أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - منذر خدام - الأزمة المالية العالمية ونذر الركود















المزيد.....


الأزمة المالية العالمية ونذر الركود


منذر خدام

الحوار المتمدن-العدد: 2479 - 2008 / 11 / 28 - 09:45
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


لقد فاجأت الأزمة المالية العالمية التي انفجرت في الآونة الأخيرة، الكثيرين من علماء الاقتصاد، وكذلك صناع السياسة في مختلف دول العالم وخصوصا في البلدان المتقدمة المعنية قبل غيرها بالأزمة الاقتصادية العالمية الحالية، على الأقل من ناحية عمقها ومدى شموليتها. نذر الأزمة في الواقع كانت قد ظهرت منذ أكثر من عام على شكل تباطؤ النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي غيرها من الاقتصاديات المتقدمة، وتزايد عدد العاطلين عن العمل، وارتفاع أسعار النفط، وانخفاض قيمة الدولار..الخ.. فالاقتصاد الياباني على سبيل المثال الذي عانى من أزمة رهن عقاري لا يزال في مرحلة الركود منذ نحو عقدين من الزمن، تعاقبت خلالها على اليابان حكومات عديدة كل واحدة منها تأتي تحت عنوان الخروج من الأزمة وإنعاش الاقتصاد الياباني. ومن الواضح أن التفسيرات الرصينة لأسباب الأزمة والمعالجات المحتملة لها لا تزال أسيرة هول الصدمة، والإجراءات الحكومية السريعة، وسيطرة الكتابات الصحفية على المشهد. ونظرا للتخبط الواضح في تحديد الأسباب العميقة لها، بل قل الخوف من الوقوف عندها وإبرازها والكامنة أساسا في آلية اشتغال النظام الرأسمالي ككل، والمبالغة الشديدة في قدرة السوق على ضبط توازن الاقتصاد، والاكتفاء بحصرها في الأسباب المباشرة الكامنة في قصور الائتمان العقاري، يساهم في تعميق الأزمة وإطالة زمن استمرارها.
من المعروف أن الرأسمالية التقليدية تشتغل وفق قوانين السوق حيث لكل سلعة أو خدمة مكافئها النقدي الذي يقيس قيمتها أي كمية ونوعية الجهد الاجتماعي الضروري المتجمد فيها. في مثل هذه الوضعية يفترض نظريا أن تكون كمية النقود المتداولة في السوق تعادل قيمة السلع والخدمات الموجودة في السوق. غير أن الواقع قد يعرض مشاهد مختلفة إلى هذه الدرجة أو تلك، فقد تكون كمية النقود المتداولة أكثر من قيمة السلع والخدمات، فترتفع أسعار السلع والخدمات لتمتص الزيادة في كمية النقود المتداولة، محدثة ما يسمى بظاهرة التضخم. لكن قد تكون كمية النقود المتداولة أقل من قيمة السلع والخدمات في السوق، فتنخفض أسعار السلع والخدمات لتعيد التوازن بين كمية النقود المتداولة وقيمة السلع والخدمات في السوق، محدثة ظاهرة اقتصادية معروفة باسم الكساد. هذه هي الحالة النظرية، لكن في الواقع تقاوم القوى الرأسمالية هبوط الأسعار، وتلجأ إلى تسريح العمال وإغلاق خطوط الإنتاج وحتى معامل بكاملها ريثما يتم امتصاص السلع الزائدة من السوق. هذه المظاهر الاقتصادية( حالة التضخم أو حالة الكساد) هي من طبيعة الرأسمالية التقليدية وآلية اشتغالها، تتجلى بصورة ملموسة في الأزمات الدورية للرأسمالية.
