أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - آکو کرکوکي - التوافقية... حق الرفض لا الفرض!















المزيد.....



التوافقية... حق الرفض لا الفرض!


آکو کرکوکي

الحوار المتمدن-العدد: 3171 - 2010 / 10 / 31 - 17:36
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


التوافقية ... واحدة من اكثر الامور إثارةً للجدل في العراق، وتعرضاً للتشويه والغبن. ومما يثير الفضول حقاً، أنهُ عند ذكر التوافقية، فسرعان ما يتبادر الى الاذهان، التسميات الصحفية والتعابير الأنشائية المبُتدعة لها، والتي تزخر بها الاوساط الأعلامية العربية بصورة عامة، كمثل " المحاصصة الطائفية" و"المشاريع التقسيمية" وماشابه. وبديهيٌ جداً، ففرضية إن اللغة العربية، بكثرة مفرداتها ومترادفاتها، وميلها للتكرار، والتوكيد المفرطين، تمنحك المرونة الكافية، للتلاعب بالالفاظ، وإنشاء الجمل الجوفاء، لايحتاج الى برهان. لذا ترى الساسة والاعلاميين، يتفنون بإيراد، التوصيفات التي تخدم أراءهم وتوجهاتهم، ولنا أن نذكر في هذا المجال ، بعضٌ من تلك التسميات المبُتدعة، لوصف الحكومة التوافقية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، حكومة الشراكة الوطنية، حكومة التقاسم والتحاصص، حكومة الوحدة الوطنية، حكومة المحاصصة الطائفية...والخ.

ويبدو إن النخبة والعامة، قد إنجذبا سويةً، الى هكذا تعابير إنشائية، وتفسيرات مُبتسرة ومشوهة للنظام التوافقي. من واقع تذمرهم وإحباطهم من الوضع القائم، والكراهية التي لاتنظب، للأنظمة اللامركزية، وأكتوائهم بنار وويلات الأرهاب والحروب الطائفية، ومن واقع القُدسية، التي يولونها، لمفهومي الوطن والدولة معاً.

لايجب أن ننسى أبداً، أنهُ وبدون الإلمام، ببعض الأسس النظرية، للمفاهيم السياسية، لايمكن أن يكون هناك قابلية لتفسير وتقييم الديمقراطية التوافقية، أو غيرها من الأنظمة السياسية، وفق معايير علمية وموضوعية. إن وجود بعض الظروف والتاثيرات الملُتبسة، لإِنتشار الفساد والفوضى، والجمود في الحراك السياسي، وإلإِستدلال من خلالهِ، على فشل التوافقية، ينمُ عن جهلٍ أو تجاهلٍ فاحش، لأُسس النظام التوافقي، والظروف المواتية لنجاحها، وبالتأكيد لمِساوئها وفوائدها، ولأسباب ظهور التوافقية، كمشروع حل للحالة العراقية.

وفي هذا السياق، فمن المهم جداً، بحث الأشكالية التي تقع فيها الديمقراطية، أثناء تطبيقها في المجتمعات التعددية اللامتجانسة، وفشلها في الأستمرار، وتأمين الأستقرار السياسي. ونعني بالمجتمعات اللامتجانسة، تلك التي تتطابق فيها الأنقسامات الأجتماعية، على مستويات ( اللغة والعرق والدين والمذهب والعقيدة)، مع التوجهات السياسية، فتنتج بالتالي أحزاب وتيارات سياسية، تعكس هذا التباين والأنقسام. ودون الخوض، في جدلية الأسباب، وتأريخية هذهِ الانقسامات، فإن وجودها كواقع ملموس، وإستمراراها لحوالي عقدٍ من السنين، يجعلهُ كافياً لوصف المجتمع على إنهُ تعددي لامتجانس. وفي هكذا مجتمع، يعيش فيه أطراف ألانقسام جنبٍ الى جنب، ولكن بأنفصال وعدم إختلاط، ولا إندماج، علاوة على ذلك، ففي بعض الحالات وكما الحالة العراقية، يتمركز كل طرف في رقعة جغرافية معينة. فتتطابق حينها الأنقسامات الثقافية، مع الحدود الأقليمية، وتتبلور عنها، إجتنابٌ إجتماعي، وتباعدٌ جغرافي.

