أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسب الله يحيى - كونديرا خارج الاسوار.. الطفل المنبوذ ..بطيئاً















المزيد.....


كونديرا خارج الاسوار.. الطفل المنبوذ ..بطيئاً


حسب الله يحيى

الحوار المتمدن-العدد: 2479 - 2008 / 11 / 28 - 03:22
المحور: الادب والفن
    



(1)
تمكن الروائي التشيكي:ميلان كونديرا أن يحقق حضوراًواسعاً في الحياة الثقافية العالمية خلال السنوات العشرة الاخيرة.
وقد رسم الاعلام صورته أولاً..بإعتباره شخصية منشقة ومتمردة على دخول السوفييت الى بلاده عام 1968،وإلتحاقه بالشيوعيين ثم تمرده عليهم أكثر من مرة،فضلا عن إنتقاله الى باريس التي إحتضنت أدبه وقامت بنشره على نطاق واسع.
إلا أن قراءة أعماله الروائية وكتابه عن(فن الرواية)وتصريحاته الصحفية المختلفة،تؤكد حقيقة أن كونديرا..واحد من طلائع الكتاب الذين يسعون لتحقيق حضورهم بعيداً عن أي مناخ يحول دون تقديم كتابة حرة لها تماس بالناس.
ولد ميلان كونديرا في برنو/تشيكوسلوفاكيا عام1929،وإشتغل عاملاً،وعازفا للجاز..ثم استاذا جامعيا معنيا بالدراسات السينمائية..لكنه فصل من وظيفته وصودرت كتبه ومنع من النشر..ثم سحبت الجنسية عنه بعد اطلاع الرقابة على مجموعة قصصه المسماة:(كتاب الضحك والنسيان).
وتحت هذه الضغوط المختلفة،وبعد أن عجزت حتى زوجته عن تحقيق عيشهما بالتدريس..بسبب منعها؛آثر كونديرا أن يهجر وطنه وينتقل الى باريس عام 1975 بتشجيع من حكومته التشيكوسلوفاكية.
وفي قراءة لقصص:(كتاب الضحك والنسيان)(1)نتلمس طبيعة المأزق الذي تعانيه شخصيات كونديرا..التي لا يمكنها إستعادة الذكريات السعيدة..كما لا يمكنها الاستسلام للحاضر الكاذب والمرير.
إن كل ما تفعله الشخصيات..إهمالها الماضي..والضحك من هذا الاستبعاد المقصود للماضي..باعتبار إن هذه العملية حالة تستحيل على الانجاز.
فالعاشق،ليس بمقدوره إستعادة رسائله من حبيبة الماضي،بعد ان تبين أنها غير جديرة بحبه..
حقيقة الماضي قائمة وليس من السهل محوها عندما نريد.
ذلك نجد الزوجة في قصة أخرى تبذل جهودها لإسترجاع مذكرات تعود لزوجها الراحل..بعد أن غابت صورته من ذاكرتها.
وينقلنا كونديرا الى جزيرة يسودها الغموض في قصة ثالثة..حيث يعيش هناك أطفال لا ذكريات لهم.
إن ألم النسيان..والخطر المحدق بعالم كونديرا،ليس بمقدور الانسان حله على وفق ما يشاء..ووقت ما يشاء.
وفي رواية كونديرا:(الفكاهة)نتعرف على فتاة عاملة تم إعتقالها لمجرد إنها سرقت وردة..لتقدمها هدية الى الشاب الذي تحب..
وما بين:المقبرة/الاعتقال/الموت/الوردة/الحب/الحياة..تجسيد آخر في إمكانية مد جسور الأمل حتى مع أشلاء الموت..فإذا ذاكرة الموت تستيقظ،لتميت يقظة الحاضر المتفائل بالعشق والورد..
وفي روايته:(خفة الكائن التي لا تحتمل)(2)نجد كونديرا يناقش الموت من زاويتين/ف(فقد مات توماس وتيريزا تحت مؤشر الثقل،فهي تريد(سابينا)أن تموت تحت مؤشر الخفة..وستكون أخف من الهواء)..
