أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد نبيل - حكاية يوسف















المزيد.....

حكاية يوسف


محمد نبيل

الحوار المتمدن-العدد: 2602 - 2009 / 3 / 31 - 09:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


للحياة بداية و نهاية، لكن يوسف له بدايات ونهايات عدة. استيقظ كعادته لمواجهة يوم جديد، يهتز من مكانه، يجرجر رجليه، يتعثر بكل ما يصادفه بطريقه، حركات يديه تشير إلى أفول جديد يهدد حياته. رائحة نبيذ أبيض لم يألفها سكان العمارة التي يقطنها، تنبعث من شعره كبخار يتصاعد من داخل رأسه، فمه فاض بكل اليأس المتحشرج داخل قلبه، وأصبح لا يحتمل كبت انتظارا ته.

قرر يوسف وضع نهاية لثلاثين عاما من الترحال. أراد أن يصرخ صرخته الأخيرة وهو بين جدران غرفته الرمادية. يوسف، مهاجر فوق العادة، يجر وراءه أينما حل و ارتحل، مئات الفصول، وملايين الساعات، و أطنان من الأفكار و الذكريات، التي أضحت تثقل كاهله. أما أمه فمازالت تنتظره في تلك القرية التي نسي الناس اسمها، و هجرها جل قاطنيها. عندما قدم يوسف إلى تلك المدينة اللامعة، رأى وجوها هجرتها الابتسامة، وقبورا يعشق الراقدون تحت التراب الجلوس فوقها، كان يبحث عن رائحة، تشبه رائحة كسرة الخبز المحروقة التي كان خباز قريته يهديها إليه كل يوم، فيداعبها مرات عدة قبل أن يبلعها.

كان يوم الأحد، عام 2000، لم ينظر يوسف كعادته إلى صورة أمه المعلقة بجانب سريره .. نظر لأول مرة إلى السماء، ثم علق رأسه على جدران غرفة نومه. آلاف الليالي كانت تنتظر رحيل يوسف عن سجنه. هجراته كانت هي معتقله، يشاهد من تحت أسواره البراقة، وأمام نساءه الجميلات، كتل السحب و هي تتحرك في اتجاهات مختلفة . يلعن كل فروج الحيوانات، و كل يوم يسأل نفسه أكثر من مئة مرة : لماذا أصبحت كآلة مسخرة أحمل معطفي، و حذائي، و أوراقي حتى أوهم نفسي بأنني إنسان، له روح تهبط و تصعد، تتنزه في الأسواق و الساحات العمومية ؟

يوسف لم يكن يتردد في مجابهة نفسه: إنني حيوان لا يحب. كانت تساؤلات عدة تتزاحم في رأسه، أحس بألم غريب يفجر دماغه. توقف دقائق قبل أن يخطط بيده اليسرى على الحائط ، جملة كتبها باللغة الألمانية –So ist das Leben - وتعني "هكذا هي الحياة" ، و كأنه استسلم لقدر هفوات الزمن الغادر الذي يبدو أنه وصل إلى نقطة اللاعودة.

يوسف رجل صامت، لا يتقن إلا لغة أنامله، يشير بها إلى السماء عندما يكون حزينا، و إلى النجوم المحملة بكرات ثلجية صغيرة، عندما يريد أن يتخلص من وضعية تزعج راحته. أحس أنه مجرد من كل ثيابه، يناجي المجهول، وكأن شيطانا ماكرا يضلله عندما يرغب في قضاء حاجاته. مل نظرات الآخرين الشاردة، و شبع من غضب عصافيره التي تحررت ثوان معدودة، قبل رحيله الأبدي. كان منتصبا بين ثنايا حبل مشنقته، فهو اختار المكان و الزمان ولعبة النهاية، كما اختار العبور إلى مدن أوروبا المعزولة. صارع الحياة و الموت، وحاول ست مرات تناول السم طواعية أمام عصفوره اليتيم، لكنه في المرة السابعة، قرر أن يرمي بكل شيء وراء ظهره.