وكما إن اللعبة فيها الرابح والخاسر فإن الديمقراطية، على غرار النموذج البريطاني والأمريكي. فيهِ دائماً أغلبية بسيطة حاكمة، وأقلية واسعة معارضة. وحين تُمارس اللعبة بين طرفين متفقين، على الأمور الأساسية، فإن هدفهُ يكون المنافسة والتسلية فقط. وهي كذلك في الحياة السياسية الجارية في المجتمعات المتُجانسة، حيث هناك إجماعٌ سياسي، على الأمور الأساسية، وحيث تبقى المعارضة موالية، ومُعترّ فة بشرعية ومشروعية الحكومة، رغم نقدها لها وسعيها لإسقاطها. بيد إن ذلك النوع مِن الديمقراطية، يواجهُ مُشكلة حقيقة، في المجتمعات اللامتجانسة. فتتحول ممارسة لعبة الأكثرية والأقلية، الى خصومة وعدائية. وتفقد الحكومة مشروعيتها وهويتها الوطنية الجامعة، لأنها تمثل طرفٍ واحد من أطراف المجتمع، كذلك تفقد المعارضة أهميتها أيضاً، حيث إن الأقلية تبقى أقلية، والأكثرية تبقى أكثرية، فإنتقال الأصوات الأنتخابية من طرف الى آخر (التبخر الأنتخابي)، معدوم تقريباً. وبالتالي فإن المعارضة تغدو ممارسة ميؤسة منها، لأنها لاتمتلك الأمل بتولي السلطة يومياً.

ومن نافلة القول، إن الأشكالية تلك، يمكنها ان تقود، في أغلب أحوالها، الى الخصومة والعدائية، بين الأطراف، والى الحرب الأهلية. حيث ينهار فيهِ السلام السلبي أو التعايش السلمي فيما بين تلك الأطراف، وتنهار معها بالتالي النظام السياسي برمتهِ. لذا تحتم الإشكالية التي تصاحب تطبيق الديمقراطية في تلك المجتمعات، ومايستتبعه من آثار كارثية، إستراتيجية أخرى مختلفة جداً، تسعى الى الحفاظ على ذلك التعايش السلمي السلبي، وتتجنب كل ما من شأنهِ، أن يفضي، الى طرفٍ خاسر دائماً، وطرفٍ رابح دائماً. بُغية الوصول في النهاية، الى الأستقرار السياسي، والسلم الأجتماعي، وإستمرارهما.

تتعامل الديمقراطية التوافقية، مع المشاكل الناجمة عن الأنقسامات العميقة، بين الجماعات السكانية، وغياب الأجماع الموحد لها، ببراجماتية وعملية لافتة للنظر. فمن جهة، تحاول أن تمنح كل الأطراف، من الضمانات، مايكفي لأعادة الثقة لها، وتشجعها على الأستمرار في اللعبة السياسية. ومن جهة أُخرى تستثمر، تأثير زعماء الجماعات في أتباعهم، وتحاول أن تخلق نوع من التعاون الأيجابي، بين تلكم الزعامات.

فإعادة الثقة للجماعات، والتعاون بين الزعامات، هما الركيزتان الأساسيتان، اللتان تستند عليهما كامل النظرية التوافقية.

يُميز آرنت ليبهارت، الديمقراطية التوافقية عن الديمقراطية الأمريكية -البريطانية، بأربع سمات هي: الحكم بإتلاف واسع، والفيتو المتبادل، والنسبية، والفيدرالية.
فأولاً: إنهُ وفي الأنظمة التوافقية، وحيث يجب تجنب حالة الرابح والخاسر، وضرورة مُشاركة الجميع في إتخاذ القرارات، فلابد من الحكم بواسطة حكومة مُشَّكلة من إتلافٍ واسع، يضم الكل أو الأغلبية الساحقة. وثانياً : وبما إن المشاركة وحدها في الحكومة لا تعني التأثير المباشر في القرارات، خاصة إذا تم التصويت على القرارت وفق الحجم، فإنهُ سيكون هناك دائماً أقلية متضررة من بعض القرارات برغم مشاركتها في الحكومة. و لأجل مَنع إستبداد الاغلبية، فيتم مَنح كل طرف، حق النقض والرفض، للقرارات التى تهدد مصالحها. وثالثاً: ولتجسيد مبدء تقاسم السلطة والثروة بين الأطراف، تجنح التوافقية لتوزيع التعينات في المناصب المهمة، وتقسيم الموارد المالية، وفق نسبة كل طرف. وتقاسم السلطات تقودنا لرابعاً وأخيراً: الفيدرالية، فلأجل حصر هذا النموذج التوافقي، في القرارات والمؤسسات المهمة التي تهم الجميع فقط، وتقليل الأحتكاكات بين الأطراف المنُقسمة، تصبح الفيدرالية لازمة ضرورية جداً للنظام التوافقي، حيث يتم في الأقاليم الفيدرالية، إتخاذ القرارات، وممارسة السياسات العامة، المتُعلقة بالحياة اليومية لسُّكان الأقليم.