في الرأسمالية التقليدية يعمل القطاع الائتماني وفق آلية شبيهة بآلية اشتغال القلب في الكائن الحي، يتلقى الأموال من القطاعات الاقتصادية المختلفة ومن المودعين على اختلافهم ليعود فيضخها من جديد في الشرايين الاقتصادية، وقد يحبس الأموال لديه مؤقتا في حالة التضخم وقد يضخها في حالة الكساد بحيث يعيد التوازن من جديد للأسواق ولاشتغال الاقتصاد ككل. باختصار يمكن القول أن قانون القيمة وهو من القوانين الأساسية للرأسمالية التقليدية يظل يشتغل رغم بعض التشوهات التي تعتريه بين مرحلة وأخرى من مراحل تطور الرأسمالية وخصوصا خلال الأزمات الدورية. فالسلعة والخدمة لها مكافئ نقدي يعادل كمية ونوعية الجهد الاجتماعي المبذول لإنتاجها هذا على المستوى الجزئي، أما على المستوى الكلي فالمعادلة صحيحة أيضا أي أن لمجموع السلع والخدمات في السوق ما يكافئها من النقود التي تقيس قيمتها.
في الرأسمالية المعاصرة حصلت تغييرات جوهرية على آلية اشتغال الرأسمالية من خلال انفصال الحلقة المالية عن الحلقة الاقتصادية، فبدلا من الملكية الخاصة العينية أصبح لدينا حقوق للملكية على شكل سندات وأسهم وغيرها من الأوراق المالية، وبدلا من المكافئ النقدي لكل سلعة أو خدمة أصبح لدينا مكافئ نقدي متغير باستمرار لكل حق ملكية. هذا التطور الجديد على آلية اشتغال الرأسمالية قاد إلى توسع هائل في الأسواق المالية وتضخم ظاهرة ما يسمى بالرأسمال الوهمي على شكل حقوق ملكية في ملكيات غير موجودة أصلاً، أو أن قيمتها الفعلية أقل بكثير مما تثمن به في الأسواق المالية. واقع الحال هذا انعكس أيضا على القطاع الائتماني الذي أصبح مضطرا لضمان حقوق الملكية بدلا من الملكية، أي أنه يضمن حقوقا في ملكيات غير موجودة بالفعل. ونظرا لطبيعة عمل أسواق المال القائمة أساسا على المضاربة، أو على التحليلات المالية غير القابلة للتأكيد أصلا، وتأثرها المباشر بالعوامل غير الاقتصادية مثل العوامل السياسية والعوامل النفسية، فإنها قد تدفع إلى القمة مالكي رؤوس أموال على شكل حقوق ملكية، لكنها قد تهوي إلى الحضيض بهم أو بغيرهم. إن توقع الحصول السهل على الثروة دفع برؤوس الأموال للتوجه للاستثمار في أسواق المال بدلا من أن تتوجه إلى القطاعات الاقتصادية ( القطاعات المنتجة للسلع والخدمات) لتشتغل وفق معادلة: مال – حقوق ملكية – مال، بدلا من معادلة : مال – سلعة أو خدمة – مال. في الحالة الأولى لا يستطيع السوق أن يحقق توازن الاقتصاد، من خلال التوزيع الفعال للموارد، في حين كان في الحالة الثانية قادرا بصورة عامة على تحقيق التوزيع الأمثل نسبيا للموارد، وبالتالي تحقيق التوازن على مستوى الاقتصاد الكلي. في الحالة الأولى يتم إنتاج ثروة وهمية على المستوى الكلي، لكن يتسبب في الركود الاقتصادي بحرمان القطاعات الاقتصادية من رؤوس الأموال الضرورية للاستثمار فيها، في حين في الحالة الثانية يتم إنتاج ثروة حقيقية على شكل قوى إنتاج ومنتجات سلعية أو خدمية.
