحقيرة هذه سعيًا وراء قيم أدبية وأخلاقية تناسب عصرنا. يا سلام ! انظر...
رفع كتابًا عن المسرح السياسي عند بريشت، وراح يقلبه:
- انظر ما أفخم هذه الطباعة! غلاف مصقول بشكل جذاب، ورق أبيض من النوع الرفيع. ومع ذلك، فصناعة الكتب، لمطابع ضخمة، ما هي سوى تركيب صفحات بكل بساطة. ليقذفوها إذن في وجوه الناس كي يقرأوا، وكفى احتكارًا! إن الثقافة لا تحتكر، أليس كذلك؟ إنها ملك للجميع.
هدأ قليلاً قبل أن يسألني رأيي:
- ماذا قلت؟
كنت أفكر في الخيول الهارعة والعربة التي تكاد تنفصل وتنقلب من شدة العدو، وأصابني بعض الدوار. ووددت لو أسأل عادل لماذا بريشت؟ لماذا المسرح السياسي؟ لماذا الثقافة لا تحتكر؟ كنا في عالم كل شيء فيه يُحتكر، ونحن، ها نحن نتدبر أمر سرقتنا له وسرقتنا لأنفسنا معه. همهمت:
- كلُّ ما قلته صحيح.
لم أكن أكذب، ولم أكن أنافق، ولم أكن مثل نديم لا رأي لي، وإنما لأختلق عذرًا يساعدني على احتمال الدوار والاحتيال على وضع ألعب فيه دورًا. كانت الخيول الهارعة بالعربة على غير هدى، ولكن بعزم وتصميم، ما أود أن أكونه وأرغب فيه. أشار عادل إلى الناحية التي ذهب منها النادل:
- لم يحضر لنا القهوة.
التفتُّ إلى ناحية المشرب، ورأيته آتيًا، وهو يحمل الكثير من الطلبات في صينيته. همهمت:
- ها هو آتٍ.
سألني عادل:
- ما رأيك؟
- في ماذا؟
- في أن نكتب أنا وأنت مقالاً حول البعد الإيديولوجي للإبداع الفني، ونرسله إلى بيروت. سينشرونه بترحاب. وإذا أردت، كتبنا حول فكرة الاغتراب عند ماركس الشاب. هناك مقالة أخرى هامّة سنكتبها بعنوان ((نحو رؤية ماركسية لخصائص الأدب)). سنعلم أدباءنا الجهلة هناك ما لم يتعلموه من طه حسين والحكيم وجِيد صديقهما. ألم تقرأ العدد 26 من مجلة ((الإنسان والمجتمع))؟ يجب أن تقرأه. ليس عندك؟ سأهديك نسخة على حساب ((دراج ستور)) سان- جيرمان- دي- بريه. هناك مقال حول نظرية الأدب عند لوكاتش من اللازم أن تقرأه. إذا أردت سنقوم بترجمته لإحدى المجلات في دمشق، وإن كانوا لا يدفعون، الحق، جيدًا، ولكن...
وضع النادل فنجاني القهوة بطريقة احتفالية، وذهب.
قال عادل كمن وقع على القيمة المطلقة:
- ظريف هذا الجرسون!
- ولكن الخيول لماذا هي فزعة في العَدْوِ رغم إصرارها على الذهاب حتى نهاية العالم؟
فتح عادل عينيه دهشة:
- ماذا؟!
أشرت إلى اللوحة:
- الخيول!
قال دون مبالاة:
- لست أدري.
أخذ يحرك قهوته بآلية، وكأن يده انفصلت عن جسده متابعًا الحديث:
- يجب كتابة سلسلة من المقالات السياسية أيضًا، ونشرها تباعًا في الشرق. خمس عشرة مقالة، على الأقل، على الرغم من العمى القرائي. رقم قياسي؟ لا أعتقد. وبما أننا، في نهاية المطاف، سنذهب إلى بيروت للعمل، هذا إذا ذهبنا، بانتظار أن نذهب إلى القدس، ليس أمامنا أن نفعل إلا هذا. ليسمع عنك بعضهم على الأقل، ويقدّروا إمكانياتك. مثلاً، هناك مقال للكتابة حول مفهوم الصراع الطبقي كمحرك للتاريخ البشري. ومقال آخر تحت عنوان: ((تعمق البعد الطبقي في حركة الثورة العربية)). ثم هناك موضوع هام يجدر البحث فيه عن أزمة الثورة الفلسطينية، وعدم فهمها للبعد الطبقي العالمي والعربي في الصراع الدائر. إذا أردت، بدأنا بهذا. الظروف الحالية تستوجب ذلك. ما رأيك؟
كان عادل يريدني أن أشاركه سرقة الوهم بعد سرقة الذات، كنت أحس بزيفه، وتمنيت لو أنني أصبح مثله كي أحتمل وضعي. صحت:
- العربة تكاد تفلت، تكاد تتحطم!
اندهش:
- ماذا تقول؟!
أشرت إلى اللوحة:
- العربة!
ألقى نظرة عابرة على العربة، وابتسم لي مشفقًا:
- أنت متأثر بهذه اللوحة.
نفيت، ولكنه أكَّد:
- بلى، أنت متأثر بهذه اللوحة. هل هي مقهاك المفضلة؟ في المرة القادمة، سألقاك في مقهى بالحي اللاتيني. ماذا قلت عن كل هذه المشاريع؟ إذا أردت، بدأنا الأسبوع القادم. ستأتي لتنام عندي. يحتاجنا المقال الواحد إلى ثماني ساعات عمل متواصل. يجب أن نكتب. يجب أن نتصرف. يجب أن ننتج. هناك أيضًا كتب جيدة تستحق الترجمة. ليس فقط في الفلسفة. ستبوس يدك دور النشر في بيروت من أجل ترجمة رواية، نعم ستبوس يدك، أقولها بلا خجل وبكل موضوعية، ولا تنسَ أنهم يدفعون جيدًا. هناك مجموعة مقالات لألتوسر. عندي عدد منها لم تترجم بعد. سيكون سبقًا ثقافيّاً ليس له نظير. المهم أن نعزم على ذلك. سنقسّم المقالات بيننا، ومن اللازم ألا تطول مدة الترجمة، وإلا سبقونا إليها. لا، من الأفضل أن نترجم سويّاً. تعال وأقم عندي مدة عشرة أيام. مدة كهذه تكفينا. ولن نحتاج إلى ذلك الجهد الذي تتصوره، فأنا أعرف كل المصطلحات التقنيّة، وفي رأسي كل المعارف المطلوبة. ما رأيك؟ ثم، هناك كتب جيدة لم تترجم بعدُ لغرامشي، أو عن غرامشي. المجالات واسعة كما ترى. وستجدني أستحثك معي على...
قطع حديثه فجأة، وسألني:
- ماذا عن روايتك الجديدة؟
كان يريد أن أشاركه حتى عالمي التخيلي، أن أشاركه فن التلفيق الذي لي، وفي نفس اللحظة، انطلقت موسيقى مصدرها جهاز الأسطوانات، وراحت الخيول تصهل، وتضرب بعضها بعضًا، وانفصلت العربة، فرفعت عقيرتي بالشَّكاوَى:
- إنني أمزق أوراقي.
بدا عليه الإحباط، لم يكن يتوقع ذلك، والخيول تداوم على الانطلاق بجنون. انحنى على نفسه، وبدا مكربًا، ولكنه كان صادقًا، وقال:
- ما عليك سوى الانتظار.



الفصل الرابع
خبز وحب( )









أبي يحب المغامرة!
كانت لعمي قطعة أرض، ولأبي دكان تجارة. باع أبي الدكان، وبثمنها بنى فوق أرض عمي عمارة. كان حلمه أن يصبح مالكًا، وصار مالكًا، وصار عمي مالكًا، وسكنّا في شقة من ((عمارتنا))، ثم أتى الصهاينة بعد ثلاثة أشهر، وطردونا. لم يجر شيء من هذا في جحيم دانتي، وإنما في صفد.
في بيروت اشتغل أبي بالتجارة، كان ذلك بالنسبة له كمن يطّلع على سر، ويتدرب على فلسفة. وعندما أقام في دمشق، اشترى دكان بقالة. سكنا المخيم، وعملنا جميعًا في الدكان، للترابط والتكافل، ولكن أيضًا لتواشج ظاهرتين. لما عرضوا على أبي أن يبادل فرنًا بالدكان، وافق، وبادل فرنًا بالدكان، وعملنا جميعًا في الفرن. لم يكن الخوف من المجهول وراء كل قرارات أبي، ولكن ككل مخاطر بحياته ليخالف مجرى المقادير.
كلما فكرت في أيام الطفولة، لجأت بخيالي إليه، إلى الفرن: أرغفة الخبز المتفتحة كالورد، الساخنة كصدور البنات، والنار الحمراء، ورائحة الحطب الرطب، كان الفرن بالنسبة لنا عالم الطفولة وكل فلسفة أوغست كونت.
أيام الشتاء، كنا نلتقي دومًا هناك، أنا وإخوتي الصغار، وكنا نساعد أبي في العجين. كانت متعتنا، وكأننا نعجن الوجود بأيدينا. وأنا أبيع أرغفة الخبز للناس، كانت وجوه الجميع تبتسم. كان لا يمكنهم أن يعبسوا في وجه الله، فالرغيف على صورة الله، وليس فقط الإنسان. إنه خبز القمح الساخن الذي يغدو بلون البرنز ولون التفاح ولون الشهد! كنت أقول لأبي: ((يا أبتِ، النار تحرق وجهك، دع مكانك لي)). في البداية كان يرفض، كانت له علاقة سرية بالنار وباللهب وبجهنم، وفي النهاية كان يدع لي مكانه رغمًا عنه. كان مكانًا واقعًا في قلب كل تلك الظواهر اليقينية.
كنت أبعث إلى النار حطبًا، فتتوقد بلهفة من يعشق، ويُذَل، ويُدَمر، وكان المكان يصطبغ بألف ضوء أحمر، وأخضر، وأحمق. كنت فيلسوفًا دون أن أدري، أعرف كل هذه الوقائع، وكنت أقول لأبي: (( يا أبتِ، أرغفة الخبز كثيرة))، فكان يطلب إليّ أن أسكت، وألا أعدها. كان يرى في عدها دعوة إلي الجن والشياطين والقوى الأخرى الخارقة المشؤومة التي لم يكن يؤمن بها وإنما بصورها وبمعانيها وبما توحي إليه. وفي المساء، كان يأخذ للبيت ما تبقى من خبز، وكأنه يأخذ قطعة من جسده، فتلفه أمي بأحد أثوابها، وتضعه تحت اللحاف. كانت تلك تجربتنا العلمية، تجربة كل يوم.
وكبرت، وذهبت إلى المدرسة، واشتريت الكتب. كانت أمي تردد دومًا: ((عليك أن تقرأ كثيرًا لتصبح أستاذًا))، وكانت توفر لي بعض القروش من ثمن الأكل لأشتري الكتب، مزيدًا من الكتب، ومن كل نوع. كنت ملتصقًا بالواقع كثيرًا، لكني لم أهمل التفكير في أسبابه المطلقة.
بعد أن تخرجت من جامعة دمشق، عملت أستاذًا، كما كانت أمي ترغب، وتزوجت، كما كانت أمي ترغب. كنت أحبها، أما اليوم، فأنا لا أحبها. كيف أحببتها؟ لست أدري. كيف تزوجتها؟ لست أدري. كيف طلقتها؟ لست أدري. كان في الأمر شيء ما يتجاوزني كما هو في كل مشروع حياتي تعتقد أن الخطأ فيه صواب، فتغدو كل تصرفاتك خاطئة. إن لي ولدًا منها لم أره.

في مدينة (( لِيل)) عرفتها. كان زوجها ألزاسيّ المنبت. كان لهما طفلان صغيران. كانا يسكنان على الرصيف المقابل. كنت أتردد عليهما باستمرار. كنَّا نتحدث في السياسة وفي الأدب. كنَّا نشرب النبيذ أنا وزوجها، وهي، كانت تشرب الشاي بالنعنع. هل تعرف أن النعنع هو كل الإشارات التي أجراها كانط في هوامش الكتب التي قرأها؟ في بداية كل لقاء كانت تتكلم، وكنت أصغي إليها، وفي نهاية كل لقاء كانت تتكلم، وكنت أصغي إليها. حتى وهي لم تكن تتكلم كنت أصغي إليها، كنت أصغي إلى صمتها. كانت تلك المرأة لظى الصمت، شيئًا أشبه بنار الأولمب. كانت تصمت بصورة مدهشة. كانت تتكلم بصورة مدهشة. كانت تبتسم بصورة مدهشة. كانت تشتم إن عنَّ لها بصورة مدهشة. كانت امرأة مدهشة. متوسطة الطول، دينامية، شقراء، ذهبية، أزلية، عجيبة، كانت فرنسية، كانت جزائرية، كانت يهودية، كانت دون جنسية، كانت كل هذا، ولم تكن، وكان عليّ، معها أيضًا، أن أمارس الخطأ، وفي ظني أنه الصواب.
في إحدى المرات، أتتني إلى حجرتي. المرة الأولى. كان الشتاء، وحجرتي باردة. كانت جدرانها كجدران الكهوف القديمة، وكانت لدي مدفأة حجرية وحطب، لكني لم أكن أُعنى بإشعالها. لم يكن ذلك بسبب أن علاقتي بالنار والحطب والولادة الميثية من النار قد انتهت. كنت أتلذذ على طعم البرد في مدن الصقيع. أحيانًا. فعل أشبه برد فعل. أما السبب الحقيقي لعدم تدفئتي الحجرة، فكان العملية المعقدة لإشعال المدفأة. كنت أفضل حل مسألة أعجزت سبنسر أو رينان. ومع ذلك أشعلت الحطب لأجلها، بينما راحت تعد الشاي بالنعنع. أمام مدفأة ((لويس السادس عشر)) ونارها المتوقدة، وعلى وسائد من الدمقس موضوعة على الأرض شربنا الشاي. لم نتكلم كثيرًا. رمى أحدنا الآخر ببعض النظرات. عندما اشتعلت النار في عروقنا، أردنا أن نطفئها بالعناق، لكننا بقينا نجلس متباعدين. كنَّا نرنو إلى حديثنا الصامت ما بيننا، ونبتسم، ولا نتكلم. هل يتكلم ماركس عن شيوعيته وهو في حضرة امرأة؟ هل يسعى فيلليني إلى مدينة النساء التي بناها للنساء وهو في حضرة امرأة؟ هل يغامر رومل مع كل ثعالب الصحراء وهو في حضرة امرأة؟ أنهت فنجان الشاي، وذهبت بسرعة.
في اليوم التالي، عادت، كنت أعرف أنها ستعود، لهذا عملت على إشعال النار في المدفأة منذ الصباح الباكر، وجلست قَلِقًا بانتظار إشعال الخيال. كان إنجلز ينتظر معي، فهي كانت بشكل من الأشكال الإيديولوجيا الألمانية. أتت، ولم تتكلم كثيرًا. تركتني أتكلم، لكنها كانت تبتسم. كانت تبتسم دون توقف. كانت تبتسم باستمرار. كانت تبتسم، وتبتسم، وكان يبدو عليها أنها لا تسمع. مواضيع شتى: توماس مان وماركس وعبد الناصر وسيمفونيات بتهوفن وتشايكوفسكي ولوحات أنجيلو مايكل ودي فينشي وأفلام فيلليني وإيزنشتاين والصهيونية والشهوانية، قرأت لها أشعارًا لأراغون، وأشعارًا لنيرودا، وقرأت لها قصيدة ((بين ريتا وعيوني بندقية))، وهي تغمض عينيها، وكأنها في حالة إغماء، ترفض معه أن تسترد حواسها. لهذا بَقِيَتْ زمنًا طويلاً، بعدما أنهيت قراءة القصيدة، وهي تغمض عينيها.
كانت مراكب النار تتراقص على جيدها، تتراقص وتتراقص، ثم تمخر بأشرعتها الحمراء. فهمت عندئذ لماذا يظل أبي شابًا على الرغم من حصاد السنين، لعلاقته الحميمة بالنار، ولسحر النار عليه. كنت أرى كل شيء فيها يتأجج بلهب الحب حتى أنها نقلت عدوى النار إلى الزمن فأضرمته، وإلى الكون فأحرقته، وجعلت البشر يعيشون في لهب التوت. كان هذا جحيمنا، لهب التوت، ولهب الورد، ولهب العنب، شيئًا أشبه بتراكب الصور في صورة واحدة تلخص كل أركيولوجيا المعرفة لدى فوكو. رأيتها طفلة، ورأيت جديلتيها اللتين توشوشان عند خصرها الممزق بالقبل، ورأيتها نظامًا، ورأيتها سوطًا، ورأيتها إرادة القناص، ورأيتني الطريدة.
نَهَضَتْ، وذهبت بسرعة.
لم تعد إلا بعد ثلاثة أيام، خلال تلك الأيام الثلاثة، تأكدت من حبي لها. لا، ليس كذلك. كانت النار التي أشعلها في الحجر كل يوم تضرم لي قلبي، وعقلي، وكلي. كانت نار الذهول والجنون والسؤال الوجودي. حينما عادت في النهاية، سألتها عن سبب طول غيابها، فقالت ليس هناك من سبب هام، ولكن طفليها يأخذان منها كل وقتها. سألتها إن كانت تريد فنجان شاي بكل هوامش كانط وكل شذرات المعري وكل شطحات العقلاء والمجانين من المفكرين، لكنها اعتذرت، وذهبت بسرعة. عندئذ فهمت أن الاغتراب الديني هو الاغتراب العشقي، أن كل اغتراب حتى ذلك الأكثر مادية هو اغتراب الحبيب عن الحبيب، ولم يكن في هذا أي اعتداء على الوضعية.
أسبوع كامل. لم أرها خلال أسبوع كامل. هل بمقدورك تصور كم هو طويل ورهيب أن يغيب عنك الحبيب أسبوعًا كاملاً؟ لو كان ذلك من أجل الكتابة لأعدت كتابة الفلسفة منذ بوذا إلى اليوم في أسبوع واحد. ذهبت إلى دارها، فاستقبلني زوجها دون حفاوة. لم يسألني عن سبب كل هذه المدة من الغياب فيما يخصني، ومع ذلك قلت إنني منعزل في حجرتي أطالع، فمن اللازم أن أقرأ بعض الكتب قبل أن أكتب أطروحتي. كنت أكذب، وأنا غير مرتاح. كان ضميري يعذبني لا لأني أكذب ولكن لأني لا أعترف. كنت أحب زوجته، ولا أجرؤ على الاعتراف بذلك. كان ذلك بمثابة عدم إخلاصي لمن أحب.
تناقشنا حول مفهوم الاغتراب عند ماركس جوهر أطروحتي، وتطرقنا إلى المسألة اليهودية، التي ستجد حلها كأي مسألة أخرى في ساحة الصراع الطبقي. لم تكن ((ايفيت)) تشاركنا الحديث، لكنها كانت تصغي باهتمام إلينا. وفي النهاية، أعلنت موافقتها على عرضي للمشكل ورأيي فيه. قلت لها إنه عرض ماركس، وإنني لم أخترع شيئًا، لكنها أكدت اتفاقها التام معي حول كل موضوع أطرحه. قالت إن لها نفس رؤيتي للعالم، وقبلتني من خدي دون حرج أمام زوجها، وزوجها يلقي النظر في الفراغ، كالغائب عن الدنيا. أما أنا، فقد قَلَبَتْ عندي كل المفاهيم التي أدافع عنها ليس لأنها لم تكن متفقة معي، وهذا ما لم يحصل، وإنما لقُبلتها على خدي.
عندما سنحت لي الفرصة، سألتها عن سبب غيابها، فلم تبرر غيابها، ووعدت بزيارتي في الغد.
كنَّا عاشقين، وفي الوقت ذاته، لم نكن كذلك. كنا موضوعًا في فلسفة سبينوزا بشكل من الأشكال، كنا العلة، ولم نكن يقين العلة. كأن من المفروض عليها أن تأتيني، كأن من المفروض عليها أن تبتسم لي، كأن من المفروض عليها أن تسمعني أتلو شعرًا، وأن تجلس أمام النار، وفي جيدها أمتطي أحصنة اللهب. ومع ذلك، لم تكن مضطرة. ومع ذلك، لم أكن حكرًا. ومع ذلك، كان كل شيء قابلاً للخطأ.
عندما أتتني كانت شاحبة. جلست كالعادة على وسادة الدمقس قرب النار، وراحت تعبث بالجمر وبوجودي معًا:
- ماذا بكِ؟
- لا شيء.
- هناك شيء.
- أنا لست على ما يرام، هذا كل ما هنالك.
- أنت لست على ما يرام.
- أترى، أنا لست على ما يرام. أنام قليلاً. يجب أن أنام في الليل، وإلا... أنت ترى إذن أنني أنام قليلاً، وأنني لست على ما يرام.
رفعتُ يدي، ووضعتها على كتفها، فضمت بلهفة يدي.
يا إلهي! طبعت شفتيها في راحتي، وراحت تردد:
- لكم انتظرت هذه اليد العزيزة! لكم انتظرت هذه اليد العزيزة!
وتحطمت في حجرتي كل تماثيل فرنسا، تماثيل عظمائها وشعرائها وصعاليكها.
أصبحتْ تأتيني كل يوم كالفكرة الرئيسة في مقطوعة موسيقية مبرمجة، تبعث بابنيها إلى دار الحضانة في الصباح، وتقضي طوال النهار عندي. تعيد ابنيها إلى دارها في المساء، ثم لا تلبث أن تعود عندي، لتبقى إلى منتصف الليل، إلى الثانية أو الثالثة صباحًا. هل أقول لنيتشه لماذا لم يطلع رجل دين على أبيه؟ لأن إيفيت كانت عاشقته. لم يعد يهمها أحد، لا زوجها، لا أهلها، لا معارفها، ولا الناس إلا صلتها بولديها. استمرت على أخذهما إلى دار الحضانة في الصباح، وإعادتهما في المساء كرواية يتساوق فيها كل شيء.
في تلك الأيام، لم أعد أخرج من الحجرة، لم أعد أفرق بين الفروع والأصول، لم أعد أستقبل أحدًا سواها. في الخارج كان الشتاء، وعندي كل الفصول: الشتاء، والصيف، والربيع، والخريف، والفصل الخامس الذي لم يوجد بعد. كانت تأتيني إيفيت، فتأتي معها كل الفصول المعقول منها وغير المعقول. وكنت أنا في خصرها حقلاً مدمَّرًا، وفي عينيها عصفورًا منكلاً به، وفي شفتيها ثلج الضرام الأخرق، فهو الأقوى، وهو الأروع، وفي نهديها إثمًا يتناسل كالريح منذ الأزل. وهي في حضني كنت أجمع التاريخين الدنيوي والديني، فأمحوهما، وأعيد صياغتهما. كانت تبقى دومًا عارية، وكانت تلقي دومًا في المدفأة حطبًا، فأرى كيف تزهر على فخذيها نار الهيولى، وكيف ترفرف قرب نهديها فراشات المنون، وكيف تعبث النار بهذا الجسد؛ فيغدو صيحة لهب مرعب وملذ ومذل وغير قابل للإهراق... دون أن يكون لي حق التتبع.
كانت تقول لي:
- أحبك، هل تحبني حبيبي؟
كنت أقول لها:
- أحبك!
كانت تغضب، وكانت تعانقني، وكانت تعاتبني:
- قل لي أحبك دومًا، لماذا لا تقول لي أحبك دومًا؟
وكانت تعانقني من جديد، وكانت تقول لي:
- عرف الجميع بالخبر حتى جان، قلت لجان إنني أحب عادل، وأنام معه.
كنت أسكت طويلاً، وكانت تسألني:
- ماذا هنالك؟ أنت غاضب، أليس كذلك؟ إذن، أنت لا تحبني!
وكانت تبكي:
- إذا كنت تحبني يجب أن يعرف الجميع أنك تحبني، وإلا فأنت لا تحبني!
كانت بدافع صدقها تؤسس لكل فلسفات الكذب في العشق، وكانت تحرثني عناقًا:
- سنذهب غدًا إلى مقهى وسط المدينة ليراك الجميع معي. يجب أن يعرف الجميع بأنك حبيبي، يجب أن يعرف الجميع بأنك فلسطيني، يجب أن يعرف الجميع بأني لك. ألم أقل لك؟ قلت لصديقاتي بأني أعشق فلسطينيّاً. سأقدمك إليهن، ولا شك أن كلاً منهن سينفجر قلبها من الغل والغيرة، يا عاشقي المحسوس والمرئيّ!
نهضت قافزة:
- سنذهب على التو إلى المقهى.
كنت أعترض، لكنها كانت تتهمني بعدم حبها، وكان يطاردني الندم في كل مكان.
يا أنفاسها المظمئة في حجرتي! يا أطيافها المجوِّعة على وسادتي! الليل والضباب والأزرق الأحمق المائج في عينيها، ورائحة الخبز المجتاح للحواس، وآهات أبي المشلة للنفوس، ودفء فرننا الذي لم يعد يُرى ولا يُقدّر ولا يُدرك أيام الشتاء، حتى أن دفء المخدة تحت جديلتي أمي قد غدا اختلافًا في غاية الدقة. كان في حجرتي الاحتفال بالاختلال، وفي العالم. كان جحيم النار في العالم ثلج الفردوس، وكان في جحيم النار فضائي يرمدّ بدافع الظمأ الذي لا يُروى والجوع الذي لا يُسد، لم يكن سارتر يعرف كل هذا الجحيم الكوثريّ. كان النهم في الأهواء وفي الشهوات. كانت تنتفض بين ذراعيّ حفنة رمل في صحراء الشهوة، شهوة من ذهب ودم وملح، فأنثرها، وأشم الصيف النزق في أقبية الجليل السرمدية، وعرق الفلاحات اللواتي لم يعرفن القُبل يعمّق من دوافع الجنس اللذيذ المجرم الملفت للنظر بتفرده أو شذوذه المخالف للقوانين الطبيعية أو الاجتماعية. وعندما كنت أشرب من ثغرها، كانت بحيرات الحولة وطبرية وفيليستينيا تتفجر على مدِّ البصر، ويتفجر معها الشبق، فنحلم سويّاً بنهر الأردن بلبنه المُحَمّض ولكن المستساغ، وبينابيع حيفا بعسلها القَنِه ولكن المستطاب، ونحلم، ونحلم، ونحلم، ونتوهم، ونرفع سويّاً على كاهلينا كل جواثيم أمي. وأذهب إلى كتبي، لم يكن فرويد يعرف أمي ولا جواثيمها، وإلا لأجرى عقدة إيفيت لا أوديب.
كانت تطلب مني أن أحدثها عن أمي، فأروي لها كيف كانت تحطم الجرار لأنها لا تسع كل مياه الينابيع، وكيف كان وجهها المنهك من الكدِّ يضوي في الليل كالقمر المغتال. أصف لها ثوبها المزركش بالقصب والليلك والحشائش، فتشمني، وعني تشم أمي، تشم عيني، وتشم شعري، فتختلط الروائح، وتأتي رائحة غريبة من يافا، وأخرى من عكا، وثالثة من صفد، ورابعة من حيفا، وخامسة من جنائن الدروز المعلقة، وسادسة... وتعود وتشمني، ولكن تلك الرائحة الغريبة الآتية من حيفا تغدو الأقوى، فتبكي، وتقول لي:
- تلك الرائحة الغريبة التي أشمها هي رائحة ماضيّ القريب الذي لم أعشه ودفع له أهلك الثمن باهظًا!
فأشم عنها بالفعل رائحة غريبة تذكرني برائحة أخرى تأتي من باريس، من زقاق في باريس، هناك حيث تكثر الفنادق الرخيصة التي يضاجع فيها الغرباء من كل أرجاء العالم بنات الهوى. وفي الوقت ذاته، أشم عنها رائحة ياسمين الجزائر والملح المحترق وكلمات كامو عن عبث الشمس والبحر. كان التناقض كبيرًا، تناقض الدال والمدلول.
كانت تذهب، وكانت لا تلبث أن تعود، مبللة بالمطر. كنت ألثم عنها المطر، وكنت أشمها. كنت أبحث عن رائحة الحياة في شعرها، فأشم رائحة الموت، تلك الرائحة الغريبة. كان يلجمني ذلك، وكنت أغدو موضوعًا للقسر والإكراه. لم تزل في أنفي رائحة المطر المبهر بالتراب الملوث إلى اليوم، ولم أزل أسقط تحت نيرها. كنت أعصر شعرها المبتل، وأضمها، وأنمسخ، أتحول إلى شيء، إلى شيء فقط، لكنه يذوب انتشاءً. كانت تذهب، وكانت لا تلبث أن تعود. كالقطارات. دون مواعيد ولا مسافرين غيرنا.
أصبحت لا تغادر حجرتي إلا قليلاً، كانت تقول لي:
- أنت حبيبي وعشيقي وأمي وأبي وصديقي وأخي وأختي، أنت في النهاية عادل، عادلي المستبد بعمري! حلمت بمن له شعرك الأسود، شعرك الغزير الأسود، بمن له بسمتك، عيناك السوداوان، حاجباك الكثَّان، حلمت بأناقة وجهك، بأناقتك، ببساطتك، بعنف بساطتك، حلمت بماضيك الحي... وبموتي بين ذراعيك.
كانت تضعني إلى جانبها في السيارة، وكأنها تضعني قرب موتها، وكنت أتوقع أن تفلت الفرامل تحت قدمها، فيكون موتها بين ذراعيّ. موتنا نحن الاثنين. موت المسند والمسند اليه. وتنطلق بي. في آخر الليل، في آخر العمر، في الضباب، في السراب، تحت المطر، وحين يكون هناك ثلج، في العواصف كانت بي تنطلق، في سِفر الرؤيا. ولم أحقق لها ما تنتظره، أن يكون موتها بين ذراعيّ.
كانت تود لو تنطلق بي إلى مكان لا يوجد بعده إياب، إلى اللامكان، إلى اللاوجود، إلى اللاحياة، حيث تبدأ الحياة، ويكون الوجود، ويتشكل المكان على الطريقة التي نختار. كنت أريد تحقيق الحرية الأولى كي أصل إلى تأكيد الحرية الأخيرة، حرية لا تقمعها الصور ولا الهراوات، وكانت لا تريد، لا تريد أن تعود، أو لا تعود إلا بي. كنت، وأنا أبتعد عنها، أجدها قربي، وكانت، وهي تقترب مني، أجدها نفسي. كنا نخدع النفس بشكل من الأشكال لئلا تتركنا إلى غيرنا، فنغدو غرباء عما لا حق لنا فيه.
وبعد أمي، كانت تطلب مني أن أحدثها عن أبي، فأشعر للوهلة الأولى بكرهي لأبي، لأنه سيشاركني فيها. أروي لها كيف كان يصنع أرغفة بلون البرنز، وكيف كانت وجوه الناس تبتسم للرغيف، لكني معها لم أعد أرى الأشياء كالسابق، لم تعد لي رومانسيتي الماضية على الرغم من كل الرومانسية التي أعيشها وإياها. كنت أقول لها دونما رغبة مني: كان فرننا ولم يزل عالم دفء وطفولة. كنت أرى في ذلك دوام الأشياء على حالها، ورفض الناس للتغيير خوفًا من عبودية جديدة بعد محاولات تشويه الطفولة في مهدها والدفء في بيت النار. كانت تجذبها في الطفولة عندنا الغرابة لا البراءة وفي الدفء الجمرات لا الأيادي الباحثة عن طرد البرد فيها، وكنت أخشى أن تطلب مني الدخول إلى عالم يستهويها كسائحة، فأتركها تفعل عن غير اقتناع. لكنها كانت تغفو على زندي، تغفو لساعات، ولا أشعر بالساعات. إلى أن كان يوم أتاني فيه زوجها، وطلب مني أن أتركها أو يقتلها. قال لي: إنه لم يزل يحبها، ولا يستطيع الابتعاد عنها، ثم هناك الولدان. رجوته ألا يقتلها، فقرر لنا الافتراق. غابت عني يومًا واحدًا، عندما عدت إلى حجرتي، وجدتها تسعى إلى الدفء قرب نار المدفأة، ومعها كل جحيم العالم الكوثريّ وسعار العشاق الجنونيّ.
رجعت علاقتنا أمتن من السابق مع عدم اليقين، طلبت مني أن أتزوجها بدافع الشك، قالت لي إنها لم تعد تطيق العيش مع زوجها، فهو النسق المطّرد، وإني حبها وجنونها ومجونها وعبثها.
وبدافع عبثها هذا، كانت على استعداد أن تترك من أجلي ولديها، العالم، وتقنع بزواية صغيرة قربي. كانت تلك الرائحة الغريبة التي تهب علينا من حيفا هي التي تشدنا إلى بعضنا، رائحة العبث كانت ونهد عاهرة ضائعة، وذلك لرغبتنا في التخلص منها ودوام عجزنا عن تحقيق ذلك. لكن زوجها قرَّر لنا هذه المرة أن نفترق بالفعل، كان القرار الذي رضي به سقراط من أجل أن يؤسس أفلاطون لنظريته. ابتعدنا عن بعضنا أيَّامًا، وذات مساء، سمعت حركة قرب الباب، وخدش أنصال أو مخالب. قلت الضواري على بابي، وعندما فتحت، إذا بي أجدها أمامي، وهي تلف من حولها ذراعيها، وقد غسلها المطر المُواطئ، ونهبها الموقف المحرض.
كان عليّ أن أغادر مدينة لِيل إلى باريس، فنقلها زوجها إلى المستشفى. خليط شبقها والمطر لم يزل في أنفي، كأني ودعتها بالأمس. وليس هذا فقط، كأني ودعت العالم بالأمس. كنت أفقد كل شيء، وكانت حياتي عبارة عن سلسلة من الأشياء المفقودة. لهذا تجدني أعيش، فقط أعيش، أعيش يومي. وفي كل يوم يكون مولدي الجديد، مولد إنسان عمره يوم واحد يموت خلال نومه، ويعود إلى الحياة في الصباح، في جسد إنسان آخر.