ويعيد كونديرا الى شخصية(توماس)ذكرياته عن(أوديب)الذي لم يبرىء خطأ معاشرة أمه..فأنتقم من جهله..ما جعله ينادي:(لعل البلاد قد فقدت بسببكم حريتها لقرون،ومع ذلك تصرخون أنكم تشعرون ببراءة أنفسكم،كيف بإستطاعتكم أن تنظروا حواليكم،كيف ألستم هلعين؟
قد لا يكون لكم عيون ترى،لو كان لكم عيون لوجب لكم أن تفقأوها وترحلوا عن طيبة).
إن ذاكرة الاجتياح الذي عاشته بلاده،ظلت ماثلة أمامه،ومن الصعب أن تحمى..ومن الصعب أن تغيب عن أدب كونديرا.
إنه..يعالج الموقف ذاته على نحو آخر،لكن له تماس بحقيقة ما جرى..فرواية:(الحياة هي في مكان آخر)تفضح على نحو بارز المحاكمات الستالينية ويدين عصرها الذي جمع بين ممارسة الجلاد وتأييده او حتى صمت الشاعرعنه.
وفي:(رواية الخلود)(3)يفهم كونديرا معنى الخلود على النحو الآتي:
(ان تكون حياً،بمعنى أن تكون في ذهن الآخر..).
و(الخلود عبر الدخول في التاريخ).
و(الخلود:ان تستحوذ على خلود الآخر).
و(الخلود المخطط له).
و(الخلود عبر المؤلفات).
لكن كونديرا يناقش مسألة الخلود ضمن حالات محبطة أحياناً،كأنه ينفيها،وكأنها تستحيل..ما دام الموت مهيمناً بكامل قوته.
وفي الرواية:(فالس الوداع)(4)نتبين حقيقة العلاقة العاطفية التي تجمع بين عازف البوق والممرضة التي تلد منه طفلاً يريد الخلاص منه كونه متزوجاً من إمرأة عقيم..
الولادة هنا عصية على القبول كونها غير قانونية..وإن كان قانون الحب قد ختم العلاقة بمواثيق الثقة..لكن الرجل هنا يستجيب لقوانين صنعت له..ويستجيب لتنفيذها وإن لم يؤمن بها..
هنا يكمن صراع المرء مع واقعه من ناحية،وأحلامه من ناحية أخرى..
هذه النقائض،وهذا الصدام..يجعل من (الفالس)الموسيقي..مفجوعا بالوداع..ذلك الوداع المقصود حتى بالموت العمد وبالقتل القصد..لكنه إصرار على خطأ القبول به،والإصرار عليه..
وعندما نراجع رواية كونديرا:(هوية)(5)نجده يقدم لنا وضعا حرجاً يمر به رجل وإمرأة..بات شاغلهما الانفصال بعد علاقة حب دامت عدة سنوات،ويكمن السبب في إختلافهما الفكري الذي بات يشكل عندهما..ماهو أسوأ من الخيانة..
وتقدم رواية كونديرا:(الدعابة)شخصية شاب حوكم بسبب عبارة عفوية كتبها لحبيبته..فيواجهه حكامه بقوله:(بإمكاننا أن نعلم ما هو مخفي في داخلك)وإن كل من(يهمس به أو يفكر فيه أو يخفيه في داخله لابد أن يوضع تحت تصرف المحكمة).
على وفق هذه المواجهات التي تحملها روايات كونديرا..نجده يستعيد الوقائع بشكل بيّن..وكانه يمتحن فينا طبيعة ما مّر به وبزملائه من محن.
يحدثنا كونديرا عن صديقة قديمة له(6)لم تعرف بجرائم ألصقت بها لأنها لم تقم بإقترافها أصلاً..بينما إعترف كثرة ممن يعرفهم كونديرا.
