أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - بلال يوسف الملاح - لا تنمية بأنسان مقهور















المزيد.....



لا تنمية بأنسان مقهور


بلال يوسف الملاح

الحوار المتمدن-العدد: 2524 - 2009 / 1 / 12 - 02:45
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


كانت إهتمامات الفلاسفة والمنظرين قديمة بموضوع التربية ، ولم تكن التربية من المواضيع التي لم تحظى الا بأهتمامات جانبية بالنسبة لمعظم الفلاسفة ، سواء الاغريق من امثال سقراط وارسطو وافلاطون ، الى الفلاسفة المسلمين من امثال ابن رشد والغزالي وغيرهم ، وجاءت اهتمامات العلماء في العصور الحديثة بنفس مستوى الاهتمام الذي قام به من سبقوهم الى الفلسفة التربوية ، وكان بستالوتزي وروسو وتولستوي وهربارت و كانت وفنولون و لوك وكان لكل هؤلاء اهتماماته في موضوع التربية(الحصري 1984 :143).

وعليه فأن التربية حظيت بأهتمام كبير بين السياسين وراسمي السياسات المجتمعية ، لما لها من قدرة على خلق وانشاء ذلك الانسان القادر على تحمل مسؤولياته المجتمعية والانسانية ، العملية التي عن طريقها تقوم بتنمية جوانب الشخصية الانسانية في مستوياتها المختلفة ... المستوى الاول هو مستوى الوعي والادراك المعرفي ، المستوى الثاني مستوى العاطفة والوجدان ، المستوى الثالث مستوى الحركة والنزوع والمهارة (علي 1995 :13-14).

والتربية تحمل في ذاتها القدرة على التطور والتقدم ، فهي مادة أساسية اذا استغلت بشكل مناسب وصحيح من الممكن ان تشكل قوة في أنشاء جيل قادرة على الابداع والخلق والتصور والتخيل ، وربما لم يكن بمحض المصادفة ان جاء اهتمام الكثير من المنظرين والفلاسفة بتلك المواضيع التي تهتم بالتربية ورسم خطوطها وسياساتها.

ومن خلال التربية يستطيع المجتمع الحفاظ على نفسه ، ويستطيع كذلك اعادة انتاج ذاته ، النظام التربوي مجموعة الاواليات المؤسسية او العرفية التي يتأمن من خلالها انتقال الارث الثقافي من جيل الى آخر...(بورديو1994 :15) ، " والنظام التربوي السائد هو الاداه التي يكرس فيها المجتمع وجوده ، ويعيد إنتاج تواصله الثقافي والحضاري ، وعلى خلاف ذلك يؤدي النظام التربوي في مراحل تاريخية معينة وظائف التجديد والابداع كما يقوم بتمثيل التغيرات الحضارية والقيم الثقافية الجديدة بما يتناسب والتطلعات الاجتماعية نحو النهوض الحضاري"(وطفة 1999 :50).
ولأن كل فلسفة بحاجة الى تربية تحولها الى معان وافكار في ادمغة الفلاسفة الى سلوك واجراءات يسير وفقا لها الانسان في حياته الخاصة والعامة(علي1995 :50) لذلك تحظى التربية بموقع خاصة في جدول اعمال الفلاسفة والمنظرين في كافة الميادين ، وذلك للاهمية التي تحظى بها التربية في كونها قادرة على تحويل كل هذه الخطابات والنظريات الى سلوك عملي ممارس ، وكانت النظرية البراجماتية في التربية هي من اهتمت بالجانب العملي للافكار التي يستطيع الانسان من خلال موقعها في السلوك العملي ان تكون اكثر وضوحا له( علي 199:،73-118).
علاقة التربية بالتنمية :
يجب الاشارة هنا الى ما تقدم كونه يخم وبشكل كبير العلاقة بين التربية والتنمية ، لكون المجتمع عن طريق التربية يستطيع ان يحدث تقدم وتطور حقيقي بين ابناءه ، ولكن القضية تبقى على الرغم من ذلك جدلية وهي كيفية احداث هذا التطور ومن الذي يأتي اولا أكانت التربية أم التنمية؟.

وليس الاجابة على هذا السؤال بالامر السهل ولا بالامر الممكن الا اذا توافرت لدينا الكثير من التجارب العملية والابحاث الامبريقية على اسبقية واحدة على الاخرى ، ولكن نستطيع القول ان التربية نستطيع من خلالها احادث تنمية ، وتقدم وتطور حقيقي ، اذا استطعنا ان ننمي تلك القدرات العالقة في اذهان ابناء المجتمع الذي يريد ان يتقدم ويتطور.