من جانب آخر، وهذا مهم جدا في تفسير بعض أسباب الأزمة المالية الراهنة المنذرة بحصول الركود الاقتصادي الشامل، مع أنها تشكل مقدمة لها في التحليل المتشائم لكنه الواقعي، ينبغي التوقف عن التغيرات الجوهرية التي حصلت في التركيب العضوي لرأس المال والتي أدت إلى تقلص الأسواق نتيجة تراجع القوة الشرائية الكلية المتاحة. من المعروف أن ثمة معادلة توازنية بين كمية رأس المال والجهد الحي في أية عملية إنتاجية، وهذا المعادلة تتغير باستمرار لصالح زيادة رأس المال وتناقص الجهد الحي وذلك من جراء التطور العلمي والتكنولوجي. لقد دخلت منظومات الإنتاج الحديثة (الأتمتة) جميع الفروع الاقتصادية المنتجة للسلع بدرجات مختلفة وهي في طريقها لتدخل الفروع المنتجة للخدمات. هذا يعني أن وسائل الإنتاج الحديثة لم تعد تتطلب قوة عمل كبيرة، وبالتالي فإن حصة الأجور بدأت تتناقص باستمرار بالمقارنة مع حصة الأرباح، الأمر الذي يجد تعبيره المباشر في تقلص الأسواق وتراجع القوة الشرائية الكلية المتاحة. في الرأسمالية التقليدية اكتشف ماركس أن كمية من العمل متزايدة باستمرار تنتج كمية من رأس المال( خيرات مادية وخدمية) متزايدة باستمرار، أي أن العلاقة بين زيادة العمل وزيادة رأس المال كانت علاقة طردية. هذا يعني بلغة أخرى أن نمو رأس المال كان يؤدي موضوعيا إلى نمو الطبقة العاملة، وبالتالي نمو التشغيل. في الرأسمالية المعاصرة لم يعد قانون ماركس المشار إليه صالح، بل حل محله قانون آخر هو أيضا من اكتشاف ماركس والذي يعني أن كمية متناقصة باستمرار من العمل أصبحت تنتج كمية متزايدة من رأس المال( خيرات مادية وخدمية) من جراء تطور العلوم والفنون والتكنولوجيا. في الرأسمالية التقليدية كان مفهوم التشغيل الكامل يعني وجود نسبة معينة من قوة العمل في وضعية العاطلة عن العمل، وذلك من اجل تنظيم دوران اليد العاملة والمحافظة على الأجور ضمن مستويات معينة مرغوبة من رأس المال، أما في الرأسمالية المعاصرة فقد أصبحنا أمام ظاهرة الفيض السكاني المطلق، أي أصبح هناك جزء من السكان لم يعد ضروريا لتشغيل رأس المال. وعندما يصبح جزءا من السكان فائضا عن حاجة رأس المال من الزاوية التشغيلية، فإنه يفقد حصته من الأجور. هذا يعني أن جزءا من السوق الحقيقية قد تقلص بتقلص القوة الشرائية العائدة إلى الأجور، مما دفع رؤوس الأموال للتوجه إلى الأسواق المالية بدلا من الاقتصاد الحقيقي، متسببة بنمو هائل في الرأسمال الوهمي على حساب رأس المال الحقيقي.
لقد كان من المتوقع أن تحل الرأسمالية المعاصرة هذه الإشكالية البنيوية عن طريق تطوير البلدان النامية وبالتالي توسيع السوق عالميا، غير أن الذي حصل هو أن أغرقت هذه الدول بالديون التي فاقت 3000 مليار دولار في العام 2007 متسببة بمزيد من إفقار هذه الدول، بحيث هنا أيضا تقلص السوق بدلا من أن يتوسع. جميع هذه العمليات البنيوية في الرأسمالية المعاصرة تقودنا إلى الاعتقاد بان الأزمة الراهنة هي أزمة اقتصادية انفجرت في حلقتها الأضعف وهي الحلقة المالية.
في سياق هذا التحليل لا يمكن إغفال المستوى الأيديولوجي للرأسمالية فله حصته من المسؤولية عن الأزمة الحالية. لقد بينت الأزمة الراهنة فشل الليبرالية الجديدة سواء على المستوى السياسي أو على المستوى الاقتصادي. فعلى المستوى السياسي بدلا من قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي روجت لها أمريكا والحكومات الغربية عموما على الصعيد العالمي، شنت أبشع الحروب على العراق وعلى أفغانستان، واستخدم الابتزاز السياسي على نطاق واسع في العلاقات الدولية بغرض فرض الهيمنة على الدول والشعوب. أضف إلى ذلك فإنها قدمت أبشع النماذج على انتهاك حقوق الإنسان في غوانتنامو وفي أبو غريب، وفي السجون السرية التي أقامتها في مختلف مناطق العالم، وقد أخذ القليل منها يفتضح أمره في الآونة الأخيرة، وفي العديد من التشريعات المقيدة للحريات في داخل هذه الدول. لقد كان من أمر هذه السياسات الليبرالية الهمجية التي انتهجتها الإدارة الأمريكية وحلفائها المقربين، والتفرد في اتخاذ القرارات الكبرى على الصعيد العالمي أن نمت نزعة الكراهية تجاه أمريكا حتى في أوساط الشعوب الأوربية عداك عن شعوب بلدان العالم النامي وبالأخص شعوب بلدان أمريكا اللاتينية، كل ذلك أضعف الطلب الكلي الفعال على المنتجات الأمريكية في الخارج، وخلق مشكلات جدية أمام نمو الاقتصاد الأمريكي.