الفصل الخامس
المغتربون



قال حسين للساقية:
- اشربي كأسًا على حسابي.
ونصفه الأعلى يقفز بكسل من فوق المشرب، لكنها اعتذرت:
- لا، أشكرك!
لئلا تحرجه، اتجهت إلى أقصى المشرب، وهي تخبئ ضحكتها خلف أصابعها، ثم جلست على كرسي مرتفع، فلبس حسين الكرسي، كأنما كان جسده، وأخذ شكله. فجأة، رعدت الدنيا: إنها ضحكة حنّا! قهقه في إثرها الجميع، كانت له ضحكة ماورائية، تأتي من الغور الساحق للكون، وكان عصام يقول له بروح مازحة:
- يا عكروت، من أين لك هذه الضحكة الماجنة، يا عكروت؟!
التفت حسين إلينا بوجه شديد الاحتقان، وراح يعلق، وهو يحاول التفكه دون أن ينجح:
- هذه ضحكة الدكتور، أنا أعرف، من ذا الذي يدغدغه من خاصرتيه؟!
تقدم منَّا مترنحًا، كالإنسان الآلي، وهو يحاول عبثًا أن تكون له خطوات متماسكة. اعتمد على مسند الكرسي الجالس عليه فاروق، فدفع فاروق نظارته، والتفت إليه، هو الآخر، كالإنسان الآلي، والتقت عيناهما مع ذلك التحدي الأبدي الذي اعتدناه بينهما. كانا على وشك الاقتتال في حلبة للدمى الآلية، ثم قال فاروق بنبرة ساخرة:
- اذهب، واجرع سمومك أنت، ولا تعلق!
وكأنه أوفى له نكتة: سالت بسمة حسين حتى غمرت وجهه، بدا كأنه سِنٌّ ضخمة تبتسم، وقال متلعثمًا لوطأة الثَّمَلِ عليه:
- أنا أُعَلِّقُ والحق لي أن أُعَلِّقَ! لو كانت ضحكتك لقلنا رد فعلك هذا في محله، لكنها ضحكة الدكتور، وأنا أقول فيها ما أريد.
أطلق حنَّا ضحكة أخرى أكثر حدة هزت العالم وهو مختالٌ اختيال بركان في أقصى حالاته هيجانًا بينما عاد حسين يقول بلسان شديد الثقل محاولاً أن يجمع بين الصراحة والكياسة دون فائدة:
- أنا... أعلق... والحق... لي... أن...
فقد القدرة على النطق، فأخذ يغلق عينيه بقوة دون أن يجد كلماته. بدا كمن يحاول إخراج رأسه من جورب ضيق، كشخصية من شخصيات الرسوم المتحركة. وفاروق بلهجته الساخرة، وبيده ذات الثلاث أصابع، يد بيكسو، شخصية والت ديزني الشهيرة، يهدد:
- اذهب، واجرع سمومك أنت، ألا فاذهب!
ارتجف حسين، وراح يجدف، وشكله لا يتوقف عن التبدل بعد أن أخذ الآن شكل الطاولة التي يجلس أمامها فاروق.
قلت لفاروق بلهجة ودية:
- دعه وشأنه، يا فاروق!
حملق فاروق من وراء عدسة نظارته، فظننت أنه غدا كله عينين محملقتين. اكتفى برفع حاجبيه، وخفضهما، مستجيبًا، وليس مقتنعًا.
قال نديم، على طريقته الاحتفالية، وهو يتوجه إلى صاحب الضحكة التي ليست كغيرها:
- يوم تأخذ الدكتوراه يا حنَّا، سنرفعك على الأكتاف، ونرقص بك. إذا أردت أن ندبك بك دبكنا، وغنينا لك ((عريسنا زين الشباب)) أقصد ((دكتورنا زين الشباب، زين الشباب دكتورنا!))
عاد حنا يضحك بشيء من الهوس، ونديم يضحك معه، وكأنه يحاول أن يدخل في قرار الكون قبل أن يقذفه الكون على هامشه، فتدخل عصام، المنسحق في قميصه وبنطاله المدعوكين، وكأنه تُخَسٌ لم يطلّق بعد حياة الترهب:
- توقف عن الضحك وإلا هرب الزبائن! ضحكة كهذه كارثة لا تعادلها كارثة في الوجود!
نَطَّ وسط حنَّا، وغدا وسطًا كله، وراح يملس شعره، وهو يهز رأسه يمنة ويسرة، كمن يوقع لحنًا سيمفونيّاً:
- سبق أن أطراني صاحب المقهى، وقال إن لي ضحكة مُعدية!
عاد يضحك بقوة مغناطيسية جذبت إلى محورها الكواكب، بعد أن أعطى تبريرًا فلسفيًا، وهو الفيلسوف، لنظرية عامة ومجردة، ونحن نبتسم، وكل منا تحول إلى ابتسامة دون جوهر. عمَّا قريب سيصبح حنَّا دكتور دولة. ثلاثة عشر عامًا أمضاها في باريس. لكنه قضى منها زمنًا في الزائير. أستاذ جامعة. أستاذ للزنجيات المتحضرات ذوات النهود المتوحشة. كان أحيانًا يبدو أسود، وخاصة عندما يكون قلقًا. كان القلق يعطيه صورة لكل إفريقيا. كان إفريقيًا عندما يتكلم عن السويديين ممتدحهم لنظامهم الديمقراطي، فهو كان يعطي دروسًا حول الحرية والجنس والأدب الفرنسي، وكان يفعل ذلك من أجل دولارات البلد. عندما كان يصنع ثروته الصغيرة، كان يعود إلى باريس، وعندما كان ينفق ثروته الصغيرة، كان يغادر إلى زائير.
توجه حنّا بالسؤال إلى عصام من أجل ألا ينفي التافه الذي في صديقه:
- هل تلعب فليبر؟
وكان له ما أراد عندما سمعه يقول:
- على حسابك.
سبّب له ذلك بعض المتعة الغامضة، فوضع فرنك فرنسا الشهير في الماكينة، وهو يقول:
- اللعبة الأولى على حسابي.
وضغط زر العداد، أخذت الأعداد في الواجهة الكهربائية ذات الصور الملونة تختفي بوقع صاخب، مما كان يسحر حنّا. كان ذلك بمثابة القوة الدافعة لديه.
المحتال عصام، المحتال المتقشف، المتقشف المندعك، المندعك الكريشناوي، كريشنا المفرغ من كريشنا، كان صورة كاملة عن اللاوعي. قال وهو يحدد النظر في عينيه:
- ليكن ما بيننا رهانٌ.
قذف حنّا الكرة، وهو واثق من الكسب ثقته بضحكته المعدية:
- أنا أتحداك.
- تتحداني؟
- إن أتيت برقم أكبر من رقمي، ستكون اللعبة القادمة أيضًا على حسابي.
وراح حنّا يقفز كلما قفزت الكرة، يقفز كالكرة، حتى أنه غدا كرة الفليبر ذاتها. والأهم أنها كانت رقصته: رقصة ((زنجي)) أبيض في الدغل! كانت قامة حنَّا القصيرة، المدورة، الملآنة، تغري باللمس أحيانًا، وأحيانًا برفعها بين الأصابع، وقذفها من يد ليد. لم يكن هنا ماورائيًا، كان شيئًا ملموسًا بعيدًا عن التجريد. وكان شعره الخفيف المتساقط على كتفيه، يبعث على الرغبة في شدِّه. أما حركة رأسه مع طابة اللعب، وحديثه إليها: ((اصعدي فوق! ادخلي في الخزق! لا تهبطي! بعنف! سأخبطك بعنف! العنف الثوري! لا تذهبي، يا ابنة الكلب))، وضربه لها كمن يضرب شيئًا مقدسًا، فكل ذلك، كان يجعل من حنّا موضوعًا فريدًا من نوعه، ظاهرة نفسية غير معروفة علميًا!
أخذت صيحات التشجيع تدوي من حوله: نديم وعصام وحسين وزبائن آخرون، والطابة تتقاذف به، بينما العداد يرتفع باستمرار، وهو يتسامى، يتسامى، إلى أن سقطت الطابة في فضاء المغلوب، وتلك الصيحة المأسوية التي أعادته على الأرض كما لو كنا في مسرح إغريقي:
- لعن الله هذه الكرة!
رمى عصام ساخرًا:
- أهكذا تضيعها؟
كان حنا يرتعش من شدة الحنق وشدة النقمة على الكرة التي تمكنت من خداعه:
- ألم ترَ كيف خدعتني؟
أزاحه عصام بيد عارفة:
- ابعد من هنا.
وهو يمهد لنفسه التفوق على الدكتور القادم.
- سأريك كيف يكون اللعب.
قذف الطابة، فضربت على الجانبين، ثم ما لبثت أن زلقت في الممر المضيء، ومن هناك، راحت تهبط، بانتظار أن تُقذف إلى أعلى، لتدخل في ذات الممر، وفي كل مرة، يسجل العداد مائة نقطة، وفي كل مرة تقرع أجراس المعبد، وتدوي في أروقة الشموخ التي في رأسه الفارغ. كان عصام وهو يلعب يصبح كالمخدر بالعظمة، مما يجعله أقرب إلى الموضوع الديني. وكانت هذه التعليقات تأتي لا نعرف من أي حَيِّزَمان :
- ضربة معلم!
- سيهزمك من الجولة الأولى؟
- هو لا محالة غالبك!
ازداد حنَّا حنقًا وتحديًا لعصام الذي يفرط في التجريد "الفليبري"، بينما هو الضليع في علم الماورائيات:
- سنرى، لا تنس، انظر حصيلتي: ألف وخمسمائة وخمسون.
- سيهزمك من الجولة الأولى!
ضربة، ضربتان، ثلاث، وأخذ عصام يصيح بنديم:
- ابعد عنِّي، يا عاهر!
وأضاع الطابة، لم يكن ذلك واحدًا من طقوسه الفليبرية التي توقع السعادة الدائمة في قلوب المتفرجين أن يضيع الطابة.
دوت ضحكة حنّا على دفعات جلجلت عوالمنا، وقفز كالغضنفر الهيغلي أو الديكارتي، وهو يبالغ في رفع ذراعيه كبطل من الأبطال الماورائيين:
- أترى؟ ماذا قلت لك؟ سأهزم جدك!
اندفع عصام غاضبًا باتجاه نديم الذي قفز بين طاولتين، وكاد يسقط كرسيّاً:
- هذا بسببك، لقد لصقت بي.
- لصقت بك! قل إني أثرتك!
وانفجر كلاهما ضاحكًا، كانا يلعبان دوري القديس والبغيّ. أحاطا حسينًا المخمور، وهو يعلن بصوت عال، تقدم حنَّا المستمر. رأيناه بوقًا نحاسيًا ضخمًا، كانت له ظاهرة الانبثاث، كالمرض الذي يتغير مركزه. وكان حسين يتابع الطابة والعداد في آن واحد، وهو منحرف إلى الأمام، كأنه مراسل إذاعي، وها هو ينقل بإعجاب الرقم الأخير الذي يجري تسجيله: 2100، 2150، 2350، برافو، 2355، 2575...
فقد حنَّا توازنه: كان يصرخ، ويجدف، ويقهقه، ويتهزز، كأنثى تكابد اللذة على فراش الفارابي، وكان عادل يجلس إلى جانبي كالمونوليزا العابسة، وهو يعتمد بمرفقه على الطاولة. كان يبدو الرجل صاحب اليوم الواحد من العمر، ولكن الشيب يغزو رأسه. ابتسم. كان لا بد أن يبتسم أولاً قبل أن يقول شيئًا.
سألني:
- فيمَ تفكر؟
رفعت حاجبي، حاجبًا مثقلاَ بأناي، فوقع نظري على فاروق. ابتسم فاروق، وقال بلهجة مليئة بالضجر:
- إنهم يلعبون!
كانت له لهجة من عاش غربته، وأنهاها، ثم بدأها من جديد. حينما التفتنا، كان حسين يضحك دون صوت، وهو يقرفص. كان يضحك كالمراسل الإذاعي الذي لكثرة ما صاح اضطر الحضور إلى خفض الراديو إلى أقصاه، فلم يعودوا يسمعونه، بينما هو كان مستمرًا في الصياح. أعاد عادل قول فاروق دون أن تخبو بسمته:
- إنهم يلعبون!
كانت بسمة مريضة كبقعة على غصن ملقى. في تلك اللحظة، سقط حسين على الأرض، وراح يتلوى كالذبيح، غدا جزءًا من أرضية المقهى، والأقدام تدعسه. كان نديم قد حمل حنّا بين ذراعيه، وراح يقذفه إلى أعلى، وحنّا يقهقه. بدا نديم أنه نسي كل همومه، بدا لا هموم له، وكان يبدو بشعًا دون هموم.
عندما أعاده إلى الأرض، لاحظ حنَّا أن عصام يتقدم عليه. توقع الهزيمة، وحسين يكاد يموت من كثرة الضحك. لم نعد نسمع حسين يضحك على الرغم من أنه يضحك بصوت عال، لم يكن الانبثاث هذه المرة وإنما الانسلاخ. كان يدب على الأرض كحشرة ضخمة تعود إلى أطوارها الأولى على عكس ما هو متبع، وها هو يفقد جناحيه.
قلت مع بعض الشعور بالإثم:
- حسين يشرب الكحول بكثرة هذه الأيام.
علَّق عادل ببعد إيديولوجي لم يفهمه أحد غيري:
- كي يتلوى من شدة الضحك في انتخابات اتحاد الطلبة القادمة.
وبدت له لحية ماركس تحت ابتسامة الموناليزا التي له، فهو يحضر الدكتوراه عن الاغتراب الديني لدى صاحب رأس المال كما يقول، أليس كذلك؟
قال فاروق برمًا:
- سيكون من الأفضل لو...
وسقطت يد على كتفه، يد نديم، كان يضحك، دون أن يمكنه تمالك نفسه، كان يبدو أسعد مخلوق على وجه الأرض:
- انظر! انظر! انظر إلى حسين!
رمى فاروق ببرود لم يزعج نديم:
- إنه سكران.
ارتفع حسين رويدًا رويدًا، وهو في كل مرة يفقد شيئًا من جسده الحيواني، أقدامه، خرطومه، رأسه، ثم كل جسده، وقبل أن يرمى بنفسه على المشرب، كيرقانة عادت إلى طور ما قبل بلوغ شكلها الكامل، رأيناه بوجه فاشستي أقرب إلى وجه ((فرانكو)).
قال نديم:
- إنه (( فرانكو))، هذا بسبب (( فرانكو)).
كان نديم عندما لا يجد أحدًا يتسلى معه، يمارس الوشاية. سأل فاروق، وهو يدفع نظارته:
- (( فرانكو))؟
أوضح نديم لفاروق:
- لو كنت عاشقًا لفهمت، لقد هجرته إسبانيا، أقصد حبيبته الإسبانية.
علق فاروق:
- مع حسين لن تحتاج إلى أن تكون عاشقًا كي تعرف ماذا يحدث له، كلنا على علم بالأمر، أخبرنا واحدًا واحدًا، كل واحد على حدة.
تدخلت، وأنا أُسحق تحت ضغط أناي:
- لا ترفع صوتك كثيرًا.
- لماذا لا أرفع صوتي كثيرًا؟
توجه نديم بكلامه إليّ وهو يقطر سعادة:
- يا ليته يسمع، فيأتي ليروي حكايته على مسمع الجميع. سنتسلى معه قليلاً.
قال عادل:
- لا، أمَّا أنا، فلا أريد أن أتسلى لا قليلاً ولا كثيرًا. إن هذا يسبب الحيض للرجل!
كان عادل يبدو عليه القرف، قرف موناليزا تكره التسلي. رأيته يفغر فاه كمن يريد القيء، لكن نديم صاح بحسين:
- إسبانيا! إسبانيا!
- أتريد استفزازه؟
التفت حسين بضيق، دبَّ نحونا كاليرقانة الهرمة، ثم ما لبث أن راح يهتف بلسان يرتعش بسبب الكحول وجهد التحول الذي استنفد كل قواه:
- تحيا إسبانيا!
قال عصام لحنّا بنبرة الغالب بأمر الطابة:
- ضع فرنك فرنسا الثاني أيُّها المغلوب!
بينما راح حنَّا يبحث في جيوبه، وقد حصده حزن ماورائي لم أر له مثيلاَ من قبل:
- كيف استطعتها، أيها المأفون!
تهالك حسين على كتفي فاروق، وكأنه أحس بلزوجة الحشرة التي عادت إلى طورها البدائي، فرفع فاروق في وجهه إصبعًا محذرًا:
- إياك أن تفوه بكلمة واحدة!
احمر وجهه، فرأيت في تضاريسه بعض الهنود الحمر، وطرقًا طويلة لا تنتهي، خالية من البشر. اعتدل حسين بصعوبة، وهو يتعلق به. أسقط ذراعًا، ورفع أخرى باتجاه امرأة تعبر بخطوات سريعة من وراء زجاج المقهى.
- هذه لك، يا فاروق.
- لي! من طلب منك أن تبحث لي عن واحدة؟
- طيب، إذن هذه لي.
- هذا شأنك.
- انظر! ردفاها!
بذل خطوات متأرجحة، وعندما وقع ببصره عليَّ، ابتسم لي ابتسامة واسعة، كان يحبني، وكان يريدني أن أعيش انمساخي مثله، فرجاني :
- اشرب كأسًا على حسابي.
شكرته، فلاحت عليه سيماء الخيبة، وندمت لأني رفضت مطلبه.
قال لنا حنَّا:
- طيب، مع السلامة، حان وقت العمل.
سأله عصام، وهو يتصنع الدهشة:
- أي عمل؟!
قبض على محفظته، وضربها بكفه ضربتين:
- العمل! العمل!
وهو يقصد كتابته للدكتوراه. تجاهله عصام:
- ضع فرنك فرنسا الثالث، لقد غلبتك أيضًا هذه المرة.
أطلق حنَّا ضحكته الماورائية، فجذبه عصام من ذراعه:
- عُدْ إلى اللعب.
تدخل نديم بشيء من الهزر:
- دع الدكتور يذهب ليكتب رسالته.
أيدته دون أن أفهم الهزر المصاحب لكلماته، ولكني قلت إن نديم قد نسي بالفعل كل همومه، إذ سمعته يضيف:
- إنه رجل فكر، إنسان فيلسوف، مواعيده دقيقة، وأوقاته ثمينة، إنسان منظم، وليس تنبلاً مثلك!
عاد حنَّا يطلق ذات الضحكة الماورائية، ضحكته ((المعدية)) التي لم تعد تعدي لاعتيادنا عليها، وهتف بنديم:
- أنت وحدك من يفهمني!
تقدم عصام من نديم، وهو يرفع إصبعًا مهددًا:
- لا تقل عني تنبلاً، لست تنبلاً!
كان قد خرج من ثوب المتدين الفليبري الزائف الذي له، وارتدى ثوب التنبل بالفعل، فقال نديم معاندًا:
- أنت تنبل! لا تتقن غير لعبة الفليبر حتى أخذت فيها البطولة! دع حنَّا يذهب ليدرس. اذهب يا حنَّا، واكتب الدكتوراه جيدًا، ولكن لا تسهر كثيرًا، ستسبب لعينيك الأذى!
لم يجد عصام ما يقوله، بدا مهمومًا، بدا أنه يفكر في أمه أو في أبيه، وأنه يحاول استرداد بعض الاعتبار. كان حنَّا قد عدل عن مغادرة المقهى، ارتكز بذراعيه على ظهر أحد الكراسي، وقال هاذيًا كالمضطرب عقليًا، كالمسكون بنظرية من النظريات:
- لا أستطيع إلا أن أسهر كثيرًا، عليّ أن أعمل عشر ساعات على الأقل كل ليلة. ليلة أمس مثلاً لم أشعر بالوقت كيف مضى حتى الصباح، وقد كان ذلك مع مرور سيارة جمع القمامة من أمام الفندق الذي أستأجر فيه غرفة ليست غالية كما تعلمون، نعم، الفندق نظيف ورخيص، وفي قلب الحي اللاتيني!
أطراه عادل، وهو يبحث كعصام عن استرداد بعض الاعتبار، فهو هنا منذ سنوات طويلة، ولم يتمكن من البدء بكتابة أطروحته:
- أنت تبذل جهدًا كبيرًا، ولن يضيع جهدك سدى.
عاتبه فاروق، عاتبه ليريح نفسه أو ربما ليغيظ حسين:
- حاذر أن تصبح أعمى يوم حصولك على الدكتوراه، كي ترى على الأقل بأم عينك درجة الشرف التي ستزدان بها شهادتك!
صحَّحه حنَّا وقد وصل دونما وقت طويل إلى أقصى درجات هذيانه:
- درجة الشرف الأولى!
- إذا أردت.
ولم يعد يمكننا أن نلمس حنَّا الذي يقف ما بيننا مع ذلك والذي يتوجه بحديثه إليّ:
- أضف إلى ذلك أن لدي مشروع رواية. نحن نسمى مجموعة الروائيين بلا شهرة!
نحن... ولم يغادرني بعينيه، طننت أنه يضاجعني بعينيه، وقد غيبه الشبق وأذابه في فضاء من السكون الأخرس المتواصل. ثم... وعلى غير عادته، أطلق ضحكة صغيرة قبل أن يتابع، ضحكة صغيرة، وكأنه يريد أن يقول لنا أنا أعرف الضحك مثل سائر البشر:
- بعد روايتي التي طبعتها على حسابي سنة 65، كتبت رواية أخرى، لكني لم أنهها إلى اليوم، عليّ أن أعيد كتابتها. عهدت إلى أحدهم بترجمة روايتي الأولى كي أطبعها هنا، ليس لأني عاجز عن ترجمتها، ولكن بسبب ضيق الوقت. حقًا تحتاج إلى تطوير، لكنها تبقى جيدة حتى في وضعها الحالي. كنت قد صمَّمت على ألا أنشر إنتاجًا طالما بقيت حيّاً، لأن الكاتب في حياته لا يضمن اهتمام العالم به. إنَّ شهرة عظماء الفكر لا تأتي إلا بعد مماتهم، يكتشفهم عند ذلك النقاد والقرّاء مدفوعين بهيبة الموت وقوته على الكتب كآثار عظيمة تركها مؤلفوها من ورائهم، فتصبح أعمالهم غذاء للبشرية جمعاء.
ارتسمت على شفتي فاروق ابتسامة ساخرة، غائرة، بعيدة المدى، من عهد موليير وفولتير وأولى المسرحيات الكوميدية. كان احمرار وجهه قد تضاعف، فلم تعد الطرق التي في تضاريسه تبين ولا الهنود الحمر:
- لا داعي إلى أن يموت الكاتب أو يقتل نفسه كي يكتشفه الناقد، الأصالة في الإنتاج، سواء أكان الكاتب حيًّا أم ميتًا!
أضفت قبل أن ينفجر حنا:
- وفي الناقد.
وأنا أحقد على النقاد الذين يدور كل شيء يقولونه في رؤوسهم لا في الكتب التي ينقدونها.
انفجر حنَّا:
- على العكس، موت الكاتب يضاعف من ((معنوية)) الأصالة التي تتكلم عنها، هنا يمكن للكلمة المأسوية أن تصل إلى بُعْدَها الرابع، دون النظر إلى المعايير العادية للأثر الأدبي.
- تقصد أن هالة الموت هي أساس تقييم الكاتب المتوفى رحمه الله؟!
- ليس تمامًا، من المفترض أن تكون الأعمال جيدة، لأنها أتعبت الكاتب الذي لا يطمع بشهرة في حياته على أي حال، فأعاد كتابتها عشرات المرات ربما.
- طالما أنها جيدة ومتعوب عليها لماذا إذن يخزنها الكاتب كي تقرأها الصراصير بانتظار وفاته! لينشرها في آخر صيغة يرضى عنها كي نقرأها نحن الأحياء الظامئين، فنستفيد.
نفخ حنَّا:
- لا تريد أن تفهمني!
والتفت إليّ بوجه مبتهل كمن يطلب مؤازرتي، وجه سويدي أسود البشرة... كان قد فرغ من مضاجعتي بعينيه:
- على كل حال هذه أمور لا يفهمها إلا الكُتَّابُ فيما بينهم.
وضحك، هذه المرة، ضحكة عالية، ولكن دون رعد ولا أي دوي، فاندهش من نفسه. كان يشعر بالتحول العكسي الذي حصل لحسين، ولم يكن يرغب في ذلك. كان كل شيء لديه يتوقف على عدم الموضوعية في اللحظة التي تصبح فيها الموضوعية عائقًا. أطلق ضحكته المعدية عله يفحمنا، لكننا استقبلناها بفتور، مما جعله يصمت فجأة مضطرب المزاج.
سأله عادل:
- لماذا لا تكتب القصة القصيرة؟
سؤال أنقذه من موقف حرج كان يتوقف عليه مصيره.
- ليست حقلي.
- ومقالات؟ لنَقُلْ مقالات فلسفية.
- هذا يتوقف.
- على ماذا؟
- على كم ستدفع الجريدة أو المجلة. أقل من ألف فرنك للمقالة الواحدة أنا لا أقبل.
- من أجل مقالة فلسفية؟ أنت تبالغ! لا يوجد من يدفع مبلغًا كهذا.
- إذن لن أكتب.
أضاف، وهو يقبب نصفه الأعلى، فأخاله قبة البانتيون، مقبرة العظماء:
- في زائير وصل راتبي الشهري إلى ألف دولار، أتسمع؟ لكني قذفتها بإصبع قدمي الأصغر، وتركت! ألف دولار رغم أن دكتوراه الدولة لم تكن في جيبي.
قال عصام، وهو يحاول أن يتحايل على وضعه، وأن يراوغ الحال التي يراوح فيها:
- كنت تريد الذهاب، فقطعت علينا اللعبة، والآن...
لكن حنَّا لم يعره اهتمامًا، أهمله كما لو لم يكن موجودًا. راح يتابع كأنه يقرأ علينا قطعة لديكارت حفظها عن ظهر قلب:
- إذا عدت إلى بيروت يومًا طلبت أربعة آلاف ليرة، ليرة تنكح ليرة، وإلا فضلت القعود في الدار. سأستمع إلى الموسيقى، وسأكتب قصصًا وروايات. أربعة آلاف ليرة لا أكثر ولا أقل! وفي النهاية سيأتون إليّ، أنا أعرف، ليبوسوا لي قفاي، اذكر هذا، ثم لا تنس إنني ((متلبنن))، أي أن لي كافة الحقوق.
أعاد عصام بشيء من الإلحاح، وكأنه يريد القول أنا موجود يا رب السموات، ولكن أحدًا لم يعره أدنى اهتمام:
- أين الذي كان يريد الذهاب؟ تعال، والعب هذه المرة على حسابي.
- لا، سأذهب.
دون أن يرفع حنَّا عينيه عن عادل. أعاد:
- اذكر هذا.
وكأنه يجري رهانًا على مقولة لابن طفيل.
ألحَّ عصام على حنَّا أن يضع فرنك فرنسا الثالث في ماكينة اللعب، وعصام يكاد يجن من وضعه. كان يشك الآن في موضعه، في المكان الذي هو فيه، في العالم الذي هو من حوله، وحنَّا يملس شعره عند الفرق، دون أن ينتبه لحركة يده، ويرميه إلى الوراء قائلاً:
- لدي مشاريع كثيرة. متى فرغت من شهادتي تفرغت لها. وما يدريك ألا تهبط عليّ معجزة، فأكتب رواية هذه الأيام...
التفت بوجهه المبتهل إليّ، وأنا أتابع حركة يده، وأظنها لحيوان ميتافيزيقي، قبل أن يضيف بصوت له صدى حسبته يأتي من الزمن اللانهائي:
- فأنت لا تدري. ليست المسألة مسألة إلهام، وإنما الراحة النفسية الضرورية للكتابة.
ارتمى عصام على الكرسي بعد أن يئس من مشاركة حنَّا اللعب إياه، ولم يكن هو، كان عصام الذي فيه، عصام الفاشل، المندحر، الغريب حتى العظم، عصام المشحر، عصام المشحبر على صفحة الوجود، والذي بإمكان طفل صغير محوه بممحاته. أطلق ضحكة مدمجة لم يسمعها أحد غيره:
- ما لها راحتك النفسية؟
قال فاروق:
- إن حنَّا يتكلم عن راحته النفسية لأنه مفكر وأديب، من يكتب يبحث عن راحته النفسية، أليس كذلك يا حنَّا؟
دفع فاروق نظارته بعد أن خفقه الاحمرار مثل كل مرة، كانت كل الطرق التي تخيلتها في تضاريس وجهه عبارة عن خداع للحواس. لم يتمالك نفسه عن الضحك، ضحك لضحكة نديم، فسقط القناع عن وجهه، وسقط كل الماضي الذي له، والذي كان يمتد ويتفرع في كل أرجاء العالم قبل أن يضيع. فتح نديم يده، وضرب كفًا بكف:
- يا لك من أفَّاق!
كان ذلك أوج التسلية بالنسبة له. ولكي يمحو فاروق سوء الظن من صدر الرجل، توقف عن الضحك، ولكن بعد فوات الوقت. كان حنّا قد فهم، بدا تعيسًا، ابتسم بأسى، فأثار في قلبي الحزن.
- لا أفَّاق ولا من يحزنون! لقد فهمني حنَّا، أما إذا كان قصدي انتقاد أحد، فانتقادي لا يمت إليه بصلة.
دفع رأسه إلى الوراء، وارتدى هيئة جادة بدت غريبة عنه. هو أيضًا كان الآخر الذي فيه. قال لي حنَّا في غاية الأدب:
- هلا أتيت معي قليلاً؟
نهضت، وصاحبته إلى خارج المقهى. وخارج المقهى كان الضباب، براكين الضباب، وحمم لا تلمس، حمم ماورائية تلقى علينا من أغوار النظريات اللاوضعية والروايات اللاإدراكية وقصص الهوس والشطط، أوديسة لم تكتب بعد. كانت باريس تلتف بالضباب، وتلف كل العالم معها، وعلى الرصيف كان الشتاء يدنو مثل قدر للناس وللأشياء. رأيت حنَّا يجمع معطفه من حول عنقه قصيرًا منسحقًا ملفوظًا، فلا هو ابن الطبيعة ولا هو ابن الله، ويقول معتذرًا:
- ما كان عليّ أن أخرجك في البرد. هل معك 50 فرنك؟
تناولت محفظتي، وأعطيته. بدا لي هشًا، عاد إلى إنسانيته فجأة، فأشفقت عليه، ولما يزل شعوري بأناي الساحقة لي يتفاقم ويزداد تفاقم الضباب وازدياده على قباب باريس وعبر شوارعها وفي حدائقها وحول تماثيلها وصروحها وروائعها ومتاحفها وكل آثارها.
- سأردها لك خلال يومين. بعثت برقية إلى بيروت. لا أعرف ماذا جرى لأهلي! على أي حال، تكون البرقية قد وصلتهم، وهاأنذا الآن في الانتظار. قال الأهل إنهم سيعينونني، وقد اقتربت من النهاية، وإلا ذهبت إلى زايير من أجل أن أجمع ثروتي الصغيرة - وأطلق ضحكة عادية - ومثلما قلت لك، سأردها لك خلال يومين، إنها حوالة برقية، وهي سريعة.
- بسيطة.
وراح يحكي لي.



