أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عبد المجيد حمدان - قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 3) مخاطر على الديموقراطية 2) انفصال الرأس عن الجسد















المزيد.....



قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 3) مخاطر على الديموقراطية 2) انفصال الرأس عن الجسد


عبد المجيد حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 3441 - 2011 / 7 / 29 - 19:44
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


3
مخاطر على الديموقراطية 2 انفصال الرأس عن الجسد
أنوه بداية أن عنوان هذه الحلقة ، مستوحى من مداخلة لأستاذ فلسفة في جامعة عين شمس ، مع برنامج بلدنا بالمصري ، قناة أون تي في الفضائية . دار الحوار في الحلقة حول مليونية جمعة الثورة أولا ، بتاريخ 8 يوليو – تموز ، مطالب المتظاهرين ، واحتمالية استجابات المجلس العسكري والوزارة لها . سأل أستاذ الفلسفة ( الذي قال أن اسمه حسين ) ، مقدمة البرنامج عن أبرز صفات تمثال أبو الهول . ردت : الصمت . ولما قال أن ذلك ليس أبرز صفاته ، أضافت : تكوينه . رأسه رأس إنسان وجسده جسد أسد . قال هذا بالضبط حال مصر الآن . هناك عدم توافق ، تضاد ، تناقض بين جسد الثورة ، الجماهير وقياداتها ، المطالب والأهداف ، وبين الرأس ، الذي يفترض أنه رأس الثورة ، وهو المجلس العسكري ومجلس الوزراء . هذا التضاد أو الاختلاف هو حال مصر اليوم ، وأحد أسباب ما هي فيه الآن .
فاجأني دكتور الفلسفة بعمق الفكرة التي طرحها . كما سبقه لأحزاب وحركات سياسية ، لكتاب ومفكرين ، لمثقفين ومحللين سياسيين محنكين ، في رؤية وتشخيص خطر هذا الحال القائم منذ شهور ، على مستقبل الثورة وأهدافها . والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة : لماذا وكيف وقعت ثورة شباب مصر في هذه الخطيئة ، خطيئة الفصل بين جسد الثورة ، وقيادة الدولة ، التي من المفترض أن تكون هي قيادة الثورة ؟
عبقرية القيادة :
انشغل المهتمون بالشأن المصري ، عقب نجاح الثورة في تنحية الرئيس – الملك بعباءة رئيس- ، في محاولات للتعرف على شخوص قيادة الثورة ، الذين تجلت عبقريتهم القيادية في مجالات عدة . شخوص هؤلاء الشباب الذين فعلوا ما عجزت أجيال من المناضلين الثوريين عن فعله ، رغم التضحيات الهائلة ، وعلى مدى العقود الماضية . شخوص الشباب الذين لم يظهر أي منهم على مسرح الأحداث ، طوال الأيام الثمانية عشر الصاخبة ، والفارقة في حياة مصر . الشباب الذين بهرت عبقريتهم القيادية أجيال السياسيين المخضرمين ، الذين عملوا الكثير على تهيئة التربة التي نبت فيها هؤلاء الشباب . انشغلوا في محاولة معرفة الاتجاهات السياسية لهؤلاء القادة الجدد ، وخلفياتهم الايديولوجية ، إن كانت لهم مثل هذه الخلفيات .
في حمأة هذا الانشغال ، ذهب كثيرون إلى القول بأن أبرز تجليات عبقرية هذه القيادة الشبابية ، تمثل في كسرها لحاجز الخوف ، الذي سيطر على عقل وقلب الجماهير الشعبية ، عقودا طويلة . وأشار غيرهم لهدم هؤلاء الشباب سدود خيارات المستقبل ، التي احتجزت نظم الحكم ، التي وصفت نفسها بالجمهورية ، الجماهير خلفها . احتجزت النظم جماهيرها خلف خيارات ثلاثة : إما نحن ، بما نحن عليه من ديموقراطية زائفة ، حقيقتها ملكيات مستبدة ، في ثوب جمهوريات فاسدة ، وإما الفوضى ، أو دولة دينية ، تعيد ا لعباد والبلاد إلى عهود ، ولى زمانها منذ أمد طويل ، متمثلة في خلافة أفغانستان ، وأمير المؤمنين الملا عمر ، ومساعده بن لادن ، أي حكم الجماعات التي ترفع شعار: الإسلام هو الحل .
وفي وقت بدا لقوى سياسية مخضرمة ، أن لا مخرج من بين هذه الخيارات ، واتسمت نظرة بعضها للمستقبل ، وفعلها على الأرض بالتالي ، بالكثير من التشاؤم ، تجلت عبقرية هؤلاء الشباب ، في رفضها ، والقول بخيار رابع هو : ديموقراطية حقيقية ، غير زائفة ، تحقق للناس الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية .
وكان قد فات على المتابعين للشأن العام ، أن هؤلاء الشباب الذين وصفوا بشباب الفيس بوك ، على سبيل التقليل من شأنهم ، قبل التندر بهم والتهكم عليهم ، هم شباب ملكوا إمكانية وقدرة الاطلاع ، على ما يجري خارج حدود بلدانهم ، وعلى مساحة العالم الشاسع من حولهم . إمكانية وقدرة وفرتها لهم ثورة الاتصالات والمعلومات ، بتكنولوجياتها العصرية التي يجيدون استخدامها ، والتي ما زالت بعيدة عن متناول أجيال المناضلين السابقة . وسائل التواصل الاجتماعي ، التوصيف اللائق والجميل والمستحق بعد ثورات الشباب العربي ، الفيس بوك ، التويتر واليوتيوب وغيرها . المهم أن تواصل الشباب هذا مع العالم ، واطلاعهم على تجارب الشعوب وخياراتها ، ونجاح بعضها في تحقيق خيارها البديل ، أمدهم بالقدرة على رفض خيارات النظام الحاكم ، وطرح خيارهم البديل : ديموقراطية حقيقية غير زائفة . ديموقراطية تنزع قناع الجمهورية عن وجه الملكية الاستبدادي القائمة .