وكانت التجربة الامريكية مثلا واضحا على قدرة التربية على خلق جيل يستطيع ان يدرك الحجم المادي للحياة ، فقد عاش احد كتاب مصر عند احد اثرياء امريكيا وكان يلحظ ان الابن اذا طلب من ابوه دولارا قال له : عليه بتنظيف السيارة او امسح الزجاج والنوافذ او اجمع كرات التنس من الملعب القريب وبذلك يستطيع الطفل ان يتربى على مبدأ ان للدولار قيمة وانت تسطيع ان تلهو بقدر ما تكسب(علي1995 :41-42). ولا نشجع هنا على الحياه الامريكية بقدر ما نسوق هذا المثال لاحداث الدليل على ان التربية تقوم بجزء كبير من التنمية.

ونعرف هنا انشاء قاعدة اجتماعية عريضة متعلمة بضمان حد ادنا من التعليم لكل مواطن ، يمكنه من العيش في مجتمع يعتمد على القراءة والكتابة ووسائل الاتصال الجماهيري على مختلف انواعها ، والمساهمة في تعديل نظام القيم والاتجاهات بما يتناسب والطموحات التنموية في المجتمع من خلال تعزيز قيم العمل والانتاج ودعم الاستقلالية في التفكير ونبذ الاتكالية والنزعة الاستهلاكية واطلاق الطاقة الابداعية للفرد يتنمية قدراته على الملاحظة والتجريب والتحليل والتطبيق وتأكيد دور الفرد في المساهمة في بناء المجتمع ....(الجلال 1985 :14).

وفقد نشير هنا ان للتربية الدور المستقل ، في احداث التنمية ولكنه ليس الوحيد ، لكي لا نخرج عن الموضوعية ولكن التربية في كل الوقائع تحدث تغيرات جوهرية على بناء المجتمع وتركيبته ، وخاصة ان التربية يتلاقاها كل افراد المجتمع ذكورا واناث ، وفي الماضي والحاضر كانت هناك الكثير من مؤسسات التربية منها الاسرة والمدرسة والجامعة.

ومع وجود هذه المقدمة حول اهمية التربية وعلاقتها التنمية ، نستطيع القول ان التربية تشكل العامل المستقل في علاقتها مع التنمية ولكن يجب ان تكون هذه التربية من النوع المدروس والمخطط لاجل احداث هذا النوع من التغيير.

ولعل من اهم المواضيع التي يجب ان تبتعد عنها التربية هي التسلط والاضطهاد واذا كانت التربية تمارس هذا النوع من التربية فقدت بالتالي جوهرها واصبحت تعيد صناعة نفسها في قوالب تسلطية لا فائدة منها ولن يكون هناك مجال للحديث عن تنمية في ظل هذه الظواهر والمقصود هنا التسلط.

منطلقات نظرية:
حاولت العديد من النظريات تفسير واقع التربية ، وحاولت في جوانب اخر وصف وتحليل كل المتغيرات التي تحدث في عالم المدرسة والاسرة ، لكونها تعتبر التربية هي في حد ذاتها صبغة تسلط وقهر يمارس ضد التلاميذ او المتلقي للتربية.

والعديد منها حاول ان يفهم السلطة والتسلط ويحاول تعريفها من امثال غرامشي ، وفي طيات ذلك ذهب الكثير من المنظرين الى وضع حد لكل الاشكالات التي تمارس من خلال المدرسة مثلا لاحداث تغيير وكانت طروحات فريري حول التعليم البنكي الذي يفقد الناس انسانيتهم من خلال علاقات الاضطهاد ، وكانت بورديو وما تحدث به عن العنف الرمزي ، محاولا بحث في اصول علم الاجتماع التربوي من خلاله.

