أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - قحطان محمد صالح الهيتي - أنا، وهيت ، وأعيادي















المزيد.....

أنا، وهيت ، وأعيادي


قحطان محمد صالح الهيتي

الحوار المتمدن-العدد: 2773 - 2009 / 9 / 18 - 14:29
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


ستون عاما تعني في حسابات الأعياد مائة عشرين عيدا، منها ستون عيد صغير وستون عيد كبير. ولا أدري لماذا يسمي أهل مدينتي هيت وغيرها من المدن عيد الفطر بالعيد الصغير وعيد الأضحى بالعيد الكبير.ولا أعرف السر في جعل العطلة الرسمية للأول ثلاثة أيام وللثاني أربعة أيام ؟ فحتى أعيادنا لم تعرف المساواة؟ قبل أن ابلغ السادسة من عمري لم أكن أعي من العيد شيئا فلم يكن فرحي سوى فرح طفل صغير لا يفهم من العيد شيئا غير القليل من الفلوس النحاسية و بعض الحلوى و(دشداشة) جديدة وربما حذاء. ولم يلفت انتباهي إلا زحمة الزيارات و كثرة المصافحات والقُبل.وبعد هذه السنة وحين أصبحت تلميذا في الابتدائية عرفت شيئا عن العيد، وأصبحت كأقراني انتظر العيد،و ليس مهما عندي أن يكون العيد صغيرا أو كبيرا.المهم أنه يوم أو بضع أيام للفرح العابر.ولم أكن أنتظر أن يشتري لي أبي هدية للعيد، فقد ولدت دون أن أراه ولكنّ أمي لم تبخل عليّ بشيء من متطلبات العيد. كان النساء في مدينتي يتفقن قبل العيد بأيام على خطة عمل (الكليجة )،حيث يتقرر توزيع الليالي بين بيوت الجيران وفق طقوس منظمة، فتكون لكل بيت ليلة عمل تبدأ بعد العشاء، وتنتهي في صباح اليوم التالي.وحين كنا فتيانا كنا نشاركهن في العجن، وفي العمل. لقد كانت سهرات ليالي (الكليجة) عند أمهاتنا وأخواتنا وصبايا المحلة ليالي سهر وسمر، لا أحلى منها إلا ليالي عرسهن،وتكاد تكون عند الواحدة منهن ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة.وفي اليوم الذي يسبق العيد ونسميه في هيت (الزيارة) نسبة إلى قيام أهل المدينة بزيارة المقابر لقراءة سورة الفاتحة على ذويهم كنا نجتمع - نحن الأطفال- حول الزوار علنا نحصل على ما يجودون به من(الكليجة)والنقود.في ليلة العيد لا نأوي إلى مضاجعنا إلا بعد أن نطمئن إلى أن "ملابس العيد" جاهزة مرتبة بقربنا. وننتظر الفجر ليأتينا صباحُه بالعيد سعيدا مباركا ،عنده نسمع من جامع الفاروق المصلين يرددون قبل صلاتهم ما يمكن أن نسميه (أنشودة العيد):" الله اكبر ،الله اكبر، لا اله إلا الله، الله اكبر، الله أكبر ولله الحمد ..." عندها يتأكد لنا حلول يوم العيد ، فنستيقظ، وتدب الحركة، ويعم الفرح أرجاء الدار.لقد كان من عادات أهل مدينتي أن يتعطر الرجال صباح يوم العيد، ويذهب الأب محاطا بأبنائه مختالا فخورا إلى الجامع ليؤدوا صلاة العيد وحين يعود الأب والأبناء بعد صلاة العيد ،يكون فطور الصباح . وما أن ننتهي – نحن الأطفال والصبية – من فطورنا حتى نسرع لنلبس ملابس العيد،وكان منا من لا ينتظر الفطور، بل يلبسها قبل أن يتناوله ، أو انه لا يتناوله من الفرح. وتبدأ بعد أن نزهو بملابسنا وأحذيتنا الجديدة رحلتنا نحو السعادة، وتكون الخطوة الأولى فيها (العيدية) ،وأول من يكرم أبناءه بها هو الأب، ثم الأعمام.ولم تكن العيدية في بداية خمسينات القرن الماضي تزيد على عشرة فلوس أو (آنة أو آنتين) وفي بعض الأحيان(فلسان) قبل أن تجيء ثورة الرابع عشر من تموز 1958فتقرر إتباع النظام العشري في المقاييس ،والنقود فأصبحت ألآنة (العانة) خمسة فلوس بدلا عن أربعة فلوس.واشتهر هذا القرار حين صار أهزوجة شعبية هي: (عاش الزعيم الزود العانة فلس)، ومحظوظ منا من تكون عيديته درهما كاملا. وتبدأ الخطوة الثانية في رحلة الفرح حيث نشكل مواكب الزيارة إلى الأقارب لتهنئتهم بالعيد و الحصول على العيديات، وكنا نحسب حساب من يدفع أكثر من غيره، ونقدرُ الرجال بقدر عيدياتهم. وبعد أن نحصل على بعض المال تكون الخطوة الثالثة صوب ساحة المراجيح الخشبية ودولاب الهوى و(الصرناكات) التي تحمل ماركة حنوش للنجارة الهيتية (و اسمها مأخوذ من الصوت الذي تحدثه كونها من أخشاب الأشجار غير المنتظمة فيحدث احتكاكها صوتا نسميه صرنكة). لقد كنا نظن في ذلك الوقت أننا السعداء الوحيدون على وجه الأرض، وان الأرض واقفة لا تدور إلا إذا دار دولاب الهوى،و(صرناكة) العم حنوش، وأن الشرق شرقنا والغرب غربنا، والشمس لا تشرق إلا فوق مراجيحنا، والقمر لا يسهر إلا في ليالينا.