كما لاحظنا إن سمات التوافقية الأربع، مُتداخلة ومُترابطة مع بعضها البعض. ففي النظام التوافقي يمكن للمرء أن يرفض مالايخدم مصالحه، ولكنهُ يبقى عاجزاً عن فرض أجنداتهِ على الآخر، سواءاً بسبب الفيتو المتبادل، أو بسبب حصر نفوذهِ ضمن نسبة أو أقليم مُعين. بعكس النظام الديمقراطي الأمريكي والبريطاني، فيكفي أنْ تفوز بأغلبية بسيطة، لكي تفرض برنامج حزبك على الآخر، على الأقل لفترة إنتخابية واحدة. وإمكانية النَقضْ والرَّفضْ، والعَجِز عن الإجبار والفَرّضْ، هيَّ مُتلازمة مُهمة وخلاَّقة، لأنها تُحتم تعاون الأطراف، وتمرّنهم على قبو ل البعض للبعض الآخر، وتجعلهم يبحثون دائماً عن الحلول الوسط والتنازلات المتُبادلة. والتوافقية في العراق و بسماتها الثلاثة الأولى، هي تفاهم عُرّفي، ماعدى السمة الرابعة، الفيدرالية، وفقرة أخرى في الدستور، تحث على مراعاة مشاركة كل الأطراف في القوات المسلحة، أصبحت كقواعد دستورية. أم البنود الأخرى للدستور فلا تندرج ضمن تفاهمات توافقية، بل ضمن بنود ومواد دستورية وقانونية، سارية المفعول على الجميع، وقد حُسم أمرها في الأستفتاء.

تُنتقد التوافقية على المستوى النظري والتجريبي على حدٍ سواء، إنطلاقاً من أكثر من نقطة مهمة وجوهرية:

فأولاً: إن تجنب إستبدادية الاكثرية بمنح الفيتو للأقلية والأكثرية، وقابلية إستخدام الفيتو بشكلٍ مبالغ فيه، يمكن أن يقود الى الجمود السياسي. وعدم إدراك الأطراف لهذا الأمر، تجعل خطورتهُ قائمة دائماً. وثانياً: ووفق وجهة النظر القائلة بأن الديمقراطية الحقيقية، تتطلب معارضة قوية تحاسب الحكومة وتمنعها من الانحراف، وفي نفس الوقت، تتطلب وجود حكومة فعالّة تمتلك الصلاحيات الكافية للنهوض بمهامها، فإن الديمقراطية التوافقية، بحكومتهِ الأئتلافية الواسعة، فقيرة جداً في هكذا مجال. وثالثاً: فإن النسبية في التعيينات تجعل الاولوية للولاءات القومية والحزبية والمذهبية، دون معايير الكفاءة والتخصص.
ثمة إنتقادٍ جوهري آخر، يقول: إن النظام التوافقي، سلطوي الطابع، ولا يتحقق فيه مبدء "سيادة الشعب"، لأن الناس وإن إنتخبوا ممثليهم في إنتخابات حرة، فأنهُ في النهاية، وفي أثناء تشكيل الحكومةـ يتم الجنوح الى تفاهمات توافقية بين الزعماء. ولا يبقى لأختيار الناخبيين من قيمة يذكر.

وتصب الإنتقادات الآنفة الذكر ، في مستواهُ النظري، في صالح الأنتقادات الموجهة للتجربة العراقية، في المستوى التجريبي والمعياري أيضاً، وهيّ تواكب تطور الأحداث لتلك التجربة، وما آلت الية الأمور من جمودٍ سياسي، وضعفٍ حكومي، وفسادٍ إداري، والفوضى السياسية، وغياب الخدمات إضافة الى الفلتان الامني. وهذا مايعطي بسهولة الأنطباع، بعدم جدوى التوافقية، أو حتى مسؤوليتها عن كل هذا الوضع المأساوي، ولكن هذا الأنطباع خاطئ الى حدٍ بعيد. فالمحسوبية والمنسوبية، وعمليات السلب والنهب، والعجز عن تشكيل الحكومة، والعجز عن محاسبتها حتى بعد تشكيلها، واللا إستقرار السياسي والأمني، كلها وقائع لايمكن إنكارها. و لكنها تعود الى ظروفٍ ملتبسة وإسبابِ متعددة.