السلطة حسب المفهوم الغرامشي هي قيام طبقة ما وممثلوها بممارسة السلطة على طبقات تابعة بمزيج من الاكراه والاقناع وتكون السلطة ليست علاقة تسلط بالقوة بل علاقة موافقة وقبول بوسائل قيادة سياسية وايدلوجية ، وتشمل الهيمنة ايضا ممارسات الطبقة الرأسمالية وممثليها عند اسيلائهم على الحكم ، ويظهر الاختلاف في طرح غرامشي في كون هناك فرق بين استخدام السلطة بالاكراه والقمع وبين القيادة الفكرية والاخلاقية ويطلق عليه اسم ممارسة القيادة وهي يجب ان تكون قبل الاستيلاء على السلطة وذلك لكونها اداة لفهم المجتمع بغية تغييره ، وتبقى السلطة بالنسبة لغرامشي علاقة بين الطبقات والقوى الاجتماعية الاخرى التي تحظى بموافقة الطبقات الاخرى والقوى الاجتماعية الاخرى ببنائها نظم تحالفات(الحسيني 2001 :29-30).

وتكون السلطة حسب الفهم الغرامشي ليست هي التي تخضع الشعوب وتهيمن عليهم بل هي التي تكون بموافقت الشعوب قد بنت نفسها ، وتكون بذلك منهم وتحاول المحافظة عليهم وتطويرهم في محاولة لفهم الواقع ومقدمة لفهم المجتمع ، وليست علاقات اخضاع وهيمنة تقضي بها طبقة على آخرى وتعمل على استغلالها والتحكم بمصيرها.

ولا يجدر بنا الدمج بين مفهومين مثل السلطة والتسلط ، فمها يختلفان اختلافا كاملا ، فالسلطة كانت جهود البشرية كبيرة للبحث عنها ووضع حدود ومساحات وقواعد وقوانين لها ، فالبشرية تبحث عن السلطة ولا تحبذ ان تتحول هذه السلطة الى تسلط ، "السلطة ظاهرة طبيعية للحياة الاجتماعية التربوية ، ومن غير السلطة تتحول الحياة الاجتماعية ومنها التربوية الى جحيم لا يطاق. اما التسلط فهو الافراط السلبي في ممارسة السلطة ويعني ذلك استخدام اساليب القمع والاكراه واساليب العنف في السيطرة على الآخر من اجل مجرد اخضاعه والهيمنة على وجوده ، حيث تنحرف هذه الممارسة عن غايتها الايجابية الساعية الى تنظيم الحياه بصورة ايجابية.."(وطفة 1999 :131-132). وتهدف السلطة الى تحقيق مصالح الفرد والجماعة والتسلط هو افراط في السلطة ويأخذ اشكال القهر والاخضاع.
أما بيير بورديو يرى ان اي نشاط تربوي يحمل في طياته العنف الرمزي ، ولا يكاد يخلو اي نشاط تربوي سواء كان في الاسرة او المدرسة من العنف الرمزي ، ويقول" يتعين النشاط التربوي موضوعيا ، في حيثية اولى كعنف رمزي وهي كون علاقات القوة بين الجماعات والطبقات التي تتالف منها التشكيلة الاجتماعية تؤصل النفوذ التعسفي باعتباره شرطا لانعقاد علاقة الاتصال التربوي اي لفرض وترسيخ نموذج ثقافي تعسفي وفق نمط تعسفي من الفرض والترسيخ" ويرى ان استخدام التربية كوسيلة للإخضاع وليس اكثر وهي ممارسة لاعادة انتاج الواقع التعسفي(بورديو1994).

يرى فريري حال التربية التي تلقاها المضطهدون ، وكيف ان كل من المضهدون والمضطهدين جردوا من انسانيتم على الرغم من ان الانسنة هي عمل الانسان ومهمته، بالتالي اصبح هناك خوف لدى المضطهدون من الحرية بسبب تراكم وعي لدى المضهدون بانهم لا يصلحون لشيء ولا يستطيعون فعل شيء وان المضطهدين أعلم ويسطيعون فعل كل شيء ،ويبقى لدى المضطهدون مسؤولية فهم اسباب الاضطهاد وذلك ليتسنى لهم معالجة كل من المضطهدين والمضطهدون على حد سواء ، لان كل منهما قد جرد من انسانيته خلال مرحلة الاضطهاد،وتبدأ مرحلة التحرر عندما يفهم ويدرك المضطهدون انهم عاشوا في مرحلة اضطهاد لتبدء بيداغوجيا المضطهدون التي من خلالها سيتولد وعي انتقادي ومشاركة حقيقية بين كل الناس في الوعي والادراك ولا يكون هناك من يعلم ومن لا يعلم، وتقسم بيداغوجيا المضطهدون الى مرحلتين ففي المرحلة الاولى تعالج مشكلة وعي المضطهد والمضطهد ، المرحلة الثانية تعالج ازدواجية المضطهدون التي تراكمت لديهم من مرحلة الاضطهاد وهي حبهم ليكونوا رجالا مضطهدين للناس.