هاجر يوسف شابا إلى فرنسا و اسبانيا وايطاليا ثم إلى ألمانيا ليلتقي بعنترة، صديق تعرف عليه في محطة مترو الأنفاق عام 1970 . استقر يوسف في شقة صغيرة جمعته بعنترة ذي الشخصية الغريبة جدا . كان يوسف يكافح من أجل ضمان إنسانيته المفقودة، و يبحث عن خيط ناظم لكل حركاته، التي حولته إلى جسم بلا صوت، تطارده لغة الممنوع، و تقتل فيه روح المبادرة. أما عنترة فهو صديق حربائي ، مرة يلبس جبة المؤرخ، و مرة يكون بائع طماطم عربية، و مرة يكون كاتبا مولعا بالتقاء الشخصيات الجرمانية العظيمة، ومرة يتردد على النوادي الليلية، كي يرقص مع بنات فقدن شهية النوم. كل يوم يحكي ليوسف حكاية عجيبة. عنترة يصدق حكاياته، لأنه مصاب بانفصام في شخصيته، يعشق الغناء في الكباريهات الألمانية، لكنه كثيرا ما منع من إسماع صوته للآخرين. أما يوسف فلا يحب الغناء الصاخب، بل يهوى قراءة أشعار "بودلير". كان ديوان "زهور الألم" كتابه المقدس، لا ينعم بنوم هادئ قبل أن يقرأ صفحتين من الشعر، و يتناول أقراصه المنومة التي يشتريها في السوق السوداء من عند شاب ألماني يدعى كرستوف. لم ينس يوسف أنه تخرج من كلية الطب في وطنه، و مارس المهنة ثلاث سنوات، قبل أن يقدم استقالته خوفا على نفسه من ممرضات، قررن الانتقام منه، فهو الطبيب الوحيد في ذلك المستشفى الذي يرفض الرشاوى.

عندما ينام الجميع ، يتلقى يوسف مكالمة هاتفية شبة يومية من كاترين ، سيدة رحل عنها زوجها منذ خمس سنوات، التقائها في أحد نوادي الشطرنج. كانت الصبيحة كئيبة، و الشمس رفضت أن تطلع من جديد، ويوسف وحيد بعد طرده لصديقه عنترة الذي كان يزعجه بحكاياته الكاذبة. شقته أضحت تسع لنومه و شخيره، و حتى لقراءاته الشعرية الليلية. يوسف يهوى مصارحة أصدقائه، و لو كان ذلك يجلب له متاعب لا توصف، و صداع لا نهاية له، أما كاترين، فكانت تحتاج لرجل يؤنسها حتى تواجه الحياة بشجاعة، في انتظار ساعة السقوط تحت التراب . كان يوسف متخوفا من تجربة جديدة، بعدما طلق أكثر من سبع نساء، كلهن يقطن في مسقط رأسه. كان يحن إلى حريته، و يرفض أن يخدشها الغرباء.

في تلك الليلة المقمرة، كانت ابتسامات تغزو ملامح كاترين . تحدق في خاتم يوسف الذي يملأ يده اليمنى. تنظر إليه بعطف أحيانا، و بجدية أحيانا أخرى. نظرات كاترين أمست لا تفارق حركات جسمه عندما يتحرك داخل الغرفة . غاصت عيناها في عينيه، بدأت تغرد بجملها الطائشة: غرفتك أنيقة، ذوقك راق...هذا جميل ...طريقة كلامك تثيرني، و لهجتك تذكرني بأشياء ما... أما يوسف، فيحاول قراءة الصحيفة، وكأنه شخص ينتمي إلى كوكب آخر، لكنه لم يجد فيها ما يثيره.

