أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - رياض خليل - القانون الاقتصادي العام















المزيد.....


القانون الاقتصادي العام


رياض خليل

الحوار المتمدن-العدد: 3503 - 2011 / 10 / 1 - 09:09
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


مقال نشر في العدد (32) أيار العام1995 لمجلة أسرار الشرق الأوسط ، الصفحتان(10 – 11) .
هناك قوانين تحكم سيرورة الوجود ككل ، وهناك قوانين خاصة بكل جانب من جوانب السيرورة العامة .
المقصود بالوجود كل موجود من مادة طبيعية ونباتية وحيوانية وإنسانية . هذه المسميات تشترك وتختلف معا في قوانين سيرورتها وفقا لعلاقة العام والخاص ، والوحدة لاتنفي الخصوصية . مثلا : لكل من النبات والحيوان آلية حركته ونشاطه في النشوء والارتقاء والموت .. الخ . وهذا لاينفصل عن الآلية العامة المشتركة فيما بينها . مثال آخر: غذاء الإنسان يحتوي على ذات العناصر التي يحتويها غذاء النبات والحيوان بالمعنى النسبي ، فالنبات يتغذى من التربة والماء والهواء والضوء ، والحيوان يتغذى من النبات ، ومن بعضه البعض ( الأسماك تأكل بعضها) كما في البر والغابة ، والانسان يركب غذاءه من هذه الأشياء مجتمعة . كذلك حياة الانسان لاتستقيم دون هواء وماء وضوء .. الخ . مع ذلك فله خصوصية تطور تميزه عن سواه من الكائنات والموجودات .
كل شيء يتحرك ويتطور. الحركة موجود ة ، بينما السكون المطلق لاوجود له . ولاحركة بمعزل عن المتحرك الذي يعتبر وجودا ، لافراغا أو عدما .
أنتقل من هذه المقدمة إلى الحياة الاجتماعية ، ومنها إلى واحد من أهم جوانبها الحيوية ، إنه النشاط الاقتصادي الذي منطلقه ومستقره الإنسان ، بوجوده الكلي عامة ، والعضوي خاصة . الإنسان .. إنه طرف فاعل في الحياة الاقتصادية ، لكنه بنفس الوقت طرف منفعل به ، محكوم نسبيا بقوانينه .
لقد أكد ت العلوم الاجتماعية أنه ليس ثمة اعتباطية فوضوية في حركة التطور الاجتماعي ، بل إن المجتمع وفي سياق حركته يخضع للقوانين العامة من جهة ، ولقوانين تطوره الخاص من جهة ثانية . وهذا ماأتاح فرصة دراسة الظواهر الاجتماعية دراسة علمية موضوعية انطلاقا من قواعد المنطق العام والمنهج الخاص . ومكن من اعتبار علم الاجتماع علما إنسانيا له منهجه ونظرياته ومجالاته . وموضوعه الإنسان الذي يؤثر ويتأثر بمحيطه الاجتماعي .
ولننتقل خطوة أخرى من العام إلى الخاص ، فالأخص ، وتحديدا إلى الجانب الاقتصادي للحياة الاجتماعية .هذا الجانب الذي استرعى انتباه واهتمام الفلاسفة ورجالات الفكر منذ أقدم العصور وحتى الآن (سقراط ، أفلاطون ، أرسطو ، ابن خلدون .. الخ ) .