المرأة حكم عليها خمسة عشر عاما،وكان لها طفل يبلغ من العمر عاما واحدا..وعندما خرجت بعد أن قضت كل تلك الاعوام؛وجدت إبنها شابا..وحين وجدته مرة يتأخر عن يقظته صباحا،بكت..واتهمت بالمبالغة..لكن الابن الشاب نفى عن أمه تلك الصفة..وأكد شجاعتها وإعتذر عن إهماله وأنانيته..فأمه تريد ان يكون رجلاً بحق..وهي تعده لذلك..ويرى كونديرا في تحليله لهذه الحادثة الحقيقية كون الام هنا ألزمت الابن الاعتراف بخطأه..وهو جزء من هيمنة الحكم الصارم المعبأ في نفسية هذه الأم..وهي قريبة الصلة بقصة(الحكم)لكافكا التي تتحدث عن ذلك الأب الذي يتهم إبنه ويأمره بإغراق نفسه..فيقر الابن بالتهمة الوهمية..والابن هو نفسه(جوزيف ك)المدان بذنب لم يقترفه..ليذبح نفسه إستجابة لضغوط تهيمن عليه.
إن كونديرا في سائر قصصه ورواياته دائم(البحث عن الحياة المشخصة للانسان،في مقابل ما يسميه-بالحشرات القارضة-ومن بني الانسان التي تقرض الحياة الانسانية).
وفي رأي كونديرا أن(الكتاب الذي لامبرر لظهوره،كتاب لا أخلاقي)إنه يجد عالمه في ميدانين/الموسيقى والرواية:(الموسيقى صاغت أحاسيسنا وعواطفنا وملكة التأثر عندنا،والرواية غرست في الانسان حب معرفة الآخرين والتسامح تجاه الذين لا يفكرون مثلنا).
وإذا ما راجعنا كتاب كونديرا:(فن الرواية)نجده يقول:(الرواية فردوس القراءة الخيالي).
إن الرواية كذلك:(تأمل للوجود من خلال شخصيات خيالية)وأنها(كاشف ومستقص ومخترع كينونة الانسان،تتجاهله أو تنكره السياسة والتكنوقراطية،ولكنه يمتلك أفقا وعالما خاصأً،ذلك هو المعرفة التي لا تمتلكها أية تكنولوجيا،وبهذا تتسم الرواية بعدم التوافق الانطولوجي من العالم الشمولي،لأن المعرفة التي يمتلكها الروائي مقام على النسبية وعلى الغموض والازدواجية في كل ما يتصل بالانسان وبالوجود).
إن كونديرا يتواصل مع المراحل التي مر بها:بروست وجويس وكافكا،معدا الفن الروائي..حضارة..ولعل التجربتين المأساويتين اللتين مّر بهما وهما:الاحتلال النازي،والاحتلال السوفيتي لبلاده،قد جعلته يرى في الرواية سبيلاً للخروج من تلك المآسي..
كما إن هناك أربعة نداءات تهم كونديرا هي:
(نداء اللعب،ونداء الحلم،ونداء الفكر،ونداء الزمن)(7)
وأن حياة الانسان عنده(أصبحت تعني وظيفتها الاجتماعية وتاريخ الشعب يعد ببضعة أحداث..اختصرت بدورها الى تأويلات..والحياة الاجتماعية تحولت الى مجرد صراع سياسي..حتى وجد الانسان نفسه في وسط إعصار من الأنقاض يعتم عالم الحياة)..وما(الرواية إلا ثمرة وهم بشري،وهم القدرة على فهم الآخرين)(8)
يقول:(ايان ماك ايوان)في مقدمة حوار أجراه مع كونديرا:
(ظهرت رواية كونديرا الاولى(المزحة)عام 1967..وشكلت حدثا رئيسيا في ربيع براغ.
لقد رسمت الرواية الحياة الفاجعة التي تجلت لتلميذ يافع قام بإرسال بطاقة مداعبة لصديقته الستالينية قال فيها:التفاؤل أفيون الشعوب..وقد وصف اراغون تلك الرواية بأنها واحدة من أعظم روايات القرن العشرين)(9)
وحين يتحدث اراغون/الذي يمثل تيار اليسار الفرنسي عن رواية كونديرا ويضعها في هذا الموقع،فأنما يتعامل معها من منطلق فني،من تفهم واستيعاب لأبعادها الفنية والفكرية..ولا ينظر الى أنها تجيء من قلب كاتب(منشق)وهو ما يرفضه كونديرا نفسه والذي لا يريد ان يكون في موقع يبغضه تماماً..ولا أن يقرأ قراءة سياسية..(لأنها قراءة سيئة يجري فيها تجاهل كل ما تعتقد بأنه مهم في كتابك الذي تكتبه).