الفصل السادس
بيروت في الصيف



كانت أختي الكبرى سمينة جدّاً وكبيرة جدّاً حتى أن الناس قد اعتبروها عمتي. كانوا يعرفون أنها أختي، ولكنهم كانوا يقولون لي: (( اذهب، وقل لعمتك إننا نريد أن ندفع لها الإيجار)). أو: (( اذهب، واطلب من عمتك أن تصلح لنا الحمام)). (( اذهب، وقل لعمتك إنه من اللازم أن تطرش كل شيء)).
شقة الغرفتين تلك كانت تركة أُمِّنَا، في العمارة نفسها التي نسكن فيها، وكانت أختي الكبرى هي التي تتكلف بها. ومع ذلك، كان أبي لم يزل حيّاً. ولكن، هو، لم يكن لديه الوقت. كان يذهب إلى الميناء كل صباح ليشتري السمك من صغار الصيادين، ويبيعه لكبار السماكين. تحت حجة أن لا وقت له - ومع ذلك كان كل الوقت له بما أنه لم يكن يعمل أكثر من ساعتين أو ثلاث في اليوم - ترك لأختي الكبرى العناية بإدارة التركة العائلية. أختي الصغرى التي كانت أكبر منِّي، فأنا صغير العائلة، لم تشأ السماع بتركتنا تلك على الإطلاق. كم مرة نصحت أبي أن يبيع الشقة الصغيرة، لكنه كان يريد الاحتفاظ بها أيًا كانت الظروف: ((هذه الشقة لن أبيعها أبدًا حتى ولو دفعوا لي بثقلها ذهبًا! ستكون لِحَنَّا، عندما سيختار زوجة جميلة، ليبقى قريبًا مني)).
شَكَتْ أختاي، فماذا سيكون لهما عندما تتزوجان؟
قال أبي: (( أولاً أنتما لن تتزوجا أبدًا. ولكن إذا صدف وتزوجتما يومًا، فستذهبان مع زوجيكما)).
أختي الصغرى التي كانت سمينة كأختي الكبرى، راحت تبكي؛ لأنها لم تكن تريد أن تظل عانسًا كبكر العائلة. هي، على الأقل، كانت مسنَّة، ولكنها لم تكن مسنَّة كثيرًا. كانت سمينة، ولكنها لم تكن سمينة كثيرًا. بريجيم صغير، صغير- كبير، لأنها كانت تزن مائة وعشرين كيلوغرامًا، ستجد قوامها وزوجًا غبيّاً، لم يكن ذلك مهمّاً.
في ذلك الصيف، كان الجو حارّاً جدّاً في بيروت، وكأن جهنم انقلبت على رأسها، كانت الحرارة تصب بالأطنان، حتى ماء البحر كان حارقًا. كانت بيروت قد تحولت إلى فضاء للممسوخين السعيدين بغضب الطبيعة عليهم، وكانت أختاي تقضيان نهارهما، بجسد الحوت الذي لهما، شبه عاريتين، بحثًا عن رحمة الله، وهما جالستان على درج العمارة. كانتا تقولان: ((إنه المكان الوحيد الذي فيه قليل من الهواء الرطب)). بينما أنا كنت معلقًا بين رحمة الله وغضب الطبيعة، غريبًا عنهما، شيء من حي بن يقظان، موضوع أطروحتي في المستقبل، قبل أن أرى في الطبيعة ابنة الله وفي الله ابن الطبيعة. كان كل شيء مصابًا بالأُكال، وفي رأسي الكثير من الأفكار التي لم تكن واضحة.
وكان الجيران يفعلون الشيء ذاته، ومع ذلك، لم يكونوا من السمنة بقدر ما كانت عليه أختاي. شخصيّاً كنت أشوص على فتون، جارتنا ذات السبعة عشر ربيعًا، بجسدها النحيل، وساقيها البيضاوين، ونهديها الصغيرين، كانت هي من أريد زوجة وما لم أقله لأحد، حتى لفتون نفسها... خجلي، كنت خجولاً دائمًا. أكثر مما يجب. كان يمكن لموجة الحرارة التي تطغى على بيروت أن تلعب في صالحي؛ لأنها كانت تسمح للجيران بالتقارب ما بينهم. ولكن بسبب خجلي، كنت أفضل البقاء في غرفتي، في فرن فعلي، معظم الوقت، أفكر في فتون، وفي علة الوجود. لمرة واحدة أردت تقبيلها، ولم أكن أعرف كيف أتصرف، وذلك عندما كلفتها أختاي بأن تعمل لهما قهوة.
وأنا أخرج من غرفتي، وقعت على فتون وحدها في مطبخنا، نصف عارية. سارعت نحوها مدفوعًا بقوة لاشعورية، وأخذتها من ظهرها. دفعتني بعنف، وهي في الوقت ذاته تقهقه، ثم هربت. كان الأمر بالنسبة لي صدمة فظيعة، كيف استطعت أن أجرؤ على القيام بفعل كهذا، أنا، الخجول؟ في اليوم التالي، عادت فتون إلى المطبخ، ولكني بقيت أغلق بابي عليّ، حتى أنها طرقت بابي تريدني أن أخرج. أن آخذها في أحضاني ربما، وأن أرطب جسدها النحيف واللذيذ بقبلاتي. فضلت أن أبقى مفتونًا بفتون الأخرى التي لا تلمس، والتي تتسلط عليّ تسلط أختيّ، ولكن بطريقة أخرى، شهوانية، بل ربانية. ومع ذلك، منذ فعلتي الرعناء مع جارتنا الشابة، والجميلة، لم تعد النساء يسببن لي كل ذلك الخوف. النساء اللبنانيات ربما، ليس الفرنسيات، ليس الألمانيات، ليس الأمريكانيات، أو الأخريات. خاصّة الفرنسيات. منذ تلك اللحظة، حسمت أمري بين الله والطبيعة دون أن أحسمه بالفعل، تأرجحت بين الاثنين، وأصبحت فيلسوفًا، المرأة في قلب أفكاري. أصبح حلمي الأكثر جنونًا الغرب، فرنسا، باريس، الحي اللاتيني، فندق الغرباء.
في الصيف التالي، تركت بيروت على مرأى فتون، وهي تذرف دموعًا حارة. وَقَعَتْ في غرامي، منذ اليوم الذي حاولت فيه عناقها، وأنا في غرام فتاة لا توجد في باريس. فتاة أقرب إلى الطبيعة عندما يتعلق الأمر بعقلها، وأقرب إلى الله عندما يتعلق الأمر بجمالها. والمفارقة منذ وصولي إلى مدينة النور، لم أتوقف عن الحلم بفتون، هي من أريد. لأجلها أرغب في أن أكون دكتور دولة، فأعود إلى بيروت، لا أريد مدينة أخرى في العالم غير بيروت، وأتزوجها. حقًّاً باع أبي تركتنا من أجل أن يفي باحتياجاتي، ولكن هناك، كي أكون مع فتون، أنا مستعد لقبول كل شيء، حتى جحر الثعبان. فهل سأعود إلى فتون ذات يوم؟ ومتى سأعود إليها؟ كل شيء غير محتمل في هذه البلاد كالصعود على القدمين إلى آخر طوابق برج إيفل.