للحياة الاقتصادية ظواهرها التي تعبر عن نفسها بضرورات وسنن خاصة لايمكن تجاهلها أو العبث بحقيقتها وسيرورتها وتأثيراتها ، وقد تمكن العقل العلمي من دراستها وتحليلها ومن ثم فهم الكثير منها ، واستنباط الكثير من قوانينها . وشكل التراكم المعرفي لها ميدانا علميا
6
مستقلا ، أسماه علم الاقتصاد . والعلم يعني فيما يعنيه المفاهيم اليقينية من بدهيات ومسلمات وقوانين وبراهين ونظريات .. الخ . والقانون الاقتصادي ركيزة علم الاقتصاد هو إذن موضوعي يؤدي حركته ويمارس ضرورته بمعزل عن الإرادة الإنسانية الفاعلة فيه والمنفعلة به .وهنا لاإعني عدم إمكانية الإفادة من ذلك القانون ، واستثماره لمصلحة الإنسان . ولاأنفي إمكانية السيطرة عليه والتحكم بتوجهه ، بل أعني استحالة إلغائه وشطبه ونفيه ، وبلغة علم النفس : كبته وقمعه . وإلا سيتكيف ويتحول إلى كيفية تمكنه من البقاء والاستمرار تحت مسميات مختلفة ، ويفضي ذلك للإضرار بالإنسان ، إنه يتخذ مسارا منحرفا ومرضيا مؤذيا للواقع الاقتصادي والاجتماعي . القانون الاقتصادي سلاح ذو حدين ، فإما أن يفيد منه الإنسان ، أو ينعكس عليه ضررا . القانون الاقتصادي هنا يصبخ خطرا مهددا ، عندما يتحول من حالة الكبت إلى ديناميت متفجر يودي بمن حوله ، وقد يشعل حربا داخلية محلية أو أقليمية أوحتى حربا عالمية كما شهد القرن العشرون ، وماأسفرت عنه تلك الحروب من دمار وخراب وضحايا ، كل هذا بسبب النظام الاقتصادي الامبريالي الاستعماري وتجلياته السلبية العنفية العالمية .
وماحدث في بلدان المعسكر الاشتراكي يبرهي مرة أخرى على أنه لابد من أن نأخذ بعين الاعتبار مفاعيل القوانين الاقتصادية المستقلة ، قبل أن تتحول إلى زلزال لايبقي ولايذر .
لقد حاولت البلدان الاشتراكية قتل قوانين السوق ، ولم تفلح ، وحدث العكس ، حيث قوانين السوق لبست لبوس السوق السوداء أوالسقوق المهربة ، أي ظلت حية تعمل وتفتك في جسد الاقتصاد الاشتراكي تحت أسماء وعناوين ومظاهر شتى ، وهدمت ذلك النظام بطريقة مذهلة ومؤلمة . ترتب عليها نتائج ضارة ماتزال سارية المفاعيل حتى الآن في العديد من البلدان التي تدفع ضريبة التحول والعودة إلى نظام الاقتصاد الحر الذي ينسجم و يعكس جوهر القانون الاقتصادي العام ومتطلباته الموضوعية ولايتعارض أو يتناقض معها .
ماركس نفسه فهم وقدم الاقتصاد على هذا النحو في كتابه الشهير " رأس المال" وأكد ضرورة وحتمية مفاعيل القوانين الاقتصادية الموضوعية ، وهي قوانين السوق الرأسمالي الحر ، وكان ماركس مصيبا تشخيص الواقع وتحليل الظواهرالاقتصادية في حينه . ولم يكن مصيبا في اختياراته وفرضياته وبرنامجه للمعالجة والحل ، وجاء مشروعه السياسي العلاجي وصفة مسبقة وغير مجربة لاستبدال القوانين الرأسمالية بالقوانين الاشتراكية التي افترض إمكانية فرضها وتطبيقها على الواقع المعطى ، وثبت أن مقاساتها لاتلائم الجسم الاقتصادي وأنها غريبة عنه مثل محاولة تركيب عضو غريب في جسم الانسان . نجح ماركس في التوصيف والتحليل والتشخيص وفشل في المعالجة التي جاءت سما ووبالا وزادت المشكلة تعقيدا واتساعا وعمقا ، وأسفر عن أمراض أخطر وأشد ضررا ، مايبرهن على أن للجسم الاقتصادي مناعته الذاتية ، وأسلوبه الخاص في تحقيق توازناته الداخلية عبر تناقضاته نفسها التي حاول ماركس إخراج المجتمعات منها ، لكن المجتمع باعتباره الفاعل الأساسي في العملية الاقتصادية بتنوعه يعبر عن عدم توازنه بسلوك تأزمي إلى أن يستعيد عافيته وتوازنه من جديد .

7
إن الصراع الاجتماعي الناتج عن الخلل في الصيرورة الاقتصادية .. ينتهي بشكل أو بآخر بالتصحيح والإصلاح الذاتي ، حتى استعادة الاستقرار والتوازن والحركة الطبيعية . كالنهر الذي يتكيف بالتغير مع تضاريس الوادي الذي يحتله في جريانه .