ومع ان كونديرا روائي،الا أن له إهتمامات متعددة،ولا يجد بأسا من كتابة سيرته الذاتية..روائياً وإستحضار مفاهيمه(المفاهيم التي تعيد وتستجلي الاحداث..وننتقيها ونشكلها كما نريد،ونلتقط الاشياء التي يقصد طمأنتها وتشبع غرورها،بينما نشطب أي شيء يمكن له أن ينتقص من قدرتنا..)ويضيف قائلا:(حالات الرعب الفظيعة التي تجري على مسرح السياسات الكبرى،تشابه على نحو غريب وبإلحاح،حالات الرعب الصغيرة لحياتنا الخصوصية).
من هنا ندرك ان كونديرا لايهمه من السياسة الدفاع عن إنتماءات ايديولوجية محدودة ولا آراء دوغمائية جامدة،بقدر ما يهمه تقديم فن روائي رفيع المستوى..قيمته الاساس تكمن في عمقه ودلالته وتعبيره الصادق عن الانسان مهما كانت الآراء التي يحملها ويذود عنها.
المهم هو ألق الابداع.
وإن كانت الحكومة التشيكوسلوفاكية قد سحبت الجنسية من كونديرا بسبب(كتاب الضحك والنسيان)كونه كتابا تخريبيا،فإن كونديرا يعده(عبء الماضي وحدود سلطة الضحك،والزمن مقياس الى الامام والى الوراء إنطلاقا من 1968(ربيع براغ)(10)وأبطال الكتاب يتساءلون إن كان من حقهم تذكر الماضي السعيد..أم الاكتفاء بالضحك؟
إن كونديرا يريد أن يحتفظ بما هو حي،بالحياة بكل ما تملكه من افراح وأحزان..وينبهنا..(أن الضحك هو إبن الألم فقط)كما يقول:الصافي سعيد في كتابه(الحمى42)..
وتظل معرفته وتجاربه وثقافته ورؤاه هي مرجعية رواياته..وليس له ولأي مبدع حقيقي الانسلاخ عن حياته..فأسوار الماضي بكل ما تحمله من ثقل وماساوية تظل تلاحقه..وما كتابته عن هذه القطاعات اللاإنسانية التي عرفها في حياته الا محاولة للخروج من أسر الماضي..ومن كسره..وصولا الى عالم نحتمل فيه العيش سعداء آمنين..ويكون فيه الانسان سيد نفسه..لا عبداً لسواه..وينفذ له ما يشاء..لأن الآخر لايشاء سوى ذله..والهيمنة الكلية عليه..
كونديرا..يخرج من أسر الكلمة التي تحنط وجوده،باتجاه الكلمة التي تنطلق في كل الفضاءات.

(2)
بعد سلسلة من القصص والروايات العميقة،والمكثفة،المتوغلة عميقا في التعبير عن الحس الداخلي للإنسان؛بدأ كونديرا..يقدم معرفته في فن الرواية،والتشكيل،والموسيقى ومن خلال كتاب:(الطفل المنبوذ)الذي قامت بترجمته الى العربية:رانية خلاف(11).
ويوحي عنوان هذا الكتاب،بانه رواية أو مجموعة قصص،الا أننا ما أن نوغل في قراءته حتى نتبين أنه كتاب يجمع بين السيرة الذاتية وبين النقد والمتابعة والعرض الخاص الذي يكنه ويرصد فيه كونديرا الفنون المجاورة للأدب:الموسيقى والتشكيل.
ونتبين أن(الطفل المنبوذ)إنما هو الطفل المتمرد الذي يريد أن يتجاوز التقليد والمألوف..فاتحا لنفسه آفاقاً جديدة وإهتمامات مختلفة،من شأنها جميعا ان تسهم في إثراء لغته وزيادة معارفه لتصبح بالتالي خزينا مجديا يحقق له حضورا أدبيا ممتلئاً.