الفصل السابع
وماذا أيضًا؟



وأنا أعود إلى المقهى تلقفني حسين، وقد عاد يأخذ شكل الكأس:
- اشرب كأسًا على حسابي.
كان يترنح، والأرض تترنح معه، فاعتذرت:
- لا، أشكرك.
راح حسين يدلي بالأيمان المغلظة كي أشرب كأسًا على حسابه، وهو يشعر بسبب رفضي أنه يخسر اعتباره، فكررت اعتذاري:
- المرة القادمة سنشرب كأسًا على حسابي أنا.
لم يكن قصدي إهانته، حتى أنني تساءلت لماذا رفضت له مطلبًا يرضيه. تركته مثل كومٍ من الهموم على المشرب، ومن ضياع الذات، وهو يهمهم:
- لا يريدون أن يشربوا كأسًا على حسابي...
رأيته يرفع رأسًا متثاقلاً كمن يربض كل العالم عليه، ثم ما لبث أن تقدم من أحدهم كالثور المثخن بالجراح، هناك في أقصى المشرب، وبدأ يتكلم معه بصورة متقطعة، والآخر يصغي إليه دون اهتمام، وهو يهز رأسه من وقت إلى آخر بآلية.
قال نديم بهيئة طفل ماكر لم تكن تليق به:
- حسين يحكي قصته مع (( فرانكو)) لكل الناس.
أطلق عصام ضحكة موجزة:
- يموت ويحيا وهو يفكر في...
كان كمن يسحق أنفه على باب زجاجي يدور في الفراغ. تدخل فاروق:
- اتركوا الناس على حالها.
أن يدافع فاروق عن حسين كان مفاجأة لعصام، بدا قَرِفًا، وقَلِقًِا، لأول مرة أراه مستلبًا ومستسلمًا لشيء أجهله، ربما كان قدره كغريب. حاول عصام أن يقدم تبريرًا:
- وماذا قلنا؟ الذي قلناه إنه يموت ويحيا وهو يفكر في...
- وأنت؟
- وأنا ماذا؟
- ألا تموت وتحيا وأنت تفكر مثله؟
- لا.
- من أجل سبع سنوات في باريس سنة أولى و... أدب عربي دون أن تصل أبدًا إلى شيء نافع! كم من كلية بدَّلت إلى حد الآن؟
انفجر نديم ضاحكًا وهو يرتعش لذةً، لذة تحقير الآخر:
- أرأيت لماذا دعوتك بالتنبل؟
بدت على جبينه أمارات الفشل الذريع، وهو لهذا كان يخجل من نفسه. تردد وهو يتطلع إلى طاولة الفليبر قبل أن يقول:
- اسمعوا، يجب أن أنجح هذه السنة.
وبدا أنه هو أيضًا يعاني من الأُكال، ولكنه أُكال من نوع آخر، ينهش العقل، ويدمر الذكاء. قال فاروق وكأن الأمر مفروغ منه:
- ولم لا؟ لست أقل ذكاء من أولئك الذين ينجحون، الكل ينجح.
لم يكن فاروق واثقًا مما يقول، كانت كلماته مجانية، وكان يعرف لماذا، لأن عصام انتهى منذ زمن طويل، ولكنه لم يكن يريد أن يعترف بذلك. كان يراهن على باريس أن تنقذ صديقه، وكان ذلك رهانًا فائتًا لأوانه. دفع نديم ظهره على كرسيه، وأراد أن يلعب دور الأخ الكبير مع أنه كان أصغر من عصام سنًا:
- بشرط أن تداوم على الحضور، يجب أن يعرفك الأساتذة.
وتوجه إلى عادل، وعادل غائب عنا، كان يبدو كمن ينتظر أحدًا لم يأخذ معه موعدًا، وكان يبدو قلقًا وقرفًا هو الآخر:
- تصور أنَّه جاء يحضر درس ((المنهجية)) البارحة فقط منذ بداية السنة الجامعية، فحسبه الأستاذ مراقب شرف!
انبسطت أمارات عادل فجأة، وقال دون ينجح في إخفاء ضحكته:
- له هيئة مراقب شرف الرفيق عصام!
- أرأيت؟
قلت وقصدي الرثاء له:
- أضعت نفسك بنفسك، يا مسكين!
لم أكن على قدر الرثاء، كان قدر الرثاء علينا جميعًا، ولكي يخفف عني فاروق قليلاً مما أشعر، تدخل بسرعة:
- لم يضع بعد الشيء الكثير، قليل من الإرادة.
أية إرادة؟ أين الإرادة إن لم تكن هناك القدرة على الإرادة؟ ذهب بعينيه بعيدًا، إلى المكان السري لغربتنا الذي كنا نعرفه جميعًا، وما لبث أن قال لعصام لائمًا:
- لو سمعت كلامي منذ البداية، وسجلت معي في جامعة ((جوسيو)) للرياضيات والعلوم لكان معك دبلومك اليوم.
دفع عصام رأسه إلى الوراء، فبدا كالبحار المنتظر على الرصيف لسفينة لن ترسو أبدًا:
- لا أحب الرياضيات.
أضاف ببسمة خفيفة بعد أن وجد سببًا، أي سبب، مقنع أم غيره، المهم أنه وجد سببًا، وهو يعجب من أمره:
- مع أني كنت طوال عمري الأول في الرياضيات!
لم أقل له إن باريس أفقدته حبه للأشياء وكل ما تعلمه معها، حاولت أن أخفف عنه، فقد بدا لي كمن انتُزِع من جلده. قلت له:
- الكل يتغير.
نهض نديم، وعاد إلى الجلوس بحركة غدت عادية لديه قبل أن يقول:
- الكل يتغير إلا حنَّا، لديه مشروع رواية باستمرار...
وأطلق ضحكة متهكمة بدافع لذة تحقير الآخر دومًا:
- ...كتابتها مؤجلة إلى ما بعد وفاته!
انتهره عصام، ولأول مرة بدا ممتلئًا بذاته ومرتاحًا:
- اخرس أنت، ولا تتكلم عن الناس الذين هم أحسن منك! حنَّا روائي وفيلسوف، وهو يضاهيك قيمة، فأين أنت من مواهبه؟
وإذا بنديم ينفجر بضحكة مدوية، وضحكته تمنعه من الكلام بشكل عادي:
- طبع رواية على حسابه سنة 65، فكان قارئها الوحيد...
همهم بنفس منقطع:
- ... وشاريها الوحيد!
ارتبك، ونحن ننظر إليه بعيون فقدت البريق، بدا مهمومًا، وفكرت أنه تذكر موعده من أجل العمل الذي وجده. قال فاروق منتقدًا طريقته في طرح الأمور:
- وماذا في هذا من عيب!
- العيب أنه أنفق من أجل طباعتها الثمن مضاعفة بما أنه الشاري الوحيد، المكتبات لم تحاسبه إلى اليوم.
ضحكنا كلنا لأننا لم نجد شيئًا آخر نفعله، ضحكنا ونحن مثقلون بالهموم، كان كل واحد يعاني من همٍّ ما على طريقته، ولم تكن هناك مسافة كبيرة تفصل بين همومنا وضحكنا... ثم أتانا ضجيج لاعبي الفليبر، فسقطنا في الصمت من جديد.
فجأة، قال عادل، وكأنه يؤذن لحلول الحضارة ما بيننا، أو شيء ما أقرب إلى السلطة بالنيابة:
- ها هو إسماعيل.
رأيناه من وراء زجاج المقهى، وهو يوقف سيارته ذات الحصانين. كانت العتمة قد بدأت تتساقط مع الضباب، عتمة شديدة، وضباب سميك. وفي الخارج، كانت حركة الساعة الخامسة للموظفين: إنه موعد انتهاء الدوام، وانتهاء الزمان، وانتهاء الكون. ضرب إسماعيل باب سيارته الصغيرة في زهو وخيلاء من يمتلك كاديلاك، أخفاه زوج متأبط الذراع، ثم ما لبثنا أن رأيناه وبصحبته مصطفى.
حيَّانا إسماعيل بهذه القنبلة:
- اسمعوا يا شباب، الأحوال خطيرة!
- ماذا؟
- لقد استدعاني البوليس!
جذب كرسيّاً بحركة درامية، وارتمى عليه، وهو يطلق نفسًا مديدًا. مدَّ قدميه، وأطلق نفسًا مديدًا آخر، وأعاد:
- الأحوال خطيرة جدّاً!
كانت بداية هذيان لن ينتهي، نوع من هذيان الحضارة، وكان إسماعيل يبدو زائغ البصر.
سأل عصام بانفعال من يخشى ما هو أسوأ:
- ماذا هنالك؟ أوضح!
تحاشى مصطفى السلام على عصام بينما سلم علينا واحدًا واحدًا بابتسامته المدمجة الدائمة على شفتيه، وصوته الذي يتصنع الرجولة: ((كيف حالكم يا شباب؟ ماشي الحال؟ ممتاز!)). كان على عكس إسماعيل يوحي بتلطيف الجو، وكأنه في حالة توازن لازمة لإسماعيل.
التفت إسماعيل يمنة ثم يسرة، فلفتت انتباهي لحية البوذي التي له، ألصق ذقنه بصدره، ونفخ:
- لا أستطيع أن أحكي.
نبر عصام، وهو يسعى إلى إثبات الذات عن غير قصد منه، ونفي كل ما يمكن للمرء أن يخال من خطورة تعود على الجميع في نفس الوقت:
- هذه تسمى ولدنات الآن! واحد من اثنين، إما أن تحكي، وإما أن تعود من حيث أتيت، وإلا لِمَ كل هذه المقدمات، وكل هذه الحركات، وكل هذه الإيماءات، طالما أنك لا تستطيع أن تحكي؟
لكن إسماعيل لم يوقف هذيانه بل على العكس زاده عمقًا:
- قلت لكم هذا المقهى ملغوم، مقهى المخابرات، وحذرتكم من الجلوس فيه، لكنكم تصرون على ارتياده، كأن باريس بطولها وعرضها انعدمت فيها المقاهي!
قال عصام بصبر وكأن الأمر يعنيه هو وحده:
- وبعدين؟
- وبعدين! انظر هناك، على يمينك، الرجل الذي يقرأ الجريدة، أؤكد لك أنه بوليس، وما يدريك أنه من الموساد. منذ متى وهو هنا؟
لم يكن مسرح بريشت، ولكن عادل بدا مأخوذًا بما يهذي إسماعيل به، فقال مهتمًا:
- منذ أن أتينا.
- ألم أقل لكم؟ إنه يتظاهر بقراءة الجريدة بينما هو يصغي لما نقول. شكله يقول إنه يعرف عربي أكثر منك، يا رفيق عصام.
الهذيان، الهذيان الحضاري، والآن الأُكال، نعم الأُكال من جديد، أُكال الفطنة والدهاء. تجعد جبين عصام، وَهبَّتْ في عينيه الخضراوين عاصفة من الإرتهان الحشيشي ، لكنه قال بهدوء:
- وماذا لو استمع إلينا؟ فليستمع إلينا ما شاء له، لسنا زمرة قطاع طرق، نحن أناس على قد حالنا، لا نبحث عن المشاكل، ولسنا قدر المشاكل. أمَّا أنت، فربما كنت خطيرًا لدرجة تدعوك إلى كل هذا الحذر.
- أنا خطير!
قالها بحزن، بعتاب وحزن.
تدخل نديم:
- أنت خطير وخطير جدّاً!
منذ قليل كانت لذة تحقير الآخر والآن لذة السخرية منه... وانفجر ضاحكًا.
دافع عادل عن إسماعيل بشيء من إماتة النفس في الحياة الدينية، نعم الدينية، وهو الآتي من الشيوعية والذاهب إلى أي مذهب يقبله:
- ما لكم والرجل؟ لا داعي لأن يكون المرء خطيرًا كي يحذر الخطر، إن الحذر مطلوب على أي حال، وربما كانت لإسماعيل أسبابه.
وإذا بفاروق يقول مشيرًا إلى الرجل الذي غادر المقهى:
- كفى هذرًا، لقد ذهب الرجل.
قلَّد عصام ضحكة عاهرة انفجر على إثرها الجميع حتى إسماعيل ذاته، وعاد إسماعيل يبحث في وجوه الزبائن، ويبحث، يبحث عن علامة تبرر حذره، لأن الأمر إذا كان دعابة حسب عصام، فهو دعابة سوداء. حتى الضحكة كانت لهذيانه الحضاري لا بد أن تكون نتيجة لرد فعل حياتي عنيف ومأسوي. قال لنا:
- وما يدريكم أن هؤلاء الأبالسة الذين من حولكم ليسوا مخابرات؟
أطلقنا كلنا ضحكة استهزائية ضخمة، على سماعها تقدم حسين منَّا كالثور المثخن بالجراح:
- تضحكون؟ أضحكونا معكم.
توجه إلى إسماعيل:
- كيف حالك، يا رئيس؟
- رئيس!
- ألم تصبح رئيسًا بعد؟
سألني إسماعيل:
- هل هو سكران؟
لكني قلت:
- أنت تتصرف كرئيس هذه الأيام، رئيس بحق، أو على الأقل نائب رئيس، الجميع على اتفاق حول ذلك.
- لماذا؟ الله يسامحكم! نائب رئيس كيف؟ ورئيس ماذا؟
- رئيس أي شيء! صاحب علاقات عليا! وإذا أراد أحدهم أن يراك، فعليه أن يحدد موعدًا.
راح يطبطب على ظهري، وهو منطرب للقب:
- الله يسامحك! الله يسامحك!
- متى أراك؟
- متى شئت.
وفتح مفكرة الرجل الهام الذي يظن، الرئيس بالوكالة رغم طموحه المهووس، لا أدري لماذا كان لدي هذا الانطباع عنه، رئيس بالوكالة، ربما لأنه كان دومًا على استعداد ليصبح رئيسًا، وهذه حال من هو نائب للرئيس، وربما لأنه يشعرك بانتظار أن يصبح شيئًا في اللحظة القادمة يكون فيها غير ما هو عليه ككل مغترب يرفض الاعتراف بوضعه. أشرت إلى المفكرة، وأنا أبدي تعجبي:
- أرأيت؟!
وجدها إسماعيل فرصة مناسبة لتأكيد طموحه المدمر، فقال:
- مواعيدي كثيرة، هذا شيء أقوى مني! إذا لم أسجلها نسيتها. لا يعني ذلك أني لست لك كل يوم. الاثنين القادم ما رأيك؟
- اليوم الأربعاء.
إذا أردت التقينا غدًا الخميس، عندي ساعة، بل ساعة ونصف الساعة، بين الحادية عشرة والثانية عشرة والنصف.
- أفضل الاثنين القادم. اترك لنا وقتًا كافيًا.
- طيب وأين سنلتقي؟
- في مقهى الاسكولييه )) L’Escholier ((؟
- أبعدنا عن هذا المقهى الكريه، مقهى العاطلين عن العمل من عربنا أو العاطلين عن العلم من أساتذة السوربون.
- سأكون قريبًا من مقهى الكاروس ((Le Carrosse)).
- طيب، بعيد عنِّي، ولكن لدي سيارة، هذا لا يهم، في مقهى الكاروس، الاثنين، على الساعة الثانية عشرة، اتفقنا.
اتفقنا دون أن أدري السبب الذي من أجله أخذت موعدًا من إسماعيل، لكني وأنا معه كنت أدخل في عالم هذياني الخاص، الشخصي، الحميم، دون أن أبوح بذلك لأحد.
سمعت عصام يهمهم لعادل:
- هذا الولد، لم أعد أعرف كيف يتصرف هذا الولد!
نبر إسماعيل:
- أنت صديقي منذ سنين وسنين ولا تعرف كيف أتصرف!
بدا عصام على وشك العودة إلى وضع الفاشل الأزلي الذي كانه، وكان لا يريد ذلك، كان يهرب من فشله بشكل من الأشكال:
- قلت لم أعد أعرف، وليس لا أعرف. كنت قد فتحت موضوعًا بطريقتك الدرامية المعهودة، وجعلتنا جميعًا نصغي إليك، ثم أغلقته بطريقتك الدرامية المعهودة، إذا لم يكن قصدك أن تقول ما عندك، فلماذا أول ما دخلت فقعتنا بقنبلة كهذه؟!
قال إسماعيل بشيء من التحدي:
- تريد أن أحكي؟ اسمع...
جذب لحيته مرتين، وسكت. التفت حواليه، وفتح فمه إلا أنه توقف عند تدخل الساقية:
- ماذا تريدان أن تشربا؟
كانت حضارة الاستهلاك قد أذّنت بالصلاة، وأعادت الجميع إلى أرض الواقع المغيب في غربة الطلب، الطلب دون العرض. وضع عصام يده على رأسه، وبدا عليه الانزعاج، بينما نفخ عادل، كان هو أيضًا مثلي يبحث عن هذيانه الخاص، الشخصي، الحميم.
قال إسماعيل للساقية:
- أعطيني بالون ليمونادة.
- و... السيد؟
سألت مخاطبة مصطفى .
لكن إسماعيل عاد يؤكد لها:
- مثلما قلت لك، بالون ليمونادة، لم أطلب كأسًا، هل فهمت؟
- فهمت جيدًا.
- بالون، وليس كأسًا.
وغمزني، والساقية تطلب إلى مصطفى:
- لم يقل السيد ماذا يريد.
قال مصطفى برزانة ووقار:
- واحد بيرة.
تدخل حسين:
- اجعله اثنين.
عجَّل مصطفى إلى القول وهو يضاعف من قدر الرجولة في صوته:
- اثنان بيرة.
خفَّتْ الساقية باتجاه المشرب، وأنا أنظر إلى مصطفى من جديد، وأقول هو مع إسماعيل هنا من أجل إقامة التوازن.
جرَّ حسين كرسيّاً ورمى بنفسه عليه متهالكًا إلى جانب مصطفى، نفخ في وجهه، فشم عنه رائحة كحول قوية تقلصت منها تقاطيعه، وكادت تفقده توازنه:
- أنت سكران؟
- لا.
وتجشأ.
- ما بك؟
- لدي شيء أقوله لك.
- ألا يمكنك الانتظار؟
- أنت دومًا هكذا، لست على عجلة من أمرك، ومع ذلك
لا يبدو عليك الانتظار.
- بلى، بلى.
- وعلى العكس منك، أنا دومًا هكذا، على عجلة من أمري، ومع ذلك لا أحد يبدو عليه الانتظار مثلي.
- قل لي من تنتظر إذن؟ ماذا تنتظر؟
- لا أعلم.
لم يكن حسين يفهم أن مصطفى هنا من أجل إقامة التوازن، وأنه يقول لكل واحد ما يريده منه وما يدغدغ السؤال الوجودي المحير لديه. كان إسماعيل قد شرح لي بابتسامة متماكرة:
- ثمن كأس الليمونادة يساوي الضعف مع أن محتوى البالون لا يقل عنه كثيرًا!
وتكركر ضاحكًا إلى ما لا نهاية، وأنا أضحك معه، وأرى أن في الأمر نوعًا من العبث المعقول، شيئًا متممًا للهذيان الحضاري.
عاد عصام يسأل:
- قل لنا، ماذا عندك من حكايات غريبة؟
انتظر إسماعيل لحظة قبل أن يتكلم، ثم قال لنا على طريقة الناطق الرسمي لسلطة سياسية ماورائية:
- لم يكن استنطاقًا بقدر ما كان استفزازًا دنيئًا! والأخطر من ذلك أنه تم ذكر بعض الأسماء. وحاول البوليس أن يأخذ مني معلومات، ومنها معلومات شخصية، بعد أن أوهمني أنه على علم بها.
التفت إلى عصام، وركَّز عليه النظر، وكأنه يريد سحقه:
- هذه أمور ليست بالخطيرة، يا رفيق!
أضاف كمن يلعب في فيلم بوليسي كتب قصته وقام بإخراجه:
- هناك من ينقل لهم أخبارنا، حتى قذاراتنا الصغيرة.
ونظر إلينا واحدًا واحدًا:
- إنه واحد قريب من الجميع. واحد منّا؟
عاد يركِّز النظر على عصام:
- أتريدني بعد هذا أن أطمئن لخيالي؟ بعدما خرجت من عندهم صرت أشك في الجميع، صار الملاك عندي شيطانًا، صرت أشك في نفسي.
انتهى الهذيان، وابتدأ الشك، شيء أقرب إلى البحث عن الكنز المفقود، الحقيقة الضائعة. سأل عصام:
- أسماء من ذكروا؟
قال، وهو ينظر من جديد حواليه، وهو يوغل بنا في عالم من البحث عن الذات دون جدوى:
- لا داعي لذكرها الآن.
أخذ نديم يجدف، ويبصق، كان يبدو كمن حصل على عمله، وها هو يمارس مهنته كمنظف جدير بذلك.
سأل فاروق:
- وغير المعلومات الشخصية؟
انفجر نديم:
- هناك جواسيس حولنا، فوقنا، تحتنا، جواسيس منَّا!
قلت لنديم:
- غريب أمرك! من يسمعك يظن أننا عصابة قتلة، لنا خططنا وأسرارنا، والجواسيس حولنا بالدزينات، كل واحد يحاول أن يقتنص منا سرّاً ليحوز على ميدالياه!
صاح بي نديم، وهو يلتفت إلى إسماعيل:
- أنت لا تعمل سياسيّاً، أما غيرك فيعمل سياسيّاً.
أفجعني، الصديق القديم للإمام الأحمر، الباحث عن التسلية في سيرك الوجود، الرأي الواحد ثم الذي لا رأي له! ألهذه الدرجة يريد إثبات أنه جدير بمهنته الجديدة:
- وما الجريمة في ذلك؟ العمل السياسي لا يعني وضعك في القفص.
لكن عادل كان مع بريشت، على خشبة مسرحه السياسي، وكان يخاف من أن يلقى عليه القبض متلبسًا بسرقته لكتاب:
- المطلوب أن نفهم معنى العمل السياسي: كيف ولماذا ومع من؟
وإذا بإسماعيل يركض في ضياعه بين باريس والقدس، ويقول:
- طلبوا مني أن أَحُدَّ من تحركاتي، وقالوا لي إني أثير ريبة الجميع.
أعاد عصام وهو يركض لاهثًا من ورائه بشيء من الاستغراب:
- تحركاتك!
رمى فاروق هذه الكلمات في وجه إسماعيل وهو يركض لاهثًا من وراء عصام:
- أنت تتحرك كالدجاجة فوق البذر! أغبياء هم لدرجة أنهم لا يعرفون هذا؟
عتب عليه إسماعيل وهو لا يتوقف عن الركض:
- ليس هذا وقت المزاح، يا فاروق!
انفعل فاروق، وهو يركض دومًا من وراء عصام الذي يركض من وراء إسماعيل وإسماعيل من وراء البحث عن الروح الضائع:
- لا، بجد، البوليس غبي لدرجة أنه لا يفهم ما هي تحركاتك؟
نبر إسماعيل بعد عجزه عن ابتلاع كلام فاروق الجارح، وهو من يحاول ألا يرتضى بالضياع حياة بلا جدوى:
- كن مكاني، وافعل ما أفعله، تكن القضية لك شاكرة.
أطلق عادل نصف ضحكة، نصف ضحكة أشبه بأنصاف ضحكات السلمونيات، ثم قال بتهكم من لا يجد أي نفع في شيء:
- الاتصال بأجنحة اليسار المتطرف يخدم القضية في رأيك؟ كفى عماء وغباء! هكذا أنت تفرغ القضية من محتواها الثوري!
أي محتوى ثوري أيها الآتي من الشيوعية الذاهب إلى أي مذهب يؤهلك لدفع أكبر مبلغ مقابل أصغر مقال في النقد معروفة أوصافه سلفًا؟ انفعل إسماعيل، وأنفه يضيق ويتسع على إيقاع كلماته، كان يفكر في حبيبة له في القدس لم يتذكرها منذ سنين طويلة، حبيبة من أجلها غادر القدس إلى باريس كي يبتعد أكثر ما يكون عنها، حبيبة تركته، وارتمت في أحضان ضابط من ضباط الاحتلال، وكان يتمنى لو يذهب إليها، إلى عشيقة الجنرال الإسرائيلي، فقط ليقول لها إنه لو كان مكانها لفعل مثلها كيلا يعيش أزمة الثقة التي يعيشها مع رفاقه الآن، أزمة تطوح به في طريق مسدود من عدم التقدير وعدم الشكر:
- كنَّا قد اتصلنا ((برفاقك))، لكنهم لم يطرقوا الباب في وجوهنا فقط بل وطردونا. قل لي بالله عليك مع من تريدنا أن نعمل، والمفروض علينا أن نكون سفراء لقضيتنا، نعرِّف بها، ونكسب من أجلها الأصدقاء؟
قال فاروق، وقد نسي أنه على موعد مع العدم مثل كل ليلة، منذ غادر أمريكا:
- تتكلم كأنك تنظيم سياسي له وزنه وسلطته في هذا البلد!
ثم ابتسم له بتهكم، وابتسم لنفسه باستهزاء، فما الفائدة من كل هذا؟ لماذا لا يلعب دور مصطفى في إقامة التوازن مع اللامعقول وانهيار الحضارة؟ كان مع ذلك قد عاش لحظة سقوطها مرتين.
نبر إسماعيل بيقين كاذب:
- سأقول لك شيئًا، إنني مع من يرفع شعارًا إلى جانبي، مع من يتظاهر من أجلي في قلب السان ميشيل، ويهتف على مسامع الجميع ((فلسطين ستنتصر))، مع من يكتب في لوموند عمودًا أو نصف عمود يظهر فيه مأساة شعبي. أنا ابن وقتي، عليّ أن أشتغل هنا والآن مع أي كان وبأي شكل من الأشكال حتى ولو كان ذلك على حساب الأحزاب اليسارية الكبرى التي على كل حال لن تتحرك، فقادتها صهاينة كلهم، وهي إن تحركت، فبخجل ودون الارتقاء إلى المستوى العظيم للقضية.
ضجة!
تدخلت، وتدخل عادل، وتدخل فاروق، وتدخل نديم، وحسين، ومصطفى، وإسحق، ويعقوب، راح كل منا يشد إبراهيم من طرف، بدا كفائض القيمة المتنازع عليها، لكن صيحة عصام أسكتتنا. عصام الفاشل الأزلي ها هو يهيمن علينا كصاحب لأدوات العمل في عالم خسرنا فيه كل شيء... وما لبث أن أتانا صوت الساقية:
- الهدوء من فضلكم!
وضعت الطلبات على الطاولة، فأخذ إسماعيل بالونه، وجرعه دفعة واحدة كما لو كان يجرع قدره الخاسر.
رماه عصام في وجهه:
- أنت تخرأ الآنَ!
صاح حسين بإسماعيل:
- أنت ماوي، يا رئيس؟
ضحك نديم:
- عاد حسين إلى رشده!
علَّق فاروق، وهو يضحك أيضًا:
- لماذا رشده؟ هل كان مجنونًا؟
- أقصد لم يعد يبدو عليه أنه سكران.
كانوا يتحاورون دون أن يكلفهم ذلك شيئًا، وكل منهم سعيد بما يقول كمن يستنشق دخان المقهى بلذة، كانوا عبيدًا للأشياء، ومع ذلك، يعاملون حسين كشيء، وحسين يجد صعوبة كبيرة عند النطق ليس لأنه كان ثملاً ولكن لأنه كان متشيئًا:
- منذ قليل، كنت متفقًا معك، يا إسماعيل، تمام الاتفاق، أما الآن، طالما أنك ماوي، فإني أنقض اتفاقي.
سأل إسماعيل، وقد نسي تمامًا الفتاة التي كان يحبها في القدس، عشيقة الجنرال الإسرائيلي، وقد نسي القدس، ونسي أمه التي كانت فيها، كان حسين قد أثر فيه، في أفقه، في عمق أفقه، في مستقبله، كل مستقبله، كل كيانه كان يهتز ويرتعش كما لو كان عاريًا في صحراء قطبية:
- من قال إني ماوي، ومن تحدث هنا عن الماويين؟
لم يعره حسين أدنى اهتمام، كانت لذة التجاهل لديه أقوى من لذة التحقير لدى نديم. التفت إلى مصطفى، بعد أن جرع كأسه بروية، وقال مهمومًا:
- أنا لا أطيقهم، رغم أنهم يعملون لبلادهم ليل نهار، أنا لا أطيقهم، الصينيين!
كان ذلك موقف المعطوب الذي لا موقف له. غمزه نديم، وقد تداخلت اللذتان، وغدتا أية لذة دون طعم:
- هناك سبب لهذا.
راح حسين يخنفر، ويضحك كالمهرج المبكي:
- لا أطيق نساءهم، صفراوات الوجوه، قصيرات، يبتسمن باستمرار، وبلا سبب، لا أطيق نساءهم!
انتهره فاروق، فأوقف خنفرته في الحال، وقد عجز هذه المرة عن التصدي له، وبقي يفغر فمه كالأبله. هل يقول له إننا في تل الزعتر نذبح النساء كما نذبح الشياه؟
في الخارج، كان الضباب. دومًا. دومًا وأبدًا. كان الضباب في الخارج، والليل، والمعاطف الثقيلة، والقامات التي لا ظل لها، القامات التي تمضي والتي لا تمضي إلى حضن دافئ. الأحضان التي تسعى إلى أحضان أخرى دافئة أو باردة برودة التماثيل في حدائق الشتاء. أحضان العزلة والموت البطيء والحمام المقصوص الجناح، وأنياب الثعابين المغروسة في جسد زمن لانهائي. تحسست معطفي الملقى من ورائي، وفكرت في نانسي، وأصابني الندم لأني لن أجد جسدها الأبيض بانتظاري. لن تربض بجسدها الممتلئ عليّ، وتضغط، فتخنقني عن غير قصد. رأيتني في الخارج عاريًا أجري، فاتحًا جسدي للضباب، تاركًا جسدي لقدره، ممزقًا إياه في متعة البرد المدمر. أردت أن ألحق بالقطار هناك، قطار المساء الأخير، وأهبط في مدينة أبعد. في أبعد مدينة. فجأة، حطَّت يد فاروق على كتفي. كان يتأملني، ويبتسم كمن يبتسم لطفل. دفع نظارته بحركته العفوية، وسألني عمَّا بي. في تلك اللحظة، تقدم منَّا أحدهم، وشعره يتساقط على وجهه.
كان يردد:
- هكذا! هكذا!
وهو يلوح بقبضته في الهواء. رجل خرج من اللاوقت، من نقطة غائرة قبل أن تكون الأشياء، من الهباء.
انفجر نديم يضحك، وراح يقلده، وهو يلوح بقبضته على طريقته:
- هكذا ! هكذا !
كان نديم الوحيد بيننا الذي لا يحسن التصرف كما يجب عندما يدعو الأمر إلى ذلك، وكانت ضحكاته لا ترن على الرغم من حدتها، ضحكات من لا يعرف قيمة البكاء. أزاح الرجل شعره عن وجهه، وبدا أنه سكران للجميع. قال لنديم:
- مليون ونصف شهيد، ثمن تحرير الجزائر، أتسمع؟
ضاعت نظرته في الفراغ لحظة، في الخواء، في لعنة أعمارنا، ثم نطق بصعوبة:
- هناك جبال في فلسطين كجبالنا، أليس كذلك؟
أجاب نديم، وهو يحاول أن يمنع ضحكته، وأنا أراه قد انمسخ إلى صرصار أحمق:
- لا يوجد في فلسطين إلا الصحراء.
ضرب الرجل قدمه في الأرض، وراح يجدف، ثم انفجر غاضبًا:
- حتى ولو كانت الصحراء، ماذا يعني ذلك؟ تسلقوا لهبها، وقاتلوا! لن تحرر بلادكم إلا سواعدكم!
وسألني:
- لديكم السلاح، أليس كذلك؟
هززت رأسي، كنت أهز رأسي، وأنا أنظر إلى عدمي.
تتالت على وجهه جملة من التعابير الخُلّبية خلال لحظة حسبتها دهرًا من القتال في سيناء، وما لبث أن قال:
- ليس لكم حظ! لو كانت الجزائر على حدودكم لرأيتم كيف تحارب الرجال!
انتظر قليلاً، فوجَدَنا بدورنا ننتظر، نظر إلينا غير مصدق ما كُنَّا عليه، تركنا كالمدن المهجورة، ثم عاد إلى المشرب بهيئة المنهزم. اقترب مصطفى أو خيال مصطفى مني، وهمس في أذني، كان يريد أن يحادثني على حدة. قمت وإياه إلى طاولة في زاوية قصية، ونحن نلتفت من حولنا دون أن نبحث عن شيء.
نهض إسماعيل بهيئة مايسترو مجنون، فسأله عادل بصوت محتقن:
- إلى أين؟
كان عادل خائفًا من شيء لا يدريه، وكان إسماعيل يبحث عن الهرب من لا شيء تحت أية ذريعة. رمى بصوت منسحق وكلام متقطع:
- سأذهب لآخذ ابني من دار الحضانة، وتجد الآن امرأتي بانتظاري على الرصيف، من عادتي أن أمرَّ لأخذها بالسيارة، أو بالأحرى من عادتها هي انتظار أن أمرَّ لأخذها بالسيارة، ومن الصعب أن تبدل عادات النساء الفرنسيات.
رفع رأسه المنفوش الشعر إلى ساعة المقهى التي تشير إلى السادسة وخمس دقائق:
- تنهي عملها على السادسة، لقد تأخرت عليها أكثر من اللازم.
خمس دقائق لم تكن شيئًا كبيرًا ولكنها كل شيء لمن يقف خارج الزمن وهو مركول على عتبة الكون. كان ذلك من عادته، أو بالأحرى كان ذلك من عادتها. لم يلتفت إلينا، لم يلتفت من حوله، وخرج دون أن يودع أحدًا.
بعد قليل، اقترب فاروق من عصام، في الدخان، واندمج كلاهما في حديث هامس صاحبته حركات المشلولين. كانا يتكلمان بأياديهم كالدمى الآلية المهشمة. وهناك على المشرب، ضاع حسين بضع قرون قبل أن يعود إلى نفسه، ثم أخذ يدندن مسطولاً قرفًا من نفسه ومن الوجود: ((عيونك سحروني، وفتنوني، على باب الدار أخدوني...))، ولا أحد يصغي إليه.
وشيئًا فشيئًا ارتفع لغط الزبائن واللاعبين، وكأن اللغط مركِبٌ من الأصوات اللامتناسقة يطفو فوق الكون، والدخان محيط من الأمواج اللاموقعة، بعد أن كف كل ما هو ملموس عن وجوده الموضوعي، واختلطت الأصوات مع طرقات الفليبر، طرقات تدق أبواب عالم لا يلمس. وصلتني أطراف حديث الساقية مع عاهرة المقهى، ومصطفى إلى جانبي حائر كيف يبدأ حديثه معي. كان عادل قد اقترب برأسه من عصام وفاروق، في الدخان، وما لبث أن جاء نديم، قام وقعد كعادته، وراح محدثًا إياهم، بصوت واطئ، متقطع، منسحق، وأنا أسمعه بين الحين والحين يقول (( سأنتظر، ماذا سأفعل؟ ليس عليّ سوى أن أنتظر))، وفاروق يجيب بصوت واطئ، متقطع، منسحق، ((ولكني أنا لن أنتظر هكذا إلى ما لا نهاية، لقد قطعت كل أمل بالانتظار!)) ضحك عصام دون صوت، ونهض كالدمية الآلية المهشمة ليشارك بلعبة الفليبر، تبعه نديم كالدمية الآلية المهشمة، وأشخاص آخرون بدوا لي كلهم كحكومة الظل.

الفصل الثامن
أبيع أمي
من أجل المكتب السياسي

أعتذر إليك عن كل ما حصل لأخيك، كل ما حصل له كان بسببي، فأنا من قطع له تذكرة السفر يوم جاء للدراسة في باريس كي أبعث به إلى جهنم، إلى بيروت التي لم تعد شيئًا آخر غير جهنم، قبل أن يلقي الإسرائيليون القبض عليه. كنت أريد من الجبهة الديمقراطية أن تعطيني وسامًا كلما أرسلت لها رأسًا تذبحه في مسلخ الوطنية والتحرير، وكان عليّ أن أقاوم على طريقتي من أجل كرسي في المكتب السياسي الذي يتطلب شهادتين إحداهما ثورية والأخرى علمية، وإذا عدنا إلى الحقيقة، الأولى أصعب من الثانية بكثير، وأنت أدرى بتكالب الكل على المناصب. هل صدقت أن إسماعيل يناضل من أجل القضية؟ إنه يناضل من أجل أن يصبح رئيسًا لاتحاد الطلبة، ومن أجل أن يصبح فيما بعد رئيسًا لشيء آخر. لهذا تجدني ملازمًا إياه، من أجل أن يحقق ما يريد، ويتركني أحقق ما أريد. هذا هو جوهر التوازن الذي تراه فيّ، توازن أشبه بلعبة البوكر، بعد أن تخليت عن حريتي في ملجأ المجانين هذا الذي اسمه باريس. إذن الدكتوراه وكل نضالي من أجل فلسطين؟ لا، من أجل المكتب السياسي. أبيع أمي من أجله. أضاجع أختي من أجله. أعهر زوجتي من أجله. وهي على كل حال عاهرة، تلك المرأة التي لا تتوقف عن سبّي وفلسطين التي أناضل من أجلها وكل أجدادي، فأسبها وأصلها وفصلها، ونقضي نهارنا ونحن نتسابب، وقد بتنا نسعد لذلك، ورحنا نتصرف تصرف الغريب الأطوار كي يدفع أحدنا الآخر إلى السب واللعن، نأخذ السيارة الجيب التي لنا شبه عاريين، لنصدم الناس، ونجرح أحاسيسهم، ويكون ذلك سببًا في سبنا لبعضنا. وفي اللحظة القصوى من الشعور بالحيوانية، تجدني أذهب إلى قنطرة تطل على محطة الشمال التي لا تبعد كثيرًا عن شقتي، وأنظر إلى القطارات الذاهبة والآيبة. كان في ذلك راحة نفسية لي ما بعدها راحة، وكأني أعبئ نفسي لجولة السباب واللعنات القادمة.
ليس هذا ما أردت الحديث معك، وإنما حال الرفيق عصام التي أخذت تقلقني إلى درجة لا تصدق، وإذا لم أخطئ أجد من الواجب عرضه على طبيب عقلي، فهو يعيش في حالة مروق واضطراب وزيغ سببها فشله في حياته. لقد عجز عن فهم أن أشياء الحياة تولد فينا لا حولنا، وتكبر مع إدراكنا للحقيقة كل حسب هواه هذا صحيح ولكن بشكل منطقي حتى تلك الأشد أنانية والأفظع ممارسة. طلق زوجته، وترك كليته، وأثقل نفسه بالديون التي لن يقدر على تسديدها، واعتاد على ارتياد كازينو في غابة بولونيا يفقد فيه كل ما له وما عليه، والآن يريد أن يسرق أحد البنوك. نعم، أن يسرق أحد البنوك هناك حيث يسكن في مونمارتر، وسط سور من دكاكين اليهود، كي يقولوا يريد أن يحرر فلسطين من رصيف للتوراة في باريس، وكي يلقوا بسببه بنا في الباستيل أو يطردونا من منفى إلى منفى، وأنا لم أدافع بعد عن أطروحتي. هل تلمس مدى الهوس الذي سقط فيه؟ طلب مني أن أساعده بعد أن أكد لي سهولة ذلك، فرفضت، وأنا أفكر في القدس وفي المكتب السياسي. تصايحنا، ثم تضاربنا، وتركته مهددًا بإخبار الشرطة. ألم تلاحظ أنه لم يكلمني كلمة واحدة طوال الوقت؟ لهذا أريدك أن تعيده إلى طريق الصواب، فهو يحترمك، ويصغي إليك. أريدك أن تقنعه بالسفر إلى بيروت، سأدفع له ثمن التذكرة كما فعلت مع أخيك، وأوفر كل شيء من أجل أن يصعد ويغنى دون الوصول بالطبع إلى المكتب السياسي، فهذا المكان محجوز لي، أنام وأنا أفكر فيه، وأنهض وأنا أفكر فيه، وتجدني أذهب كل أحد إلى ضريج نابليون في الأنفاليد لأجل الدعاء والرجاء من إمبراطور النار والدم أن يحقق لي ذلك. ويبدو أن نابليون قد استجاب لدعائي ورجائي، فلدي إحساس أن الشعلة الخالدة للجندي المجهول في قوس النصر الذي بناه هي شعلتي.


