|
المظلة - قصة قصيرة
سمير الرسام
الحوار المتمدن-العدد: 2881 - 2010 / 1 / 7 - 09:25
المحور:
الادب والفن
عندما ضَغطتُ على زرِ المظلةِ لأفتحها كي تقيني المطر ، لم تُطاوعني ، نَظرتُ إلى يدي وتحديداً إلى بصمةِ إبهامي مستغرباً . توقعتُ أن المظلةَ التي نَسيها عندي صديقي لا تعملُ إلا على بصمتهِ ! أو إنها إحدى الاختراعات التي تَخرج علينا يومياً . فقد شاهدتُ صديقي وهو يجوبُ معي مدينة مالمو ، والمظلةُ تحنو عليهِ كحبيبةٍ في ليلةٍ ورديةٍ ، تَفتح له مفاتنها من ضغطة زر واحدة . أما أنا فقد حاولتُ مِراراً وتكرار أن افتحها ، لكن دون جدوى . ولأنني كنتُ على عجلةٍ من أمري ، ولا استطيعُ العودةَ إلى الشقةِ لإعادة المظلة ، قررتُ أخذها معي عسى أن تُغير رأيها في الطريقِ .
المطرُ يَرسُمُ على نافذةِ الباصِ لوحاتٍ فرحةٍ ، فكلُ شيءٍ يتراقصُ بهطولهِ ، وتَجِدُ أن الناس يتسارعونَ بفرحٍ في خطواتهم ، فلا يعني المطرَ بالنسبةِ لهُم إلا الخيرَ . أعادتني هذه اللوحاتُ إلى مدينتي التي ولدت بها . لم يَكن المطرُ رحيماً بها على شِحَتِهِ ، ففي كلِ مَرَةٍ يَهطِلُ فيها ، تَغرق مدينتي بالماءِ ، وما يَزيدُ الأمرَ سوءً إن المياهَ الجوفيةَ ومياهَ الصرفِ الصحي تكونُ على موعدٍ للاحتفالِ به . فتجد أن بعضَ الناسِ يلعنونَ المطرَ ولا يَكترثونَ بطقوسِ ضيافَتِهِ ، وقد يكون هذا سبباً وجيهاً لغَضَبِهِ . الهواءُ يُراقصُ قطرات المطرِ ، كما يُراقصُ الوقتَ ثوانيهِ ودقائقهِ وساعاتهِ ، في ساعتي التي أكلَ الدهرُ عليها وشَرِب . فكرت وأنا أشاهدُ المطرَ خارجَ بنايةِ عملي ، أن افتحَ المظلةَ بعد ترددٍ ، وكان ترددي في مَحلهِ ، فلم تُفتح أيضاً ! لأجدَ نفسي مستسلماً للمطرِ الذي أغرقني وأنا أتبضعُ مِن ( سوقِ الخضرواتِ ) ، وصولاً إلى العمارةِ التي تقعُ فيها شقتي . فمن العجيبِ أن تحملَ مظلةً لا تنفعكَ بشيءٍ ، وما يزيدُ الأمرَ سوءً إنها أربكتني وأنا احملُ أكياسَ الفواكهِ والخضرِ . فكرتُ في رمي المظلةِ عند باب العمارة التي قابلت أمامها جاري . استغربَ تبللي بالمطرِ وأنا احملُ بيدي مظلة . استغربتُ أنا أيضاً !! فكيف شاهد المظلة وسط كومة الأكياس ؟ عرفتُ أن عينيه خارقة . . فقرأت المعوذتين ، وكان هذا سبباً في عدم ردي عليه بسرعة .
ساعدني متطوعاً في حملِ بعضِ الأكياسِ ، واستغربَ عدمَ مطاوعة المظلة لي كي تُفتح . وبفضولهِ المعتاد ضَغطَ على زرِ المظلةِ فَفُتِحَت ! ظَهرت على وجههِ ابتسامةٌ ساخرةٌ ، وعلى وجهي تجمعت كل علاماتِ الاستفهامِ ، فأوهمتُ نفسي بأن الأمرَ لا يَعدوا الا صدفة أو شيءٍ من هذا القبيلِ . لكن جاري تَقصد أن يَفتحَ المظلةَ ويُغلقها عِدةَ مراتٍ ، والمظلةُ تطاوعه !
أولُ شيءٍ فكرتُ فيهِ وأنا ادخل شقتي ، أن اصنعَ لي كوبَ شايٍ ساخنٍ . وضعتُ إبريقَ الشاي على النارِ وبدأتُ بتوزيعِ ما جلبتهُ من خضرواتٍ وفواكه في الأماكن المخصصة لها . جلست مسترخياً وأنا انتظرُ إبريقَ الشاي بشغفٍ . سرقت المظلةُ شيئاً من بصري ، فتوجهتُ لها متفحصاً ، وضغطتُ على الزرِ ، والغريبُ إنها لم تُفتح أيضا ، وباءت كل محاولاتي بالفشلِ ، استبدلَ الغضبُ رأسي بإبريق الشاي الذي أعلنَ نُضجُهُ ، فقررتُ أن أتخلصَ من المظلةِ ، فرميتُها من شُرفةِ شقتي التي تواجهُ الشارع الرئيسي .