وهوماحدث في البلدان الرأسمالية المتقدمة ، التي تغلبت عبرأطوار تطورها وأزماتها على مساوئ وسلبيات أنظمتها الاقتصادية بسبب كونها تمتلك آليات تصحيح وإصلاح نفسها بنفسها ، والارتقاء نحو شكل أفضل وأكثر توافقا وتلاؤما مع متطلبات الواقع . وحققت درجة من العدل الاجتماعي الاقتصادي بعد أن ثبت الترابط الحيوي الوثيق بين الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي والسياسي ودوره في الأمن والاستقرار ورفع الإنتاجية العامة ، والصحة العامة للحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية . وهو مايصب في مصلحة الفرد وفئات المجتمع كافة بشكل مباشر وغير مباشر .
إن الحياة الاقتصادية والاجتماعية وجهان لكينونة كلية واحدة ، وأي مرض أو خلل يصيب الحياة الاقتصادية .. لابد وأن يعبر عن ذلك بصورة اجتماعية ، والعكس صحيح تماما . وإن وعي هذه العلاقة الجدلية يسهم في تحقيق التوازن والاستقرار والنمو الطبيعي المطرد . إن الإنسان لايستطيع إن يلغي قوانين الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية بل يتعامل معها يكيفها ويتكيف معها وفقا للمكن من جهة وطبقا لاحتياجاته من جهة ثانية . وإن دور الإنسان هو اكتشاف القانون لاخلقه لأنه موجود بذاته وبمعزل عن الإنسان ، أما القانون الاقتصادي فهو موجود بفعل النشاط الإنساني وليس بمعزل عنه ، وهذا لايغير في الأمر شيئا من حيث أن الإنسان هو جزء من القانون لا بإرادته المحضة بل لمجرد وجوده ونشاطه الضروري في الواقع ، تدفعه حاجاته للبقاء وتحدد سلوكه .
إن الإنسان لا يستطيع إلغاء الريح والزلازل وأشعة الشمس والبرد وتنوع الأقاليم مناخيا ، إنه يفيد من الريح ويستخدم قوتها وقدرتها على توليد الطاقة الميكانيكية والفيزيائية بل والكهربائية ، ويتقيها ويتحاشى أضرارها عندما تتحول إلى عواصف وأعاصير ، كذلك الشمس نتحاشى حرارتها ونستخدم طاقاتها للتدفئة وتوليد الطاقة ، ونتكيف مع الحياة في المنطقة القطبية الباردة ، أو مع ارتفاع الحرارة في المنطقة الاستوائية ، وتلك هي الحال مع الواقع الاقتصادي نستثمره لفائدتنا نكيفه لمصلحتنا ، وأحيانا نضطر للتكيف معه ونتحاشى سلبياته ونعالج آثاره السلبية عند الضرورة . ولايتحقق ذلك بالرغبات والتمنيات بل بالتشخيص الصحيح والعلاج الصحيح . مثلا قد يتمنى بلد صغير متخلف أن يضارع البلدان المتطورة ويتفوق عليها من حيث القدرة الاقتصادية أو سواها من القدرات ، فهل يمكن تحقيق هدف كهذا مع فقدان المقومات والشروط والإمكانات المتاحة ؟
يمكن للمجتمع أن يدفع بالواقع الاقتصادي نحو التقدم والنمو المطرد . ولكن ضمن الحدود المتاحة والممكنة ، أما القفز فوق هذا الاعتبار ، وتحميل الواقع الاقتصادي أعباء تفوق قدرته على تحملها ، فهذا مايؤدي إلى الفشل والإضرار بالجسم الاقتصادي ككل ، وقد يصاب بمرض: " الديسك" ( مرض يصيب العمود الفقري) الاقتصادي ، فيعيق الجسم الاقتصادي عن أداء عمله الطبيعي المطرد .