الفصل التاسع
الذئاب
والرجال الآليون

الذئاب لا يُضِرُّ بعضُهُم بعضًا!
ذهبنا جميعًا لنسرق البنك، تدفعنا غريزة مشتركة خالية من أي حس أخلاقيّ أو معنويّ. كنا كلنا من الذئاب البيض، وكانت النقود لنا شيئًا أساسيًا في وليمة المنطق والعقل اللذين فقدناهما. كنا نسعى إلى تأكيد فقدان الذات، وإلى إظهار غضبنا ضد العنصرية وانتهاك معايير فرنسا وحقوق الإنسان. أردنا أن نكون ذئاب الشرف والكرامة ولعنة الملوك، وعلى الخصوص لويس السادس عشر، لنثأر له من الثورة وغباء روبسبيير. كان كل ذئب منا محكمة لحكام اليوم بعد أن حل التنافس ما بينهم محل التوازن، وأصبح بائع البطاطا المقلية أكثر مصداقية من رئيس الجمهورية. أبدينا عن نواجذنا لنثبت أننا على حق، ووقفنا نرقب هنا وهناك وصول المقطورة المصفحة المحملة بالمال والأحلام.
كان عصام ونديم وعادل ينتظرون داخل البنك، وأنا وإبراهيم وحنا وحسين وفاروق ننتظر خارجه. وما أن أطلت المقطورة المصفحة حتى ركضنا بقاماتنا الرشيقة وأذهاننا المتوقدة من حولها، واللعاب يسيل من أنيابنا. وحالما توقفت خرج الذين كانوا في داخل الوكالة، وحيّدنا السائق والحارسين دون أدنى صعوبة. لكننا كنا نجهل التاريخ على الرغم من كل معارفنا الذئبية، ولا نعرف أن احتقار الضحية جزء من السيرة الذاتية لكل واحد منا، إذ وصل على حين غرة أفواج من رجال الشرطة الآليين، وراحوا يطلقون النار علينا، فهل نستسلم لمن أوقع بنا وكل مال الدنيا معنا؟ كنا على استعداد لندفع أرواحنا ثمنًا وذواتنا وأعمارنا، وكنا أسعد الذئاب في العالم، فالسعادة لا تأتي من داخل النفوس ولكن من خارجها.
نشبت المعركة بيننا وبين الرجال الآليين وحمي وطيسها ونحن لا نفكر إلا في أمر واحد: الانتقام للويس السادس عشر. انكسر التوازن، وصار في صالح المخمليين من تلك الكائنات الغريبة التي تهيمن على كل مدن لغة الشعر والهوى المستهلكيْن، فلجأنا إلى الخديعة عندما خرجنا من أجساد الذئاب التي لنا، وعدنا نتيه في شوارع مدينة الدجى.


الفصل العاشر
المتحف البشري



أردت أن أعود إلى حجرتي في الدائرة السادسة عشرة، فاستبقاني حسين، وقال إنه يريد أن يحكي لي حكاية مشوقة هي مزيج من الحرام والحلال المدنس والمقدس جرت أحداثها قبل انطلاقة الثورة في مخيم تل الزعتر؛ لأنني الوحيد الذي سيفهمه. أصغيت إليه، وقد أثار الاهتمام عندي، فقال، وهو يطلب من الساقية بدل البيرة خمرًا:
في تلك الليلة، أطرى أبي مختار المخيم:
- خمرك لذيذة، كلها بركة! أكثر الله من بركاتك!
وجرع قدحه حتى الثمالة، ثم أخذ يمسح بيده ذقنه، وهو يضحك ضحكًا خافتًا.
كانت ليلة الجمعة، والحاضرون كانوا: الأستاذ عبد الفتاح المتقاعد، وشاويش المخفر أبو المحاسن، والعم درويش رئيس مكتب التشغيل، والحاج عبد الله صاحب مصنع المكانس. كانت سهرتهم الأسبوعية، كانوا يجتمعون بعد صلاة العشاء في بيت المختار؛ لأن المختار كان مطلقًا، وكانت له حجرة كبيرة مبنية من الحجر والأسمنت، ولأن ابنة المختار حورية كانت تقوم على خدمتهم. كنت أعرفها، أعرف تلك الحورية: عيناها حبتا لوز، ووجهها وردة جبلية، كانت تقرأ عند الأستاذ عبد الفتاح إلى أن صار عمرها عشر سنين.
في السنة التي بدأت تتعلم فيها حورية الحروف الأبجدية، ذهبت أنا إلى المدرسة في بيروت. من يومها، لم أرها إلا مرتين. كانت قد أتت لتزور أمي مرة، فمن عادتنا أن نتزاور من وقت لوقت، ورأيتها بالصدفة. وفي المرة الثانية، رأيتها أيضًا بالصدفة، ولكن دون أن تأتي لتزور أمي، لا أذكر أين.
أخذ حسين يحفر ذاكرته دون أن ينجح، بدا كالغريب الأزلي، بدا كما لو كان غير الشيء الذي كانه. رأيته ينظر إلى ظله بهلع كاد يفقده رشده، ولولا أنني وضعت يدي على كتفه لفقد عقله.
همهم، وهو يغمض عينيه، ويهصر ذاكرته:
- لو كنت من ((العصابة)) لرأيتها على الأقل مرة كل أسبوع. هكذا كانت أمي تدعو أصدقاء أبي، ((العصابة))، قالت لي أن أكتم ذلك خوفًا من غضبه. وفي أحد الأيام، حكى لي عمي درويش ماذا يفعلون في السهرة. كان الأستاذ عبد الفتاح يشعل البخور، فهو لم يكن يستسيغ احتساء الخمور دون أن تلف الأجواء روائح المعابد! وكان شاويش المخفر يصب الخمر في الأقداح، خمر حمراء، وخمر بيضاء، وخمر صهباء. كانوا يحتسون كل أصناف الخمور، وحينما كان الثمل يستولي عليهم، كانوا يبدأون في الحديث عن النساء، عن ذكرياتهم مع النساء. عرف الجميع أن الحاج عبد الله كان صاحب علبة ليل مشهورة في ((الحبلة)) بيافا، يجلب إليها راقصات أجنبيات، عن طريق وكالة يهودية، طوال موسم الصيف، ويقول:
- حكايات الحرام هذه كفانا الله منها ومن شرِّها! ذهبت إلى الأبد يوم أديت فروض الحج. قبَّلت قبر الرسول عليه الصلاة والسلام، وتبت توبة لا رجعة فيها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!
كان يقول له أبي:
- يا عفريت، يا حاج عبد الله! لماذا لم نعرفك في ذلك الوقت؟ كانت فلوسنا تذهب سدى في حانات اليهود، أمَّا أنت، فابن دين واحد، وقد كان من واجبنا أن نسببك.
- كثّر الله خيرك، يا أبا الحسين، قلت لك تلك حكايات ولَّت!
كان العم درويش يقول، وهو يشير إلى أبي:
- هذا، صديق المسرات والمسرات وحدها، كان يقضي الليل، طوال الليل، وهو يطوف كالذئب في أزقة حيفا، ويجرجرني من ورائه بحثًا عن غنيمة ثمينة.
كان الأستاذ عبد الفتاح يقهقه، ويضرب كفًّا بكفٍّ:
- أتقول غنيمة ثمينة، يا رجل! لماذا لا تسمي الأشياء بأسمائها؟ سمِّ الأشياء بأسمائها، قل عاهرة، يا رجل! قل داعرة، قل بغية!
- عاهرة، يا أستاذ عبد الفتاح، ولكن عاهرة ليس لها ماض ((مشرف))، يعني لا زبائن بالدزينات على حسابها، وإلا ما كانت بمقام أبي الحسين.
كانوا ينفجرون ضاحكين، وكانوا يتقارعون الكؤوس، وينفخون السجائر والنارجيلة، وكان الشاويش أبو المحاسن يعلق:
- قبل 48، كانت تلزمني المرتينة كي أصطاد على طريقة أبي الحسين، فأنا، مثلما ترون، تفزع النساء من بعيد على مرآي في النهار، فكيف إذا ما خرجت عليهن في الليل؟ اليوم، لدينا المرتينة واللوازم كلها، ولكن...
كان الحاج عبد الله يسأل:
- ولكن ماذا! القضيب، لا تقل لنا إنَّ لا فائدة منه ولا حاجة بك إليه إلا للتبول!
كان الأستاذ عبد الفتاح يجذبه من كتفه، وهو يقهقه، ويصيح:
- إذا صح ذلك، فأنا لا أستملح صحبتك، يا شاويش
أبا المحاسن، ولا الشرب معك! لأن صحبتنا تسمى صحبة أزلام لهم بنادق من لحم تطلق طوال الليل دون توقف!
كان شارب شاويش المخفر يهتز غضبًا:
- أتقول لي هذا، يا أستاذ عبد الفتاح، وأنا من أحبته بنت الباشا التي جعلتك في شبابك أستاذًا! وماذا عنك أنت؟ لا تقل لي إنك ما زلت قادرًا، وقد برزت عظام وجهك، ونهش الشيب شعرك!
كان الأستاذ عبد الفتاح ينزعج من كلماته، وكانت شفتاه تأخذان بالارتعاش كأنه على وشك البكاء:
- إنني أتحداك، يا شاويش السراقين!
كان أبي يوقفهما:
- لا داعي للعراك الآن، كلنا نشهد بقدرة الأستاذ
عبد الفتاح. ولا تنسَ، يا سيدنا الشاويش أبا المحاسن، أن الأستاذ عبد الفتاح قد تزوج من حميدة، ابنة أبي زكي، في العام الماضي، والتي لم تبلغ بعد السابعة عشرة، وهي اليوم...
كان الأستاذ عبد الفتاح يقاطعه ليقول في تعالٍ واختيال:
- ...حامل!
وكانت تنطلق تعاليقهم دفعة واحدة:
- الله عليك، يا أستاذ الأساتذة كلهم، يا سيدي عبد الفتاح! الرجال على قدر أفعالها! شهم، ابن شهم، وابن ابن شهم، ليس لك في الدنيا مثيل! تساوي الأستذة، يا أستاذ عبد الفتاح!
كان الأستاذ عبد الفتاح يقول للشاويش، وقد ارتاح للمديح الذي انهال عليه:
- أترى، يا شاويش؟ لا تلزمني مرتينة الخردة العثملية التي لك، الفعل في الفاعل!
كان الشاويش يبقى لفترة صامتًا، فيصيبهم الضيق لأجله، كانوا يتهامسون، ويتغامزون، وفي النهاية، كان الأستاذ
عبد الفتاح ينهض بطوله وعرضه، ويأخذ يد الشاويش، ويمسح بها ذقنه، فينفجر الجميع بالضحك. وعندئذ، كانوا يتناولون كؤوسهم، ويطرقونها، ويشربون نخب بعضهم.
سكت حسين، أخذ جرعة من الكأس التي كانت الساقية قد وضعتها أمامه، وغابت نظرته قليلاً في الفراغ، وكأنه غاب كله، ارتسمت على شفتيه ابتسامة مأسوية، ابتسامة من تثقله فاجعة في طريق التشكل، ثم عاد إلى الحديث بلسان مثقل:
حدثهم أبي عن فتيات الليل اليهوديات اللواتي ((فتك)) بهن – على حد تعبيره – وأكَّد لهم ما قاله العم درويش بأنه كان يرتاد حانات اليهود في حيفا حانة حانة. وهو كان يتكلم، كان يطلق تنهدات الحسرة، خاصة عندما تذكر بيارة البرتقال التي كانت له في الجليل وبيارة الحامض، كانت الأموال كثيرة، والخير كثيرًا، والذي كان يفعله أبي أن يبعثر كل شيء، كان يسعى من وراء المتعة، وكان شعاره، ((المتعة سنة الحياة))! كان يسعى من وراء المتعة سعي الظامئ للماء، ويظن أنه لن يرويها أبدًا. وكان الجميع يردد: كانت أيام!
قال المختار لأبي:
- أتذكر، يا سيدي أبا الحسين، يوم أتاني الحاج أبو داود طالبًا مني أن أشفع له عندك؟
عندما سمع أبي عبارة المختار، انقبض وجهه انقباضًا شديدًا، وراح يشتم:
- أبو داود الكلب، كان عميلاً للإنجليز!
صحَّحه المختار:
- كان زعيمًا ورجلاً كبيرًا صاحب جاه ومال وعشرات السيارات والبيارات!
امتدت بسمة عريضة أسفل شارب المختار العمودي:
- ورغم سطوته وصيته، فقد أتاني بلحمه وشحمه ودمه ودمعه لأشفع له عند أبي الحسين!
أخذ يقهقه من أنفه:
- أتذكر، يا أبا الحسين، الحكاية؟
كرع المختار كأسه، وجمع نفسه على الحصيرة، في الزواية، ثم لم يلبث أن راح يضحك لنفسه. علَّق الأستاذ عبد الفتاح نافذ الصبر:
- حكاية تثير كل هذا الضحك لا بد أنها طريفة!
سوَّى أبي على الصدر قنبازه، دون أن يغادره الضيق، استعاذ من الشيطان الرجيم، ثم سأل المختار:
- ما الذي جابها على بالك؟
أخذ المختار في القهقهة عاليًا، فقال الحاج عبد الله، وهو يبتسم بكل أضراسه الذهبية:
- إذا كانت الحكاية من الزنار ونازل، فاصرفوا البنت أولاً، يا أولاد الحلال.
كانت حورية تضع على المائدة الأرضية بعض صحون المخلل والزيتون والفستق، وكأن المختار قد وقع لأول مرة على ابنته، وهي تخدمهم. انفجرت عيناه من شدة الغضب، وهبَّ بها صائحًا:
- ابعدي من هنا، يا ابنة الجن! اذهبي إلى زاوية الشيطان لتقعدي ولا تقومي!
خفَّت البنت إلى زاوية الشيطان، واختفت من وراء ستار. كان رأس الشاويش قد دار على رؤية براعم حورية التي على وشك التفجر، فسمعوه يخاطب المختار بلسان مهدد:
- لا تصرخ بالبنت هكذا! لتصرخ بها ما أردت، ولكن ليس في حضرتنا! أنت بذلك تسيء معاملة الضيف، وتشكك في سلوكه!
هبَّ المختار يصيح، وهو يرتعد من شدة الحنق:
- أتقول لي هذا أنا؟! أتقول لي هذا كمن تقوله للص
في مخفرك؟! لست لصّاً في مخفرك، يا سيد أبا المحاسن،
لا ولا متشردًا رميته في زنزانة أبي مرعي ليعذبه فريد الأطرش وعازوري الجلاد! لي الحق أن أقول ما أشاء لابنتي، في بيتي. لا تنس، يا أبا المحاسن، أنك في بيتي، لي الحق أن أقول ما أشاء لابنتي، في بيتي، وأمام كل الناس!
أخذ الأستاذ عبد الفتاح يصيح، وأخذ الحاج عبد الله يصيح، وأخذ العم درويش يصيح، وأخذ أبي يصيح:
- إن المختار رجل ثقة بحق، وهو يعاملنا كذلك! حجب ابنته عن عيني كل الناس ما عدا عينيك، أيها الشاويش أبو المحاسن، وعيني هذه الصحبة الطيبة!
انفجر المختار بالشاويش:
- جعلتها تقدم لك الحرام، يا أبا المحاسن، والزيتون والفستق! أتأتي بعد كل هذا وتهددني؟ ولكن أين؟ في بيتي!
ثم راح يردد بندم:
- هذا جزائي! هذا جزائي!
استغفر الأستاذ عبد الفتاح، ثم همهم:
- لا حول ولا قوة إلا بالله!
لكن المختار ظل يصيح من شدة الغضب، يقول ما يُفهم وما لا يُفهم. راح الأستاذ يسترضيه، ويستسمحه، ويمسح بيده ذقنه كمن يداعب طفلاً، والآخر يزداد دلالاً. فجأة، هبَّ المختار ناهضًا، وأتى إلى زواية الشيطان، وراح يضرب حورية ضربًا مبرحًا، والصغيرة تصرخ إلى أن خلصوها منه.
قبض حسين على كأسه، وأفرغها في جوفه. بدا مغرمًا ومكتربًا، وبقي لمدةٍ صامتًا، إلى أن سمعته يهمهم:
أسال لها قطرات حمراء من ثغرها الوردي، ودموعها انسابت سكرًا، وفي شعرها قد عبث الليل.
غابت نظرة حسين في الفراغ من جديد، وغاب كله من جديد، وكأنه يريد إعادة الماضي ليفعل شيئًا دون أن يمكنه ذلك، فيعاتب نفسه، ويحاسب نفسه:
وبعد أن توقفت حورية عن البكاء، حطوا في الصمت لفترة غير قصيرة. وفي الأخير، تدخل أبي ليعيدهم إلى هذيانهم، هذيان آخر من هذيانات التخلف والبربرية:
- قم يا أبا المحاسن، واستسمح سيدي المختار، إنه أكبر منك، وهو لم يخطئ في حقك.
صارت هناك عاصفة، كأن أولئك الشيوخ قوم راحوا يحمسون فريق كرة قدم يتعصبون له. نهض الشاويش، وقبَّل رأس المختار. عند ذلك، ابتسم أبو حورية بدلال امرأة يصالحها زوجها. سقطوا عليه محلفين بأن يفعل الشيء ذاته للشاويش، وهو يتدلع، ثم نهض مترددًا، وارتمى بين ذراعيه.
صاح الأستاذ عبد الفتاح:
- كؤوسكم، اقرعوا كؤوسكم، يا أولاد! من أجل جاه المصطفى!
قرعوا كؤوسهم، فدخلوا في عالم من الحبور الضد الحضاري. أحضر العم درويش صحن زيت، وصحن زعتر، وخبزًا، وأطفأ المصباح بعد أن أشعل شمعتين. راحوا يقطعون الخبز، وبأصابعهم يغمسونه في الزيت والزعتر، ويأكلون بنهم.
كان الأستاذ عبد الفتاح يسف الزعتز بعد كل جرعة، ويطلق قهقهة مختنقة، لكن حادة كأنها الفحيح. وكان يتبعها باستغفار، أو ببيت شعر، أو بآية قرآنية. ولكثرة ما دخنوا، بسط الدخان فوق رؤوسهم جناحًا كجناحِ طيرٍ خياليّ.
حدثهم المختار عن الحكاية التي دارت بين أبي والحاج أبي داود الإقطاعي، واكتشفوا أنها حكاية من الزنار ونازل، نازل وطالع كما ترغب النفس وتشتهي، فأبو داود قد استحسن ذات يوم إحدى الفلاحات الشابات اللواتي كنَّ يعملن في بيارة أبي، اختطفها رجاله، وأتوه بها. لما علم أبي بالأمر، رفع على أبي داود دعوى. كيف يذهب صاحب ((الزعامة)) إلى المحكمة وصيته ومقامه يحولان دون ذلك، وعلى الخصوص في قضية نساء؟ أتى أبو داود طالبًا من المختار، صديق الوالد من أيام زمان، أن يشفع له عنده، فيلغي الدعوى لقاء مبلغ جيد من المال. لكن أبي رفض الوساطة، وأصرَّ على دعواه، وبعد أن فشل مسعى الحاج أبو داود، لجأ إلى الحيلة، قدَّم الفلاحة الجميلة للحاكم الإنجليزي مع باقة ورد، فألغى الحاكم الدعوى.
انفجروا كلهم ضاحكين، وأبي يغالب ضحكة استياء ظل يحتفظ بها في صدره، وراحوا يتهكمون:
- أهكذا يعملونها فيك، يا أبا الحسين؟
- لماذا لم ((تشنشل)) عرضه؟
- ومع ذلك أخذوا منك فلاحتك الجميلة!
وراحوا يضحكون من جديد ضحكات لو سمعتها شهرزاد لتوقفت عن الكلام إلى الأبد لشد ما كانت منفرة، ولاختارت التنفيذ السعيد ووضع حد لوجودها. كانوا مجموعة من القردة التي تضحك، أو قل من الخنازير. وبعتاب راح أبي يقول للمختار:
- هذه واحدة من عيباتك، يا سيدي المختار! طول عمرك مختار، قبل 48، وبعد 48، وعيباتك بقيت عيباتك!
قفز المختار:
- أسمعتم آخر تهمة؟ صارت واحدة من عيباتي، وكأن الحكاية حكايتي! إنها حكايتك أنت، يا سيدي أبا الحسين، وأنا، الذي فعلته رويتها للجماعة.
قال أبي، وقد اشتد عتابه، وعندما يشتد عتابه تنظر إلى وجهه، فتراه يشبهني:
- في الماضي، كانت وساطتك عندي خائبة، وأنا الإنسان البسيط أمام رجل ضخم كالحاج داود، ولكن ليس هذا ما أردت قوله بـ ((عيبات)). في الحقيقة، أنت لا تقف أبدًا إلى جانب من له الحق، وخاصة إذا ما تعلَّق الأمر بواحد كبير مثل ذلك الإقطاعي لعنه الله ألف لعنة، وبواحد صغير مثل أبي الحسين. واليوم، الأمر هو هو معك، لم يتغير، الأمر واحد!
علت نبرة المختار، وهو يتوجَّه بكلامه إلى الجالسين حائرًا:
- اسمعوا يا جماعة، أبو الحسين يقول ألغازًا الليلة! فليقل لنا إذا أدارت بعض كؤوس الخمر التي شربها رأسه بهذه السرعة أم أنه كبر، وصار يخرف؟
تململ أبي في جلسته، وبعد أن رمى نظراته هنا وهناك نظرات العابث بروحه قال:
- لا داعي للفِّ والدوران، يا سيدي المختار أبا حورية الغالية علينا كلنا، فأنت تعرف مقصدي.
تفاجأ المختار وكلام أبي يبعث على الشعور بالتفاهة لديه:
- أعرف مقصدك!
سَفَّ الأستاذ عبد الفتاح حفنة زعتر، وقال:
- لا أحد يفهمكما هنا حتى ولا لو كان معنا سيبويه.
وتوجه بحديثه إلى الحاج عبد الفتاح:
- يا حاج عبد الله، فاهم حاجة؟
قال الحاج عبد الله:
- أنا أفكر في شحنة عيدان الذرة الآتية غدًا من البقاع، يلزمني النهوض قبل آذان الفجر، وأنا لهذا سأنهي كأسي، وأنصرف.
تدخل العم درويش:
- لا أحد يفكر في الانصراف الآن.
قال الأستاذ عبد الفتاح:
- القضية لم تزل عالقة، يا جماعة، انظروا إليهما، كأن ما بين أبي الحسين والمختار ثأرًا.
خفض أبي صوته بلهجته المعاتبة دومًا، وهم يسمعونه بالكاد:
- ليس ثأرًا، ليس بالثأر، يا سيدي الأستاذ عبد الفتاح، فلن يسيل بيننا دم أنا والمختار ما دمنا أحياء على وجه الأرض.
برز وجه المختار من خلال سحابة الدخان كرأس امرأة مفتوحة الفم شعرها من الثعابين، وقال لأبي:
- عرفت الآن ماذا تقصد بوساطتي عندك بالأمس، ووساطتي عندهم اليوم. اسمعوا يا جماعة، هاأنذا أقولها أمام الجميع، طلب مني أبو الحسين أن أتوسط له عند مدير وكالة الإغاثة من أجل إعادة تسجيل حسين وحسن وفاطمة ومحمد في بطاقة الإغاثة. الكل يعلم أن حسين يأخذ منحة مدرسية، وحسن يعمل موظفًا، وفاطمة في مدرسة الخياطة، ومحمد في دار المعلمين. قلت له من المستحيل إعادتهم؛ لأنهم يأخذون شيئًا بالمقابل، لكنه أصر عليّ أن أحاول، حاولت مع الصغير والكبير، مع الموظف والمدير، وفشلت. لماذا؟ لأن القانون قانون، ووكالة الإغاثة ليست دكان أحذية ملكي. هذه هي كل الحكاية، أسمعتم؟ قولوا بالله عليكم، هل من حقِّه أن يعتب أو يعاتب؟
رفع الأستاذ عبد الفتاح رأسًا مثقلاً وهمهم:
- ليس من حقه أن يعتب أو يعاتب.
فأطلق المختار صيحة رضى:
- أسمعت، يا أبا الحسين، ما قاله أستاذ الأساتذة كلهم
عبد الفتاح؟
قال شاويش المخفر:
- الحقيقة أن وساطتك لا تنفع يا مختار!
تأملت حسين جيدًا، وهو يجرع الكأس تلو الكأس، وقلت لنفسي إن الخمر لا تنسيه شيئًا، بل تزيده إصرارًا على المتابعة. كانت ذاكرته شيئًا، وهو شيء آخر، كانت ذاكرته لا تنتمي إليه، وهو يقف خارجها كمن يتفرج على ما يدور فيها، نوعًا من الشاشة الصغيرة. حتى أن ابتسامته المأسوية لم تعد تنتمي إليه كذاكرته، كانت ابتسامته شيئًا، وهو شيء آخر، وكل علامة من علامات نفسه أو جسده أو عالمه.
أضاف: لم يتوقع المختار من الشاويش أن يقول الذي قاله بعد سوء التفاهم بخصوص حورية. أربد وجهه، وارتد إلى كأسه يملأها، والشاويش يقول لأبي:
- لماذا لم تأتِني، يا أبا الحسين؟ الأمر لا يحوجني إلى أكثر من تلفون للضابط، وأولادك يعودون إلى البطاقة.
قفز أبي:
- أسمعت يا مختار؟
ثار المختار:
- أنا أكثر من يعرف أبا المحاسن، كثير كلام على الفاضي، في الماضي، كان يحمل محفظة الباشا مقابل بعض الملاليم، واليوم، يحمل محفظة الضابط مقابل أن يبقى شاويشًا علينا، إنه صفر في حسابهم، وفي حسابنا شيء كثير! إياك أن تصدقه!
كان الشاويش قد أغمض عينيه، وسقط برأسه على كتف الأستاذ عبد الفتاح، الذي راح يصيح:
- داخ الشاويش!
قال العم درويش:
- سنتدبر الأمر عن طريق آخر، عندما يتخرج الأولاد، سنجد لهم شغلاً بواسطة المكتب.
لما سمع أبي ذلك، وكأنه كان سكران، وذهب عنه سكره، راح بانفعال يقول:
- دع أولادي وأشغال أولادي جانبًا يا درويش، فأنت تعرف كم هي ثقتي بمكتب تشغيلك كبيرة!
ردد مستعيذًا:
- معاذ الله! معاذ الله!
- لماذا معاذ الله؟ انظر كم من خدمة يقدمها المكتب لشباب المخيم!
علَّق أبي ساخرًا:
- خدمات من أين والبطالة تتفشى كالسرطان!
جرع الأستاذ عبد الفتاح كأسه قبل أن يقول:
- لو سمعك ضابط الأمن العام لأمر بفتح رأسك! قل الأشغال كثيرة، والبطالة ظاهرة غريبة عن المخيم، قل ما يقوله الجميع وكفى!
عادت لهجة العتاب المرة لأبي:
- حاضر، يا أستاذ عبد الفتاح، يا سيبويه زمانك، قلناها، ونقولها، وسنقولها، من أجل أن نرضي ضابط الأمن العام، ونرضيك!
قال العم درويش ضائقًا:
- أنتم تقولون الآن كلامًا لا معنى له، الضابط لم يفتح، ولن يفتح رأس أحد. وكما أقول لكم المهمة التي تقع على عاتق مكتب التشغيل خطوة ثورية!
تدخل الحاج عبد الله:
- الخطوة الثورية هي المصنع، على الأقل أصنع لكم مكانس ذات أياد طويلة تنظفون بها قاذوراتكم!
في تلك اللحظة، صفع الأستاذ عبد الفتاح الشاويش صفعة شديدة، أطلق رجل النظام والاطمئنان على إثرها شخيرًا حادّاً، وسقط على البساط. توجه الأستاذ عبد الفتاح إليهم:
- تستطيعون أن تتكلموا الآن في السياسة ما شاء لكم، وكأن الشاويش ما كان.
قال المختار معاتبًا الحاج عبد الله:
- بارك الله فيك، يا حاج عبد الله، لم نكن نظن يومًا أن تقول لنا هذا، تصنع لنا مكانس ذات أياد طويلة ننظف بها قاذوراتنا!
- أقصد أن عندي ما يزيد عن الخمسين عاملاً، لهم عائلات ينفقون عليها، ولهم...
قاطعه العم درويش محتدّاً:
- قل لنا بأنك ولي أمر الجميع الآن!
- لم أقل ذلك.
- إذن ما معنى كلامك؟ ماذا تفعل ليراتك الثلاثون الشهرية لعائلة من تسعة أنفار؟ إنهم يأكلون الدود بدل اللحم! وتأتي في النهاية، وتقول لنا مصنعي خطوة ثورية! مصنعك يجب تأميمه، هكذا من اللازم أن تقول، ولكن أين هو الحكم الثوري الذي يطبق ذلك؟
صفَّق الحاج عبد الله كالمجنون:
- أسمعتم الأخ؟ أسمعتم ما يقوله الأخ؟ تأميم! إنه يتكلم عن تأميم المصانع والشركات وكأنه يعيش في روسيا لا في لبنان!
سكت قليلاً، ثم قال بنبرة جسيمة:
- عندما رحلت بعد أن نكبونا الذين هم مثلك سنة 48، كانت معي ثروة صغيرة، ثروة عرق، أتفهم؟ بثروتي أنا بنيت مصنعًا، بمالي، ولمن؟ لكم، يا ناكري الجميل! كي أجعلكم تتنظفون قليلاً، فلا تنامون في القذارة! وعما قريب سأشتري ماكينات حديثة.
- ستشتري ماكينات حديثة؟ إذًا العوض على نصف عمالك! عندئذ، مطلوب من رأسي أنا أن أجد لهم الأشغال، إذ سيترامون على باب مكتب التشغيل كالذُّباب، ولسان الواحد منهم يشكوك، ويدعو الله أن يفلجك، بسبب ماكيناتك الحديثة التي حلَّت محلهم. أترى الآن ما معنى أن يكون المكتب عملاً ثوريّاً؟
وعلى حين غرة، أخذ المختار ينادي: حورية! أحضري بعض الزيتون، يا حورية! دون أن يحصل على جواب!
كانت البنت تنام، وهم قد تختخوا، وتمخمخوا، انطفأت الشموع، وحطَّ ليل مشبع بالدخان وبأنفاسهم العفنة. هناك، كانت حورية تستلقي مكشوفة الفخذين، وكانت تحلم، وفي الصباح، سيقولون لها: ((انهضي))، وستنهض. ستعمل على تنظيف البيت، وفي الخارج، سترمي ببقاياهم.
ستسهر حورية معهم من جديد، وستشاركهم الحديث دون أن تتفوه بكلمة، وستسكر، ستسكر من رائحة الخمر والدخان وضحكاتهم العربيدة، ستتعلم الإثم، وهي تبقى طاهرة، وستتعلم كل خطاياهم، وهي تبقى تائبة.
نهض حسين، واتجه نحو مرآة المقهى المشروخة، فانعكس وجهه ألف صورة، ألف حسين، وألف فكرة، وآلاف الذكريات الضائعة، وآلاف الانتظارات الفائتة، وآلاف التصرفات السابقة، وما لبث أن التفت إلي منهكًا. وبعد أن جرع من كأسه جرعة جديدة، نطق بصعوبة: روت لي حورية يوم رأيتها بالصدفة للمرة الثانية كيف نهض سكان المخيم على صيحات أمي المستغيثة، وأبي يسدد قلبها بالطعنات. كان قد عاد مع آخر الليل إلى بيتنا التنكي مخمورًا، فوجد أمي مع جارنا الذي فقد عينه خلال حرب 48. تناول أبي سكين اللحم، وراح يطعن أمي. طعنها في قلبها، والدم يتفجر. وفي خصرها، والدم يتفجر. وفي عينها، والدم يتفجر. جرفه الشلال الأحمر، فراح يطعن أمي في كل طرف من جسدها، كي يوقف سقوط الشلال، لكنه انسحق في سقطته الرهيبة، واستمر يغرس النصل في جسدها دون فائدة من التشبث بشيء. إنه السقوط الأبدي في جرح يتفجر، فإذا به زهرة مسلوبة بكارتها في ماخور الشرف. وقتها، أصاب أبي الجنون، راح يزعق بأقصى قوة، وغريمه يزعق بأقصى قوة، يريد الإفلات، ولكن أين الإفلات، وكل شيء موصد؟ وحينما أهوى الرجل على النافذة قبضته، كسرها، وخرج منها بنصفه الأعلى، إلا أن أبي غرس النصل في صُلبه، فدوت صرخات الموت في كل مكان، عاد وغرس النصل في صُلبه، ثم ما لبث أن غرس النصل في صميمه.
كان أهل المخيم قد هجروا بطانيات الوكالة الخشنة، وفراش القش، وأتوا من زواياهم المعتمة ليشاهدوا حفلة عيد الأضحى في بيتنا. وأبي يطعن الرجل، كانوا على مقربة، لكنهم لم يرفعوا إصبعًا أو ينبسوا بكلمة. كأنهم لم يكونوا منَّا، كأنهم لم يكونوا أهلنا، كأنهم كانوا من عالم آخر. ألجمهم الصمت، فلم يتحركوا. كالتماثيل الملعونة! وكان أبي قد سقط على قدمي أمي، وفجأة، راح يولول، وراح يلطم، وراح يناديها، ويهزها كي تنهض، ولكن... كيف تنهض؟ وفي النهاية، فتح الباب، فرأوه وقد اغتسل بالدم، وكأنه خارج من عرقها. كانوا وقتها الأبرياء، وأبي وحده المجرم! تركهم من ورائه، وراح يعدو في أزقة المخيم، صارخًا كالهالك في الجحيم. وذهب به الحال إلى مخاطبة الله، فلعنه، وشمته، دون أن يعلم أن الله لا شأن له، وأن صراعه كان مع قدر خاص. ظل يدور كالتائه في ممرات الجحيم إلى أن تعب، فجلس على صخرة بعيدة.
سأقول لك شيئًا لم أقله لامرئ من قبل، منذ مولدي وأمي وأبي لا يكلم أحدهما الآخر. إنه العمر الأخرس، الحديث عبر إشارة، وكانت الإشارة تعني أنه حان لأبي أن يجني متعته، أن يثأر لنفسه منها في جسدها. وكثيرًا ما كانت تصده بشراسة، فيكاد يصيبه الصرع. أسمعت؟ هذه هي كل الحكاية، فهل أروى أبي ظمأه في قتلها، لقد مات في السجن.