الجانب الآخر لعبقرية القيادة الشبابية ، بعد إمساكها بهذه الحلقة المركزية لمطالب وأهداف الثورة ، تمثل في امساكها باللحظة المناسبة لانطلاقة الثورة . في مصر كان توقيت عيد الشرطة الموافق ل25 يناير / كانون الثاني ، هو هذه اللحظة المناسبة . وكان قبل هذه وتلك ، ذلك الاستخدام العبقري لوسيلة الاتصال الحديثة ، الفيس بوك ، في التعبئة والتنظيم ، وفي الذوبان بين الجماهير الواسعة ، والاختفاء عن عيون أجهزة الأمن اليقظة ، وفائقة القدرة .
نشوة النصر :
لكن وبعد تجلي كل هذه السمات العبقرية ، لقادة الثورة ، وقعت للمتابعين للشأن المصري ، تلك المفاجأة غير السارة من قادة الثورة . صحا المتابعون ، صبيحة يوم 12 شباط – فبراير ، التالي لتنازل مبارك عن عرش مصر ، على تغير ، بلغ حد الانقلاب ، في آداء قيادة الثورة ، الذي اتسم بالتميز المثير لأقصى درجات الإعجاب ، على مدار الثمانية عشر يوما السابقة . فجأة طوى الثوار أعلامهم ويافطاتهم وشعاراتهم ، وانسحبوا عائدين لبيوتهم ، مصطحبين معهم لجانهم الشعبية ، وسائر منجزاتهم الأخرى.
جاء الانسحاب صادما . كان أول سؤال قفز إلى لسان كل متابع : لمن سلّم الثوار الراية ؟ وتتالت الأسئلة من مثل : ماذا قصد الثوار بالضبط من الشعار " الشعب يريد إسقاط النظام " ؟ وإذا ما وضعنا هذا الشعار إلى جانب شعار " ارحل " ، وهما الشعاران الأكثر بروزا في ميادين الثورة ، فهل كان المقصود بإسقاط النظام ، الاقتصارعلى إجبار الرئيس على التنازل عن العرش ، والحيلولة بين أي مطالب من أسرته وبين العودة إلى اعتلائه من جديد ؟ وبعبارة أخرى : هل كان المقصود بإسقاط النظام ، الإطاحة بعائلة مبارك المالكة كلها ، وإسقاط حقها في مطالبة لاحقة بالعرش ؟
لو أن انجازات الثورة وقفت عند هذا الانجاز فقط ، لاستحقت اسم الثورة ، ولاستحقت كل تقدير وإعجاب أجيال المناضلين الذين مهدوا لها . هذا الانجاز أزاح عن كاهل الشعوب العربية كابوس المكيات الجمهورية ، الأشد رجعية واستبدادا من الملكيات المطلقة . انجاز فتح الطريق واسعا أمام الجماهير والتعرف على ، فإقامة ، نظم جمهورية حقيقية .
لكن قادة الثورة قالوا أنهم أرادوا تغيير النظام . التغيير الذي يبدأ بخطوة إسقاط الملكية الجمهورية . التغيير الذي يستبدل الديموقراطية الشكلية والزائفة ، بديموقراطية حقيقية . وهذه عملية صعبة ومستمرة ، كما تبين كل المؤشرات القائمة ، فضلا عن التجارب العالمية ، التي من الواضح أن شباب الثورة وقفوا عليها . هم إذن أنجزوا الخطوة الأولى من مشوار الألف ميل ، بإجبار الملك الرئيس ، على التنازل عن العرش ، والاعتراف بانعدام حق ورثته في هذا العرش وأي عرش . إذن وقادة الثورة يعرفون أن مشوار الألف ميل لم يقطعوا منه غير ميل واحد ، وحتى مئة ميل ، وما زالت الطريق تمتد أمامهم طويلة طويلة ، وبها الكثير من العقبات ، يبرز السؤال :لماذا فاجأوا الجماهير بهذا الانعطاف في مسيرتهم الرائعة ؟ لماذا وكيف طووا راياتهم ، أنزلوا يافطاتهم ، سحبوا شعاراتهم ، وقفلوا عائدين لمنازلهم ، ومعهم انجازاتهم ، ومنها لجانهم الشعبية ، التي كان الشارع يحتاجها بشدة ؟ هل كان الأمر يتعلق بنقص في الخبرة ، بضعف في المعرفة ، أم هي نشوة النصر ، التي تمسك بتلابيب المرء ، فتشل العقل ، إثر تحقيق مثل هذا الإنجاز الضخم الذي تحقق ، بإسقاط ملكية مبارك المصرية ، وكل نظيراتها الملكيات الجمهورية العربية ؟ والأهم من كل ذلك لمن أوكلوا مهمات استكمال الثورة ، وتحقيق أهدافها ؟
الجارة تونس :
حين انسحب الثوار ، تاركين الميادين وعائدين إلى بيوتهم ، كانت حكومة أحمد شفيق التي عينها الرئيس ، تعبيرا عن صدقية نوايا الإصلاح ، هي القائمة على إدارة البلد . وكان الثوار يعرفون ، على الأقل، بعدم تعاطف هذه الحكومة مع مطالب وأهداف الثورة ، وبعدائية رئيسها وعدد من وزرائه تجاه الثورة . وكان واضحا لهم ، كما للمتابعين ، أن هذه الحكومة ستضع الكثير من العراقيل أمام الثورة ، وستمكن المطلوبين للثورة من ترتيب أوراقهم ، والإفلات من الملاحقة المحتملة ، وقد كان .
لقد قيل الكثير من أن الثوار ، في انسحابهم من ميادين الثورة ، وضعوا ثقتهم في الجيش ، وأوكلوا مهام تحقيق مطالب وأهداف الثورة لمجلسه العسكري . مبرر ذلك أن القوات المسلحة ، ومجلسها العسكري ، لعب دورا هاما في إنجاح الثورة ، وتحول إلى الشريك الأهم فيها . ولم تؤثر حقيقة أن الملك الرئيس ، في خطاب تنحيه ، أوكل مهمة إدارة شؤون البلاد ، وبعبارة أخرى نقل صلاحياته ، إلى هذا المجلس . كما لم تؤثر في قرار قيادة الثورة ، حقيقة أن رئيس المجلس العسكري ، كان حتى تلك اللحظة ، وزيرا للدفاع في وزارة أحمد شفيق ، التي تتولى فعليا إدارة شؤون البلاد .