ويعطي فريري مفهوم للتربية والتعليم في مرحلة الاضطهاد وهو التعليم البنكي، هناك معلم يضع معلومات في رأس الطالب وهناك طالب يتلقى هذه المعلومات دون تحليل او تمحيص وبحث وهي تشبه التعاملات البنكية في ايداع النقود كلما اودعت نقودا اكثر كلما كان لديك في البنك اموالا وتربح اكثر، ولكن هذا الاسلوب في التعليم والتربية لا يعدو عن كونه محاولة من المضطهدين للإبقاء على الوضع كما هو دون دخول الوعي الانتقادي الذي يمكن من خلاله التحرر، والبديل للتعليم البنكي التعليم الذي يقوم على أساس المشاركة بين الطلاب والمعلم التعليم الذي يطرح المشكلات والاسلوب الحواري مع الطلاب، التعليم البنكي يكون قاتل للابداع بينما التعليم الذي يقوم على طرح المشكلات والقضايا يقوم بالكشف المستمر عن الواقع والعالم ، ان التعليم البنكي يصبح رجعيا لانه يحافظ على الديمومة بينما التعليم الذي يطرح قضايا والمشكلات يجب ان يتوجه نحو البحث عن الانسنة التي فقد زمن الاضطهاد ليكون الانسان اكثر تحررا واكثر اكتمالا لانسانيته ، ولا ننسى ان التعليم الذي يطرح مشكلات وقضايا يؤكد على كون الناس كائنات تريد ان تصبح وكائنات غير مكتملة خلقت في واقع يشبه عدم اكتمالها ولكنه يؤكد على ان الناس سيصبحون اكثر اكتملا وليس كالتعليم البنكي الذي لا يرى في الناس الا اوعيه يريد ان يملئها بما لديه من معلومات يسردها امامهم وهو الذي يعلم والطلاب لا يعلمون(فريري 2003)

لا تنمية بأنسان مقهور:
أن نقطة النقاش التي نود معالجتها هنا هي ان نوع التعليم والتربية التسلطية التي يتلقاها الفرد لا يمكن الا ان تخلق منه شخص غير قادر على البحث عن قدراته وابداعاته بل على العكس من ذلك تجعله شخص غير مبالي وغير قادر على النهوض ، والخوف من الحرية و في ظل وجود النظام التعليمي البنكي الذي من خلاله يستطيع المضطهد ان يمارس على المضطهدين النموذج المكتمل في تلك النظرة التي يرى فيها الانسان المقهور او الانسان المضطهد بان هناك نموذج للانسان الاكثر اكتمالا وانه هو الذي يفهم ويدرك الحقائق ولا يستطيع هو كونه مضطهد ان يمارس الحرية او ان يفكر في تغيير الواقع(فريري2003). وتبدو هذه اول الحقائق التي من الممكن ان ينتجها النظام التسلطي الذي يمارس عبر التعليم البنكي ، ينتج اناس لا حول لهم ولا قوة ، اناس يخافون من الحرية ولا يحبون التغيير لا ما قيل لهم ولان كل شيء تعلموه هو ان النظام الذي نعيشه هو من افضل الانظمة واكثرها اكتمالا ، وبذلك يبقى المضطهد ينظر الى الامور بخوف شديد وترقب حزين ، فكيف يستطيع التغيير اذا ادخل في وعيه انه ناقص وان هناك من يعلم اكثر منه وانه مجرد متلقي للمعلومات لا يستطيع التحليل ولا البحث ولا استخلاص نتائج ، وتكون المييزة الرئيسية لهذا العهد هي قدرة هذا النظام على ممارسة الاخضاع بالتسلط التربوي والقهر والاجبار واضف اليها الاقناع عن طريق التربية والتعليم وما يمثل ذلك من اجهزة للدولة وتصاغ هنا مفهوم الهيمنة لدى غرامشي اي تمارس بطريقة القهر والاخضاع وجانب اخر هو الاقناع(الحسيني2001).
يجب الاشارة هنا الى ان بالاضافة الى الخوف من الحرية والخوف من محاولات التغيير يصبح الفرد ضمن هذه المفاهيم مقتنع جل الاقتناع بأن الذي يحدث هو الوضع الطبيعي ، وذلك لان الايدلوجيات اذا دخلت عقل الانسان اصبح تأثيرها اقوى من تاثير الغرائز ونحن نعرف كيف ان تلك الافكار هي من صنع الانسان وابتكاره (اي الايدلوجيات) وكيف يموت هذا الانسان من اجل افكار ، ظل عبر كل تلك السنيين تعلم له وهو لا يستطيع فعل شيء سوى التلقي.