إن كونديرا..لم يكن الطفل الوحيد والمنبوذ والمرفوض في وطنه،المهاجر عنه بسبب الاختلاف الفكري..
إن كونديرا يقدم لنا من يماثله في حاله..فهناك الاوبرالي(جاناسيك)المنبوذ في وطنه،والذي ترجم(ماكس برود)جميع أعماله الاوبرالية الى الالمانية وقدم دراسة عنه،كما قدمت دراسة أخرى بالفرنسية قبل ان يعرف ويتم الاهتمام به في بلده تشيكوسلوفاكيا...
ومثله أيضا(جيمس جويس)الذي رفضه مواطنوه ومنعوه من إصدار كتابه القصصي الاول:(أهالي دبلن)واقدموا على حرق بروفات المطبعة التي كانت تزمع إصداره..
هذه التغيرات في حياة الفرد والمجتمع جعلت كونديرا(يسخر من الثوابت التاريخية والاجتماعية)و(يكتب بروح المحاور ويفتح خطاً ساخنا طوال الوقت مع القاريء،وكسباقات الجري المتتابع نجده ينتقل بسرعة من قضية لأخرى وكأنه يريد ان يخضع كل فرضيات الواقع في سؤال واحد متشكل)،-كما تقول المترجمة-..
وبات كونديرا ينظر الى الرواية كما لو كانت فراشة تبدأ الطيران..وأن السخرية ليست سلوكاً مورس منذ عهد الانسان الاول حسب،وإنما هي إختراع مرتبط بميلاد الرواية..والسخرية عنده(ليست مرادفا للضحك،وليست تهكماً أو هجاءً؛بل هي نوع خاص من الكوميديا التي كما يقول أوكتافيو باث:(رسم صورة غامضة لكل شيء تقترب منه).
ويعترف كونديرا بأن:(أكثر الاسباب شيوعا في عدم الفهم بيني وبين قرائي هي السخرية)..ويقول إن روايته:(فالس الوداع)وصفت بأنها نبوئية و(دافعت عن نفسي:إنها رواية كوميدية).
ولكن كونديرا يقف محرجا امام قارئه الذي قال له بشك:
(رواياتك لايجب ان تؤخذ مأخذاً جادا).
من هنا نتبين أن توضيح الكاتب لطبيعة كتاباته قد تسيء إليها وتضع صاحبها في موقف حرج يتأرجح بين القبول والرفض للرأي الآخر..في حين يفترض به ان يكون قد إنتهى من مهمته/من نصه..ليصبح ما كتب في(ذمة)قرائه.
وفي الحديث عن(ماكس برود)صديق كافكا الأثير وناشر كتبه..تجربة مثيرة للانتباه..فقد كان برود(كاتب نصوص سيئة)،لكنه عرف عندما قدم كتب كافكا..وأصبح(خطراً متحركاً)على الرغم من وصفه روايات كافكا بانها:(العقوبات البشعة المخزونة لهؤلاء الذين..لا يتبعون طريق الاستقامة)ولم يكن يدري انه(خلق الكافكوية في الوقت ذاته).
وينبه كونديرا الى قصة همنغواي:(تلال تشابه فيلة بيضاء)كونها(تجريدية للغاية حيث تصف موقفا يبدو بشكل ظاهري من الطراز البدائي،الا انها واقعة أيضا الى حد كبير،حيث يظهر ذلك في محاولتها الى أن تمسك ظاهريا باهداب الجانبين المرئي والشفهي في موقف ما،من الحوار بشكل أكثر تحديداً).
هذا اللقاء الحميم بين التجريد والواقع في قصة همنغواي،هو الذي جعل من هذه القصة القصيرة نموذجا مجتهداً ومتميزا بحيث يمكن قراءتها على وفق مستويات عدة..لتصل الى المتلقي برؤى متعددة.
وعندما ينتقل كونديرا للحديث عن(أندريه بريتون)وبيانه السريالي وإعتباره الرواية(نوع ادبي وضيع)معتمدا على فقرة وضعت في(الجريمة والعقاب)بوصفها جملة مرهقة غير مقنعة،يقول كونديرا معلقا:(البيانات،والوصف،والاهتمام غير المبرر بلحظات الوقت التافهة،وإتباع سايكولوجية تجعل من تحركات كل الشخصيات أمراً متوقعاً،باختصار لكي نجمع كل الشكاوى في نقطة واحدة؛إن النقص الحاد للشعر في الرواية هو ما يجعلها فنا ادنى...)