وكان مثيرا للانتباه والاهتمام ، أن الأحزاب والقوى السياسية المشاركة في الثورة ، لم تعترض بحزم على هذا الانعطاف في فعل قيادة الثورة . ومن اعترض منها جاء اعتراضه مترددا ، خافتا وغير مسموع . ولو أن قادة الثورة ، والأحزاب والقوى المشاركة ، التفتوا لما يجري على يمينهم ، في تونس ، لقاموا بالعد حتى المائة ، وليس إلى العشرة ، قبل تقرير إحداث هذا الانعطاف .
في تونس كان الثوار أيضا قد انسحبوا من الميادين ، عائدين إلى بيوتهم ، بعد فرار الملك - الرئيس ، ولجوئه إلى السعودية . آنذاك زعم رئيس الوزراء أن بن علي كلفه بإدارة شؤون البلاد . وحكم لمدة يوم واحد ، لتنتقل الصلاحيات إلى رئيس البرلمان ، وكي يصار إلى انتخاب رئيس جديد خلال ستين يوما ، حسب الدستور ، لم يحدث حتى اللحظة . ولأن خطوات إصلاح كانت قد بدأت قبل ذلك ، استجابة لبعض مطالب الثورة ، أجرى رئيس الوزراء تعديلات على وزارته ، مكن بموجبها أحزاب معارضة من المشاركة ، لكنه احتفظ بكل الوزارات السيادية في أيدي قياديين من حزب بن علي الحاكم . تنبه الثوار إلى واقع أن هكذا تشكيل للحكم ، ليس فقط لن يعمل على تحقيق أهداف الثورة ، ولكنه سيضع الكثير من العراقيل في طريقها . عاد الثوار إلى الشارع ، لتلافي خطأ الخروج منه ، وتسليم زمام القيادة لغيرهم . لم تقابل هذه العودة ممن زعموا الحرص على العودة للاستقرار ، ودوران عجلة الاقتصاد ، وعودة السياحة ، مصدر الدخل الأساس للعملة الصعبة ، لم تقابل هذه العودة بالارتياح ، وقالوا فيها الكثير مما يتردد قوله في مصر . وأكثر من ذلك ووجهت هذه العودة بإجراءات عنف ، تجاوزت في حالات عدة ، نظيراتها في أيام الثورة الأولى .
لكن ما حدث أن شباب تونس ، وبالعودة لميادين الثورة ، استعادوا مقاليد القيادة ، وأجبروا القيادة الحكومية على تنفيذ المزيد من مطالب الثورة . ورغم أن القائم بأعمال الرئيس ، ورئيس الوزراء ، والوزراء الآخرين ، اضطروا ، تحت ضغط الشارع ، لإعلان انسحابهم من حزب بن علي ، حزب التجمع الدستوري الديموقراطي ، إلا أن قيادة الثورة لم تر ذلك كافيا . واضطر رئيس الوزراء لإجراء تعديل وزاري بعد آخر ، تحسنت فيه مواقع قوى المعارضة ، ثم كان حل الحزب الحاكم ، وحل البرلمان ، فإسقاط وزارة الغنوشي ، واستبدالها بوزارة أكثر قربا إلى الثورة .
أكثر من ذلك حدث في تونس ، قبل الانعطاف ، الخطيئة التي أقدمت عليها قيادة الثورة المصرية . وظلت العبرة الأساس في التجربة التونسية ، حدث أن تيقنت قيادة الثورة من أن الحكومة ، كانت ما كانت تركيبتها ، وكان ما كان تبني أعضائها ، كلهم أو بعضهم ، لمبادئ وأهداف الثورة ، لن تبادر إلى تحقيق المطالب ، ما بقيت خارج ضغط الشارع . لماذا ؟ لأن الحكومة ، وكل الأجهزة التنفيذية ، هم أذرع للثورة ، وليس قيادة لها . ومنذ استيعاب التوانسة لهذه الحقيقة ، لم تغادر الثورة ميادينها . ظلت قائدة وموجهة ، وانتزعت مكاسب للثورة ، تسعى الثورة المصرية جاهدة لبلوغ بعضها .
اختلاف الحال :
قد يقال هنا ، ولكن هناك اختلاف كبير ، بين ما جرى في تونس وما جرى لاحقا في مصر . فالثوار في مصر لم يعهدوا بمبادئ وأهداف ثورتهم لحكومة أحمد شفيق ، وإنما عهدوا بها للمجلس الأعلى للقوات المسلحة ، الشريكة في الثورة ، والتي كان لشراكتها ذلك الدور المعترف به في إنجاح الثورة . ذلك صحيح . ولكن القائلين به يذهبون إلى ما هو أبعد عن الحقيقة . يذهبون إلى القول بأن هذا الدور كان فريدا ، بين كل الثورات المعاصرة ، ومستمدا من وطنية القوات المسلحة المشهود لها به ، عبر تاريخها كله . ولهذا استحق مجلسها العسكري ثقة الثورة والشعب ، فالعهد له بقيادة الثورة . لكن هذا القول ، على صحته النسبية ، كان من المفروض أن يخضع لشيء من التمحيص والتدقيق .
باستعراض خمس من الثورات الشبابية العربية الجارية ، من حول مصر ، يمكن رؤية التالي : في تونس ، كما سبق وأشرنا ، نزل الجيش إلى الشارع بأمر من بن علي ، كما حدث في مصر ، ولكنه رفض تنفيذ الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين . وكان لموقف الجيش هذا أثره على بن علي واتخاذه قرار الفرار واللجوء إلى السعودية . ولكن ونظرا لوجود المؤسسات الدستورية ، غير المطعون بقوة في شرعيتها ، لم يعهد للجيش بدور ما في إدارة البلد . أما القول بقوة الجيش وضعفه ، فأداة القياس هنا القدرة على قمع الجماهير ، وهي أداة لم يستخدمها .
المثال الثاني من البحرين . فرغم أن الجيش هناك ضخم ، قياسا لعدد السكان ومعداته المتقدمة ، إلا أنه رفض تنفيذ الأمر بقمع الثورة . واحتاجت البحرين للاستعانة بقوى الجوار ، دول التعاون الخليجي ، ثم بالأردن الذي قامت قواته ، بعد استبدال لباسها باللباس البحريني ، بالدور الأساس في قمع الثورة ، هذا الدور الذي أهَّل الأردن للمطالبة بعضوية مجلس التعاون الخليجي .