ان نقطة الجدل هنا هي مساهمة نظام التعليم في انشاء ذلك الانسان المقهور الذي لا يقوى على فعل شيء" تكون الجماهير في حالة قصور واضح في درجة التعبئة التي تؤهلها للرد والمقاومة ، فيبدو وكان الاستكانة والمهانه هي الطبيعة الأزلية لهذه الجماهير ، وهذا ما تحاول قوى التسلط على كل حال غرسه في نفسيتها ، في حملة تيئيسية منظمة تقطع السبيل امام اي انتفاضة او امل في الانتفاضة(حجازي 2005 :41) ، ولا تستطيع قوى التسلط من فرض هذه الحالة التيئيسية على الانسان الا اذا كان هناك جهاز قوي قادر على استدخال كل المفاهيم عن طريقه ، ولا يحدث هذا الا من خلال نظام التربية والتعليم وخاصة اذا كان من النوع الذي لا يريد لتلك الجماهير التحرر او الوصول الى الوعي النقدي من خلال ما تمارسه من تسلط ، ولا نستطيع تشكيل وعي نقدي الا اذا تمسكنا بالتعليم الحواري الذي ينشأه الناس ويتبناه الناس ويكون من خلق المجتمع بكل معانيه ومفاهيم ، وان نتخلى عن نظام التعليم البنكي الذي لا يفرض الا الاستكانه ويخلق الخوف من الحرية والتغيير ولا التعليم الحواري يشكل ذلك الوعي النقدي فأن قوى التسلط تخافه( فريري 2003).

"رأى خير الدين التونسي ان ثم خلل اصاب مسيرة الشعوب الاسلامية فتعطل دورها الحضاري والعمراني ، وعندما يتسائل عن السبب باحثا يجده في الظلم والاستبداد الذي ساده المجتمعات الاسلامية بعد عصور الازدهار ومن هنا فأنه يقرر ان الظلم والاستبداد مقضيان لخراب العمران"(زيادة 1987 :206).
ماذا من الممكن ان يربي التعليم التسلطي؟
من خلال ما ذكر سابقا في التعليم البنكي ، وبالتالي فأن الكثير من العقد تدخل الى ذلك الانسان الذي يمارس عليه التسلط في التعليم الاضطهادي ومن ضمنها ، عقد النقص وشعورة المتواصل بعجز ازاء قوى الطبيعة وهو يخاف الطبيعة ولا يستطيع ان يبرر ما الذي يحدث في هذا الكون ولا يقوى على فعل شيء ، وعقدة العار التي يبقى طوال حياته من خلال ما عرف انه ناقص يحاول ان يخفيها ويحاول ان لا تبدو ظاهرة وهو يتماسك الا انه بقهر شديد يصبح يخاف العلم والتكنولوجيا لعدم قدرته على التكيف والتعايش(حجازي 2005 :45-51).

ونتيجة لكل هذا التسلط الممارس ينتج عنه قهر بأستمرار فهو يصل الى درجة الغليان ومن ثم الانفجار ، ويصبح هذا الانسان المقهور مرتع للعنف الموجه الى اهل بيته اولا ومن ثم الى المجتمع.

ومن النتائج الوخيمة هي الرغبات المازوكية وهي تلك المشاعر الدونية والعجز واللاجدوى الفردية ، التي ينتج عنها شخص تابع وقابل للتبعية لاي شخص او مؤسسة او حتى الى الطبيعة بدون احداث اي تغيير ايجابي بل على العكس من ذلك يبقى يحب ان يكون تابع ولديه قابلة للتبعية والقهر ، والميولات السادية وهي ثلاثة انواع منها النوع الاول الذي يحب فيه الشخص ان يهيمن على غيره من خلال جعلهم آلات تعمل لديه ، والنوع الثاني ميل هؤلاء الى استغلال الآخرين والسرقة منهم ، والنوع الثالث الذي يحب ان يجعل الآخرين يتألمون حتى ولو كان هذا الالم جسدي وسواء الرغبات المازوكية او السادية هي عبارة عن وسائل تساعد الفرد في الهروب من شعوره الذي لا يطاق بالوحدة والعجز ، لكونه ايضا انسان قد مورس ضده القهر بشكل كبير(علي 1995 : 168-171).