أما على المستوى الاقتصادية فقد برهنت الليبرالية الجديدة كما سابقتها التقليدية بأنها غير قادرة على تحقيق التوازن في الاقتصاد الكلي، وبدلا من أن تتوزع الموارد المالية على القطاعات الاقتصادية المختلفة بصورة متوازنة، توجهت إلى الأسواق المالية لتدور فيها منتجة كما سبق وذكرنا ثروة وهمية، وبالتالي حرمان القطاعات الاقتصادية من إنتاج الثروة الحقيقية. كان من نتيجة ذلك أن اخذ النمو الاقتصادي يتباطأ في مختلف الاقتصاديات المتقدمة، بل دخل بعضها في مرحلة الركود كما هو حاصل في الاقتصاد الألماني وفي الاقتصاد الأمريكي، وفي اقتصاديات بعض الدول النامية الموجهة نحو التصدير كما حصل في الصين حيث أخذت المعامل تغلق أبوابها وتسرح عمالها. ثمة توقعات شديدة التشاؤم بان يفقد أكثر من عشرين مليون إنسان وظائفهم خلال السنة القادمة من جراء تفجر الأزمة في الاقتصاد الحقيقي. في شهر أيلول لوحده فقد نحو 178 ألف عامل عمله في الولايات المتحدة الأمريكية، عداك عن أن البطالة أصبحت ظاهرة عضوية في جميع البلدان المتقدمة، بل وغير المتقدمة مع اختلاف الأسباب.
في الأسباب المباشرة للأزمة المالية الحالية يجري التركيز على فشل القطاع الائتماني العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية من جراء انتشار الفساد والمضاربة فيه. ففي بحث عن مسببات فشل هذا القطاع أظهرت نتائج عينة البحث أن 93.1% ممن استطلعت آراؤهم يرون سبب الأزمة المالية الحالية في عدم كفاءة الإدارة في المؤسسات المالية والمصرفية الأمريكية، في حين أحال 2% منهم سبب الأزمة إلى الإهمال، و1.5% إلى التزوير، و 0.9 إلى الكوارث التي طالت قطاع العقارات من جراء الأعاصير التي ضربت الولايات الجنوبية الأمريكية، و2.5% إلى أسباب أخرى متنوعة.
لقد انفجرت الأزمة في أضعف حلقاتها وهي حلقة الرهن العقاري وذلك نتيجة عجز نحو 50 % من المقترضين عن سداد قروضهم العقارية، وبالتالي اتساع الفجوة بين حقوق والتزامات المؤسسات المقرضة مما دفعها للإفلاس. ونظرا للتشابك المعقد بين العلاقات المالية الدولية وانتشار ما يسمى بظاهرة " التوريق " فقد خرجت الأزمة من إطار الاقتصاد الأمريكي لتأخذ أبعاداً عالمية. لقد تكونت سلسلة من الحقوق والالتزامات المالية بين المؤسسات المالية الدولية من جراء بيع سندات الرهن العقاري في الأسواق المالية طمعا بالربح، لكنها بيعت أيضا لمؤسسات مالية كضمان للحصول على قروض منها. بهذا الشكل تكونت سلسلة من الضمانات الورقية بدون ضمان عقاري حقيقي في بداية السلسلة. وقد فاقم من حدة الأزمة انتشار ما يسمى بالمستقبليات، الذي يعتبر القطاع العقاري نموذجيا بالنسبة لها، أي بيع سلعة غير موجودة في لحظة البيع لكنها سوف توجد في المستقبل على أمل أن ينخفض سعرها عندئذ وبالتالي يحقق البائع ربحا. لكن الذي حصل أن إنتاج هذه السلع لم يحصل في المستقبل(مثلا لم يتم بناء البيوت التي تم التسجيل عليها) وبالتالي خسرت المؤسسات المالية التي أقرضت المشترين المستقبليين أموالها نتيجة لتمنعهم عن سدادها، خصوصا وان الحصول على هذه القروض كان يتم في غالب الأحيان بلا ضمانات كافية.