وبالانتقال إلى اليمن ، نرى التالي : لا أحد مهتم بالشأن العربي لا يعرف الطبيعة القبلية لليمن ، وانعكاسها على جيشها . وليس ذلك فقط ، بل ويضاف إليه أن قيادات هذا الجيش تتوزع ليس فقط بين أبناء قبيلة الرئيس ، وحليفاتها ، بل وبين أبنائه وأبناء عمومته والأقربين خاصته . ومع ذلك ورغم مرور الشهور على الثورة اليمنية ، والانشقاقات في هذا الجيش ، وانحياز كتائب ، وحتى فرق كاملة للثوار ، بقي الجيش خارج نطاق الاستخدام ضد الجماهير المطالبة بإسقاط النظام ، أو ضد تلك المؤيدة للنظام .
بقيت سوريا وليبيا ، وحيث جرى زج الجيش في المواجهات مع الجماهير . وفي ليبيا ضيق القذافي الخيارات على الثوار ، الذين لم يجدوا سبيلا للفرار من الذبح ، غير اللجوء لطلب مساعدة أعداء البلاد التقليديين ، والطامعين في بترول ليبيا . وذات الأمر على ما يبدو ، قي طريقه للحدوث في سوريا . وليس أدل على ذلك من واقع لجوء قوى المعارضة للتجمع ، وعقد مؤتمراتها في تركيا ، الجارة الشمالية التي تميزت علاقاتها مع سوريا بانعدام الود ، وبالمشاكل الحدودية ، منذ سقوط الخلافة العثمانية ، وخروج سوريا من حكمها .
والآن وبالانتقال إلى المقارنة مع دور الجيش في الثورات المعاصرة ، نكتفي بمثال اندونيسيا . هناك ورغم ولاء الجيش غير المحدود للرئيس سوهارتو ، لكنه رفض أوامر إطلاق النار على الجماهير . وأكثر من ذلك وجد الجيش نفسه مضطرا لممارسة الضغط على سوهارتو ، وإجباره على النزول عن العرش في النهاية . وبسبب احتساب جماهير الثورة لدور الجيش هذا ، ساند الجيش حكومة نائب الرئيس بشار الدين يوسف حبيبي ، الإسلامي المعتدل ، الذي وضع الكثير من العراقيل أمام تحقيق مطالب الثورة . وفقط بعد سنة ونصف ، فاز حزب ميجاواتي سوكارنو ، الحزب الديموقراطي الاندونيسي ، في الانتخابات ، ولتقف ميجاواتي على رأس حكومة ائتلافية ، استأنفت مسيرة تطبيق مبادئ الثورة .
نخلص من ذلك كله لتقرير حقيقة تقول بأن دور الجيش المصري في الثورة ، وإنزال مبارك عن عرشه ، ليس فريدا ، حتى في الثورات المعاصرة ، وإلى الحد الذي يؤهل مجلسه العسكري ، كي تتنازل له قيادة الثورة عن دورها ، وتعهد له بمهامها .
كان ذلك كله عن دور الجيش ، ومجلسه العسكري الأعلى ، فماذا عن حكومة الثورة ؟ . بديهي أن أحدا لم يعتبر حكومة شفيق حكومة للثورة ، لا الجماهير ولا شفيق نفسه ولا أي من وزرائه . وربما بسبب مواقفه المعلنة ، وإجراءات حكومته غير المتوافقة مع مطالب الثورة ، رأت قيادة شباب الثورة ضرورة العودة للميادين ، في صورة مما وقع في تونس قبل ذلك . ولتوضيح العلاقة بين الصورتين ، دعونا نتوقف قليلا عند الواقعة التي عرفت بحادث ستاد القاهرة ، أو موقعة أبو جلابية ، كما اشتهرت في وسائل الإعلام .
كان ستاد القاهرة الدولي مسرح المباراة النهائية ، على كأس أندية أفريقيا ، بين ناديي الأهلي المصري والترجي التونسي . قرب نهاية المباراة التي قررت ذهاب الكأس للفريق التونسي ، وقع حادث شغب . وتطور الحادث ، على عكس ما يحدث في الملاعب ، إلى نزول الجمهور لأرض الملعب ، فالاعتداء على الحكام واللاعبين الضيوف ، وبالمرة على لاعبين مصريين . وبصعوبة بالغة جرى إنقاذ الضيوف من أيدي الغاضبين . وتطور الاعتداء ، بعد ذلك ، ليطول كل شيء في الستاد ، وحتى الحمامات والمغاسل والمراحيض لم تنج منه ، وقوات الأمن المتواجدة تكتفي بدور المتفرج ، فلا تفعل شيئا .
قيل الكثير ، وكتب الكثير عن حادث الشغب هذا ، الذي تكرر فيما بعد ، وبإيراد شواهد أنه كان مدبرا . ورغم المعلومات الموثقة ، وطول المدة ، لم تعلن نتائج للتحقيقات ، إن حدثت ، ولم تعلن إدانة ، ولم يقدم أحد للعدالة .