والناظر الى حال الشعوب العربية مثلا يجد أمثلة كبيرة وكثيرة على هذه الرغبات المازوكية بالاضافة الى السادية ، فالرغبة بالهيمنة تتشكل لدى الانسان نتيجة الى الاضطهاد الذي كان يمارس ضده من قبل نظام الاضهاد وهو يشعر دائما انه هو النموذج الاكثر اكتمالا ، يحاول تطبيقة ويحاول ان يصبح مثله ، ازواجية الاضطهاد ، وكم من عامل مضطهد اصبح مشرف على مجموعة من العمال واصبح اكثر من صاحب العمل ظلما لهم واشد عليهم ايضا(فريري 2003).

ونرى الكثير من الاشخاص الذين يسرقون اموال الشعوب وهذا ايضا كنتيجة للقهر والتلذذ يمارس بشكل يومي نرى الكثير ممن يمارس ضدهم التعذيب ويمارسونه على الناس ولديهم حب في ممارسة هذا النوع من السادية.
وعلى ذلك نستطيع الاضافة التالية ان التلقين طريقة تدريس قد تعمق التسلط وتغرس الاستبداد ويستخدمها بعض المعلمين كسوط يقوي الاذعان والرضوخ في الطلاب ، وتبرز النتائج السلطوية للتلقين ، في تشجيعة على الاتكالية والسلبية بدلا من الايجابية ويقلل من ميل الطالب نحو المادة العلمية ، ويضعف قدرة الطالب على الفهم والتحليل وحل المشكلات والاستنتاج والتفكير الناقد ويشجع القبول الاعمى للمادة ، يحرم الطالب من المشاركة في المواقف التعليمية ويقلل من فرص تعامله وتفاعله مع المعلم والمادة الدراسية ، ويهمل التلقين حاجات الطلاب واهتماماتهم(وطفة 1999 :41-42).

ان المدرسة او اي مؤسسة تربوية ، هي التي تصنع ذلك الجيل الذي من الفترض ان يحاول جاهدا ان يحقق التطور والتقدم (التنمية) ، ولكن تبعا لما تمارسه هذا المؤسسات من قتل لروح الابداع وقتل للتفكير والقدرة على الخلق والابتكار ، سواء المؤسسات التربوية الاسرة او المدرسة فانه لا يمكن ان تكون هناك تنمية بالمعنى الدقيق للكلمة.

ان ما يمارس على هذه الشعوب هو عمليات قهر واذلال لينتج لدينا ما يسمى بالانسان المقهور الذي لا يقوى على فعل شيء ويقف عاجز امام نفسه والمجتمع والطبيعة ، انسان قد استنزفت منه كافة اشكال القدرة على الاستمرار ، فهو خانع ومريض وخائف ولديه الكثير من العقد التي يحاول ان يخفيها عن نفسه وعن المحيطين به.

ولعل التعليم بطريقة التلقين ليست من الامور التي لم تدرس ولكنها درست من قبل الكثير من الخبراء الذين نصحوا من يحاولون السيطرة على هذه الشعوب باستخدامها ، انها اقصر الطرق لاعادة انتاج النظام التسلطي ، ولم تكن هذه الطريقة بمعزل عن قوى التسلط والاضطهاد الممارس ضد الشعوب بل كانت مكملة له ، وكما يؤكد غرامشي بأن السلطة تمارس الاخضاع بالقهر والتسلط والاكراه وفي نفس الوقت هي بحاجة الى ما يعرف بالاقناع ، ولذلك كانت المدارس التي تمارس هذا النوع من التعليم المدروس والمخطط له لكي ينتج لدينا في نهايه المعادلة جيل غير قادر على فعل شيء ، بالاضافة الى أنه يمارس الاكراه كما كانوا يمارسونه عليه ، وتبقى المجتمعات في العالم الثالث والوطن العربي بالتحديد تدور في نفس حلقة التعليم المفرغ ، التعليم الذي لا ينتج عن شيء وانما ينتج عن أعادة انتاج النظام القائم.
خلاصة :
تكثر التساؤلات عن الحلول ، وماذا يمككنا ان نفعل اذا كان ليس لدينا حل ولا نموذج نحتذي به ، لكن الاجابة على هذه الاسئلة تبدوا اصعب من الاجابة عنه ، وخاصة ان التعليم اصبح اليوم من مقايس التنمية ، فاذا اردنا ان نعرف عن بلد ما ان به تنمية نسأل عن التعليم وتطوره الكمي والكيفي ، وتصبح بذلك احد مؤشرات التنمية هي التعليم بشقيه ، والناظر الى العالم العربي يجد التطور الكمي في التعليم بشكل ملحوذ ، فبينما كان عدد الطلبة العرب في اول عقد السبعينيات 2 % فقط من اجمالي عدد طلبة العالم ، بلغت النسبة حوالي 5 % (زيتون 2005 :25).بالاضافة الى تضخم كبير في عدد المدارس الابتدائية والثانوية والمعاهد والجامعات وتطور في عدد الطلاب في كلا الجنسين ، وتضخم في عدد الخرجين الجامعين من حملة الشهادات العليا.