وبعد بعض تعب اللهو لابد لمن يفيض عنده النقد ، ومن لا يزال ميزان مدفوعاته بخير من أن تكون خطوته الرابعة نحو الدكاكين، و الباعة المتجولين ليشتري الحلوى وشَعْر البنات ، وتغوي السيارة نفوسنا البريئة، فحين نسمع دعوة صاحبها:( للسدة باربع افلوس) نهرول للصعود إليها زرافات ووحدانا ، ويطوف بنا السائق مسافة لا تتجاوز ثلاثة أو أربعة كيلومترات ذهابا وإيابا، ثم يعود بنا إلى حيث ساحة العيد.وبعد اللعب واللهو ورحلة السفر وشراء (الملاعيب) تكون لمن هو كان اكبر منا ببضع سنين، ولمن يحب المقامرة مغامرة ،فقد كان يذهب ليقامر إما في اليانصيب أو في لعب (اللكو) وفي كلتا اللعبتين يكون الرابح الأكبر هو صاحب اللعبة. فقد كان صاحب اليانصيب يضبط (القيدة) والخرزة، ويعرف كيف يجعلها لا تقف فوق أكثر المواد طلبا للمقامرة .كما كان صاحب (اللكو) ماهرا في كيفية اللعب بالزار. وحين ينتصف النهار، ويحين وقت آذان الظهر يعود الجميع إلى بيوتهم لتناول وجبة الغداء وغالبا ما تكون وجبة مميزة حسبت ربة البيت حسابها منذ أيام ولكنها في بيوتنا - نحن الفقراء ومتوسطو الحال – لا تتعدى وجبة تمن ومرق وقليل من اللحوم الحمراء. ويجيء العصر فنكمل المشوار الذي كثيرا ما يكون في الأعراس فنشارك في مراسيم الفرح وكأن العروسين أخوة لنا. في منتصف ستينات القرن الماضي صار عندي من العمر خمسة عشر عاما، ومن العلم شهادة المتوسطة، كبرت في نفسي أحلام الطفولة فصرت ساعيا إلى الرجولة مهما كلفني السعي إليها فلم اعد أرضى الفتوة عهدا لي، بل سعيت لأن أكون شابا قبل الأوان فسعيت وكما هي طبيعة النفس البشرية في مثل هذا العمر إلى التأنق والتألق فكان لابد لي وقد بدأت خطواتي الأولى في كتابة الشعر، وعرفت الحب، أن اظهر بمظهر الرجال وأن البس ما يشبع غروري وما يظهرني جميلا بعيني من أحب .وكان القرار أن لا أقضي عطلتي الصيفية متسكعا في مقهى شريف عبيد في(الدوارة) ولا على شواطئ الفرات، بل أن أعمل لأوفر ثمنا لبدلة رجالية أنيقة ارتديها في العيد القادم، وتحقق لي ذلك فاشتغلت عامل بناء باجرة يومية قدرها (350) ثلاثمائة وخمسون فلسا، تجمعت بعد عمل مضن ٍ وشاق لمدة شهرين كاملين فصار عندي واحد وعشرون دينارا قادتني إلى محل الخياط الباكستاني فدفعت له منها ثمانية عشر دينار، واشتريت بالباقي قميصا وحذاءا وجوربا ومنديلا. وانتهى الخياط من عمله واستلمت (القاط ) قبل العيد بما يزيد على الشهرين،وهي فترة طويلة جدا في حسابات من ينتظر العيد.و جاء العيد ولبست (القاط ) وانتصرت على ذاتي وربحت شخصية الرجل ،ولكنني خسرت الكثير من العيديات، فقد نظر لي من كان يعتبرني صبيا يستحق العيدية نظرتين الأولى أنني غني طالما ارتديت( قاطا) من خياطة الباكستاني والثانية أنني أصبحت (بقاطي) هذا رجلا لا يستحق العيدية. لقد كانت أجمل أيام أعيادنا هي أعوام النصف الثاني من العقد الستيني والنصف الأول من عقد السبعينات تلك الأعوام التي سبقت سنين الحرب والخراب ،فقد كنا مجموعة من الأصدقاء موظفين حديثي التعيين وطلبة جامعين حالمين وكانت لنا نهارتنا الزاهية وليالينا الجميلة ولكنّ أعيادنا بدأت تفقد جمالها ورونقها بعد أن صار الوطن طرفا في معارك لا ناقة لنا فيها ولا جمل وصارت أعيادنا مجرد أيام عزاء تنقضي دون أن نكمل زيارة الأقرباء والأصدقاء والمعارف لتعزيتهم. وكثيرا ما أتتنا الأخبار في أيام أعيادنا باستشهاد صديق أو قريب ،فننصب خيام العزاء عوضا عن خيام الفرح ،وبعد غزو الكويت وما تلاه من حصار صار هم ُّ الجميع سد لقمة العيش، فلم يعد للعيد طعم، ولا لون ،ولا رائحة، وازداد البلاء وعمت البلية بعد الاحتلال فقد قتلوا بالمفخخات والعبوات كل آمالنا ،و صار محرما علينا رجالا ونساء وأطفالا أن نؤدي أي طقس من طقوس الفرح والأعياد لأنها بحسب فتاوى من لا يعرف الدين حرام، فالفرح حرام والسعادة عورة والحلاقة رجس، والدشداشة الطويلة نجاسة، وسير الرجل مع المرأة زوجة أو قريبة أو حبيبة دعارة، وعمل الموظف كفر، وتعليم البنات فسق وفجور،حتى أن قراءة القرآن وتلاوته في الجوامع صار حراما،لقد غدت أعيادنا بعرف من لا يعرف من الإسلام إلا القتل حراما في حرام، ولم يعد في دستور دولتهم و مبادئ دينهم سوى القتل حلال.هكذا كانت أعيادنا فمتى تعود كما كانت أعيادا بحق وحقيقة؟ ومتى نعرف الفرح ؟ وكل عام وانتم سالمون.