فبدءاً، فحتى لو سلمنا إن النسبية للنظام التوافقي، قد وضعت أشخاصٍ معينين في مناصب لايستحقونها، فالسؤال الذي يحتاج الى الإجابة عليه هو :
منذ متى وظاهرة المحسوبية والمنسوبية، أو الفساد الاداري والمالي والسياسي بمجملهِ مُنتشرٌ في العراق؟
وما الذي منحها الشرعية الاخلاقية قبل القانونية؟ حيث إن لا قانون فعّال، دون أخلاقٍ إنسانية تتطابق معها.

إن التحرك على البعد الأداري للفساد (المحسوبية والمنسوبية)، يقودنا لمراجعة التعاليم الدينية، التي توصي بـأن " الأقربون أولى بالمعروف"، والى القيم والسلوكيات العشائرية والبدوية ، التي تعظم الأنتماء للجماعة والنسب، وأولوية صلة الدم والقرابة والحميمية، وهذه المؤشرات تمكننا من ان نتلمس بعض جذور ظاهرة الفساد الأداري، أي المحسوبية والمنسوبية.

وبالبقاء في مستوى السلوك الإجتماعي، ولكن بالأنتقال الى البعد المالي للفساد. فإنهُ في باب تحليل الشخصية العراقية، التي تتجمع فيها صفات الحضارة والبداوة معاً، فإننا نجد الوردي يصف البدوي " بالوهّاب النهّاب"، فنظراً لظروفهِ البيئية والأقتصادية القاسية، التي تحتم عليهِ الإغارة على غيرهِ وسلب ونهب ممتلكاتهِ، تصبح الغزوة او السلب والنهب، شجاعة، يفتخر بها البدوي، وهذا السلوك يمكن تلمسهِ اليوم، في منطق، مَنْ يعتبرون إقتناص الفرص، لسلب الأموال العامة، بمثابة ذكاء، وشطارة، وجرءة، لتلبية متطلباتهم المادية، في هذه الظروف الأقتصادية والسياسية القاسية، وهنا تكمن جذور الفساد المالي.

والنقطة الاكثر خطورة، هيّ إن النظام البعثي السابق، قد تفنن في إعادة الحياة الى هكذا سلوكيات عشائرية وبدوية ، فخلال حروب النظام مع الكورد وغزوهِ للكويت والأراضي الأيرانية، فإن عمليات سلبٍ ونهبٍ واسعة النطاق، قد حصلت، بدفعٍ ومشاركةٍ مباشرة، من قبل النظام نفسه. وعملية إستحداث رؤساء العشائر في الجنوب والوسط، والمستشارية ورؤساء المرتزقة ( الجحوش) في كوردستان، وإغداقهم بالأموال والأمتيازات، كانت نموذج صارخ، لنظام الراعي –المحسوب.
أما البعد السياسي للفساد، فيقودنا الى النبش في الثقافة السياسية، لمعظم القوى والاحزاب العراقية، التي تطبعت بالسلوكيات الدكتاتورية للنظام السابق. و قد تأثرت أيضاً بالأفكار القومية، والأسلامية، والشيوعية الشمولية،من جهة، وأستثمرت واردات النفط التي تنعمت بها بعد توليها السلطة، من جهة أخرى. وكل هذا كان أسباب كافية، لخلق أحزاب فاسدة سياسياً. تهُدر الأموال العامة، وتسخرها لشراء الذمم، وبناء الأجهزة القمعية، والمليشيات والسجون. وتزور الأنتخابات، ولاتعترف بها.
إذن فجذور الفساد الاداري والمالي والسياسي، راسخة في عمق المنظومة الأخلاقية للعراقيين، كأفرادٍ وجماعات ومؤسسات سياسية. وأتى الضعف الحكومي، وغياب الرقابة والمؤسسة القضائية، لكي تعضد هذه النسق المتناغم.