فأذا كان الوضع هكذا ، فلماذا لم يحدث لدينا تنمية ولم يحث لدينا تقدم ولا تطور؟ ، السبب يبقى في ان نوع التعليم الذي يعطى للطلبة به نوع من الخلل وان الطريقة التي يدرس بها الاجيال تحمل في طياتها الضعف وعدم القدرة على الانتاج ، او لعل هناك اسباب اخرى لا نعرفها وهي ان "النظام السائد في البلاد العربية منقول عن النظام الغربي الليبرالي الرأسمالي ، ونظام التعليم الذي تطبقه هذه البلاد مقترض أيضا من نظام التعليم الغربية في عهد الاستعمار وبعد نيل الاستقلال"(طوقان2000 :50). وعلى كلا الحالين سواء كان نوع التعليم او الطريقة التي يتم فيها التدريس فأن المشكلة تكمن في التعليم والتربية.

واذا كانت التعليم ايضا من مؤشرات التنمية وان هناك تضخم في عدد المدارس والمتلقين للدراسة ، ولا ندري اين يكمن السبب ، يقول بعض المنظرين من امثال ايفان ايلتش ان المدرسة بحد ذاتها نموذج للتسلط وهو من دعاة اللامدرسة ، اي ان يصبح المجتمع بدون مدارس ، ففي المدرسة لا يستطيع الاطفال الا اعادة انتاج النظام التسلطي وهم يتعلمون النظام من اجل الانضباط ويتعلمون القدوم في الوقت المحدد من اجل الخضوع لكل ما هو ملزم من القيادات العليا في المجتمع ، وتبقى المدرسة بهذه الطريقة هي الموضع الحقيقي لتربية الناس على الخنوع والاستكانة ، ومن هنا جاءت دعوات بعض المنظرين الى الغاء المدرسة ويبدأ المجتمع بتقيم حالاته التربوية من خلال الممارسات في البيت واطلاق العنان لابناءهم ليكتشفوا ويتعلموا(علي 1995 :194-220).
ولكن هذا النموذج من الممكن ان يحدث في بعض المناطق التي لا يمارس المجتمع القمع في الاسرة ولكن في حالتنا العربية ، في ظل النظام الابوي وظل النظام التسلطي التي تعاني منه الاسرة العربية ما الحل وما هي الطريقة التي نستطيع ان نحقق تعليم وتربية حقيقية تتجه بنا نحو التنمية ، وخاصة ان حكامنا لا يريدون منا الا الخضوع والاستكانة ولا يريدون تغيير هذا الواقع الا بالقدر الذي يخدم مصالحهم ، ومصالح الانظمة التي تدعم هذه الانظمة في قبول التبعية والاستبداد.

ان ما توصل اليه المنظر البرزيلي باولو فريري من كون التعليم البنكي قاتل للانسان ومن ان يجب ان يكون هناك نوع اخر من التعليم لكي يستطيع الانسان تكميل مسيرته في تحوير العالم والبحث عن انسانيتهم التي فقدت منذ زمن الاضطهاد ، هو بحق نوع جيد من التعليم ذلك النوع من التعليم الذي يعتمد الحوار من اجل تحقيق اهداف انسانية أكثر من التعليم عن طريق التلقين.