الفصل الحادي عشر
أمريكا! أمريكا!


كانت السماء في سان فرانسيسكو رمادًا، والبحر غاضبًا، وكان الناس يلعنون الضباب. كانوا يدفنون رؤوسهم في معاطفهم، ولا ينظرون إلى بعضهم. كانوا يسرعون. فرادى، فرادى. وكانوا يهمهمون: أي فصل عفن! كانت المدينة من عادتها أن تكون أقل برودة في الشتاء. كانوا كلهم يطلقون آهة، وفي عيونهم شمس من جليد، وعلى جلودهم ذكرى صيف قديم. ربما لأني كنت بينهم. حملت لعنتي بيميني، وقذفت بها وجوههم، فإذا بهم يجدون أنفسهم ممسوخين في البرد والضباب.
من طولكرم إلى سان فرانسيسكو مسافة بعيدة، نعم، مسافة جد بعيدة. إذا كان للعالم ما بعد، ففرانسيسكو ما بعد العالم!
قلت لأبي سأشق المحيط، مثلما فعل كريستوفر كولمبس قبلي. لم يفهم أبي، في البداية، ثم راح يقهقه. نادى أمي، وجلسنا سويّاً نحن الثلاثة. راحت أمي تبكي. أمريكا! ذلك الكابوس! طلبت من أبي نفقات التسجيل في الجامعة للستة أشهر الأولى، وثمن تذكرة الطائرة. ليلبي طلبي باع قطعة أرض، وفوق ذلك، أعطاني خمسين دولار. خمسون دولار. وحدي، وسط ذلك الكم الهائل من بشر عالم آخر! عالم الحضارة، والنهود الثلجية، والأضواء التي تخلب العقل، والمال، والأحلام التي لا يمكن أن تتحقق إلا في أمريكا! إرساء أسس المدنية على جثث ((الآباش)) من أجل سعادة البشرية! التقدم على قرعات طبول الغزو في أنهار الدم التي تشق وديان الغرب المترامية كحلم أخضر! وفي خيالي، أرياش ملونة لهندي أحمر رأسه انفصل عن جسده بينما حفرت ثغره ابتسامة رضى! و(( كاوبوي)) لاح بسوطه ظهر غريمه، قبل أن يرميه في النار، وعلى اللهب، كان رفاقه يمدون أيديهم كي يتدفأوا. قالوا لنا، هناك الثلج يتساقط في الصحراء، والضباب عطور! الشمس تشرق من الغرب، وإذا أحب الناس أن ينتقلوا من مكان إلى آخر طاروا كالحتف المجنح! وهناك النساء عاريات! وهناك الحب كالخبز! وهناك القمر برتقالي، وكان المسيح يذهب من طريق إلى طريق، وهو يهدي القبل للجميع.
كنت في الثامنة عشرة، للمرة الأولى شعرت أني صغير، بقدر عمري وحجمي. أردت وقتذاك أن أكبر في لمح البصر، أن أجمع العالم بين ذراعيّ، أن أضع قدمًا في الشرق وأخرى في الغرب. كيف أذهب؟ أين أذهب؟ ماذا أقول؟ لمن أقول؟ أوقفت سيارة أجرة حملتني إلى مكتب الاستقبال في جامعة سان فرانسيسكو حيث كنت مسجلاً، حولوني إلى مكتب استقبال كلية الهندسة بعد أن أفهموني أن ملفي هناك. مهندس. حلم. حلم أمي. كانت تقول لي: ((ستبني المدينة الصغيرة، ستصبح طولكرم مدينة ذات بنايات كثيرة وجميلة، وستعمل في البلد نهضة! ستبني لنا ڤيلا في حقلنا، آه يا فاروق، يا ولدي الطيب!" لم تكن تعرف أني أقصد تعلم الهندسة الصناعية. كان المهندس في مفهومها من يبني العمارات، كانت لها أوهام الفلاح، مسكينة!
أول ما وصلت إلى كليتي سألتهم أن يجدوا لي عملاً، فذهلوا. المفروض ألا أعمل! أخبرتهم أني لا أملك سوى بعض الدولارات، فنهض أحدهم، وأراد أن يسلمني إلى الشرطة كي يعيدوني من حيث أتيت. أخذ يشد حقيبتي الصغيرة بيد، وأنا بيد، والكل يتفرج علينا، إلا أنني تركتهم في أماكنهم حائرين، وذهبت. وأنا في البلد، قصَّ عليَّ أحدهم حكاية الزبال الذي يطرق الأبواب في المساء، ليجمع القاذورات، وهو ينتقل من باب إلى آخر، بسيارته الفورد! لماذا إذن لا أطرق الأبواب مثل ذلك الرجل؟ اليوم أتنقل من مكان إلى آخر على قدميّ، وغدًا مثله في سيارة. قلت لنفسي إن أحوال الدنيا هكذا، يوم راكب ويوم ماش، يوم أبيض ويوم أسود، يوم لك ويوم عليك! حقًا كنت وحيدًا، أحس بثقل وحدتي في عروقي كالنحاس، لكني كنت متحمسًا ومتفائلاً. حملت حقيبتي الصغيرة، وتقدمت من أول باب، وقرعته، فعضني دِرْواس. ورغم ذلك قرعت الباب الثاني، فطردتني المس بأدب. أما الباب الثالث، فلم يجبني أحد.
في الليل، جلست تحت مصباح أحد الأعمدة، كالمخمل كان الضباب في قلبي، وفي رأسي صوت البحر ينمو في كياني كنداء بعيد. يا إلهي! تلك الليلة، بقيت أحدق طويلاً في نقطة بيضاء تذوب رويدًا رويدًا في البعد الشاسع الذي يفصل ما بيننا، وكأني أرقب ضوء سفينة تعب البحر. انطفأ الضوء على الرصيف المقابل، وصار كل شيء قصيّاً. لم أبدأ بعد، وكل شيء صار بعيدًا. بقدر بعدي عن السماء، عن طولكرم. كانت طولكرم امرأة فقيرة كأمي، وكانت رثة الثياب، قدماها مغروستين في التراب، ومع ذلك، فقد كان الجميع يشيرون بأصابعهم إليها، وأنا؟ أنا الذي كنت جزءًا منها، أجلس في الضباب وحيدًا، أجلس في الضباب بعيدًا، كان أملي نقطة ضوء انطفأت دون عاصفة.
نهضت، فثار الضباب من حولي. قلت لأول عابر:
- فندق رخيص من فضلك.
وكأني تكلمت دون صوت. بقي الرجل يعبر طريقه، ناديت آخر:
- أيها السيد !
دون أية فائدة.
تساءلت: هل هم الخرسان، أم أنني الأصم؟! وفي النهاية، اهتديت إلى فندق، ولكن... ليس رخيصًا.
بعد يومين، انتقلت إلى سكن أرشدني إليه بعض الطلاب العرب. أقل ما تستطيع أن تقول عنه حقير، الدود تأنف من سكناه، بعيد عن المدينة، خلفه حقول شاسعة، فسيحة، خَرْبة، جعلوا منها مسكنًا لمن هم على شاكلتي لقاء بعض الدولارات كل شهر. تدبرت أمر السكن. والعمل؟ لم يكن هناك عمل على الإطلاق. أكثر من واحد قال لي: ((اذهب إلى الشرق، إلى نيويورك، ولكن ليس الآن، لم يبدأ الموسم الآن. اذهب الصيف القادم، عندما يهجر النيويوركيون مدينتهم بسبب ارتفاع الحرارة. لماذا أتيت كاليفورنيا؟ هذه منطقة أثرياء. هنا الأعمال ليست موجودة، والبطالة شديدة. اذهب إلى الشرق)).
تمكنت من الحصول على ((جوب)) صغير من أجل بيع جرائد الصباح لقاء بعض البنسات، وحاولت أن أدخر ثمن تذكرة القطار إلى نيويورك. في الليل، عندما كانت كتل الضباب تقف على ارتفاع قليل من الأرض، كنَّا نتسلل من تحت الأسيجة، ونقفز كاللصوص الصغار. كان الضباب يتمزق مع مرورنا، وكنَّا نحس بسقطته القطنية، ونتمنى لو نجمعه كشعر السكر على شفاهنا، ولكننا لم نستطع تحقيق ذلك أبدًا. وحينما كنَّا نعود، تكون في أحضاننا ضمم اللفت أو الجزر. وكان بعضنا يتسلل إلى حدائق الحمضيات، فيأتينا بالثمر دون أن يكون ناضجًا تمامًا.
مضت ثلاثة شهور طويلة على ذلك المنوال، وعندما صارت معي أجرة السفر إلى نيويورك، لم أنتظر حلول الموسم القادم. حملت حقيبتي الصغيرة لينطلق القطار بي. كنت أذهب إلى عالم المجهول، فالمجهول له عالم اسمه نيويورك، وكانت على مدِّ النظر سهول ممتدة تشقها أنهار ضحلة أخذ الوجود لونها، وكان الضباب ينبت مع الزرع كأنه قدر كل غريب.

ناطحات سحاب. علب كبريت عملاقة، كثيرة ومتلاصقة. في سان فرانسيسكو تحس بالفراغ الهندسي، أما في نيويورك فالفضاء منعدم. والبشر؟ في حالة يوم الحشر التي وصفها القرآن. لأول وهلة أصابني الدوار، لكني جمعت ذاتي، وقصدت إحدى وكالات الشغل. ذلك الفلسطيني الصغير الذي يحمل حقيبته الصغيرة بيد ارتخت أصابعها ويحدق مذهولاً فيما حوله دون أن يقدر على الرهان على ما سيجري غدًا كان أنا. كانت على مقربة مني قامات تمضي، تمضي، قامات تمضي، كانت تمضي مسرعة. وكانت على مرمى البصر سيارات تمضي، تمضي، سيارات تمضي، كانت تمضي مسرعة. أرقام. أضواء. أقدام نساء ورجال. كبار وصغار. سود وبيض. آليون. كانوا يمضون. إذا توقفوا، أوقفهم ضوء. وإذا ساروا، أمرهم ضوء. إذا دخلوا عمارة، انفتح الباب لهم. وإذا صعدوا، نقلتهم سلالم. أمَّا المصعد، فلكي يأخذوه، عليهم ألا يكونوا مرضى بالقلب. رأيتهم يقفون بالصف أمام المرحاض الذي لا يدخلونه إلا إذا وضعوا قطعة نقدية. افتح يا سمسم! فينفتح لهم باب المرحاض الذي لا يلبث أن ينغلق. وكانوا يقفون بالصف لشراء الساندويشات من...آلة. كانوا يزلقون قطع النقد في فتحات، ويركّبون بأصابعهم رمزًا على جهاز يشبه التلفون. كانت هناك ماكينات تبيع العصير، وأخرى الكوكاكولا، القهوة، السجائر. وكانت هناك آلات تقول لك حظك اليوم، وحالات الطقس، وآخر أسطوانة جاز. كانت هناك دعايات عن بيع الجنس الآلي، وإشارات تعلمك كم جزءًا من أعشار المليمتر ينحني برج بيزا في اليوم، وآخر تصريح صدر من البيت الأبيض، وكيف استطاع مارلون براندو أن يتألق كنجم. تذكرت، في تلك اللحظة، أمي التي تعرف الوقت من دورة الشمس، والأحوال الجوية من ميلان أعراف سروتنا العجوز، متى تتفتح أزهار المشمش، ومتى يحين موعد القطاف أو الحصاد، هل ستكون غلة الزيتون جيدة، أو هل سيغزو الدود التين.
في وكالة التشغيل غير الرسمية، رفضوا، في البداية، إعطائي عملاً، لا لسبب إلا لصغر حجمي. وفي النهاية، بعثوني إلى ورشة رسم، بما أنني طالب هندسة، لقاء خمسة دولارات، عندما قابلت رئيس الورشة، سألني:
- هل أنت رسام؟
قلت: لا.
- هل أنت خطاط؟
قلت: لا.
- هل تحسن النجارة؟
- ما علاقة الرسم بالنجارة؟
- أنا من يسأل!
قلت: لا أحسن النجارة، ولكني أستطيع أن أتعلم كل شيء، الرسم والخط والنجارة، فقط خذني!
راح يهمهم غاضبًا.
أضفت: باستطاعتي أن أتعلم كل شيء، وأن أعمل أي شيء!
أمام إلحاحي، جعلني مساعدًا لأحد الدهانين. وقبل أن يتركني له، أمره:
- اطرده لأقل خطأ.
والدهّان كان يقف على ارتفاع أربعة طوابق في الهواء كي يصبغ واجهة دعائية، حملت له دلوًا من الدهان. وأنا في وسط السلم، اختلَّ توازني، ففلت الدلو مني ليسقط على الأرض، وكدت أسقط بدوري، فأصبح كالعجين.
كانت تجربتي الأولى في هذا النوع من العمل والأخيرة.
قالت لي المرأة التي تعمل في وكالة التشغيل:
- بما أنك طالب هندسة ميكانيكية، فلك خبرة في تصليح السيارات.
هززت رأسي بالإيجاب، علمًا بأني لم أبدأ دروسي في الكلية بعد، ولم تكن لدي أية تجربة في هذا الميدان. كنت أقول لنفسي المهم أن أحصل على عمل، أيّاً كان، وسأتعلم. دفعت من أجل العنوان خمسة دولارات أخرى، وأخذوني للتجربة مدة يومين، فاكتشفوا جهلي التام، ووضعوني على الباب.
عدت للوكالة مدعيًا بأن العنوان غير صحيح، أي شيء، وطلبت إلى المسؤولة أن تعطيني عملاً ((نظيفًا))، فاقترحت عليّ منصب موظف إداري في شركة استيراد وتصدير، ولم أكن بقدر مثل ذلك المنصب، فهذا واضح من لغتي المكسرة، لكنها أرادت أن تبعدني عنها بسرعة لكثرة ما أزعجتها. عندما سألني المدير: من أين أتيت، قلت له: إنني من القدس. لن أقول له، بالطبع، من طولكرم، فهو لن يعرف طولكرم، ولن أقعد مدة ساعة شارحًا له أن طولكرم مدينة صغيرة تقع على حدود إسرائيل. أمَّا القدس، فهو يعرفها. ولهذا السبب، جاءت القدس على لساني بعفوية. لم أدرِ، إلا بعد ذلك بأيام، لِمَ كل ذلك الوقع السحري لكلمة القدس على الرجل. أعطاني العمل في الحال، وقال لي:
- لا تعمل شيئًا، اجلس وراء المكتب، وانتظر أن تأتيك مكالمة، فإن أتتك، ارفع السماعة، وأجب محدثك دومًا بالنفي.
في اليوم الأول، لم أستلم أية مكالمة. في اليوم الثاني، قابلت الرجل، وطلبت منه سلفة، فأعطاني. سألته إذا كان بإمكانه أن يساعدني على إنجاز بعض الأوراق القانونية، البطاقة الخضراء وغيرها، فوعد بذلك خلال اليومين القادمين. استمر عملي عشرة أيام، كان لا بد لي خلالها من الاحتكاك بالعاملين الآخرين، وكان لا بد لي أن أشرح لهم أين تقع طولكرم، بلدي، بالضبط، فعرف الجميع أني فلسطيني.
فلسطيني!
وجدت المدير ينتظرني في مكتبي، وبيده عدد من الدولارات في غلاف سلمني إياها، ودون كلمة اعتذار، أبلغني أن الشركة تستغني عن خدماتي! أخرجني أمامه، وتركني أعبر الممر الطويل، وهو يتابعني بعينيه، يا للضباب الذي في عينيه! كان لا يريد أن يعلم أن على جبين طولكرم، بلدي، أشواكًا تسبب النزيف لقلوب الطيور، كلما رفرف طائر في الطرف الآخر من الحدود، ولم يغنِ، كان لا يريد أن يعلم أن في قلب أمي تموت كل الحساسين، وأنها تبكي كلما أتت نسمة من هناك، من الطرف الآخر من الحدود، كان لا يريد أن يعلم أنني خارج الحدود، وأن بلدي لا تعرف الحدود إلا على الخرائط.
بدَّلت الوكالة، ودفعت سبعة دولارات ونصف مقابل عمل في مطحنة. قال لي صاحب المطحنة، وهو يفحصني بعينيه الزجاجيتين:
- عملك هنا في المخزن. عليك إفراغ أكياس القمح في هذه الفوهة طوال ست ساعات دون توقف.
تركني وحيدًا وسط جبال من الأكياس بعد أن رمى قامتي الصغيرة بنظرتي ازدراء. ما أسماه ((فوهة)) شيء يشبه البوق، لو رميت نفسي في جوفه لزلقت إلى الطابق السفلي دون صعوبة. فجأة، إذا برجل عملاق، حسبما بدا لي، راح يجلجل بصوته من جوف الفوهة حاثًا إياي على البدء بإفراغ الأكياس. تقدمت من أقرب كيس، وتأملته للحظة، آه، ما أضخمه! كان يفوقني طولاً وعرضًا مرتين. حضنته محاولاً رفعه، آه، ما أثقله! ابتعدت عدة أمتار، وعدوت في اتجاهه. حاولت رفعه من جديد، لكنه سقط على جانبه. عاد صوت العملاق يدوي من الفوهة، ثم انطلقت قهقهات. كل هذا كاد يفقدني صوابي. ضاعفت المسافة، وعدوت في اتجاه الكيس، وبأقصى قواي، حاولت رفعه، إلا أنه لم يتزحزح قيد أنملة. انطرحت على الكيس، والعرق مني يتصبب، وفي الوقت نفسه، أخذت القهقهات تطن برنينها الساخر. انعطفت على نفسي، وانفجرت باكيًا.
لما جاءني صاحب المطحنة، قلت له إنني طالب، وهذا عمل يصعب عليّ. وضعني في حجرة تنقية القمح، أي الحجرة التي تصب فيها الفوهة البوقية، بشرط أن أقبل براتب أقل. طلب إلى صاحب الضحكة الطنانة، رجل أسود عملاق، أن يأخذ مكاني في المخزن. عندما مرَّ بي الرجل الأسود، راح يحدجني بعينيه، وهو يضحك دون صدى هذه المرة. لكي أخفف من حدة الاستصغار في عينيه البراقتين، شاركته الضحك دون رغبة مني، ثم رحت أتأمل عملي.
كان على القمح أن يمضي أمامي إلى المطحنة، وكان عليّ أن أدفن أصابعي في نهر القمح بحثًا عن المواد الشائبة. تحركت الآلات، وأخذ شلال القمح يتساقط دون توقف، ولم يعد باستطاعتي البحث كما يجب لسرعة انهيار القمح، وغزارته.
آه، يا لذاك الأسود العفريت! كان يعمل أسرع من آلة، وكان يقهقه. اعتقدت أنه يتعمد القيام بذلك، ومرة أخرى، فشلت.
رجوت صاحب المطحنة أن يقدر حالي، ولا أدري من أين أتاه ذلك الصبر على احتمالي! نقلني إلى حيث تجري عملية الطحن، بشرط أن ينقص مرة أخرى من مرتبي. أدخلني بين أعمدة من الغبار الأبيض، فتراكمت منه على رمشي طبقات. امتدت الصحراء في عينيّ، وثار الرمل، حتى عدت لا أرى شيئًا، والعمال السود يضحكون ملء أشداقهم.
كانت فرصتي الأخيرة، أن أزن الطحين في أكياس الكتان قبل أن يغلقها عامل أسود، وينقلها أسود ثان إلى شاحنة. تركني صاحب المطحنة في عهدة الرجلين الأسودين، وذهب، فتآمرا عليّ. أصرا على أن أنقل أنا الأكياس إلى الشاحنة، وعندما ذكرتهما بما قاله المعلم، اتفقا على أني فهمته خطأ، وأن عملي هو نقل الأكياس إلى الشاحنة. همهمت لنفسي: ((ها أنت تعود لتواجه محنة جديدة، أيها الشقي!)) جلسا من ناحيتي كوم من الأكياس، وهما ينظران إليّ، وأنا أرى شفة كل منهما الحمراء، وهي تهتز كجناح ضخم، كانت لا تستطيع الاهتزاز دون أن تخفي ضحكة الهزء والسخرية. حضنت الكيس، حاولت رفعه دون أن أفلح بالطبع. حاولت مرة أخرى من جديد، دون أية فائدة. انفجر الرجلان الأسودان ضاحكين. أخذ أحدهما يدفعني من صدري مداعبًا، وأنا أصرخ من الألم، حتى أسقطني في رمل القمح. رحت أسعل وأعطس وأنفخ معًا، وثارت في الأجواء عاصفة بيضاء أشبه بالعواصف الأولى لأرضٍ عذراء. رفعني العامل الآخر بيد واحدة، فطرت في الهواء. أوقفني قرب الميزان، بينما أخذ العامل الأول يرفع الأكياس الثقيلة، وكأنه ينقل كرة قدم. ما أن يضم الكيس حتى يعلو خفيفًا بين ذراعيه. خطوة، اثنتان، ثلاث، هُبْ، إذا بالكيس ينام في قلب الشاحنة! وبقي طوال الوقت يقهقه.
وجدت غرفة صغيرة في عمارة قديمة على شكل برج، في وسطها بركة دون ماء، وبيانو دون عازف، عمارة فقراء: سود، برتوريكيون، عاهرات، متعاطو حشيش، بائعو حب. بدا لي أن البيانو لا يعمل، فلا أحد يعزف عليه. ذات يوم، تقدمت منه، أزحت الأوساخ عن كرسيه الأحمر، وأخذت مكانًا أمام أصابعه العاجية. طالما أن هناك آلة موسيقية يجب أن يكون هناك عازف! قلت لنفسي: إنني بعد مدة من الزمن سأتقن العزف، وسأعمل في أحد النوادي الليلية. ضربت لا على التعيين أول إصبع لامستها سبابتي، فتولد عن ذلك صوت له دوي سبب لي الخوف للوهلة الأولى. رحت أنظر إلى نوافذ البرج الذي يدور بي، وكأني أنظر إلى نوافذ الشرف في مسرح قديم يكتظ بالمشاهدين. ضربة أخرى، ثم أخذني الحماس، أردت أن أصنع لحنًا، أي لحن، كان المهم عندي أن أعزف، وقد أسعدني كثيرًا أن أسمع لحنًا، مهما كان نشازًا، أكوِّنه أنا. فجأة، رعدت الدنيا، سقطت عليّ شتائم ولعنات لا تعد ولا تحصى، وراحت تُلقى عليّ من نوافذ البرج قوارير، وأصص، وحبات بطاطا، وحبات ثوم، وحبات بندورة، وكؤوس، وملاعق، وصحون، وحتى الأحذية. كان لحني الأول والأخير.
اخترت العمل في المطحنة ليلاً، من التاسعة مساءً إلى الثالثة صباحًا. كنت أنام حتى الثامنة صباحًا، ثم أقوم، وآخذ الباص إلى الكلية. كانت رسومي الجامعية مدفوعة، أوراقي الرسمية كاملة، ومعي كل الكتب المطلوبة. أَلِفْتُ زملائي العمالقة، وتقربوا مني، خصوصًا بعد أن اعتبروني - لأني مسلم- أخًا لهم، وأسرّوا لي إنهم من جماعة محمد علي كلاي. كان بعضهم يبكي كلما سمع قرعات الطبول، كانت الطبول عندهم تؤذن بالانطلاق من القيد. تعني الحرية. حدثني بعضهم عن الحرية، قالوا لي إن الحرية لهم بؤبؤ العين، وهي الشمس في مملكة الضباب، يحلمون بها ليل نهار، إنها لهم كما الضوء للأعمى! شَكُوا لي، وقالوا: ((تجد الأبيض في الغالب سيدًا، تجده رب العمل، والأسود خادمًا. الأبيض للمكاتب النظيفة المكيفة بالهواء أو المزودة بالمدافئ، والأسود لأعمال تنأى عن القيام بها البهائم. أملعونون نحن فقط لأننا زنوج؟)) كانوا يطلقون التنهدات الساخنة، ثم لا تلبث أن تسطع تلك الجواهر السود، بينما تبقى فيها ثورة غامضة. إنه الضرام الأسود، ذلك الذي يتأجج تحت جلودهم، لكنه لا يتقد نارًا في الشوارع!
كانوا بسطاء رغم كل شيء!
كلما عدت بذاكرتي إلى الوراء، أصابني الحنين إليهم. إذا داعبوك، يجب أن يضحكوا، وإذا غضبوا منك، يجب أن تضحك. في الحالة الأولى، كانوا يعاملونك كطفل، وفي الحالة الثانية، كنت تعاملهم كأطفال. يظهرون لك عواطفهم على طريقتهم، ويريدون أن يحسوا بعاطفتك على طريقتهم. إذا داعبك أحدهم مثلاً، انتزع شعرك، وهو يقهقه، وأنت تصرخ من الألم، أو زرع أصابعه في فمك محاولاً أن يفصل فكيك. كان يضمك إلى صدره، فيحطمك بين ذراعيه، أو يسدد بكفه الضخمة على غفلة منك ظهرك، فيجعلك تقذف أحشاءك من حدة السعال. ذات مرة، قبل أن أبدأ عملي، كنت نصف نائم فوق كيس من الطحين. كنت أحلم. كان حلمًا قصيرًا. كنت أحلم بشمس بلادي، بدفء فراشنا، وبحديث أمي، إذا بأحدهم يصب على رأسي برميل ماء بارد كالجليد. قفزت وقتذاك كالمجنون، وكأنهم أذابوا في بدني ثلوج القطب كلها! كان يقهقه صديقي الأسود على منظري! كان ذلك ما يسحره، منظري! ومرة أخرى، فتح أحدهم قميصي، وأسقط في صدري سعة دلو من قطع الثلج الصغيرة. أما تلك، فعملة أخرى، حملني، في أحد الأيام، اثنان منهم، وأرادا أن يقذفا بي في نار أشعلوها من ورق الجرائد. كانوا أمام صيحاتي ومقاومتي اللامجدية يقهقهون بكل قواهم، كانوا يقهقهون بعضلاتهم. إلى أن تنتهي لعبتهم، وبمودة، كان أحدهم يلفني بذراعه، وكان بعضهم يغني، وبعضهم الآخر يصغي. أنا أتذكر الآن، لو تعرف، كثيرًا ما كان يطلب مني جونز الصغير، عملاق المطحنة الأضخم، أن أسدد في بطنه أقوى قبضاتي، لكنه كان يأخذ بالضحك كالطفل الصغير، وكأني أعمل على دغدغته. كان يحبني كثيرًا، كان يقول لي: ((إذا أحبك الأسود آذاك عند مزاحه، فإذا كان رد فعلك ماكرًا، أعرض عنك، وتأكد من عدم صداقتك)). عرفني بزوجته كلارا، وقال لي بلهجة فخورة: ((إنها إفريقية!))، وقال لي إن إفريقيا حلمه، وإنه يدخر المال من أجل أن يقوم بزيارتها. أن يقوم بزيارة إفريقيا، حبيبته السوداء.
في تلك الليلة، كان جونز الصغير يغني، بينما كنَّا نعمل دون أن نفوه بكلمة، كنا نرمي النظر إليه بين تارة وأخرى دون أن نشعره بذلك، آه، كم كان صوته جميلاً! كان فيه حنين غريب، كلما غنى، كانت عيناه تتقدان اشتياقًا. كانتا تتسعان بأسى، فأشعر أني بحاجة إلى البكاء. كنت أفكر في أمي المسكينة، فأقول إنها الآن تبكي عليّ، وهي تضع يدها على خدها متسائلة: إلى أين ذهب؟ متى سيعود؟
أتذكر شعرها الطويل، فأفكر أنها كانت جميلة، وأن عينيها بلون العسل. كنت أقول لنفسي إن جونز يغني لإفريقيا، حبيبته السوداء، وكان يطيب لي أن أغني لفلسطين، حبيبتي السمراء، فأدندن بعض الكلمات. كنَّا لا نلبث أن نتناوب، أنا وجونز، الغناء، فينصت الجميع، وينبثق الشوق من عيونهم، وهدير المطاحن يصبح نغم أغنياتنا. كانت صلوات! كانت على شفتيْ أرضي زهرة حمراء، زرعتُها لما كنت صغيرًا، وعندما رحلت بعيدًا، راح نسيم المساء ينقل لي عبيرًا أزليّاً آتيا من شفتيْ أرضي.
في ذلك الصباح الباكر، ودَّعت أصدقائي السود، وقلبي مفعم بالحزن. أردت أن أتمشى في الضباب. وأنا أمشي في الضباب، كنت أحس بنفسي ثقيلاً كالرخام، فيخفت خفقي، ويعشش الضباب في شفتي، وفي قلبي، وفي عيني. كانت كتل الضباب من حولي هضابًا صامتة لا تتحرك، تعبث عند قممها المنفية أضواء المصابيح التي تموت. يا إلهي! أحسست وقتذاك أنني طفل شقي هرب من حضن أمه لا لسبب، وأنني طفل شقي لا يحسب عدد خطواته كلما انتقل من درب إلى درب. ومع ذلك، فقد كنت ذلك الطفل الشقي الذي تحبه الملائكة السود. ودفعة واحدة، انفجرت من عيني الدموع. اعتقدت فعلاً آنذاك بأني لن أصبح ملاكًا، ولا ماردًا، لن أصبح إلا أنا. فجأة، حصلت حركة غريبة تمزق على إثرها الضباب كأشرعة الورق، وإذا برجال شرطة، ثلاثة، خمسة، سبعة، لا أدري عددهم، انتصبوا من حولي. عندما تبينت عصيّاً في قبضاتهم، فكرت أني لن أبدأ من جديد في أمريكا، ولا في أيِّ مكان آخر في العالم. انقضوا عليَّ، ومزقوني إرْبًا إرْبًا.