ذهبت التحليلات ، في المقالات الصحفية ، والحوارات التلفزيونية ، مذاهب شتى . لكن أيا منها لم يتوقف وقفة فاحصة ، مدققة ، وإن مر بعضها سريعا ، على مغزى استهداف فريق تونسي شقيق ، في هذه الفترة الزمنية الفاصلة في تاريخ الثورتين . لقد كان واضحا للجميع أن شباب الثورتين يستلهمان ، الواحد من الآخر ، خبرات التجربة الثورية . وكان واضحا ، لكل متابع ، أن هذا التبادل ، أو الاستلهام للتجارب ، يحسن الأداء ، ويجعل فعل ضغط الميادين ، على الحكومات ، يعطي نتائج أفضل . والاستنتاج المنطقي والمقبول ، أنه كان مؤملا للفاعلين ،أن توقف موقعة أبو جلابية هذا التفاعل المتبادل . وإذا كان الأمر غير ذلك ، فلماذا جرى إسدال ستار الصمت على هذا الحادث ، الذي كان كبيرا بكل المقاييس ، ولم تظهر أي نتائج للتحقيق فيه ، رغم المعرفة المؤكدة بكل تفاصيله ؟
إذن وقد عادت الجماهير إلى ميادين الثورة ، تحقق انجاز إسقاط حكومة شفيق ، ورفعت الجماهير واحدا من مناصري الثورة ، هو الدكتور شرف إلى سدة رئاسة الوزارة . وفيما يبدو رأت قيادة الثورة ، بفعلها هذا ، أن الحكومة غدت حكومة الثورة . وهكذا ومن جديد ، وفي إعراض عن التجربة التونسية ، طوت القيادة أعلامها ، وعادت منسحبة إلى بيوتها ، موكلة لحكومتها مهام تحقيق أهداف الثورة . ولم تنتبه إلى حقيقة أن الرئيس الذي اختارته ، ورث ، في واقع الأمر حكومة شفيق بتركيبتها ومواقفها المعلنة ، وغير المتفقة مع مبادئ الثورة . وهكذا عادت المكاسب التي تحققت إلى التباطؤ في التنفيذ ، وعاد وضع العراقيل أمام تقدم الثورة إلى التصعيد . ومن جديد اضطر الثوار للعودة إلى الميادين ، ورفع مطالبهم ، والضغط على الحكومة والمجلس العسكري . ولأن الضغط كان شديدا بعد جمعة 8 تموز- يوليو ، تحقق الإقرار بالعديد من هذه المطالب . وفي تحليلات الكتَّاب ، وحوارات الندوات ، تكرر السؤال : لماذا يستجيب المجلس العسكري ، وتستجيب الحكومة ، تحت الضغط ، لتحقيق المطالب ، ولا يبادر أي منهما إلى ذلك ، وفي الوقت المناسب ، ودون ضغط ؟
الرأس والأذرع :
تعددت الإجابات على هذا السؤال ، وقلة منها أشارت إلى الإجابة الصحيحة ، التي ضاعت وسط الصخب القائم . إن نظرة سريعة على ما يحدث في تونس ، وفي مصر ، جراء ضغط الميادين ، تكشف بوضوح ، أنه عندما يحضر الرأس ، ويصدر أوامره ، تتلقى الأذرع هذه الأوامر ، وتسارع إلى التنفيذ . وفي غياب الرأس ، تبقى الأذرع غير قادرة على المبادرة ، وتستمر في تأدية الوظائف التي كان الرأس قد حددها في وقت سابق . ويوظف مناوئو الثورة عامل الوقت في إضاعة المكاسب ، وفي وضع الجديد من العقبات .
لقد أثبت سير الأحداث أن المجلس العسكري ، على أهمية دوره ، لم يكن ، وغير قادر على أن يكون ، قائدا للثورة ، وبالتالي مسؤولا عن تطبيق مبادئها ، وتحقيق أهدافها . والأمر ذاته ينطبق على الحكومة . ولا يغير من الأمر شيئا كون رئيسها قد قدم من ميدان الثورة ، ورفعه الثوار إلى سدتها . فمواصفاته كشخص ، وكثوري ، لا تؤهله لهذه المهمة . وعدم التأهيل لهذه المهمة لا يعود إلى عيب فيه ، أو في المجلس العسكري ، وإنما إلى ما هو بنيوي وموضوعي في الثورة ذاتها .
الثورتان التونسية والمصرية لا تنتميان إلى جيل الثورات : الفرنسية ، البلشفية الروسية ، الصينية والكوبية ، ومثيلاتها ، التي يعشق الكتاب والمحللون المرور عليها ، مرورا خاطفا ، إن جنحوا للمقارنة . عرفت تلك الثورات قيادات سياسية ، تشربت مبادئ وأهداف الثورة ، وبلورت أساليب وآليات تطبيقها ، عبر مسيرة ثورية طويلة ، سبقت الثورة ، وتأصلت في خضم معاركها . ومن اللحظة الأولى لنجاح الثورة ، تسلمت هذه القيادات مقاليد السلطة . وقفت على رأس الوزارات ، ومؤسسات الدولة المختلفة . وتحت قيادتها ، وبتوجيهاتها المباشرة ، جرى تطبيق مبادئ الثورة ، وتحقيق مطالب جماهيرها . وقامت هي ، بعيدا عن وكلاء ينوبون عنها ، بمعالجة كل المستجدات ، وإزالة العراقيل التي تعترض مسار الثورة . وبديهي أن فعل هكذا قيادة تجاوز روتين العمل المؤسسي ، إلى الظهور المستمر والمتواتر في ميادين الثورة ، بالرد على استفسارات الجماهير ، وتوضيح ما استغلق عليها فهمه ، واستثارة حميتها ، وحفز مبادرتها ، لإيجاد حلول للمشكلات المستجدة ، وأخيرا التعبئة المستمرة على تطبيق مبادئ الثورة ، والوصول إلى تحقيق أهدافها . وقيادات الثورتين التونسية والمصرية لا تملكان أيا من هذه المواصفات ، نظرا لاختلاف طبيعتهما . وهما لذلك احتاجتا لوكلاء يحملون عنهما عبء تنفيذ مهام الثورة . ولأن الوكيل لا يفعل شيئا غير ما قرره له الموكل ، فإنه يقع في باب السذاجة السياسية ،التصور بأن فعل هذا الوكيل سيتسم بروح المبادرة . ذلك ما يفسر أن الوكيلين ، المجلس العسكري ، ورئاسة الحكومة ، يواصلان الانغماس في العمل الروتيني القائم على توجيهات سابقة ، دون أن يبادرا للتفاعل مع الأحداث المستجدة ، أو يسبقاها بقرارات وإجراءات تحول دون وقوعها .
كمراقب من بعيد ، تفاءلت خيرا بتكليف رئيس للوزراء من ميدان التحرير . ولأنني ، من هذا البعد ، لا أعرف شيئا عن مسيرته السياسية ، أملت أن يكون واحدا من القادة الذين تفرزهم الثورات الحديثة . واتسع نطاق تفاؤلي بعد أن اتخذ نهجا ، تحدد بأن يطلع أسبوعيا على الجماهير، يطلعها فيه على المنجزات ، ويحثها على مواجهة العقبات ، ويحفزها للحفاظ على المكتسبات . لكن لفتت انتباهي ، وهو يقوم بدور قائد الثورة ، لهجته الناعمة ، وأدبه الجم ، ولطف إشاراته وإيماءاته ، وفي ذات الوقت بطء استجاباته ، للتفاعل مع حوادث كبرى ، كحادث قنا ، الذي قطع فيه الأهالي جسد البلد إلى نصفين ، ولأيام عدة . ثم لحوادث استدعت فتنة طائفية لأن تطل برأسها ، وحيث ترك هو ، كما المجلس العسكري ، لمثيريها مهمات حلها . واتضح أن الرجل ، بكل نزاهته ووطنيته وإخلاصه ، لا يصلح قائدا لثورة ، وإن كان يصلح ، وحكومته ، كذراع تنفيذي لبرنامج ومخطط وتوجيهات قائدها الفعلي .