مر عام كامل . كاترين تشتري الهدايا ويوسف يضعها على رفوف مكتبته، التي غزتها خيوط العنكبوت. وبجرأة غير مألوفة سأل يوسف كاترين :
- هل تعشقين فعلا لحيتي البيضاء، و أشعاري الليلية، أم أنك أردت أن نواجه معا غضب الحياة ؟
صمتت كاترين، فهي غالبا ما تلتجئ إلى هذا النوع من التأمل، قبل أن تفصح عن أفكارها، مزاجها أصبح هادئا جدا، منذ أن تخلى عنها زوجها و رحل إلى أستراليا . وضعت كاترين رأسها على مخدة يوسف وأجابته بصوت حزين:
- عندما نُجرد من حق الاختيار، تصبح كل التوقعات ممكنة.
- وهل أنا عابر سبيل أم كائن يحب الغزل ؟
- و هل للموت وجه و صفات وروح ؟
- الموت كالنسيم فأنت تحسه و لا تراه.

لم تشف كاترين غليل يوسف الذي داعب أفكارها قبل أن يغيب أسبوعا كاملا . عاد فلم يجد لكاترين أثرا، لم يعثر سوى على رسالة يتيمة وضعتها على مخدته، و كتبت عليها بخط يدها العبارة التالية:
- أرفض بيع الوهم و صناعة الحلم... وداعا يا يوسف.

منذ أن غادرت كاترين المدينة ، قرر يوسف أن يسافر إلى باطنه، ويخاطب أنفاسه، لعله يصل إلى هدف ما، فظلت أيامه في المهجر بلا عنوان إلى حين ذلك اليوم، الذي كان الحبل شاهدا وحيدا على نهايته، لأنه لم يكن أحد يستطيع أن يمنعه عن سفره الأبدي.
[email protected]





#محمد_نبيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعد عرض فيلمه - غرب عدن- ، كوستا غافراس ينتقد تعامل أوروبا م ...
- صباحات برلين السينمائية
- في حوار مع المخرجة المغربية -سيمون بيتون- : أنا لست متفائلة ...
- قراءة فرحة لحوار الأديان في فيلم -نهر لندن- و المخرج لم يقنع ...
- في حوار مع السينمائية المغربية -سيمون بيتون-
- مخرجة مغربية تتناول قضية -راشيل كوري- التي سحقتها جرافة إسرا ...
- انطلاق مهرجان برلين السينمائي الدولي
- حسب هيئة أممية ، ألمانيا لا تحترم حقوق المهاجرين و اللاجئين
- حول فيلم -السلاحف يمكنها أن تطير- : الموت كلغة للتعبير عن ال ...
- كتاب : لماذا تقتل يا زيد ؟ أو الحقيقة الغائبة في العراق
- لماذا توجه سهام النقد إلى مجلس الجالية المغربية بالخارج؟
- تحقيق: كيف تتعامل أوروبا مع الهجرة السرية ؟
- مقدمات أولية لفهم -ثقافة الإشاعة-
- لماذا ينتحر الصينيون ؟
- لماذا تحاكم فرنسا فلاسفة بسبب مهاجرين أفريقيين؟
- دروس في الرسم لمعتقلي غوانتانامو
- كيف نفهم التلفزيون اليوم؟
- متاهات الخبر الصحفي
- دفاتر صحفية : الصحافة وسؤال الماهية
- سينما : هل نحن في حاجة إلى اجتهادات محمد أسد ؟


المزيد.....




- رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس ...
- مسيّرة للأمن الإيراني تقتل إرهابيين في ضواحي زاهدان
- الجيش الأمريكي يبدأ بناء رصيف بحري قبالة غزة لتوفير المساعدا ...
- إصابة شائعة.. كل ما تحتاج معرفته عن تمزق الرباط الصليبي
- إنفوغراف.. خارطة الجامعات الأميركية المناصرة لفلسطين
- مصر.. ساويرس يرد على مهاجمة سعد الدين الشاذلي وخلافه مع السا ...
- تصريحات لواء بالجيش المصري تثير اهتمام الإسرائيليين
- سيدني.. اتهامات للشرطة بازدواجية المعايير في تعاملها مع حادث ...
- ليبيا وإثيوبيا تبحثان استئناف تعاونهما بعد انقطاع استمر 20 ع ...
- بحضور كيم جونغ أون.. احتفالات بيوم الجيش في كوريا الشمالية ع ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد نبيل - حكاية يوسف