إن كونديرا يدعو الى:(انفجار اللحظة السامية والساحرة في الحياة،والعاطفة المكثفة،وطزاجة الصورة،وسحر المفاجأة..).
الرواية إذن إختراع شعري،وليست إستطرادا لما هو معروف ومألوف..ويرفض كونديرا القول بأن(باخ)أقل لحنية من(موتسارت).
إن الامر عنده لا يتعدى الاختلاف في اللحن..(الفكرة تكمن في الجوهر الكلي).
كما ان(النشوة)عنده تعني أن:(يكون المرء خارج ذاته..لا ان يكون خارج اللحظة الراهنة،مثلما يختلف الحالم في الماضي أو المستقبل العكس تماما،النشوة..هي تطابق مطلق مع اللحظة الآنية،نسيان كامل للماضي وللحظة المستقبلية،ولو طمسنا الماضي والمستقبل،فستقف اللحظة الحاضرة في مساحة فارغة،خارج الحياة ومنطقها الزمني،وخارج الزمن ومستقلة عنه).
إن كونديرا في هذا الكتاب يريد ان يعلن عن طبيعة علاقته بفنه وبالفنون الاخرى،وعلاقته بالروائيين الذين توقف عند اعمالهم..مشيرا الى إنطباعاته بالروائي والرواية..وليس من خلال رؤية نقدية،بل من موقع مؤلف إزاء زملاء له..مما يجعلنا نتوقف عند تصورات إنطباعية في الغالب،مع مناقشة لهذا النص أو ذاك،ولهذا اللحن أو الموقف..ولهذه التجربة وهذه الرؤية..
إنها ملاحظات مجتهد ومبدع تتداخل أحاديثه في اعماله الفنية مع اعمال سواه في نسيج ثري وفي معرفة وأفق تصوره وفي هذه المسألة الابداعية والفكرية،وفي هذه الصورة والموقف..حتى يحقق حضور المبدع في كامل ألقه،وحضور المثقف العارف ببراعته ومخزونه وفي تفاعله وحواره وتواصله ومساره..

(3)
محظوظ ميلان كونديرا عند العرب،فقد ترجمت معظم أعماله الى العربية،وبات يعرف عنوانا لإزدهار فن الرواية في عصرنا،وذلك لزجة السياسة بالفن وبالعلاقات الانسانية الحميمة التي عبر عنها بصدق إبداعي متميز.
(البطء)(12)واحد من اعماله الروائية التي ترجمها الى العربية طلعت الشايب،محورها درامي،قائم على فعل إلتقطه كونديرا بذكاء ونباهة ودقة،وعبر فنه على نحو دقيق وثري في لغته وصوره وفاعليته.
يكمن سر(البطء)في مشهد المرأة التي أدركت إن من تحبه يعاني من حالة ليس بوسعها إحتمال القبول بها ومعايشتها،وهي وجود رائحة كريهة في فمه فكيف تعالج المرأة هذه المحنة غير الملزمة لها،وكيف يعيشها الرجل وهي حالة ملزمة له..مقترنة به؟
هذه المحنة تجعله يسعى لممارسه حالات غير طبيعية ومذلة للمرأة وليس بوسعها القبول بها،وليس بوسعه هو كذلك أن يستجيب لوضع إنساني عادي،فكيف السبيل الى حل هذه المتناقضات في حياة الانسان،وكيف يمكن الخلاص من ثقل هم ليس للإنسان قدرة على تجاوزه،إنما هو احد أقداره،وأحد منهم او بلاء أو ثقل ينوء به المرء ويستجيب لهيمنته؟
ان(البطء)هنا،بطء في عاطفة حية يحتاجها الانسان في لحظة ما،فإذا هي تعذيب للأخر،وقهر لوجوده،وإبتذال لإنسانيته.