ومن الممكن أن يرجع السؤال، ليُحمل، النظام التوافقي، مسؤولية الضعف والعجز الحكوميين. ولكن السؤال بهذا الشكل سيكون مضللاً، ويقودنا بالتالي الى إجابات خاطئة، ويجب حسب رئي، صياغتهُ بشكلٍ آخر. وكالتالي:

هل كانت الظروف مواتية لنجاح النظام التوافقي؟ أو هل ما هو سائد يمكن إعتبارهُ نظاماً توافقياً متكاملاً؟

سبق وإن ذكرنا إن التوافقية، تعتمد على تعاون الزعماء فيما بينهم، وحقيقةً فإن أقل مايقال عن سلوكيات، الزعماء العراقيين، هو عدم رغبتهم في التعاون، نتيجة إرتباطهم بإجندات إقليمية وخارجية، مصالحها متقاطعة في العراق، فكانت تريد أما أن تستأثر بكل ما تبغيه، أو تسعى لتخريب الوضع.
وبالرجوع الى بدايات سقوط النظام الصدامي، فمن حينها غرق البلد في دوامة من العنف، والحرب الاهلية، التي جعلت من أي كلام عن المحافظة على السلم الأجتماعي، والأستقرار السياسي، كهدف للنظام التوافقي، كلامٌ بلا معنى. وحقيقة فإن الوثائق التي نشُرت في وقت لاحق من شهر اكتوبر، و التي جاءت مؤيدة، لما كان متوفرٌ، من المعلومات، أشارات الى تورط أغلب الأطراف، وبشكلٍ لا لبس فيهِ في العنف، وإن معظم القتلى، كانوا عراقيين قتلوا بأيدي عراقية. وهذا ما يؤكد إن العراق كان ومازال يعيش حربٍ أهلية ضروس.

فسمة الحكومة المشُكلة من الأئتلاف الواسع، كانت منذ البداية مفقودة، حيث أمتنع العرب السنة، عن المشاركة في العملية السياسية، ولجؤا للعنف، وسيراً على خطاهم، فلقد لحقهم التيار الصدري الشيعي أيضاً. وحق الفيتو المتبادل، كان قد تم المبالغة في إستخدامهِ، بحيث أوصلت عمل مجلس محافظة كركوك مثلاً الى الشلل التام، واوقفت الأنتخابات فيها طوال كل هذه السنين، وتدخلت حتى في البنود الدستورية، التي لا تندرج تحت المعايير والتفاهمات التوافقية، كالمادة 140 ونجحت بإعاقتها. وكذلك عطلت القوانين المهمة، كقانون النفط والغاز، على سبيل المثال. وعملية الاحصاء السكاني أيضاً.

أما سمة الفيدرالية، فلم تكن أكثر حظاً من مثيلاتها، من سمات النظام التوافقي، فما عدى أقليم كوردستان، لم ينشأ أي أقليم آخر في العراق. و بالتالي لم يتشكل مجلس الأقاليم أيضاً، الذي يصفهُ ليبهارت بإنهُ التجسيد الحي لجوهر النظام التوافقي. ومن المعروف إن أقليم كوردستان الفيدرالي، جاء كأمرٍ واقع وقائم، قبل سنة 2003 بأكثر من 13 سنة، وفكرة الفيدرالية لولاية موصل العثمانية، كانت من بنات أفكار الملك فيصل ومعه الضباط الشريفيين، و بيرسي كوكس (المندوب السامي البريطاني الأول، والعدو اللدود لفكرة إستقلال كوردستان، ومؤسس العراق الحديث) ، والذي عرضه على الكورد لنسف توصيات مؤتمر القاهرة، المنعقد في 12 آذار 1921، والذي أوصى بغالبية أعضاءهِ - ومن ابرزهم (ونستون تشرتشل، لورانس العرب، هيوبرت يونغ، إدوارد نؤيل) – لفكرة إستقلال كوردستان (ولاية الموصل)، وعدم إذابتهِ في البوتقة العراقية، في حين عارضهُ كوكس والمسز بيل، متأثرين برغبات الملك فيصل وأعوانهِ. فالفيدرالية لأقليم كوردستان هو مشروع سياسي قديم تأريخياً.

والنسبة التي خصصت لأ قليم كوردستان، من واردات النفط فكانت ومازالت مثار جدلٍ وسجالٍ عنيفين.