الفصل الثاني عشر
الغرق في السين


كان الضباب شعرًا عبثت به يد الفوضى، والأضواء من بعيد كسلى، كأنها إشارات بيضاء في لوحة معتمة. تعشينا أنا ونديم في (( الانترناسيونال))، وأخذنا نهبط السان ميشيل. لم يكن الطقس شديد البرودة. أبدى نديم نفس الملاحظة. قلت له بسبب الضباب، فلم يعلق. حكى لي عما جرى معه بشأن العمل الذي يبحث عنه دون أن يبدو مسرورًا. كان متوقعًا أن يأخذه (( صديقه)) المسؤول في الحال، لكنه قال له سنكتب إلى عاصمتنا كي يعطونا أمرًا بخصوصك، مما كاد يفقده عقله:
- تصور أن عمل منظف في فرع شركة طيران محتقر
لبلد لا يسمع به أحد يحتاج إلى أمر من عاصمته.
قلت له:
- هذه طريقة لبقة للتخلص منك.
لكنه كان يقاوم اليأس باليأس، أعلمني أن المسؤول طلب إليه إعادة الاتصال به في بداية الأسبوع القادم، يكون البريد قد عاد.
نبر فجأة:
- سأنتظر أسبوعًا بأكمله، لن تحس بوطأة انتظار مثل هذا أنت!
وكأن الذنب كان ذنبي.
عند باب المترو، رفع لي إصبعين مكدودتين، بينما عدت أدراجي. صعدت السان ميشيل إلى السان جيرمان. وأنا أمضي بمقهى كلونيcafé de Cluny، رأيت الرواد في الداخل، وهم يجلسون هنا وهناك. كانت أنفاسهم تسيل على الزجاج، وكانوا يتجاورون بألفة محيرة. لاحظت بعض الحسد في عيني عابر كان ينظر إلى حيث أنظر، تعثرت قدمه قليلاً، ثم ما لبث أن ضاع في الظلام.
تذكرتها عندئذ، وهي كانت تذهب بي في الظلام، ووصلني صوتها: ((سأقول لك شيئًا، أنا لا أكره أحدًا، وفي الوقت ذاته، أنا لا أحب أحدًا، لنقل، حتى هذه اللحظات)). كانت نانسي تضحك، وهي تلاحظ لما تقوله من سوء الوقع في نفسي، ومع ذلك، كانت تردف بسرعة: (( لا، لا، أنا أحبك، أنت الوحيد الذي أحب!)). كانت تجذبني، وتتعلق بذراعي.
في ليلة شتائية، أول معرفتي بها، كنا نتمشى في السان جيرمان، وكان الناس ينظرون إلينا بفضول، رغم الليل والضباب. كنت أفكر في أمها الأرستقراطية، وأقول: لقد ولدتها جميلة! وكنت أحاول أن أمنعها عنهم، أن أمنع جمالها عن عيونهم. فماذا كنت أفعل؟ كنت أستمر في الحديث معها كيلا تلاحظ نظراتهم، فتذوب في الرماد والظلام. كنت أريد أن أمنعها عنهم، أو أن أمنعهم عنها، ويا له من دور!
تقدمت من مصباح عمود قديم يرسل هالة شاحبة، ووصلتني صيحاتها:
- أنا عذراء، أقسم لك!
كانت نانسي تبكي، فأرشف دمعها، وأقول لها:
- لا تخافي!
وأنا أموت فرقًا. كانت نانسي تتوقف عن البكاء قليلاً، ولا تلبث أن تبكي من جديد: كانت تبكي لأنها عذراء، هكذا كانت تهمهم في أذني، لأن أحدًا لم يجعلها امرأة كما يجب عليها أن تكون، وكانت تضاعف من خوفي، وهي تردد في إذني:
- حبيبي! حبيبي!
ثم كانت تنام على صدري.
صحوت على نفير سيارة، وعاصفة من السباب، كنت في وسط الشارع. صحت بأعلى صوتي:
- إنه الضباب!
قال لي عابر:
- حاذر وإلا ذهبت بشربة ماء.
وجاءني صوتها من قلب الضباب:
- أحب الضباب! في أمريكا الضباب كالماء، كالهواء، عندنا الضباب كل شيء، إنه حياتنا!
كنت أفكر بينما كانت تبتسم لي: عذراء. وكنت أعود من شرودي، وأقول:
- لا يوجد ضباب في بلادنا.
كنت لا أنفعل هاتفًا ((الشمس! بلادنا بلاد الشمس! )) كنت أبقى صامتًا، وكان يجتاح الغبار لي الخيال.
كانت حوافر أحصنتهم تنثر الرمل، وتثير الغبار، فتحمله الريح، وتجعله في الصحراء ستارًا ماردًا يصل السماء. وكان أخي ينبثق من قلب الشمس، فيتمزق ستار الغبار، وتلفّ المكان عاصفة. في الغبار، كان حصانه يعدو في الغبار، وكان أخي يبحث عن واحة، كان يهتز صائحًا، متشبثًا بظلاله، والعاصفة تزداد. كان يصيح من جديد، فتعصف الرمال، وتثور الغبار، ويصيح أيضًا وأيضًا.
الصورة الوحيدة لأخي التي كانت تَرِدُ إلى خيالي كلما تذكرت قصة هروبه من سجون الأراضي المحتلة. وكنت أفكر فيها، في أمي، في حاجبيها الدقيقين اللذين قضت نصف عمرها في الاعتناء بهما، وأقول لنفسي، ربما كنت مخطئًا. كنت أبحث عن دافع آخر، فلا أجده. كانت تكره حياتها، تتمنى دومًا ما ليس في مقدروها تحقيقه، وتتنهد بمرارة:
- ذاك الذي أبغيه ولا أستطيعه!
كانت تلتفت إليّ، وفي عينيها المنهكتين ضوء خافت، أملها بي. وفي الضوء الخافت، كنت ألاحظ لهفة قلل بريقها العجز، كل ما تبقى لها. كان لسان حالها يقول: (( ستحقق لي ما تمنيته طوال حياتي، وعجزت عن امتلاكه!)) وفي الأخير، كانت ترميني بنظرة يائسة. اليوم، وأنا بعيد عنها، تتناول قلمها، وسيلتها السحرية عندما تصعب عليها الأشياء أو تنعدم، وتكتفي بإفضاء:
- لا تنس أني المرأة الوحيدة التي تفكر فيك ليل نهار، والتي تفتديك بعينيها! آه، يا ولدي، لقد بكيت طوال الليل عندما رأيتك في المنام مريضًا! هل أنت مريض؟ إذا كنت مريضًا، فعليك أن تعود طبيبًا، لتعود لي وقد برئت. متى عدت عادت لي كل أفراح الحياة!
فرشوا على الرصيف غطاءً جلديّاً عليه قلائد وأساور وأقراط من فضة، رفع أحدهم شعره الأشقر بيد لا مبالية، ورماني بهذه الكلمات:
- سيكون رائعًا أن تقدم هدية لحبيبتك إذا ما التقيتها هذا المساء، إنها مجوهرات فريدة منقوشة باليد!
تأملت بائعي هدايا العشاق هؤلاء: أنفاسهم ضباب، عيونهم ضباب، أفكارهم ضباب، وكانوا يأتون إلى الأرصفة متى يأتي الضباب! سمعت غناء رجل أسود:

توجنا حبيبتي ملكة
الليل في شفتيها حكاية حب
وفي عينيها طفل ضائع

ابتعدتُ خطوة.

الليل في شعرها مرافئ

سمعت صوتًا دَهِشًا:
- انظري سيلفي، زنجي يغني!
- أوه!

الليل في خصرها زنبقة سوداء
فلتقطفها شفتاك
أيها العاشق!

صار المغني في الوراء، الجيتار بين ذراعيه، وصوته ضاع مع الضباب. أخذت أضواء ((دراج ستور)) سان-جيرمان- دي-بريه تتكسر، الكنيسة على يميني، وعلى قممها قبعات الضباب. سالت من نبع أمانيّ المخيَّبَة أمنية قديمة، فشعرت بالبرد. أمنية لم تكن واضحة المعالم ككل شيء من حولي. شيء ما على علاقة بالارتهان. اقشعررت مرات، وحددت النظر في البعيد، فلم أرَ من مضى على مقربة مني وهو يجري. سمعت قهقهة مومس، ووصلني نفير سيارة. قلت لنفسي: الأمور لا تسير على ما يرام، لا في البيت، ولا في أي مكان! أخذني العياء، طأطأت الرأس، وسرت، غريبًا عن كل شيء. راحت الصحراء تنشق عن وجهه الأسمر، فنصب أخي عنقًا متحديّاً، وصاح، ثم جرفت آماله أعاصير الرمل وغطى عوالمه الغبار! يا إلهي! وفي اليوم التالي، ستكتب لي أمي:
- لن ينتهي الأمر عند هذا الحد، ألقوا القبض على أخيك من جديد، ومن جديد سيهرب مرة أخرى وأخرى.
عاودتني كلمات المغني:

الليل في خصرها زنبقة سوداء
فلتقطفها شفتاك
أيها العاشق!

قهقهت.
في تلك الليلة، كنت قد قعدت أقهقه حتى انبثق من عيني الدمع، ونانسي صامتة، مذنبة، كانت تفكر فيما ستقدم عليه. كنت أنظر إلى جيدها الأبيض، أمد أصابعي، وأجعلها ترقُّ في جيدها، وأجعلها تشف في شعرها، أنثره، فتتساقط على جسدي شموس منفية.
فجأة، رحت أسعى، في ذلك الضباب اللازب المتفجر من حولي تفجر البركان، سعى المندفع نحو التحكمِ بمصيره. فكرت: هذا هو الانطلاق من الجبرية! رأيته مندفعًا بأشكاله المذنّبة، وهو يلتهمني، وكيف كان يعلو، ويهبط، ويعدو في كل الاتجاهات. إنه الانطلاق من الجبرية! مضيت بالسرعة القصوى إلى قنطرة الكونكورد، لأقف هناك فوق نهر السين.
راح صوتها يأتيني:
- أنا أحبك! أنا أعبدك!
- تعالى!...............................................
أطلقت صرختها الأخيرة، وانشلت قواها، وأنا أحسها لحمًا ميتًا، ثم أخذت في البكاء، بكت، بكت كثيرًا.
كان السين حزينًا، كان يمضي رويدًا رويدًا بنظراتي، والليل، والضباب، إلى حيث لا توجد قناطر، ولا مرافئ،
ولا عشاق قعدوا في الليل ينتظرون. مضت لحظات، وأنا غائب، إلى أن أعادني إلى الواقع أحدهم، وهو يأتي من أقصى القنطرة. تبينت، وهو يمر بي، أنه لم يكن رجلاً بل فتاة. كانت ترتدي بدلة مقلمة وربطة عنق حمراء وحذاء أبيض وأسود لماعًا. لن أنسى عينيها السوداوين، عينيها الواسعتين، عينيها المهووستين، فكأني ضعت فيهما قرونًا. وَقَفَتْ على بعد قريب مني، وراحت ترميني بنظرات ملأى بالذعر. كان الذعر يقف على مقربة مني، فيحدق فيّ إلى أن يصبحني. ارتعدت مفاصلي لما تحركَتْ، وراحت تعدو إلى طرف القنطرة الآخر. ركزت يديها على حافة الحاجز، ووثبت في النهر.
صاح عابر:
- النجدة!
وأنا باقٍ في مكاني دون حراك. لم يفاجئني الأمر. لم يؤثر فيّ أن أكون شاهدًا على الموت. كان الموت في كل مكان. كان الموت فيّ.
عندما أطللت من الأعلى، وجدت السين، وقد انشق إلى دوامات لا تنتهي. كنت أنظر إلى جيدها الأبيض، أمد أصابعي، وأجعلها ترقُّ في جيدها، وأجعلها تشف في شعرها. أطلقت صرختها الأخيرة، وانشلت قواها، وأنا أحسها لحمًا ميتًا، ثم أخذت في البكاء. أخذ العابر في العدو هابطًا إلى الرصيف، إلى أن ابتعدت الخطوات، وانتهت دوامات الماء. سقط النهر في الصمت من جديد، وانساب إلى حيث يبتعد بالتدريج، كأن شيئًا ما كان.







الفصل الثالث عشر
أحلام إسماعيل التي ستتحقق

تركني إسماعيل أنتظره أكثر من نصف ساعة، ثم اندفع باب المقهى، لتظهر أخيرًا ابتسامته، ابتسامة انفصلت عن وجهه، قبل أن يتقدم باتجاهي معتذرًا:
- تركتك تنتظر، فاسمح لي. أنا لا أجد نفسي هذه الأيام. لا، ليست عرقلة السير هي السبب، ولكن المواعيد الكثيرة. منذ الساعة الثامنة، وأنا أجري: ابني إلى الحضانة، وزوجتي إلى الشغل، وموعد في مقهى كذا، وآخر في مقهى كذا، وآخر وآخر في دائرة كذا. اعذرني يا صديقي!
كنت طوال الوقت أبتسم إلى الوجه الذي لا علاقة له بالابتسامة. سألني:
- هل تأخذ بالون ليمونادة معي؟
وهتف:
- جرسون!
قلت له:
- سآخذ قهوة ثانية.
أتى النادل، فطلب إسماعيل:
- واحد قهوة، وواحد بالون ليمونادة.
أراد الجرسون أن ينسحب.
- قلت بالون وليس كأسًا.
- فهمت جيدًا، يا سيدي.
ذهب الجرسون، وإسماعيل يطلق آهة:
- إذا لم تؤكد عليهم استغبوك، وقالوا لك لم نفهم، يا سيدي.
اتسعت ابتسامته حتى غطت كل وجهه:
- أنت تعرف أن الكأس أغلى من البالون مع أن حجمهما على التقريب واحد.
- أعرف. قلت لي مرة.
قال بطريقة احتفالية:
- إذن، هاأنذا لك اليوم! لا أدري من يشيع أني أترفع عن لقاء أصدقائي. وأنا أقول لك خطأ خطأ خطأ، ثلاث مرات خطأ. أنا لأصدقائي، وأصدقائي لي: أعمل لأجلهم ما أستطيع عليه. وكما تعلم، أنا أعرف كل الناس هنا، وأستطيع أن آتيك بمنحة. هل تريد منحة؟ أعرف أنك لست بحاجة إلى منحة، فأبوك مثل أبي يستطيع أن يرسل لك ما تيسر من المال، ولكن إثباتًا لصداقتي، أستطيع أن آتيك بمنحة، بل سآتيك بمنحة بالفعل. أنا شخصيّاً عندي منحة من دول البترول، رغم أنني تقدمي وثوري ولي أحلام غير بترولية. ((البترودولار)) مثلما يقولون. إنهم يلقونه في كؤوس الويسكي، وعلى موائد الكازينوهات، وبين أثداء العاهرات، لماذا لا نستفيد منه؟ من أحسن نحن أم العاهرات؟
أجبت، وأنا أبتسم، وأخال ابتسامتي تغطي كل وجهي:
- نحن.
- إذن سآتيك بمنحة. وإذا أردت رحلة دراسية، إلى الشرق أو الغرب، عليك أن تختار. طبعًا، ليس أنا من سيبعثك، ولكن أنا من سيتوسط لك، إلى أن يأتي يوم تتبدل فيه الأمور. ذكرني، في أي موضوع أطروحتك؟
- في الأدب المقارن بين زولا والشرقاوي.
- ولماذا زولا والشرقاوي؟
- لأن الأرض مقدسة ومعبودة لدى الاثنين، ولكن طريقتهما في العبادة والتقديس تختلف، وبالتالي رموزها عندهما تختلف، يمكن أن تكون بائعة الهوى عند الواحد والمالك العفن عند الآخر.
- عظيم، سأبعثك في رحلة دراسية إلى مصر، لتقابل الشرقاوي، وتتناقش معه. أما زولا، فقد مات، وإلا...
عاد النادل، ووضع أمامنا فنجان قهوة، وكأسًا من الليمونادة، وإذا بإسماعيل يصيح:
- قلت لك بالون ليمونادة، بالون، أكَّدت عليك، وقلت لي فهمت جيدًا، يا سيدي!
رمقه النادل دون رضاء، وعاد بالكأس من حيث أتى.
- أرأيت إلى أين يصل النصب والاحتيال؟ يريدون أن يشفطوا ثمن كأس لها كمية البالون، يتقنون اللعبة هؤلاء الشراميط! لكن القانون يمنع ذلك، القانون قانون، والقانون يقول ثمن البالون أقل من ثمن الكأس، حتى ولو كانت الكمية واحدة.
تنهد:
- ماذا كنت أقول؟ سآتيك بمنحة وتذكرة سفر إلى مصر، هل أنت سعيد؟
- جدّاً.
- كي تقول للذين يقولون إني أترفع عن أصدقائي إنهم مخطئون. أنا لأصدقائي وأصدقائي لي. والحياة، على كل حال، أخذ وعطاء. الثورة تأخذ، والفدائيون يعطون، الفدائيون يأخذون، والثورة تعطي، ونحن، بشكل من الأشكال، كلنا فدائيون. على الأقل في هذه المرحلة. والمكان ليس مهمّاً، هنا أو هناك واحد. وربما هنا أخطر من هناك، ونحن نواجه الصهاينة كل يوم، في الدوائر، والمقاهي، والطرقات. انظر إلى تلك الفتاة الحمراء التي تجلس هناك، شكلها يقول إنها يهودية. إنهم في كل مكان. وأنا، مثلما تعلم، ملتزم جدّاً، وأستلم تهديدات. في مرة، وجدت تهديدًا ملصقًا بزجاج سيارتي. في البداية حسبته مخالفة. كان تهديدًا. نعم، أنا مهدد. وروحي على كف عفريت. أعطي وآخذ، وحتى الآن أعطي أكثر مما آخذ، ولن يتساوى الأخذ والعطاء إلا إذا صرت ممثلاً لمنظمة التحرير. ستقول لي هذه أحلام، ولكن من أين لهم واحد مثلي، له معارفه، ونشيط، ويتكلم الإنجليزية والفرنسية والعربية بطلاقة، وموافق على طول الخط؟ أنا مع الدولة رغم أنني ضدها، وضد الدولة رغم أنني معها. هكذا الدبلوماسية وإلا فلا! منذ كنت في القدس، وأنا دبلوماسي. أبتسمُ بحرارة، وأصيح بأدب، وأتوسط لكل من يتوسط لي.
لا تنس انتخابات اتحاد الطلبة القادمة أن تعطيني صوتك. تذكر المنحة والرحلة. ولا أكتمك أني لا أتكلم العربية بطلاقة مثلما قلت منذ قليل. نسيتها. ثم ثقافتي ثقافة خوارنة وأديرة، ومع ذلك، أريد أن أتكلمها بطلاقة مثلما أحلم بطلاقة، إنه حلم بين أحلام. لهذا، أريدك أن تكرس لأجلي بعضًا من وقتك من أجل تعلم القواعد والنحو على الخصوص، وسأدفع لك. الحياة أخذ وعطاء.
التفت إلى ناحية المشرب:
- أين هو هذا الجرسون الخراء؟
وأشار إليه ليعجل:
- لقد نشّف لي حلقي.
عاد يقول بصوت عال ما يفكر فيه بصوت واطئ:
- إذن، اتفقنا؟ في الليل لا أنام. من هم مثلي يستحقون أعلى الرتب: إمكانيات وذكاء ومعارف كثيرة وأصول رفيعة! أبي لم يزل تاجرًا مرموقًا في القدس رغم صعوبة الاحتلال. يخرج من الأراضي المحتلة متى يشاء، ويدخل إليها متى يشاء. ومن أين لهم بواحد مثلي مع الدولة وضدها، ضد الدولة ومعها. لربما يدهشك قليلاً هذا المنطق، ولكن لا تندهش، أنا مع الدولة عندما أعبر عن موقفي الرسمي، وضد الدولة عندما أعبر عن موقفي الشخصي؛ مما يضاعف من التكتيك والحراك، وهذا على كل المستويات.
توقف إسماعيل، وهو يراقب النادل أبالونَ أحضر أم كأسًا، ثم ابتسم للبالون، وهمهم:
- أخيرًا!
تناوله من يد النادل، ودفعة واحدة، كبَّه في جوفه. وبعد أن تمزمز، ومسح الليمونادة عن لحيته، تأملني مليّاً، كان يبحث عما أخفيه من وراء ابتسامتي التي راحت تغطي كل جسدي، وسأل:
- ماذا تقول؟
أشرت بإصبعي إلى اللوحة، إلى تلك العربة التي تجرها الخيول عادية بجنون، وقلت:
- ستسقط العربة.
- ماذا؟
- الخيول هارعة دون خيَّال.
- سأكون الخيَّال!