كان رهان البلدان الاشتراكية يقوم على خنق السوق التبادلية الحرة ، ولكن التاريخ برهن على أنه كان رهانا خاسرا من البداية وحتى النهاية الفاجعة التي أودت بالنظام الاشتراكي وبالقوى الاجتماعية الحامية والمؤيدة له ، وسقط سياسيا ، ومن ثم اجتماعيا واقتصاديا إلى غير رجعة ..وثبت أن للسوق قوته وغرائزه التي لو تعرضت للكبت استحالت إلى مظاهر ومنافذ أخرى ، تفرغ شحناتها عبرها . من تلك المظاهر الانحرافية المرضية : التهريب والسوق السوداء ، وتشوهات التنمية والانتاج ، والعطالة التي تصيب الاقتصاد ككل وكأجزاء مكونة ، والتي تعبر عن نفسها بانتشار الفساد وتضخم العمالة والبيروقراطية وترهل البنى والمؤسسات والنمو بالعجز ، والخسائر في المشروعات ، والروتين والرشاوى وازدواجية الأسعار أو حتى تعددها بالنسبة للسلع والخدمات والنقد الأجنبي ، ولايمكن لأي قرارات حكومية مهما كانت زاجرة أن تعطل هذه المفاعيل أو تلغيها ، لأن ذلك لايتعلق بالرغبة والإرادة ، بل بعلاج جذري للأسباب التي يولدها الواقع ، وكلما اشتدت القرارات ضد قوانين السوق ، كلما ضاقت الدائرة المستفيدة من السوق السوداء ، وازداد النهب والسلب واحتكار التهريب من قبل رأس الهرم السلطوي الذي يتحول إلى حاميها حراميها ، ويصبح محورا لآليات النظام الاقتصادي المغلق والمسير بطريقة تتعارض مع القانون الطبيعي العام للاقتصاد .
إن الاقتصاد كالإنسان ، إذا مرض لايعالج بالأمر والنهي والعقاب والثواب ، بل بالتشخيص والإجراءات العلاجية الدوائية وأحيانا الجراحية التي تستأصل المرض وتجتث العلة من جذورها . ودور السياسة الاقتصادية يشبه دور السياسة الطبية المتبعة مع المريض ، فإن كانت أقرب مايمكن للواقع والحقيقة والحكمة ، أفضت إلى الشفاء ،وإن حدث العكس أفضت إلى تفاقم المرض وربما ينتهي بالموت . والموت باعتباره تحولا من صيغة الوجود الحيوي إلى صيغ عضوية أخرى ، كذلك هو الموت الاقتصادي ، إنه التحول من صيغة بائدة إلى صيغة مختلفة وجديدة ، وهذا يعني أن الموت الاقتصادي لايعني الفناء ، أو التحول من الوجود الاقتصادي إلى العدم الاقتصادي ، إذ لاوجود لما هو غير موجود أصلا ، وما هو موجود أصلا لايفنى أو يتحول إلى لا وجود " حسب لافوازييه" ، والموت ماهو سوى تحول من صورة قائمة إلى صورة جديدة منبثقة عن الصورة القائمة الحاضنة للصورة الجديدة ، وهذه الأخيرة تعيد تشكيل العناصر المكونة للصورة الأم ، لتكوين مخلوق مختلف وقادر على توليد صور تحل محله في المستقبل . إنها عملية إنجاب متسلسلة ومستمرة ، وهي سنة التطور المادي والمعنوي الديالكتيكي . إذن تتم عملية نفي الشكل الاقتصادي المستنفذ لمقومات بقائه ، من أجل توليد وتثبيت كينونة أخرى تحمل كل مقومات الحياة الطبيعية . الموت هو موت الصورة ، وليس العناصر المكونة لها ، لأن العناصر باقية .. سرمدية من حيث هي جوهر مطلق الوجود ، على العكس من الشكل أو الصورة التي تتبدل: تولد .. تنمو .. تشيخ .. تموت وتزول . إنها تظهر وظهورها عرضي طارئ مهما امتد عمرها ، الصورة وحسب هي التي لها عمر ، أما الجوهر فعمره مطلق . وعليه فإن فناء الكينونة ماهو سوى فناء لشكلها وصورتها ، وليس لعناصرها الجوهرية التي تدخل مجددا في تركيب الصيغة الجديدة . فيموت نظام ويولد منه نظام ، ومن الميت يولد الحي ، والموت هو حالة انتقال من حالة حياة إلى حالة حياة مختلفة ، حيث تختفي الصورة لتظهر الأخرى .