وفبل أن ننتهي من توضيح الملابسات والأنتقادات حول التوافقية، فلا يفوتنا أن نرد، على الأنتقاد الذي تناول مبدء سيادة الشعب، واختيار الناخبيين لممثليهم، كما هي الحال في الديمقراطيات السائدة، في الولايات المتحدة وبريطانيا مثلاً.
وهنا ثمة مقاربتين بهذا الصدد من المفيد أيرادهما، أولاً: إن النظام الديمقراطي الناجح في الولايات المتحدة وبريطانيا، لو طبقت في دول العالم الثالث والعراق مثلاً، فإنها سوف لن تصطدم بالتعددية واللاتجانس الأجتماعي فقط، بل ببنية إجتماعية وإقتصادية غير مواتية لنجاحها بالمرة، فما يضعهُ روبرت دال، من شرط وجود مجتمع، يتسم بالحداثة، والديناميكة، والتعددية السياسية، كشرطٍ لِنجاح الديمقراطية، يتطلب بالضرورة، تحولاتٍ إجتماعية، وإقتصادية، ضخمة، نحو اللّبرلة، والعّلمنة، والتمدين والتصنيع. وثانياً: فإن الديمقراطية، وحتى في نمطهِ الانكلو –سكسوني ، فإنهُ وحسب رئي كارل بوبر، لم يكن "حكم الشعب" ولايمكنها أن تكون كذلك، بل هي "مُحاكمة الشعب". و دعنا نستطرد قليلاً ، في توضيح تلك الفكرة، حيث إن الديمقراطية الأثينية القديمة، والتي كان فيها سُكان أثينيا يُبدون آرائهم في القضايا السياسية، بشكلٍ مُباشر، ويصُوتون عليها في نفس اللحظة، لم تعد قائمة البتة. وذلك بسبب كبُر حجم الدول، التي تطبق الديمقراطية اليوم، فتم إبتكار نظام التمثيل والنيابة، أي البرلمانات. فالناس ينتخبون ممثلين يتولون هم بدورهم، تشريع القوانين وإختيار الحكومة. ونتيجة لذلك ظهرت الأحزاب السياسية، التي تلعب دور حلقة الوصل بين الجماهير والممثلين والحكومة. ولكن هناك ايضاً الظاهرة الأوليغارشية السيئة، في داخل أغلب اأةحزاب، حيث يستأثر مجموعة مُعينة على آليات إستصدار القرارات فيها. لذا لايمكن ضمان نزاهة وإستقامة كل النواب والممثلين والاحزاب، المُنتخبين، وإفتراض إلتزامهم بكل وعودهم الأنتخابية. وهنا تبرز ميزة وأهمية الديمقراطية بالمقارنة مع الانظمة السياسية الأخرى، حيث هناك دائماً فرصة للناخبيين لكي يقيلوا الحكومة أو لا ينتخبوها مرّة أخرى، ولا يتوفر هذه السمة في الأنظمة الأخرى. فكما يقول بوبر إن الناس عندما يذهبون ليصوتوا في يوم الانتخابات، فهم لا يمارسون الحكم بمعناه الحقيقي، بل يحاكموا الحكومة السابقة، بمنحها الثقة مرة أخرى، أو سحبها منه.

وختاماً فإنهُ يتوجب أيلاء مشكلة التوافقية مع العالم الثالث، أهمية أكبر، حيث منها تنبع، جوهر الأنتقادات والرفض المطلق للنظام التوافقي والفيدرالي في رئينا. فمعظم هذه الدول ومنها العراق، تعاني من مشكلة الأنقسامات السياسية والأجتماعية، وتنشغل هي في عملية بناء الأمة. لذا تراهم غير مستعدين للأعتراف بتلك الأنقسامات أو يقللون من شأنها. وقبل الغوص في تلك الفكرة، فإن الأستراتيجيات المتوفرة لحل مُشكلة اللاتجانس والتعددية الأجتماعية تتلخص في:

- الأدماج وتقليل التعددية، أي إذابة الأخرين في بوتقة أمة واحدة.
- الحل التوافقي، حيث يعترف بالتعددية والأقاليم الفيدرالية، بإعتبارها لبنات لبناء ديمقراطية مستقرة.
- الطلاق السياسي أو التقسيم، وتحويل الدولة الكبيرة، غير المتجانسة، الى كيانات أصغر أكثر تجانساً.