الفصل الرابع عشر
الطفولة الملوثة

قال لي إسماعيل: عقدة الخيّال، إذا كنت أجرؤ على التعبير هكذا، لهي عندي مذ كان عمري عشر سنين. أفعالنا أو الأفعال التي تجري في حقنا، منذ نعومة أظافرنا، تشكل شخصيتنا، وهذا، إن شئنا أم أبينا. الإنسان، إذن، بالنسبة لي، لهو هذا المغترب الأزلي الذي صنعه الإنسان.
بدأت الحكاية عندما كنت أذهب إلى مدرسة ديرنا في القدس، كنت لا أعلم أن هناك بين رجال الرب مَنْ هو إلى تلك الدرجة من الفظاعة.
كنت لا أعلم أنه يمكن للكنيسة أن تحوي رجالاً يلوثونها، يلوثون ذكرى المسيح، وجماله، كنت لا أعلم أني سأكون الفريسة، الفرس، الخيل إن شئت، الذي سيمتطيه رجال
((قديسون)).
في البداية، كنت أعتبر ذلك لعبة من الألعاب، كان الخوري الذي يعلمني الموسيقى، وبتحديد أكثر، البيانو، يمسك أصابعي برقة ليريني كيف أضغط على الملامس من أجل عزف شيء لرافل أو بتهوفن. كان يجلس إلى جانبي، وهو يلتصق بي، ثم يضعني على ركبتيه. عندما بدأ يشم عنقي، ويجس لي صدري، ويلعق أذني، فهمت ما كان قصده، ولكنيّ لم أكن أستطيع الهرب، كان يطوقني بذارعيه الكبيرتين القويتين.
كان يخنق صرخاتي، أو إن شئت، بسبب ظهور شبح، كانت صرخاتي تختنق في حلقي. فهمت، بعد ذلك، أن ذلك الشبح لم يكن سوى الخوري الآخر، أستاذ الفرنسية، وكلاهما قد عبث فيّ، كما لم يعبث أحد من قبل.
كنت خائفًا من عقاب الله لي، فلم أقل لأحد كلمة واحدة، كانوا رجاله أولا وقبل كل شيء، وكانت طاعتي لهم واجبة. كانوا يسمون ذلك لعبة الخيل، فيجعلونني أمتطيهم، وعندما كبرت قليلاً، كنت أجعلهم يمتطونني، ومنذ ذلك الحين، لم يكن بإمكاني تغيير موضعي. لما علم رئيس الدير بالأمر، وجاء يطالب بحصته من الطفل اللذيذ والملائكي الذي كنته، لم يكن يقبل القيام بدور الحصان، فحملتهم ثلاثتهم الواحد تلو الآخر، وأنا أقسم في سري، عندما أصل إلى سن البلوغ، ألا أترك نفسي مطية لأحد، مهما كانت منزلته الدينية أو الاجتماعية. الآن، عليّ أنا امتطاء الآخرين، وليس فقط حسب المعنى الجنسي، الثأر من كل تلك الأفعال الشنيعة التي ارتكبت فيَّ بأفعال أخرى شنيعة بالقدر ذاته، واستيفاء حق كل تلك السنين الملوثة في طفولتي الفظيعة، الحذر من كل شيء، وأبدًا لن أترك نفسي فريسة للخداع، وسيكون الله معي.

الفصل الخامس عشر
ليلة رأس السنة

ارتديت أحسن ملابسي، وذهبت إلى الأضواء. كانت باريس تحتفل بليلة رأس السنة، وباريس الجميلة في الليل والعيد، كانت تنتظرني على باب مقهى الاسكوليه ((L’Escholier)) في الحي اللاتيني. الليلة للحب، حتى وإن لم تكن عاشقًا، للخداع، فالزمن الليلة على مفترق طرق الدنيا، وأنا، لم أكن أريد أن أفكر في نانسي، ولا في أمي.
استقبلني نديم بابتسامة عريضة وذراعين مفتوحتين على سعتهما، وهو يهلل:
- أنت الليلة كالعريس، ونحن، بلا شك، واجدون لك العروسة!
وراح يضحك برنة بين السخرية والمرح.
كان عصام يغطس في قعر الكرسي كالقنفذ دون أن يبين، فأطلق ضحكته الموجزة، ضحكة لا تدري من أين تأتي، ولا كيف يحررها من حلقه، وعلَّق:
- أنت كالعريس حقًا!
لاحظت أن عصام يرتدي جاكيته المكسرة، جاكيت كل يوم، وأن لحيته، كالعادة، طالعة، بينما كانت لنديم لحية تبرق، لكنه يرتدي جاكيته الجلدي المعهود، وبنطاله الجينز.
أخذت مجلسًا، فسألني نديم، وكأنه يريد الاعتداء عليّ:
- أنسيت أنك في الحي اللاتيني، وأن الفتيات اللاتي ستأخذهن في أحضانك يفضلن البنطال الجينز والجاكيت الجلدي على بدلتك السموكن؟
- ولكنها ليست بدلة سموكن.
- إنها بدلة سوداء على أي حال.
- سوداء، هذا صحيح.
- عليك أن تخلعها.
- أن أخلعها!
- أو أن تخلع الكرافتات على الأقل.
أخذ يفك ربطة عنقي بشيء من العنف، ويطويها، ثم وضعها في جيبي. تأملني بعد ذلك، وابتسم ابتسامته لصنم:
- الآن أضمن لك أن ترتمي كل فتيات باريس على قدميك!
عاد عصام يطلق ضحكته المختصرة، دون أن يبذل، وهو يغطس دومًا، في قعر مقعده، حركة واحدة. سألني نديم، وقد هدأ، بنبرة صديقة:
- هل أطلب لك خمرًا مثلي؟
- أريد كأس بيرة مثل عصام.
نادى نديم النادل، وكأنه واحد من حاشيته، وطلب لي بيرة. عندما أعطاه النادل ظهره، راح يقهقه دونما سبب:
- هذه الليلة كل شيء مسموح، وبإمكانك أن تكون ملكًا، حاشيتك كل هؤلاء الفرنسيين المتوسطين الأغبياء! انظر، وافعل مثلي!
أطلق عصام قرقعة بلسانه:
- طز في واحد مثلك!
أتبع ذلك بضحكته التي تميزه، فرحنا جميعًا ضاحكين. أفرغنا كؤوسنا في حلوقنا، وطلبنا أخرى، وبين لحظة ولحظة، كان نديم ينظر إلى ساعته، ويهمهم بَرِمًا:
- لم يحن منتصف الليل بعد.
ويعلق عصام دون حماس:
- لم تحن ساعة مجونك بعد.
- تصور أنني لم أشم رائحة امرأة منذ أن تركت ليندا!
- أمَّا أنا، فمنذ أن طلقت.
- لكني لست بنادم على تركها، هذا هو الأهم!
قال لي عصام دون حماس دومًا:
- اسمع ماذا يقول ناكر الجميل عن التي أطعمته، وكسته، طوال سنين!
احتج نديم وهو يبدو منسحقًا على سماعه لكلمات صديقه:
- طوال سنين!
قلت لعصام دون أي تهكم من طرفي:
- ماذا تريد؟ لقد صار موظفًا كبيرًا في الإذاعة!
ابتسم نديم مسرورًا من نفسه وليس مما قلت:
- أتذكر يوم كنت مستعدًا لأكون منظفًا لمباول العرب في شركة الطيران تلك؟
- كيف لا أذكر؟
أخذ نديم جرعة خمر، وابتسم مسرورًا من نفسه من جديد، وأنا أخاله ماري أنطوانيت في أواخر أيام مجدها:
- اليوم أنا أشخ عليهم فلوسًا.
سارع عصام إلى القول مستغلاً نقطة الضعف هذه لدى نديم:
- ستكون السهرة على حسابك بما أني عاطل دائم عن العمل.
لكن نديم أخذ يقهقه قهقهة ماري أنطوانيت وهي في المخدع مرددًا بلذة التشهير بالآخر:
- لا، لا، لا، أيها الأفَّاق! كل واحد يدفع ما يستهلك! أتريد أن تسغلني مثلما فعلت بك صاحبة المطعم التي استغلتك حتى العظم قبل أن تطردك؟
مرَّتْ بعض الفتيات من أمام المقهى، فلهث نديم، وكأنه فخذا ماري أنطوانيت المشتاقتان:
- فتاة ممتلئة، هذا كل ما أريد، فتاة ممتلئة!
ثم هتف عاليًا:
- إلى الصيد، هيّا!
قال عصام بكسل كركدن:
- ولكن لم يحن الوقت بعد.
نظرت إلى ساعتي، وقلت بين شعور المعصوم والمعاقر:
- الساعة تجاوزت الحادية عشرة بقليل.
اقترح نديم:
- لنذهب إلى مقهى أخرى.
كانت باريس تبتسم، ونحن نذهب إليها، ابتسامتها غير المعتادة. كانت باردة، وعمَّا قليل، سيسقط الثلج مع الأضواء.
قلت لعصام:
- نديم يعتقد أنه سيصطاد بنتًا الليلة.
نظر إلى نديم الذي يتدلى لسانه كالجرو بحثًا عن امرأة، وألقى:
- إنه لم يتحرر بعد.
- ممَ؟
- من عقدته.
وأطلق ضحكته الأوديبية قبل أن يضيف:
- كم من مرة قلنا إن عربك يعتقدون أن الفتيات في باريس كلهن عاهرات، تطرق أبوابهن ليدخلنك مباشرة إلى الفراش!
أخذ نديم يفتح ذارعيه على سَعتِهما، ويصيح:
- إليَّ أيتها الجميلات، يا أجمل الفتيات في الدنيا!
دون أن يأبه به أحد من العابرين.
قلت له:
- حذار! لا تفضحنا!
ولكنه عاد يصيح:
- إليّ أيتها الجميلات!
سحبناه أنا وعصام من ذراعه، ودخلنا مقهى سيليكت لاتان، ((Le Select Latin))، وقفنا على المشرب، ونديم لم يزل يصيح بذارعين مفتوحتين:
- إليّ أيتها الجميلات!
لم تكن هناك أيَّة فتاة.
طلبنا بيرة، أنا وعصام، وطلب نديم خمرًا. التفتنا، فرأينا حنَّا في إحدى الزوايا، وهو يحاول الاختباء. هتف نديم:
- أنت هنا يا حنَّا، ولا تقول لنا!
انقض على عنقه، وراح يقبله، وحنَّا يطلق ضحكته التي تعدي. لم يشأ في البداية أن يقول لنا لماذا كان هنا، وفي الأخير، أخبرنا:
- أنا بانتظار واحدة.
صاح نديم وقد وجد فيه خِدْنَه:
- هذه هي الرجال وإلا فلا!
أوضح حنَّا بين ضحكتين قصيرتين:
- كان موعدنا على الساعة التاسعة.
فغضب نديم:
- منذ الساعة التاسعة تنتظرها! أنت حنَّا، دكتور الدولة، وأجمل شباب باريس تجعله امرأة ينتظر كل هذا الوقت دون أن تأتي!
أخذ حنَّا القصير السمين الأحول الطيب الرائع المستبد بكل عقده يشد شعره عند الفرق، وينثره، دون أن يتوقف عن الضحك، ونحن على وشك أن نودع عامًا من حزن الفيلة. قال له عصام بنبرة باردة آتية من فم ميت:
- لماذا تكذب، يا حنَّا؟
ففوجئ حنَّا وكأنه طعنه في صميمه:
- بماذا أقسم لك؟
- لماذا لا تعترف بأنك عذراء منذ أن ولدتك أمك؟
- آه، لا، كفى مزاحًا!
أيَّد نديم خِدْنَه:
- كفى مزاحًا! حنَّا دون جوان زمانه، وأنا شاهد!
عاد حنَّا يضحك بسعادة بطل من أبطال قصص الأطفال:
- أدعوكم لتشربوا كأسًا على حسابي.
فرفض نديم، كان طموحه كبيرًا في تلك اللحظة النادرة من حياة بشر باريس:
- ليس في هذه المقهى العاثرة، سنذهب إلى أخرى، هكذا نعاقب فتاتك على تأخرها إذا ما جاءت، ولم تجدك! وستخسر أجمل ليلة من عمرها!
ذهبنا إلى الأضواء مرة أخرى، إلى زغردة المصابيح، وضحكات حنَّا تشيعنا، وباريس تتقدم من منتصف الليل، تتقدم، وباريس تتقدم من انتهاء عام لم نكن ندري كيف مضي، كانت تتقدم بشيء من الخيانة لزمنها، والناس فيها على كافة أنواعهم ينتظرون عاصفة من القبلات.
دخلنا إلى حانة مكتظة بالزبائن، وطلبنا بيرة أو خمرًا. انحنى عصام عليّ، وسألني:
- في ماذا تفكر؟
- لا أريد أن أسكر.
سَمِعَنا نديم، فطلب لنا كأسًا أخرى، وكأنه يطلب لنفسه لذة مستعصية:
- اليوم خمر، وغدًا أمر، وهذه الكأس على حسابي!
علّق عصام وهو يبدو في ثوبه المدعوك مثل كمشة من أوراق الكستناء الجافة المتساقطة دون مبالاة ودون مسئولية:
- آه منك أيُّها الناكث البخيل! كأس واحدة فقط!
- وهل تظن أني صرت وليّ نعمتك؟
- ولكنها ليلة رأس السنة، وأنت موظف كبير في الإذاعة!
- موظف كبير في الإذاعة لا عند أبيك!
وفجأة كمن يضرب في الخيال:
- عندما أصبح مذيعًا سيسمعون صوتي هناك!
سكت نديم للحظة مفكرًا مغتمّاً، لم تكن لذائذه الفردية بقدر غربته، كان يبدو هو أيضًا مثل كمشة من أوراق الكستناء الجافة المتساقطة، ثم اقترح، والتعاسة تجتاح كل كيانه:
- سأضع لك فرنك لتلعب مع حنَّا الفليبر بشرط أن تكسب لنا.
وضعتُ فرنك آخر، ولعب أربعتنا، والساعة لا تتوقف عن التقدم من منتصف الليل، وكأنه موعدنا مع الموت. ورغم ذلك، كنا نرى في الأمر سعادتنا التي لا تصدق، شيء أشبه بالوعد الإلهي. انتهرني عصام في اللحظة التي أفلتت الطابة مني:
- هل سكرت؟
- لا.
- إذن العب جيدًا.
عاد نديم يصيح، وهو يراهن على وعده الإلهي:
- اليوم خمر، وغدًا أمر!
وإذا بنفير السيارات قد انطلق، وباريس قد راحت تنادينا إليها، إلى حنان تماثيلها، وحرية حوافر خيلها الحجرية، وسلطة كل أحلام كتابها الذين خاب ظنهم فيها. أخذنا نرتمي في أحضان أيَّة فتاة نقابلها، ونقبِّلها من وجنتيها، نهنئها بمناسبة السنة الجديدة، ونهنئ من معها، رجلاً كان أو امرأة. كانت باريس تأخذني في أحضانها الباردة، الدافئة، المتوترة، العابثة بالروح عبثها بالجسد، فأدوخ، وآخذ مع نديم وعصام بالصياح:
- سنة سعيدة! سنة سعيدة!
كان البشر من حولنا يهرعون على عتبة الزمن إلى عامٍ جديدٍ لا يرون منه بَعْدُ سوى لحظة واحدة، لحظة غامضة، ولكنها لذيذة، لحظة تتصرف بأعمارنا كما لو كنا دمى لها، وكان الكل يصيح، ويفتح ذراعيه على الجانبين، ويهنئ، ويرقص، ويغني. وكانت أجمل الفتيات بين ذارعينا يسقطن للحظة قصيرة، ثم يذهبن عنَّا في الليل، ويضعن. بقينا حتى بدايات الصباح، وعندما نظرنا حولنا، لم نجد حنَّا معنا.
أدركت أن حنَّا لم يفتح ذراعيه لأحد، بقي طوال الوقت يتبع من ورائنا كالخائف من أمر لا ندريه، كالمتهيب من قدر متسلط.
ونحن في التاكسي إلى بيوتنا، سأل السائق عن جنسيتنا، فقال نديم بتعب وعناء:
- نحن فلسطينيون.
قدم السائق نفسه:
- وأنا صهيوني.
- صهيوني!
وعلى الفور، ذهب التعب عن نديم، وغادره العناء، كان يسعى من وراء لذة من نوع آخر، لذة الرهان الخاسر مسبقًا. فتح نقاشًا سياسيًّا معه، ولم أعد إلى نفسي إلا وأنا وعصام نَخُبُّ بقدمينا الواهنتين على الرصيف. فجأة، انفجر عصام يبكي، فشددته من ذراعه، لكنه بقي يبكي، ثم أخذ يسب نديم، ويقسم أنه سيقتله ذات يوم بيديه هاتين. عندما هدأ، أعلمني أنه جعله يتذكر أباه. وقف على عتبة فجر جديد من سنة جديدة، وحدق في وضع المسخ الذي اجتاحه. كان مثلنا كلنا غريبًا عن نفسه وعن العالم، نوعًا من المخلوقات الماورائية المنتظرة. وكان مثلنا كلنا لا يعرف بلدًا يعود إليه، ولا يعرف أبًا إلا في الذاكرة. كنا نتجول عبر العالم، ونترقب في الواقع شيئًا غير محتمل، غير محدد المعالم، معلقين على جناحي انتظار لا ينتهي.


الفصل السادس عشر
كان له موقف



جاء السماسرة، في يوم أبيض كالموت، وقالوا لأبي:
((إخوتك باعوا أرضهم، وأنت ترفض ذلك، سيأتي اليهود غدًا، وسيذبحونك كالكلب الجبان، فماذا ستسفيد؟))
دفعوا لأرضه ثلاثة أضعاف ثمنها، ولكنه لم يتراجع قيد أنملة، وخرج يفتح ذراعيه للريح.
في الليل، والقمر الخائن يستسلم للغيم المجتاح لسماء قريتنا، أتى بعض المسلحين، واقتحموا الحظيرة، قتلوا الخيل والأغنام، وقتلوا البقرات، كان الرصاص يدوي، وأبي يغلق أذنيه بكلتا يديه، ويصرخ، ونحن كنَّا صغارًا في حضن أُمِّنَا، ننظر إليه برعب، وكأننا حشرات قذفت بنا بطن الأرض.
في اليوم التالي، عاد السماسرة، وقالوا لأبي: ((انظر إلى ما جنت يداك، لو أنك قبلت عرضنا لما حصل الذي حصل، فهل تقبل أن تبيع لنا أرضك الآن؟))
لكنه كان عنيدًا عناد رب من الأرباب الشرسين، قال لهم ليأخذوها عليهم أولاً السير على جسده، فذهبوا غاضبين.
في الليل، والغيم الخائن يصعد على مركب القمر المغادر لسماء قريتنا، أتي بعض المسلحين، وأحرقوا ما في الحظيرة من قمح وخزين، ودمروا الزرع برشه بالمواد الكيماوية. أطلقوا على بيتنا الرصاص، وأبي يغلق أذنيه بكلتا يديه، ويصرخ، ونحن نصرخ معه، إلى أن فقدنا صوتنا.
ذات صباح، نهضنا على أصوات الجنود، كانوا يقيمون أعمدة يصلونها بأسلاك شائكة، عرفنا فيما بعد أنها الحدود. عندما التفت أبي من حوله، وجد أن الأسلاك الشائكة تقسم أرضه قسمين، وكأنها سكينٌ قسمت قلبَ برتقالة. وعندما تقدَّم من الأسلاك، وحاول انتزاعها، أطلقوا عليه الرصاص، فأتانا مهرولاً، ويداه في أذنيه، وهو يصرخ، ويصرخ.
مضت سنوات، وأبي يخرج إلى الأرض كل ليلة، ويأخذ في جَلْدِها. كنَّا نسمعه يتأوه من التعب، وكنَّا نسمعه يسبها، وفي الصباح، كان يأخذ في مداعبتها، والاعتناء بها كابنة.
ذات يوم، جاء أبي موفد من طرف الحاج أبو عطا، إقطاعي له نصف أراضي البلد. قال لأبي: ((يريد الحاج أبو عطا أن يشتري أرضك، وهو يدفع لك فيها ثلاثة أضعاف ثمنها)). رفض أبي، وطرد الموفد.
في الليل، والظلام يجتاح كل شيء، الأرض والجسد والزمن، أتى مسلحون، واقتحموا الحظيرة. ذبحوا ما فيها من خيل وأغنام، وذبحوا البقرات، ثم أطلقوا الرصاص، وأبي يغلق أذنيه بكلتا يديه، ويصرخ، وأمي إلى جانبه تبكي بصمت، كنَّا قد كبرنا، وتركنا أبي، وتفرقنا في أرجاء العالم.
بعد عدة أيام، جاء أبي موفد آخر من طرف الدكتور أسعد الذي صار وزيرًا عدة مرات، وقال لأبي: ((يريد الدكتور أسعد أن يشتري أرضك، وهو يدفع لك فيها أربعة أضعاف ثمنها)). كان، في الحقيقة، أعلى ثمن دفعوه لأبي، ولن يدفع مثله أحد، لكنه رفض رفض الجندي للموت والنائم للضوء، وطرد الموفد.
في الليل، والظلام أقوى من أي شيء، أتى مسلحون، ودمروا الزرع مثلما فعل سابقوهم، ثم أطلقوا الرصاص على بيتنا، وأبي لا يغلق أذنيه هذه المرة بكلتا يديه، ولكنه لم يتوقف عن الصراخ، وأمي التعسة تبكي وحدها.
وتتابعت الليالي، والمسلحون يطلقون على بيتنا وظلال بيتنا الرصاص، لكن أبي كان يخرج بعد أن يذهبوا في كل مرة، ويأخذ في جلد الأرض إلى أن يهلكه التعب، فيعود إلى الفراش، وينام.
كانت أمي قد ماتت، وأبي قد هجر الأرض، ولم يعد يفلحها أو يزرعها، صارت تتوحش من يوم ليوم، ولكنه لم يتوقف عن جلدها كل مساء، وبدل أن يسمعه الناس يسب أو يتأوه أو يبكي، أخذوا يسمعونه يوشوش أو يقهقه أو يقول كلمات مبهمة، ويبقى طوال النهار في غرفته، يسمعونه منذ ذلك الوقت فصاعدًا يتحرك، أمَّا هو، فلا يسمع حركته.
ذات صباح، جاءت جرافات البلدية، وراحت تجتاح أرضنا المتوحشة، تريد أن تجعل منها منتزهًا. كان أبي في غرفته لا يسمع شيئًا، فلم يتحرك، ولم يصرخ. وكانت الجرافات قد وثبت على بيتنا، واقتلعته من جذوره، وأبي في الداخل يتابع آخر لحظة من صمته.


الفصل السابع عشر
الموت السعيد

أعلمني الأصدقاء أن حنَّا مات، قتلوه أو انتحر، فلم أصدق الخبر، وقضيت يومي في ذهول، حنَّا الذي لا يمكنه أن يقتل صرصارًا قتلوه، لا أعتقد. فهل يكون انتحر إذن؟ حنَّا الذي يخاف أن يجرح نفسه عندما يحلق لحيته انتحر، لا أعتقد. فكيف مات إذن؟ ولماذا؟
قال لي إسماعيل إنهم انتدبوه بوصفه ممثل منظمة التحرير، لتشييع الجثمان؛ فهم اعتبروه شهيدًا، وقد أعلنت الجرائد أن حنَّا ذهب ضحية عملاء مراكز المخابرات.
كان حنَّا إذن مُهِمّاً دون أن نعلم، واستطاع أن يخفي علينا جميعًا نشاطه المشرف، هكذا هم المخلصون والشرفاء، ترخص حياتهم إلى حد تقديمها للموت، وهم يبتسمون!
قال لي عصام إنه رأى حنَّا قبل أن تأخذه الشرطة إلى المشرحة، كان وجهه مدكوكًا بالرعب، وفمه يجمد في هوة صرخة لم يسعفه الوقت على إطلاقها. مات حنَّا إذن مقتولاً دون أن يشاء الذهاب إلى الموت بفرح، وإلا لم تلك الصرخة التي يجمد في هوتها فمه، وذلك الرعب الذي يدك وجهه.
لكن الغريب في الأمر، أن الشرطة اكتشفت بين أوراق حنَّا رسمًا لثعبان وحشي خططه بريشته قبل أن يموت. ولو وقف الأمر عند ذلك لما أثار الرسم الشكوك، فالطبيب الذي قام بتشريحه أعلن، بشكل غير رسمي، أن حنَّا لم يمت قتلاً بالرصاص أو غيره، بعد أن اكتشف جرحًا غير طبيعي في ظهره، عزاه إلى نابي ثعبان قاطعتين انغرستا في لحمه فجأة دون أن يسعفه الوقت على الدفاع عن نفسه. قلنا إذن هذا هو سبب الصرخة التي يجمد فمه في هوتها، والرعب الذي يدك وجهه، وحزنّا لأن حنَّا لم يكن المناضل الذي صدقنا أنه كانه، وهو قد ذهب بشربة ماء.
في اليوم التالي، نفى تقرير الطبيب الرسمي أن حنَّا قد مات على إثر لسعة ثعبان وحشي، فمن أين يمكن لثعبان، وفوق ذلك وحشي، أن يأتي إلى باريس مدينة النور، وأن يذهب إلى فندق الغرباء، حيث كان ينزل حنَّا، ومثلما كان يقول حنَّا، الفندق رخيص ونظيف، وفي قلب الحي اللاتيني! وعند ذلك، عدنا وأكدنا أن عملية القتل من طرف الأعداء، واستبعدنا، إلى أن ذكَّرنا بذلك نديم فجأة، أن حنَّا ربما أقدم على الانتحار. تركنا الأمر عند ذلك الحد، بعد أن حزنّا لأجل حنَّا، وكثيرًا ما تذكرنا ضحكته التي تعدي، ولم تعد تضحكنا بعد، بل تبكينا.
مضت الأيام، دون أن تنسينا حنَّا ولا ضحكته. ودفعني مَقْدَمُ أحد الأصدقاء أن أذهب إلى فندق الغرباء، لأحجز له غرفة، فالفندق رخيص ونظيف، مثلما كان حنَّا يقول، وفي قلب الحي اللاتيني! كانت صاحبة الفندق، التي عرفتها، ولم تعرفني، لطيفة معي. ولشدة لطفها، عرّفتها بنفسي، بأنني كنت صديقًا مقربًا لحنَّا الذي كنت قد زرته مرات، فعرفتني. أبدت حزنها، وضاعفت لطفها، ورأيتها تسارع إلى فتح خزانة إلى جانبها، وتخرج منها حزمة من الورق الملفوف برباط أسود. أعلمتني أنها وجدتها في غرفة حنَّا بعد أن جمعت الشرطة كل أغراضه، وعللت عدم أخذ الشرطة لحزمة الورق أنها وجدتها، عندما أرادت تهوية الفراش، في غلاف الوسادة. وقبل أن تقدمها لي، بصفتي واحدًا من أصدقاء حنَّا المقربين، جعلتني أقرأ بالعربية الكلمة التي تركها على الغلاف:
((من يجد هذه الرواية بعد موتي، فعليه أن يعمل على نشرها بأية وسيلة، وسأكون عند ذلك سعيدًا، لأنه سيبعث بها إلى الخلود)).
كان حنَّا قد أسمى الرواية (( بلا عنوان)).





كتبت هذه القِصْرِوَاية
ما بين 1974 – 1976
في باريس

أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي
نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004


[email protected]


في باريس شبحية تقتصر على ضبابها ومقاهيها، يتلاقى غرباء مرتحلون أو منفيون فيما بينهم، هؤلاء هم غرباء أفنان القاسم: إنهم ليسوا مشردين ولا مهاجرين بل هم مستلبون ميتافيزيقيون، صاروا غرباء عن أنفسهم من فرط ما انتظروا اللحظة غير المحتملة التي يمكنهم فيها العودة إلى بلدهم. من هذا الانتظار غير المحدد، المعلق، تُبنى أحلام النجاح المختلطة بالذكريات المُزّة عن حياتهم في فلسطين، وكذلك عن تطوافهم عبر العالم بحثًا عن أرض تستقبلهم. حتى وهم يواجهون ذكرياتهم الخاصة، يعطي هؤلاء الغرباء دوما انطباعًا بأنهم يقفون على بُعد منها بدهشة من عاش تلك الأحداث. يعقد أفنان القاسم حبكته ابتداء من هذه المسافة القائمة بين الحلم والحقيقة، وتحاول كل شخصية من الشخصيات أن تلعب معها. في النهاية، يبقى السؤال المعذِّب: من هم هؤلاء المغتربون حقًا؟


* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكناري
- الشوارع
- إسكندر الجفناوي
- مدام حرب
- النقيض
- شارع الغاردنز
- لؤلؤة الاسكندرية
- باريس
- بيكاسو
- قل لنا ماذا ترى في حالنا؟
- القدس
- الشعراء
- البرابرة
- الأخرق
- الباشا رواية النكبة الأولى
- تراجيديات
- تحليل قصيدة صفد لسالم جبران نحويًا ومنطقيًا ودلاليًا
- فلسطين الشر
- المواطئ المحرمة
- العاصيات


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الاغتراب