#قحطان_محمد_صالح_الهيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليست العبرة بتغير الرؤوس،الحكمة بتغير النفوس
- عندما تدور النواعير في الصحراء
- هيت ، وأنا، والزعيم
- ربي اجعل هذا البلد آمنا


المزيد.....




- بعد مظاهرات.. كلية مرموقة في دبلن توافق على سحب استثماراتها ...
- تل أبيب.. اشتباكات بين الشرطة وأفراد عائلات الرهائن في غزة
- مقتل رقيب في الجيش الإسرائيلي بقصف نفذه -حزب الله- على الشما ...
- دراسة تكشف مدى سميّة السجائر الإلكترونية المنكهة
- خبير عسكري يكشف ميزات دبابة ?-90? المحدثة
- -الاستحقاق المنتظر-.. معمر داغستاني يمنح لقب بطل روسيا بعد ا ...
- روسيا.. فعالية -وشاح النصر الأزرق- الوطنية في مطار شيريميتيف ...
- اكتشاف سبب التبخر السريع للماء على كوكب الزهرة
- جنود روسيا يحققون مزيدا من النجاح في إفريقيا
- الأمور ستزداد سوءًا بالنسبة لأوكرانيا


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - قحطان محمد صالح الهيتي - أنا، وهيت ، وأعيادي