خَجِلتُ من فعلتي هذهِ وأخفيتُ نفسي لأن المظلةُ كادت أن تصدمُ سيدةً عجوزً كانت تمُر من تحتِ شُرفتي . العجوزُ كانت في عقدها السبعيني ، ذكرتني بسنبلةٍ مُنحنية ، بكل ما فيها من خير وأمتلاء . نظرت إلى الشقق لتعرفَ صاحبَ المظلةِ لكنها لم تشاهد أحداً ، نظرت إلى السماءِ وشكرتها ، فقد وجدت مظلةً تقيها المطر الذي غمر أجزاءً من جسدها المنحني . ضغطت على زر المظلة فطاوعتها .
منظري كان مُحزناً وأنا أشاهد مظلتي تطاوع السيدة العجوز ، ففكرت في استعادتها ، فأنا بحاجة للمظلةِ كبقية البشر . هَرولتُ مُسرعاً عبر السلمِ ، فالمصعدُ يُكلفني الوقتَ الكثير . شاهدتُ في مرمى بصري السيدة العجوز وهي تضع المظلة عند باب الأسواق . وما شجعني على استعادةِ المظلة ، المطر الذي انهمر بغزارة شديدة ، فشممتُ من مظلتي رائحة الدفئ .
تسحبتُ كالذي يُريدُ سَرقةَ شيءٍ ليس له ، وتقدمتُ من المظلةِ ، التي كانت ستكون بيديّ لولا خروجِ سيدتينِ وطفلٍ من الأسواقِ . السيدتان كانتا تتحدثان مع بعضهما ، والطفلُ بدأ بالعبث بالمظلة ، شعرتُ بالغضب يدبُ في جسدي دبيب النمل ، ضغطَ على الزر ففُتحت المظلة . وبختهُ الأم على فعلته ، وكنتُ أريدُها أن تُوبخه أكثر لأنهُ عَبَثَ بمظلتي الحبيبة .
بعد أن غادروا المكانَ ، هَجمتُ كالعقابِ على المظلةِ واستعدتها . وهرولتُ مُسرعاً متخفياً من السيدة العجوز . العناقُ كان حميماً ، وقدمت للمظلةِ كل طقوسِ الولاءِ والتهليلِ . فجاءَ دورُ المظلةِ أن تحنو عليّ ، أن تدللني ، أن تحميني بين رمشيها . مددتُ سبابتي للزرِ وترددتُ بالضغطِ ، وبدأت اسألُ نفسي : ماذا لو فُتحت المظلة ؟ بالتأكيد سأكون سعيداً بها ، ولكن . . ماذا لو لم تُفتح ؟ توقفت سبابتي على الزرِ وأنا أحاولُ أن أحُلَ علاماتَ الاستفهامِ تلك . لقد فَتح المَظلة جاري والسيدة العجوز والطفل . لكنني لم افلحَ بفتحها ولم أحتفي بطلتها البهية . لماذا لا تُفتح لي ؟
أغمضتُ عَيني كمَن يَنتظرُ مفاجئةً ، وضغطتُ على زرِ المظلةِ . سمعتُ صوتاً وأنا أبصرُ في الظلامِ الدامسِ . . اهاا . . فُتحت مظلتي أخيراً ، هذا صوتُها . فتحتُ عيني وإذا بالمظلةِ على حالها لم تُفتح ! لقد سرقتني اللهفةُ ، وبدأتُ أتصورُ أشياءً لم تحصل ، بَدأت أهيمُ في مُخيلتي كطفلٍ يتصورُ أن ما يرسمهُ على ورقته البيضاء من مخربشات ، هو وجهُ أمهِ الحنون . ضغطتُ عدةَ مراتٍ على الزرِ ولكن دونَ جدوى . سرتُ خطواتٍ باتجاهِ شقتي ، والخيبةُ تَحملني بين كفيها .
أمامَ واجهةِ العمارةِ وقفتُ ، وأبصرتُ شقتي في الطابقِ الخامسِ . والمفاجئة إن اغلب الشقق رمت بمظلاتٍ غطت الشارعَ المواجهَ للعمارةِ . انتظرتُ أن ينظرَ أحدٌ من هذه الشُقق ، ولا أحد . تقدمتُ من المظلاتِ وبيدي مظلتي . والتقطتُ إحدى المظلاتِ وضغطتُ على زرها لكنها لم تفتح ! ثم ثانية وثالثة ورابعة !! حتى التقطتُ الخامسة وضغطتُ على زرها ، ففُتحت . استغراب ولهفة وابتسامة فرح ، لوحةٌ هو وجهي في تلك اللحظةِ ، يرسمُ الاستغرابَ مشاعري عليه . وبدأتُ أجربها أكثرَ من مرةٍ ، وفي كل مرةٍ تُطاوعني . رميت مظلتي القديمةَ وسرتُ مبتعداً غيرَ مُكترثٍ لبقية المظلاتِ التي غَطت الشارعٍ .
______________________________ سمير الرسام . . مخرج سينمائي عراقي يسكن في السويد حاليا .
#سمير_الرسام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بداية النهاية ام نهاية البداية ؟
-
المخرج ُ العراقي سمير ُ الرسام، بين ألوان الذاكرة ..ومن باب
...
-
الفلم الوثائقي (لوعة وطن) قضية اللاجئ العراقي في السويد
المزيد.....
-
مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة
...
-
”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا
...
-
غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم
...
-
-كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
-
«بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي
...
-
إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل
...
-
“قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم
...
-
روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
-
منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا
...
-
قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|