ولم يقتصر الأمر على شخص رئيس الحكومة ، بل تجاوزه إلى أن هذا الرئيس ورث حكومة سلفه ، بما تضم من وزراء لا تتفق آراؤهم ورؤاهم وأجنداتهم ، مع الثورة ومبادئها . وبدل أن تعمل حكومته على تنفيذ برامج الثورة ، عملت على تعطيلها ، وعلى وضع ، ليس فقط ، كل المعوقات في طريقها ، بل والتمهيد للردة عليها . وهكذا وضح للثوار ، بعد ضياع الكثير من الوقت ، أن حكومة الثورة ، بتركيبتها الموروثة من حكومة شفيق ، لا تصلح حتى ذراعا للثورة .
ولغريب الصدف ، هكذا على الأقل رأى بعض قادة الثورة ما آل إليه الحال ، لم يكن حال المجلس العسكري بأفضل من حال الحكومة . صحيح أن المجلس العسكري شريك وليس وكيلا ، كما يحب هو أن يصنف نفسه ، لكنه ليس شريكا مؤسسا . بمعنى أن الشراكة حصلت قرب الخاتمة وليس من البداية . وهذه مسألة جوهرية لمن يعلم . فهم ، لمن لا يعلم ، مثلهم مثل رئيس الحكومة ، لم ينصهروا في أتون الثورة ، ولم تصبح مبادئها وأهدافها مسألة حياة أو موت لهم ، كما هي لقادة الثورة ، أي ثورة . وفوق هذا وذاك لم يتسلموا دفة إدارة البلد بتوكيل من ميدان الثورة ، وإنما بتكليف من الرئيس المخلوع . والمراجع لسجل المشير ، رئيس المجلس الأعلى ، لا يعثر فيه على ميل لنشاط أو توجه سياسي ، رغم أنه شغل منصب وزير الدفاع منذ العام 1990 ، أي لأكثر من عشرين سنة ، ترفع خلالها ، وفي فترة قصيرة ، مرتين متتاليتين ، فريق ثم مشير . قد يقال أن منصبه حتم عليه عدم التدخل في السياسة ، رغم أنه منصب سياسي في كل بلاد الدنيا ، وبالتالي حتى عدم إظهار مشاعره تجاه ما يحيط به من مظاهر الفساد . وقد يكون ذلك صحيحا . لكن الصحيح أيضا أن من عاش هذا الروتين ، كل هذا المسار الطويل ، لا يمكنه أن ينقلب فجأة إلى شخص يشتعل بالحماس ، ويتصف بالمبادرة ، ويندفع بالسرعة الملائمة ، لمعالجة المستجدات ، وهي أدنى متطلبات قيادة ثورة . ولعلنا نسأل : هل يمكن لشخص تعايش مع أناس مثل هذا العمر الطويل ، ولم يعرف عنه رفض لمسالكهم ، أو نفور من تصرفاتهم ، أوعدم رضا عن أفعالهم ..... ألخ، أن يقلب لهم ظهر المجن ، فيسارع إلى دفعهم إلى مهالكهم !!!! أظن ، وليس كل الظن إثم ، أن ذلك ، ومن ناحية إنسانية بحتة ، غير ممكن .
الرأس واستعادة الدور :
في وقت سابق ، وفي لقاء حواري على فضائية دريم 2 ، صنَّف أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة ، هو د. مراد وهبة ، إن لم تخني الذاكرة ، ما وصفه بخيانة المثقفين ، كأحد أهم العقبات التي تعترض الثورة ، واعترضت مصر في العهد الماضي ، وتواجهها في الحاضر والمستقبل . والمتابع لحوارات الفضائيات ، ومقالات وتحليلات الخبراء والكتاب ، يلمس وبوضوح ، صدق توصيف هذا الأستاذ العظيم .
هناك قول شائع ،على ألسنة هؤلاء المثقفين ، ومستحسن فيما يبدو عند كثيرين ، أن أحد أهم سمات ، أو ميزات ، الثورة ، أنها بلا رأس ، أي بلا قائد ، شخص ، له كاريزما ، يجتمع حوله كادر الثورة ، ومؤهل لأن يتقدم ويحتل موقع قيادة الدولة ، رئاسة الحكومة ، ورئاسة الدولة . ويقول رأي آخر أن هذه الميزة ، تشكل في الواقع ، أحد أخطر مقاتل الثورة . ويتفق الرأيان على حقيقة أن لا رئيس الوزارة ، ولا رئيس المجلس العسكري ، بقادر على ملء هذا الشاغر . وأن متطلبات الثورة ، ومسارها الراهن ، يؤشر بقوة إلى ضرورة ملئه . وعليه فالأمل في الانتخابات القادمة ، بشقيها البرلماني والرئاسي ، ليصبح لمصر رأس ، وإن لم يكن بالضرورة من كوادر الثورة .
يستدعي هذا القول ضرورة النظر إلى حقيقتين : أولاها حاجة مصر الملحة ، إلى رأس لقيادة الثورة ، في الفترة الزمنية القصيرة القادمة ، والحاسمة في مصير الثورة ، ومسألة بلوغ مصر بناء ديموقراطية حقيقية ، الهدف الأكبر للثورة . والثاني أنه على كثرة ما شهد مسار الثورة من مصاعب وعقبات ، فعثرات وتعرجات ، لم يبرز من بين قوى وحركات مصر السياسية ، من استطاع تشخيص الأسباب لما حدث ويحدث ، ومن ثم طرح حلول ناجعة لها . كما لم يبرز على الساحة من يمتلك رؤيا مستقبلية ، نجح في إيصالها للجماهير كي تتبناها ،وكي تمنحه ثقتها من خلال صناديق الاقتراع ، ومن ثم ليطمئن الناس أن أزماتهم في طريقها إلى الحل ، بعد أن يتسلم هذا الطرف زمام القيادة . وعلى العكس تماما ، لا تفعل القوى التي يتوقع أن تحملها صناديق الاقتراع إلى سدة القيادة ، شيئا ملموسا للمساعدة . وأكثر تعد الجماهير بالمزيد من المعضلات التي ستمسك ، في حال وصول هذه القوى لسدة الحكم ، بخناق الفترة القادمة .