وفي البحث عن الأسباب المباشرة للأزمة المالية الحالية لا يمكن أيضا تجاهل المديونية الأمريكية الهائلة التي تجاوزت حدود العشرة تريليون دولار(10.3 تريليون) في عام 2008، وفي بعض المصادر تجاوزت حدود الأربعة عشرة تريليون دولار(14.3تريليون دولار)، في حين كانت بحدود 3 تريليون في عام 1990. ومما فاقم من هذه المديونية الحروب الأمريكية المجنونة حول العالم، والنفقات الهائلة على التسلح، واستخدام أموال دافعي الضرائب الأمريكيين للابتزاز السياسي وفرض الهيمنة في العلاقات الدولية.
ولا يمكن تجاهل المديونية الهائلة للبلدان النامية والتي تجاوزت حدود 3 تريليون دولار في عام 2007 في حين كانت لا تزيد عن 170 مليار دولار في عام 1970، وتنامي ظاهرة الفقر على نطاق واسع الأمر الذي أضعف القوة الشرائية العالمية وضيق بالتالي من الأسواق الدولية.
ومن الطبيعي والحالة هذه، أزمة مالية دولية ونذر بركود عالمي، أن يأخذ الرد على الأزمة طابعا دولياً تجلى مبدئيا في حجم الأموال الهائلة التي ضختها الدول المتقدمة في الشبكة المصرفية بصورة مباشرة وعاجلة، والتي تجاوزت حدود 2000 مليار دولار كان من نصيب أمريكا لوحدها نحو 900مليار دولار، وألمانيا 500 مليار يورو، وفرنسا 300 مليار يورو، واليابان نحو 70 مليار دولار. غير أن الخروج من الأزمة المالية والحؤول دون انتقالها إلى الفروع الاقتصادية الأخرى وبالتالي الدخول في مرحلة الركود المعمم سوف يتطلب مبالغ إضافية اكبر بكثير مما ضخ حتى الآن. وبالفعل وحسب الخطة الأوربية التي أقرها وزراء المالية في دول الاتحاد فقد تم رصد أكثر من 2000مليار يورو للخروج التام من الأزمة وإنعاش الأسواق المالية والاقتصاد الأوربي بصورة عامة.
السؤال الذي يطرح عربيا ما هو انعكاس هذه الأزمة على الاقتصاديات العربية؟ في المعلومات الأولية بلغت خسائر دول الخليج العربي نحو 180 مليار دولار نتيجة لتدهور أسواقها المالية خلال الأسبوعين الفائتين فقط، منها 24 مليار دولار في سوق الأسهم السعودية لوحدها، وخسرت سوق المغرب عشرة مليارات دولار، أما الخسائر الناجمة عن ودائع هذه الدول في المؤسسات المالية الدولية فهي بلا شك كبيرة، لكنها تبقى خارج بقعة الضوء. ومع أن البورصات الخليجية استعادت بعض الخسائر خلال اليومين التاليين من خلال ارتفاع مؤشرات الأسهم فيها وزيادة التعامل، لكن الخوف لا يزال سلطان الموقف. وتحسبا لذلك فقد ضخت دولة الإمارات 19 مليار دولار في الشبكة المصرفية، وأصدرت الحكومة المصرية قراراً بضمان الودائع في مصارفها، أما بقية الحكومات العربية فلا تزال تدفن رأسها في الرمال.