يجب ان تكون هناك نظرة واعيه لكيفية اعطاء المعلومات والمفاهيم في المناهج الدراسية ، ولكي تكون هناك قاعدة لفلسفية تربوية في البلدان "المتخلفة" ، علينا بمجهود اكبر ، في نقد هذه المناهج ونقد اساليب تدريسها ، وان نلاحظ أكانت هذه الانظمة مستوردة من الخارج ام انها من صنعنا ونستطيع من خلالها ان نخلق ونبدع انسان قادر على النهوض والتنمية في كافة القطاعات.

ويبقى نظام التعليم والتربية من بين اهم الركائز التي تهم المجتمع ولعل امكانية اعادة صنع الانسان المقهور الذي لا يستطيع المشاركة في العمليات الانتاجية هي ايضا ، من الطرق التي يستخدمها المستعمر من اجل ابقاء المجتمع في حاله من التبعية ، وخاصة ان مصالح الدول العظمى تقدي بأن يبقى الانسان في العالم الثالث مقهورا يمتاز بكل تلك الصفات التي ذكرت سابقا وان اجمل طريقة هي الاقناع في فرض الهيمنة والتبعية ولا يكون ذلك الا من خلال التربية ومن خلال انظمة التعليم.




المراجع والمصادر:
• بورديو ، بيير . العنف الرمزي بحث في اصول علم الاجتماع التربوي .ترجمة نظير جاهل . بيروت : المركز الثقافي العربي ، 1994.
• الجلال ، عبد العزيز عبد الله . تربية اليسر وتخلف التنمية مدخل الى دراسة النظام التربوي في اقطار الجزيرة العربية المنتجة للنفط . الكويت : المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب ،1985.(سلسلة عالم المعرفة ، 91)
• حجازي ، مصطفى. التخلف الاجتماعي مدخل الى سيكلوجية الانسان المقهور. الدار البيضاء :المركز الثقافي العربي ،2005.
• الحسني ، مازن . قراءة في فكر غرامشي السياسيى الثورة السلطة التحالفات . القدس :دار التنوير والمركز الفلسطيني لقضايا السلام ، 2001.
• الحصري ، ابو خلدون ساطع . الاعمال القومية لساطع الحصري :(2) أحاديث في التربية والاجتماع . بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1984.
• زيادة ، معن . معالم على طريق تحديث الفكر العربي .الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب ، 1987.(سلسلة عالم المعرفة ، 115)
• زيتون ،محيا . التعليم في الوطن العربي في ظل العولمة وثقافة السوق . بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ،2005.
• طوقان ، مصطفى عزت . التطوير ،التعليم والمجتمع في الدول العربية .بيروت :بيسان للنشر والتوزيع والاعلام ، 2000.
• علي ، سعيد اسماعيل . الفكر التربوي العربي الحديث . الكويت : المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب ، 1987.(سلسلة عالم المعرفة ، 113)
• علي ، سعيد اسماعيل . فلسفات تربوية معاصرة .الكويت : المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب ،1995.(سلسلة عالم المعرفة ، 198)
• فريري ، باولو . نظريات في تربية المعذبين في الارض .ترجمة مازن الحسيني . رام الله : دار التنوير والمركز الفلسطيني لقضايا السلام ،2003.
• وطفة ، علي اسعد . بنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي في الوطن العربي .بيروت :مركز دراسات الوحدة العربية ،1999.



#بلال_يوسف_الملاح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المسرح الفلسطيني والمسرح العبري قبل عام 1948
- الدراما التركية.....تركيا تصنع واقعها
- باب الحارة واقع مستعار


المزيد.....




- من أثينا إلى بيروت.. عمال خرجوا في مسيرات في عيدهم فصدحت حنا ...
- بيربوك: توسيع الاتحاد الأوروبي قبل 20 عاما جلب فوائد مهمة لل ...
- نتنياهو: سندخل رفح إن تمسكت حماس بمطلبها
- القاهرة وباريس تدعوان إلى التوصل لاتفاق
- -حاقد ومعاد للسامية-.. رئيس الوزراء الإسرائيلي يهاجم الرئيس ...
- بالفيديو.. رصد وتدمير منظومتين من صواريخ -هيمارس- الأمريكية ...
- مسيرة حاشدة بلندن في يوم العمال
- محكمة العدل الدولية ترد دعوى نيكاراغوا
- خردة الناتو تعرض في حديقة النصر بموسكو
- رحيل الناشر والمترجم السعودي يوسف الصمعان


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - بلال يوسف الملاح - لا تنمية بأنسان مقهور