أمراض شتى تصيب الجسم الاقتصادي كالتضخم والركود وفيض الإنتاج( التخمة إذا صح التعبير) الخ . وجميع البلدان تعاني من هذه الأمراض بنسب متفاوتة من العمق والشدة والشمول . وقد يعبر المرض الحدود ليجتاح بلدانا .. بل والعالم كله . وكما أن المرض كثيرا مايفاجئ الإنسان قبل أن يدركه بأعراضه ، كذلك حال الاقتصاد يداهمه المرض ويتمكن منه ، ثم يعبر عن ذاته بأعراضه الكارثية أحيانا ، وبشكل مفاجئ إلى حد كبير ، وهو مايؤكد حقيقة موضوعية القانون الاقتصادي العام ، والذي يبدو وكأن الإنسان هوالذي يصنعه بإرادته ، بينما الحقيقة هي أن الإنسان عامل أساسي في صنع القانون الاقتصادي ولكن ليس بإرادته المحضة ولا بوعيه المحض ، تماما كما تؤدي بعض وظائف الأعضاء في الجسم الإنساني عملها بشكل لا إرادي ، بمعزل عن تدخل إرادته ووعيه المسبق . فهو ، أي الإنسان ، في سياق العملية الاقتصادية ، هو فاعل ومنفعل ، فاعل ومفعول به إذا جاز التعبير ، وبالتالي يكون الإنسان يمارس فعلا " لازما" يندمج فيه الفاعل بالمفعول به في كيان واحد متحد : نام ، قام ، عام ، وهي أفعال لازمة لاتحتاج إلى مفعول به ، وهكذا هي حال الفعل الإنساني الاقتصادي ، والذي هو فعل موضوعي إلى درجة كبيرة ، يقتصر فيها الوعي على التدخل السلبي وأحيانا الإيجابي في سيرورة العملية الاقتصادية ، ومع كل هذا ، كثيرا مايفقد الإنسان كمجتمع ونظام السيطرة على الحصان الاقتصادي ، في حالات تشبه حالات الحرن أو الجموح ..الخ . إن الإنسان لايخلق أويصنع القانون الاقتصادي إلا بقدر مايخلق ويصنع ذاته ، وإمكانية تحكمه بالقانون الاقتصادي كإمكانية تحكمه بذاته جسدا وروحا . إنها إمكانية موجودة نسبيا على الرغم من كونه محصلة للسابق (وراثة .. بيئة .. الخ ) ومنتج للاحق . إن الإنسان لايستطيع التحكم المطلق والسيطرة الكلية بذاته جسدا وروحا ، ولابمحيطه الضيق والواسع . ومن الطبيعي أن يفلت زمام الأمور من يده حيال حركة وحياة جسده ، وحيال حركة وحياة وجدانه وكينونته النفسية . إن سيادة الإنسان على ذاته ومجتمعه نسبية ، هو فاعل ومنفعل ، خالق ومخلوق لكينونته المادية والمعنوية ، لامن حيث كونه فردا وحسب ، بل ومن حيث كونه جزءا مكونا وعاملا ومؤثرا في الجماعة والمجتمع ، وهذا هو شأن الحياة الاقتصادية وقوانينها ،والتي يعتبر الإنسان محركا أساسيا لها ، لابإرادته المطلقة ، بل النسبية ، ولو اعتبرنا المجتمع كائنا كليا عاما من مجموع الأفراد ، فكيف للفرد من حيث هو جزء أن يحدد الكل ؟ الجزء يؤثر في الكل نسبيا وليس بشكل رئيسي وكلي ووحيد ، وقد ينبذ الكل الجزء إن شذ عن النظام الكلي . ولايستطيع الفرد ،ولافئة أو شريحة تقرير المسار العام لمصير المجتمع وأنشطته الاقتصادية بالمطلق . ودونما اعتبار للقوة المعاكسة النابذة للوحدة الكلية وقوانينها العامة المستقلة نسبيا عن القانون العام للفرد الجزء المكون له مهما كانت مشيئته . المجتمع الاقتصادي يتحرك وفق أسس موضوعية محددة لاقبل لأحد بالتمرد عليها أو محوها وشطبها واقتلاعها ، ولنضرب مثلا آخر على استقلالية القانون الاقتصادي العام في إطار السياق السابق ، فالحكومات في جميع البلدان لم تستطع نفي ظاهرة تدعى التضخم الاقتصادي ، وهو المرض المزمن الملازم للاقتصاد الرأسمالي ، والمفارقة هي أننا لانستطيع التخلص من التضخم لأنه كتناقض هو قاعدة النظام الرأسمالي ، التضخم هو تناقض ضروري