يتعارض الخيار الأول: حيث لا يتم الاعتراف بالتعددية، مع الخيار الثاني الذي يعترف بالتعددية الأجتماعية وتسعى لأنمائهٍ. بشكلٍ جوهري. أما الدولة العراقية فلقد تبنت ومنذ نشأتها، الخيار الاول، فحتى وعود بيرسي كوكس والملك فيصل بالفيدرالية ونوع من الحكم الذاتي، لولاية الموصل، سرعان ما قد تم تجاهلها، ومارست الدولة العراقية منذ 1926، سياسية عنيفة تهدف الى عرّقنة المكونات، بأذابتهم في الثقافة والبوتقة العربية. وأبتداءاً من هذا التأريخ، ولمدة تزيد عن 80 سنة، أقترفت أخطاء رهيبة، وليست فقط أخطاء تكتيكية وإنما جرائم بحق الأنسانية، كحملات التعريب والتهجير الذائعة الصيت. والخطأ الذي لايغتفر، هو قصفها لأبنائها بالغازات السامة. ونكثها للكثير من المواثيق والعهود والبنود الدستورية. مما تسببت "بفقدان الثقة" بينها وبين أبنائها من جهة، وفيما بين أبناءها أنفسهم من جهة أخرى.
من المهم إذن، بحث الأمر ضمن هذا النسق من الحلول، ففيما يتشبث اليوم، قطاعٌ واسع، من العراقيين اللذين في أغلبهم ليسوا كورداً، بالخيار الاول، لحل مشكلة التعددية، أي بخيار الأمة الواحدة العراقية الصاهرة للأختلافات فإن الخيار الثاني، التوافقي بات يلهث أنفاسه الاخيرة، هذا أذ سلمنا إنهُ وجد أو عاش فعلاً في ظل كل تلك الظروف التي أسهبنا في ذكره أعلاه، تلك الظروف غير المواتية لبقائه ونجاحه.

أما قطاعاتٍ واسعة كوردية، فإنها أقرب الى الخيار الثالث، على الأقل فيما يتعلق بعلاقة كوردستان مع العراق. وصحيحٌ إن هناك آراءٌ مُنتشرة بين غير الكورد والكورد أنفسهم، بإن فرصة بقاء أي دولة كوردستانية على قيد الحياة، معدومة. حيث ستقوم كل الدول المجاورة بمحاصرتها ومحاربتها ومن ثم القضاء عليها. لذا فإن هذا الحل لايعدو كونهُ، حُلماً شاعرياً عصفورياً، يرواد مخيلة البعض. وإنما قابلية تحققه على أرض الواقع، أستحالةٌ أكثر من المستحيل نفسه.

إلا إن تلك الفكرة، يستوجب رفضها وشطبها، لأنها ببساطة خاطئة. أذ تبدو إن تفسيراتها قد أملاها أمرٌ عقلاني، بيد أنهُ ومن وجهة نظرٍ عقلانية، فهو غير عقلاني الى أبعد الحدود، لأنها كلية النزعة، تنظر الى الحالة بكليتهِ، عوض الأنكباب على تحديدها. وفي هذا الصدد، لنتذكر حادثة تأريخية محددة، وثيقة الصلة بفكر ة نقدنا العنيف هذا.

ففي أكتوبر 1921 ذهب هيوبرت يونغ (مساعد سكرتير شعبة الشرق الاوسط في وزارة المستعمرات البريطانية)، الى بغداد، وكما يقول الدكتور سعد أسكندر ، لأطلاع فيصل، على رئي وزارة المستعمرات، بشأن قضية كوردستان الجنوبية. وكيف إنهم يؤيدون قيام دولة كوردية، صديقة للعراق، تكون بمثابة الشريط الحدودي الحامي للعراق من الهجمات التركية، من جهة، ويكون بالمقابل العراق بمثابة الجسر الذي يوصل كوردستان الى البحر والأسواق. وجملة مانريد ان نستخلصهُ من فكرة يونغ، بإنهُ ليس بالضرورة ان يسعى الكورد لدولة مستقلة بدون التعاون مع بغداد. لكي تكون منذ يومها الأول عدوة للكل، وتحفر قبرها بيديها، كما يصوره الرئي الذي أوردناهُ سابقاً. كلا ، فإن الأستراتيجية الناجعة لهكذا مسئلة، تُحتم وجود، أولاً : حكومة عراقية منتخبة تمتلك الشرعية، وتمتلك نوع من الأستقلالية والقرار الوطني بعيد عن إملاءات الأقليم المجاور . وثانياً: تفاوضات بين الكورد والحكومة تلك تفضي الى نوع من الأستفتاء على حق تقرير المصير، حسب المواثيق والقرارات الدولية، وفي حال إتمام كل هذا. فإن الدولة الكوردستانية الفتية ستكون في منأى عن الحاجة الى الأقليم المجاور بوجود حدودٍ آمنة مع العراق ومطارات حديثة. هذا ناهيك إن هذا السيناريو لو تم سيكون بإشرافٍ دولى سيتولى إحترام الدول المجاورة لقرار العراقيين والكورد معاً. كما نشهده اليوم في جنوب سودان، أو كما حصل بين تيمور الشرقية وأندنوسيا، او بين التشيك والسلوفاك. وحتى لو تتطور الأمر الى حربٍ أهلية واسعة النطاق، فليس هناك إستبعادٌ لتدخل المجتمع الدولي، كما فعلت في البوسنة والهرسك وجمهوريات يوغسلافيا السابقة.