بالنسبة لانعكاس الأزمة على الاقتصاد السوري يمكن القول أن تأثيرها المباشر سوف يكون محدودا نظرا لكون الجهاز المصرفي في سوريا مملوك للدولة، وتخضع جميع عملياته المالية للرقابة. التأثيرات السلبية المحتملة للأزمة سوف تطال الودائع السورية في الخارج و الاستثمارات الحكومية الخارجية، كما أنها سوف تؤثر على تحويلات السوريين العاملين في الخارج في حال دخول اقتصاديات البلدان التي يعملون فيها في مرحلة الركود.
كيف يمكن الخروج من الأزمة؟ هو السؤال الذي يؤرق صانعي السياسات الاقتصادية في العالم ويشتغل عليه الاقتصاديون من مختلف الدول. وفي خضم البحث عن جواب أو أجوبة عن السؤال المطروح تتعدد كثيرا المنطلقات وتختلف. البعض يرى المشكلة في قصور الرأسمالية ذاتها، وبالتالي لا بد من البحث عن بدائل لها قد تكون في الاشتراكية. لكن ثمة من يرى المشكلة في الليبرالية الاقتصادية الجديدة التي بالغت كثيرا في قدرة الأسواق على تحقيق التوازن في الاقتصاد الكلي، وبالتالي يكون المخرج في إعادة الاعتبار إلى السياسات الكينزية ولتدخل الدولة في الاقتصاد. وبالفعل كان من جملة الإجراء المستعجلة للحكومات الغربية أن وضعت أسواق المال والمؤسسات الائتمانية تحت إشرافها المباشر، بل وأخذت تتملك حصصا فيها متجاوزة حدود الكينزية كثيراً. وهناك من حصر الأزمة في القطاع المالي وفي آلية عمل الأسواق المالية، الأمر الذي سمح بالمضاربات وانتشار الفساد نتيجة البيع غير الشفاف وغير المكشوف، وبالتالي يكون المخرج بضبط عمل هذه الأسواق بإخضاعها لجملة من القواعد تمنع المضاربات فيها، وتجعل عملها شفافا وتحت المراقبة.
مما لا شك فيه أن الأزمة الحالية التي تعصف باقتصاديات البلدان الرأسمالية المتقدمة ليست نهاية الرأسمالية، وأن هذه الأخيرة تمتلك من المرونة والآليات القادرة على الخروج من الأزمة مع أن تكاليف ذلك قد تكون باهظة جداً، وهي باهظة بالفعل. من جهة أخرى فإن الاستمرار بالنهج السياسي والاقتصادي السابق كما تقتضيه الليبرالية وصل إلى نهايته، وتخطت الأزمة الحدود التي استشرفتها النظريات الاقتصادية الليبرالية المعروفة وخصوصا النظرية الكينزية بصيغتها التقليدية أو المحدثة. البحث ينبغي أن يتركز حول نظرية جديدة تمزج بين الاقتصاد الحكومي واقتصاد السوق، نظرية تعيد للدولة وظائفها الاقتصادية التي نزعتها منها الشركات في ظروف العولمة، وتعطي للسوق دوره في تقويم النتائج النهائية للنشاط الاقتصادي. في إطار هذه النظرية لا بد من إعادة الاعتبار للقطاعات الاقتصادية، بحيث تكون هي الأساس الذي يبنى عليه الاقتصاد ككل، وجعل القطاعات المالية في خدمتها وليس العكس. وينبغي أن لا نتجاهل في إطار السياسات الكلية ضرورة البحث عن منظومة عالمية جديدة لإدارة الاقتصاد العالمي تقوم على تعدد الأقطاب والمشاركة الدولية الواسعة خصوصا للدول التي تلعب أدوارا حاسمة في الاقتصاد العالمي مثل الصين والهند والبرازيل والسعودية وغيرها. ولا بد أيضا من التوجه الاستراتيجي الجاد نحو تنمية العالم النامي والحد من الفقر والمديونية العالمية نظرا لأهمية ذلك بالنسبة لخلق طلب فعال عالمي كبير يعيد الحيوية والنشاط والفعالية للاقتصاد العالمي.
في إطار البحث عن مخارج من الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الراهنة، على المستوى العربي، لا بد من إعادة التفكير مليا، بالسياسات الاقتصادية المتبعة، والبحث الجدي عن تأسيس تكتل اقتصادي عربي حقيقي يعيد توزيع واستخدام الموارد العربية المتاحة بصورة فعالة وفي صالح الجميع، في إطار مشروع نهضوي عربي حقيقي يقوم على مراعاة المصالح لكل دولة.