بين كونه داء ودواء في آن معا للحياة الرأسمالية ، وهنا يصح قول القائل :" وداوه بالتي كانت هي الداء" ، هذه الحكمة المعروفة والشائعة بالتراث ا لفكري العربي تلخص ضرورة مبنية على الديالكتيك الهيغيلي الكلي ، والتي هي قاعدة كلية ، ومن هنا فإن التضخم هو خاصية النظام الرأسمالي ، التي لا قبل لأحد أو نظام الهروب من استحقاقاتها ومتطلباتها في السياق الطبيعي ، أو في سياق الأزمات والتقلبات المفاجئة كما ونوعا . التضخم إذا هو داء بالنسبة للمتضررين منه ، ودواء وعلاج لابد منه لاستعادة التوازن بعد الاختلالات البنيوية الكمية والنوعية التي تطرأ على الحياة الاقتصادية والتي تشبه الزلزال أحيانا . ويعبر التضخم عن نفسه بصورتين رئيستين : انخفاض القيمة الشرائية للأوراق النقدية من جهة ، وارتفاع أسعار السلع والخدمات من جهة ثانية ، إنهما صورتان متناسبتان عكسا . وتلجأ الحكومات للعلاج بالتضخم مرغمة ، إنه يتحدة التشريعات الحقوقية وسلطة القيادات السياسية والاقتصادية ، وهذا يؤكد أن الظاهرات الاقتصادية هي التي تفرض تشريعاتها وقوانينها وسلطتها على الواقع في النتيجة . وتفرض احترامها والتقيد بها على الحكومات وأنواع السلطات . إنها تفرض شروطها وحتميتها بكل الحالات والأشكال العادية والاستثنائية .
لقد عانت الولايات المتحدة من التضخم كغيرها من بلدان العالم ، وبلغ معدله أكثر من عشرة أضعاف منذ السبعينات من القرن الماضي ، مع العلم أن لدى الولايات المتحدة قيادة سياسية اقتصادية متفوقة في أدائها وإدارتها ، وتملك إمكانيات البحث والتحليل والتضخيص والتنبؤ ورصد حركة سير الواقع الاقتصادي ، وتحديد سموته القائمة والمحتملة ، ومع كل ذلك لم تفلح الإدارة الأمريكية من كلح جماع التضخم ، والسيطرة على العجز بأنواعه ، وبالطبع ليست الولايات المتحدة هنا أكثر من مثال نموذجي يضيء الهدف من هذا السياق البحثي الذي أعتبره مجرد محاولة لإضاءة فكرة محددة .
إن جميع البلدان تعاني ذات المشاكل ، وبعضها بنسب ودرجات خطرة .
إذا كان التضخم في الولايات المتحدة قد بلغ عشرة أضعاف ، فإنه تجاوز هذا الحد في الكثير من البلدن الأخرى ، كالبرازيل وتركيا وفرنسا ، والعديد من البلدان النامية تجاوز فيها المعدل المائة ضعف .
كل ماسبق يؤكد أن دور الإنسان كفرد أو سلطة عامة في الاقتصاد هو دور مندمج فيه ، وقد يكون إيجابيا أو سلبيا . والدور السلبي منفعل ، أما الإيجابي فهو فاعل ومنفعل معا ويصورة متزامنة ومتوازنة .. تسير على ساقين للتناقض المتلازم والصحي والصحيح للحركة الاقتصادية ، الدور الإيجابي هو دور تفعيلي إبداعي ، يرتكز على وعي الضرورة الاقتصادية من خلال مراقبتها واستقرائها ودراستها وتحليلها واستنباط قوانينها ،ومن ثم التنبؤ بآفاق تلك الحركة ، ونتائجها القريبة والبعيدة ، مايتيح للإدارة السياسية الاقتصادية القدرة على البرمجة والتخطيط للحاضر والمستقبل القريب والبعيد ،وهذا الدور الإيجابي وقائي ، يتحاشى ماأمكن القفز فوق الواقع الاقتصادي وتجاهل حاجاته وشروطه ومتطلباته . هو يعمل بمقتضاها ، وطبقا للإمكانات المتاحة ضمنها ، وهو لايقف في وجه الحركة ، بل في الاتجاه نفسه ، أي معها وليس ضدها بالمعنى النسبي لا المطلق . إنه يقودها .. يوجهها ضمن الممكن ، وإلا فإن الحركة الاقتصادية ستتمرد ، وتفرض نفسها وسياقها ، ستجمح وتتمرد ، وتجرف كل مايقف في وجه سيلها الندفع .