من الناحية الأخرى أعلن كثيرون عن نيتهم الترشح للرئاسة . وعلى كثرة ما شهدت مصر من متاعب ، وما وقع فيها من مشاكل ، ارتأى المرشحون المحتملون ، بديلا لدور ثوري مطلوب وبقوة ، المحافظة على دور المشاهد المراقب ، وإن فعلوا شيئا ، التزموا بدور المحلل أو المعلق السياسي لا أكثر . على الأقل هذا ما وقفت عليه من متابعاتي ، التي هي ، ربما غير كافية . لكن ، ما وقع في مصر ، على مدى الشهور الماضية ، وما سيقع في الشهور القليلة التالية ، حتى ختام الانتخابات ، قدم سلسلة من الفرص الذهبية ، لإظهار المهارات السياسية ، والكفاءات والمؤهلات القيادية ، على الأقل لواحد أو اثنين ، أو أكثر منهم ، تكفل الحصول مسبقا على جماهيرية كاسحة ، تحمل صاحبها لسدة الرئاسة .
قد يقال ولكن الأطر المنظمة لعملية السباق ، تحول بين المتسابق وبين الإسراع إلى بؤر المشاكل ، وعرض حلوله لها ، وحمل المتشابكين على قبولها . فهو لو فعل ذلك يحسب له كدعاية انتخابية . وقد يكون ذلك صحيحا ، لو أنه كان مرشحا بالفعل . ولكن المرشحين ما زالوا مرشحين محتملين . وفي الثورة لا يحول احتمال الترشيح دون الفعل الثوري . ولأن المرحلة القادمة تحتاج رئيسا ثوريا ، فإن اقتناص الفرص التي سبقت ، والتي ستأتي ، سيكون الكاشف لهذه الشخصية القيادية الثورية ، وليس البرنامج الذي سيتقدم به ، وتعده مجموعة من الخبراء المحترفين . وأكاد أجزم ، أن لسان حال المرشحين المحتملين كأنما يقول : يا مجلس عسكري ، ويا حكومة ، مهدوا لنا السبيل ، أزيلوا كل المعترضات ، حتى نحكم عندما نصل . وليس هذا ما تصبو إليه الجماهير ، وليس بالمبشر على أن الحلول قادمة ، مع انتهاء الفترة الانتقالية الحالية .
خلصت قوى الثورة إذن ، واستنادا لنتائج الأحداث التي وقعت ، إلى وجوب عودة رأس الثورة لممارسة مهام القيادة . كان هذا الرأس قد تبادل مواقع الغياب والعودة أكثر من مرة . وفي كل عودة كانت الحكومة ، وكذلك المجلس العسكري ، يسارعان إلى الإعلان عن الالتزام بالتوجيهات ، والمباشرة في تلبية المطالب . ثم يعود الحال إلى المماطلة والتباطؤ ، بعد الانسحاب فالغياب . وبعد آخر عودة ، جمعة 8 يوليو – تموز ، قررت قوى الثورة هجر رأسها للانسحاب فالغياب ، ومن ثم يتوجب عليه مباشرة مهام القيادة ، أي مواصلة التواجد في الميادين . وسريعا جاءت النتائج مذهلة . تحرك الذراعان ، وصدرت قرارات ، حدثت تغيرات ، اتخذت خطوات ، اعتبرت مذهلة ، قياسا إلى الفترات التي سبقتها . سرعة وقوة الحسم هذه ، أكدت من جديد على ضرورة بقاء رأس قيادة الثورة حاضرا وممسكا بزمام الأمور وفاعلا .
بديهي أن تستشعر قوى كثيرة ، على رأسها تلك المضادة للثورة ، الخطر . ولم يكن الأمر ، وهو يتميز بكل هذا الوضوح ، يحتاج ، من هذه القوى ، إلى الكثير من إعمال العقل ، فالتدبير . فلاستثمار فعل المعوقات التي وضعت ، يتوجب استعادة الوضع السابق . وضع غياب الرأس ، وترك الأمور في عهدة الذراعين . ولأن العودة الأخيرة للرأس حملت معها إجراءات وتطورات ، قد تعصف وتزيل كل ما اجتهد المناوئون في وضعه من معوقات ، كان أن رأوا وجوب أن يكون غياب الرأس نهائيا هذه المرة ، أو شبه نهائي على أقل تقدير . كيف؟
قبل العودة الأخيرة للميادين ، كان الغضب من العوائق التي كدسها ذراعا الثورة ، قد بلغ مداه . وكان التباطؤ في ملاحقة رموز النظام السابق ، وقتلة الثوار ، أبرز هذه العوائق . وكان طبيعيا أن يعصف هذا الغضب ببعض العقل ، وأن يظهر بعض الشطط في التعبير عنه . واهتبل مناهضو الثورة ، هذا الخلل الذي أحدثه الغضب في عقل الثورة ، لشن حملة الإقصاء التي رأوا أن فرصتها سانحة .
تعلمنا التجارب الثورية أن الجماهير تقبل وتغفر ، في الظروف العادية ، كما في الظروف الثورية ، زلات ، وحتى أخطاء ، من لا يحملون على كواهلهم مسؤوليات وعبء التغيير ، ولكنها لا تقبل ، ولا تغفر ، وتعاقب ، على زلات أقل بمائة مرة ، ممن يتصدون لحمل مهام التغيير ، هؤلاء الذين يعرفون بالثوار ، أو بالمناضلين ، أو السياسيين .... الخ . وهكذا أمسك مناهضو الثورة بالأخطاء التي أفرزتها حالة الغضب ، ونفخوا فيها ، مستهدفين إقناع الجمهور بتراجع حصافة قيادة الثورة ، وبخطرها على مستقبل البلد ، ومن ثم فقدانها لصلاحية دور القيادة ، فضرورة استبعادها من المعادلة . وهذا بالتحديد ما شكل الخطر الذي استشعره محللون مصريون كثر ، والذي ينذر بانتكاسة الثورة ، والعودة إلى أسوأ مما كان قائما قبلها .