لذا فإن الخيار الثالث، لتقليل مشكلة التعددية، بالطلاق السياسي، وقيام دول صغيرة، متجانسة، ليس بالحلم العصفوري، بل واقعٌ، يقع على عاتق أطراف النزاع العراقي، أن يتوصلوا الى قرارات بشأنه. ولكن العائق الأكثر جدية، وأهمية، أمام هكذا خيار، هو تبني العراقيين لفكرة الدولة الصاهرة والمدمجة للأختلافات لحد الآن. وعالرغم من إن هكذا خيار، لم يحقق أي نجاح، بل فاقمت من الأنشطارات والنزعات اللامركزية، فإنه مازال الخيار المفضل لديهم، وذلك لأسبابٍ، سنجتهد في مقالٍ قادم بعنوان (عن الدولتية وسلطة الرمل) تبيانه.

------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
مصادر ذات صلة بالموضوع:

- الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد، آرنت ليبهارت، وترجمة حسني زينة. صادر عن معهد الدراسات الأستراتيجية، سنة 2006.
- كردستان العراق، الجذور التأريخية لمشروع الفيدرالية، سعد أسكندر، صادر عن معهد الدراسات الأستراتيجية، سنة 2006.
- دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، الدكتور علي الوردي، الفصول الخاصة بالبداوة (2،3،4). دار الوراق، 1965-بغداد، 2008-لندن.
- ملاحظات حول الدولة الديمقراطية، مفالة ضمن كتاب درس القرن العشرين، كارل بوبر، ترجمة لخضر مذبوح، الدار العربية للعلوم 2008.





#آکو_کرکوکي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إنَّ اللّة لا يلعب النرد...!
- العراق: حشد السجالات العقيمة والعنيفة
- القومية وسرطان الحزبية
- المُدبلجات المُؤدلجات المُتحجبات
- كورد ولكن...!
- لحظة هدوء...بعد ضجيج الانتخابات (الجزء الثاني).
- لحظة هدوء...بعد ضجيج الانتخابات. (الجزء الاول)
- حَجَرْ الزاوية
- عودة البعث الى جمهورية البُدّعْ
- جَرّائِمْ وبَرّاعِمْ - بإقتباس مِنْ کُراس مُذکراتي


المزيد.....




- رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس ...
- مسيّرة للأمن الإيراني تقتل إرهابيين في ضواحي زاهدان
- الجيش الأمريكي يبدأ بناء رصيف بحري قبالة غزة لتوفير المساعدا ...
- إصابة شائعة.. كل ما تحتاج معرفته عن تمزق الرباط الصليبي
- إنفوغراف.. خارطة الجامعات الأميركية المناصرة لفلسطين
- مصر.. ساويرس يرد على مهاجمة سعد الدين الشاذلي وخلافه مع السا ...
- تصريحات لواء بالجيش المصري تثير اهتمام الإسرائيليين
- سيدني.. اتهامات للشرطة بازدواجية المعايير في تعاملها مع حادث ...
- ليبيا وإثيوبيا تبحثان استئناف تعاونهما بعد انقطاع استمر 20 ع ...
- بحضور كيم جونغ أون.. احتفالات بيوم الجيش في كوريا الشمالية ع ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - آکو کرکوکي - التوافقية... حق الرفض لا الفرض!