أنا أتعامل مع الأشياء ، ولكنني لست خالقها ، بل أنا مجرد مخلوق مثلها تماما ، وهذا هو شأن الظاهرات الاقتصادية ، نتعامل معها ، نتداخل بها ، نشكلها وتشكلنا رغما عنا ، تماما كما أننا نعيش ونموت رغما عنا ، ورغم أننا نتصرف بما يحقق الحياة والموت بغض النظر عن وعينا لهما أو إرادتنا حيالهما ، فالقرار موضوع وموجود مسبقا ، ونحن ننفذه ، ترغمنا على تنفيذه غرائزنا ودوافعنا وقوانين وجودنا البيولوجي .
من منا يستطيع أن يلغي قانون الأكسدة من الطبيعة ؟ من يستطيع أن يجعل الخشب ينصهر كالحديد ، أو يذوب كالثلج ، تلك إمكانية لاوجود لها ، إلا كفكرة متخيلة ، ولكننا نستطيع أن نحول الخشب إلى طاولة وكرسي وخزانة الخ وهكذ الاقتصاد يملك شرعته وإمكاناته التي لايمكن تخطيها .
إن الصحة الاقتصادية الاجتماعية تقوم على الواقع المعطى من جهة ،وعلى التدخل الواعي المدرك والرشيد للإنسان من جهة ثانية ، وهو مضمون وهدف علم الاقتصاد بأنواعه واختصاصاته ، ومن حيث كونه علما نظريا وتطبيقيا تجريبيا أيضا .



#رياض_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن - الكرنفال- يكتب الشاعر فيصل خليل:
- المحارب: شعر
- النار: شعر
- الوحش
- الغريق: شعر
- لن أختم القصيدة
- رحلة إلى الجزيرة
- البحر-:شعر
- الملك: شعر
- الكرنفال: شعر
- سورة الألق: شعر
- أيها العندليب: شعر
- أضعتك لحظة مني
- السؤال: شعر
- الجريمة: شعر
- مشاهد الجسد: المشهد الأول : شعر
- مشاهد الجسد: شعر
- طائر الكلمات:شعر
- الرجل المسافر: قصة قصيرة
- الصندوق : قصة قصيرة


المزيد.....




- المغرب وفرنسا يسعيان لتعزيز علاقتهما بمشاريع الطاقة والنقل
- مئات الشاحنات تتكدس على الحدود الروسية الليتوانية
- المغرب وفرنسا يسعيان إلى التعاون بمجال الطاقة النظيفة والنقل ...
- -وول ستريت- تقفز بقوة وقيمة -ألفابت- تتجاوز التريليوني دولار ...
- الذهب يصعد بعد صدور بيانات التضخم في أميركا
- وزير سعودي: مؤشرات الاستثمار في السعودية حققت أرقاما قياسية ...
- كيف يسهم مشروع سد باتوكا جورج في بناء مستقبل أفضل لزامبيا وز ...
- الشيكل مستمر في التقهقر وسط التوترات الجيوسياسية
- أسعار النفط تتجه لإنهاء سلسلة خسائر استمرت أسبوعين
- -تيك توك- تفضل الإغلاق في أميركا إذا فشلت الخيارات القانونية ...


المزيد.....

- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى
- جذور التبعية الاقتصادية وعلاقتها بشروط صندوق النقد والبنك ال ... / الهادي هبَّاني
- الاقتصاد السياسي للجيوش الإقليمية والصناعات العسكرية / دلير زنكنة
- تجربة مملكة النرويج في الاصلاح النقدي وتغيير سعر الصرف ومدى ... / سناء عبد القادر مصطفى
- اقتصادات الدول العربية والعمل الاقتصادي العربي المشترك / الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - رياض خليل - القانون الاقتصادي العام