وعلى المستوى السوري لا بد من تصحيح وفرملة توجهات الفريق الاقتصادي الحاكم في سورية والحد من اندفاعاته الليبرالية غير المدروسة. من جهة أخرى ينبغي أن يكون واضحا أن الاستمرار بالاقتصاد الحكومي السائد في سورية(القطاع الحكومي) أصبح غير ممكن نظرا لفشله في تحقيق تنمية حقيقية في البلد. المخرج إذا، كما كنا نقول ونكرر في سياق المناقشات التي جرت في إطار مشروع سورية 2025، يكمن في المحافظة على دور الدول الاقتصادية في مجال التشريع والرقابة والسياسات الكلية، وفي الاستثمار في القطاعات الإستراتيجية وفي تلك التي تخرج عن قدرة القطاع الخاص على أن تشتغل القطاعات الاقتصادية الحكومية وفق آليات السوق بعد منحها الاستقلال المالي والإداري، وليس وفق النظام الإداري ألأوامري، والعودة إلى التخطيط التوجيهي على المستوى الكلي، وإلى التخطيط الكمي على المستوى الجزئي. غير أن تحقيق كل ذلك يتطلب بناء نظام سياسي واقتصادي جديد يقوم أساسا على المصالح وعلى خلق الظروف القانونية والسياسية التي تسمح باستقصائها بصورة شفافة.



#منذر_خدام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السوريون ومفاوضات السلام مع إسرائيل
- بحثا عن المناقبية في العمل السياسي
- الليبرالية الجديدة
- في الاختلاف والتسامح والحرية والحوار....أو في العلمانية والد ...
- العنف واللاعنف في التاريخ
- مؤشرات الحكم الرشيد في الدول العربية
- الحكم الرشيد – الشفافية والمساءلة.
- الحكم الرشيد - سيادة القانون
- الحكم الرشيد-المشاركة
- مبادئ الحكم الرشيد
- البيعة الثانية والأمنيات الأولى
- التحليل السياسي بلغة طائفية
- أمريكا لا تريد الديمقراطية في الوطن العربي
- الكراهية المؤسسة للسياسة
- السقوط في الهاوية
- ثقافة الخوف
- المعارضة السورية ومزاد الإعلانات
- بمثابة مشروع برنامج سياسي
- سورية تودع عاما صعبا وتستقبل عاما أصعباً
- عبد الحليم خدام: الفضيحة غير المتوقعة للنظام السوري


المزيد.....




- -لا لإقامة المزيد من القواعد العسكرية-: نشطاء يساريون يتظاهر ...
- زعيم اليساريين في الاتحاد الأوروبي يدعو للتفاوض لإنهاء الحرب ...
- زعيم يساري أوروبي: حان وقت التفاوض لإنهاء حرب أوكرانيا
- إصلاحُ الوزير ميراوي البيداغوجيّ تعميقٌ لأزمة الجامعة المغرب ...
- الإصلاح البيداغوجي الجامعي: نظرة تعريفية وتشخيصية للهندسة ال ...
- موسكو تطالب برلين بالاعتراف رسميا بحصار لينينغراد باعتباره ف ...
- تكية -خاصكي سلطان-.. ملاذ الفقراء والوافدين للاقصى منذ قرون ...
- المشهد الثقافي الفلسطيني في أراضي الـ 48.. (1948ـــ 1966)
- ناليدي باندور.. وريثة مانديلا وذراعه لرفع الظلم عن غزة
- ناليدي باندور.. وريثة مانديلا وذراعه لرفع الظلم عن غزة


المزيد.....

- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي
- بصدد الفهم الماركسي للدين / مالك ابوعليا
- دفاعا عن بوب أفاكيان و الشيوعيّين الثوريّين / شادي الشماوي
- الولايات المتّحدة تستخدم الفيتو ضد قرار الأمم المتّحدة المطا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - منذر خدام - الأزمة المالية العالمية ونذر الركود