في مثل هذه الحالة ، تغيب قدرة الجمهور على وقفات التفكير المتزن ، المراجعة ، والمقارنة ، أو ما يوصف بهيمنة الذاكرة القصيرة على المشهد . مثلا ظل يجري تحميل مسؤولية حالة التذبذب في البورصة المصرية ، إلى التواجد المتصل للثورة في الميادين ، وإلى الإعتصامات التي انبثقت عنها . حدث هذا دون أن يكلف متلقي ، أو صحافي ، أو حتى محلل سياسي ، خاطره بمقارنة ما يجري في البورصة المصرية ، مع ما يجري في البورصات العالمية ، أو البورصات الخليجية ، والتي تمسك بها جميعا حالة التذبذب ، وربما بأشد مما تشهده البورصة المصرية . والأمر ذاته ينطبق على القضايا الأخرى . فربما أخطأ الثوار بإغلاق مجمع التحرير ، وهو المجمع المكون من ثلاثة عشر طابقا ، وتتركز فيه الإدارات الحكومية ، ويعطل إغلاقه إتمام معاملات مراجعيه . وعلى كثرة ما تم التركيز على الضرر الذي يسببه الإغلاق لجمهور المراجعين ، لم يتكرم أحد ، حسبما قرأت وشاهدت ، بمقارنة ذلك مع الضرر الذي ألحقه قطع خطوط السكة الحديد ، وتمزيق جسد مصر ، والذي استمر عشرة أيام في قنا ، اعتراضا على تعيين محافظ ، وتكرر مرات بعد ذلك في مواقع أخرى ، وبتحريض من مجموعات سلفية ، تدعي الحرص على الصالح العام الآن . وتجاهل الذين يزعمون أن الاعتصامات في الميادين تؤخر عودة الاستقرار ، وتلحق الأذى بالاقتصاد ، وتعيق عودة دوران عجلة الإنتاج ، ما فعلته أحداث إشعال الفتنة الطائفية ، وتهديدها بحرق البلد كله . وتناسوا ، وفي واقع الحال غفروا لمشعلي تلك الحرائق جرائمهم ، وقبلوا ادعاءاتهم بالحرص على مستقبل مصر ، (الذي تهدده اعتصامات الميادين !!!!)، رغم أنها لا تقطع سبيلا ولا تعيق مرورا . وإذا كان الشطط الذي أفرزته حالة الغضب ، قد دفع ببعض المجموعات للتهديد بقطع طريق ، فقد كانت عمليات القطع ، من جهات عدة ، لكن غير مرتبطة بالثورة ، قد تكررت مرات ومرات قبل ذلك .
وتبقى مسألة التهديد بوقف الملاحة في قناة السويس . فرغم توضيح الخبراء لانتفاء قدرة أي طرف على إغلاق القناة ، ورغم إعلان قيادات في الثورة ، مرة بعد أخرى ، رفضهم القطعي ، حتى لمجرد التلميح ، بخطوة كهذه ، ونفيهم القاطع لصدورها عن أي طرف منهم ، والاستعداد لمواجهتها بكل عزم وحسم ، إن حاول أحد الإقدام عليها ، رغم كل ذلك تواصل جهات عدة تحريض الجمهور على الثورة ، وكأنها نفذت هذه الجريمة الكبرى بالفعل . ولعل متابعا لا يعرف مدينة السويس ، ومدخل القناة فيها، يسأل : كيف يمكن لجمهور ، مهما عظم تعداده ، إغلاق القناة من مدخلها في السويس ؟ هل سيفعل ذلك من خلال السيطرة على مباني الإدارة ؟ وكيف يفعل ذلك والجيش الثالث متواجد في المكان ، وأحد مهامه تأمين انسياب الملاحة في القناة ؟ ألا يستطيع الجيش ، وحالة الطوارئ ما زالت قائمة ، أن يعلن المنطقة منطقة عسكرية مغلقة ؟ ألا يستطيع أن يمنع بالقوة وصول أحد إلى القناة ، هذا جنت قيادة الثورة في السويس ، ولجأت لاتخاذ هكذا إجراء ، بهدف الضغط على الحكومة والمجلس العسكري كما يقال ؟ وهل يلومنَّ أحد الجيش إن استخدم العنف وقمع المحتجين ، في حال وقوع هذا الفعل ؟
لقد كادت هذه الحملة على رأس الثورة أن تؤتي أكلها . وأظن أن كثيرين وضعوا أيديهم على قلوبهم ، توجسا مما قد يحدث . وارتفع نبض القلوب مع متابعة أحداث العباسية ، الأحداث التي تمثل الجزء الخطر منها ، في تصدي أهالي الحي ، واعتدائهم على المتظاهرين . وتسارع النبض أكثر مع تصاعد لهجة التخوين ، التي أخذت منحى خطرا بصدور بعضها عن جنرالات من المجلس العسكري .
لكن قيادة الثورة صمدت ، كما هو حال كل قيادة متمرسة ، في وجه كل ذلك . واصلت التواجد في الميادين . وواصلت توجيه ذراعي الثورة ، وحفزهما على الفعل . وانتزعت الثورة مكاسب كبيرة ، بسلسلة القرارات والإجراءات الصادرة عن كل من الحكومة والمجلس العسكري . لكن الكثير من العمل ما زال ينتظر ، وفي المقدمة إعادة بناء أجهزة الأمن ، فاستعادة الاستقرار ، وهو موضوع حديث لاحق .



#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 2 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري
- عبود الزمر و العيش خارج حدود الزمان والمكان
- دخول الى حقل المحرمات - 1 -
- وحدة الأضداد بدون صراعها
- هل هي مبادرة؟!
- ويا بدر لا رحنا ولا جينا


المزيد.....




- قصر باكنغهام: الملك تشارلز الثالث يستأنف واجباته العامة الأس ...
- جُرفت وتحولت إلى حطام.. شاهد ما حدث للبيوت في كينيا بسبب فيض ...
- في اليوم العالمي لحقوق الملكية الفكرية: كيف ننتهكها في حياتن ...
- فضّ الاحتجاجات الطلابية المنتقدة لإسرائيل في الجامعات الأمري ...
- حريق يأتي على رصيف أوشنسايد في سان دييغو
- التسلُّح في أوروبا.. ألمانيا وفرنسا توقِّعان لأجل تصنيع دباب ...
- إصابة بن غفير بحادث سير بعد اجتيازه الإشارة الحمراء في الرمل ...
- انقلبت سيارته - إصابة الوزير الإسرائيلي بن غفير في حادث سير ...
- بلجيكا: سنزود أوكرانيا بطائرات -إف-16- وأنظمة الدفاع الجوي ب ...
- بايدن يبدى استعدادا لمناظرة ترامب


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عبد المجيد حمدان - قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 3) مخاطر على الديموقراطية 2) انفصال الرأس عن الجسد