كونديرا يوغل في معالجة هذا التضاد العاطفي،حيث يقدم صورته على نحو صدىء في العلاقات الانسانية،ففي هذا التحديد الحساس،يجد في مكان(محدد،ومسجل،ومصنف،وموثق،وموضح،ومختبر،ومجرب،ومراقب،ومحتفى به).
وفي مكان آخر يرى(تقاطع طرق صاخباً حيث يلتقي كل الجنس البشري،في نفق يعبره طابور الاجيال البسطاء والسذج فقط،وهم الذين يؤمنون بحميمية ذلك الموضع،اكثر المواضيع عمومية).
انه تسويغ لذات ترى في اللاطبيعة ماهو(أسمى)لمجرد أنه(الاكثر غموضا..الاكثر سرية).
فهل هو تبرير منطقي سليم،وهل يمكن للغرابة وللامألوف،إمتلاك حسي لما يحتاجه الانسان في حقائق وطبائع ووقائع؟
إن الكائن الاخر عند كونديرا يرى:
(انت لا عين،لا أذن،لا رأس بالمرة،وهذا الاهمال المليء بالكبرياء عباءة تجعلني أستطيع ان اتحرك امامك بكامل الحرية والوقاحة).
لقد سأمت المرأة تلك الرائحة الكريهة حتى أصبحت(كابوسي،وحلمي المزعج،وفشلي،وعاري،وإمتهاني،وقرفي..لابد أن أقول لك كل هذا وبطريقة موجعة)لقد تحولت الى(ملكة يتبعها أبله).
إنه التضاد بين(الرجل الذي إختزلته-المرأة-الى وضع الكلاب)وبين الرجل الذي(تملؤه رغبة يائسة في الصمود في وجه ذلك الجمال الذي يمتهنه ظلما،لايستطيع أن يحشد شجاعته ويصفعها على وجهها).
إنه بالنسبة لها غير موجود،وهي(واثقة من خنوعه،وتعرف انه يهينها لأنه يريد أن يسمعه الآخرون،وأن يروه،وأن يقيموا له وزنا،ويهينها لأنه ضعيف..).
إنها تدرك ابعاد ذلك الضعف وتمعن في كشفه.
من هنا لا تحس بما تعتقد(إهانات)وليس بوسعها ان تخافه غير أنها(راحت تحدق فيه بعينين تتعمدان إظهار الخوف فيهما)فهل كانت تشفق عليه وترأف بحاله،ام انها تستجيب لغرور الرجل فيه،لخداعه،ولتقديم صورة يرغبها؟!
إن كونديرا في هذه الرواية يسعى لتقديم حالة إنسانية قد تبدو في مظهرها طبيعية وقائمة في الواقع بكثرة،الا أنه يفجر فيها لغة حية،وحسا إنسانيا عاليا يقدم فيه صورة من الهم الانساني،ومن العذاب الذي ينوء به المرء وليس بمقدوره إيجاد الحلول.
إن(البطء)إذ تعني عنوان التأني والتريث،لايمكن قراءتها الا سريعا،لا من زاوية كونها لا تستحق الهدوء والترقب،وإنما لأنها مكتوبة على نحو يمتلكنا لغة وفعلا وضرورة،وهو الامر الذي يجعلنا نعجل بقراءتها شوقا حتى ننتهي منها ونحن بأمس الحاجة لقراءتها من جديد،وهذا هو سحر كل عمل إبداعي يشدك إليه ويمنحك طاقة إستثنائية على إنجاز قراءته على عجل.



الهوامش:
1-كتاب الضحك والنسيان/ميلان كونديرا،ترجمة:انطوان أبو زيد،دار الآداب-بيروت،ط1/19990
2-خفة الكائن التي لاتحتمل/ميلان كونديرا،ترجمة:عفيف دمشيقة،دار الآداب-بيروت،ط1/1991
3-الخلود/ميلان كونديرا،ترجمة:د.محمد درويش،نشرت أولا بشكل مسلسل بدأ من العدد المؤرخ18/9/1993في جريدة(القادسية)بغداد،ثم صدرت في كتاب مستقل،ثم صدرت عن دار أزمنة-عمان1998
4-فالس الوداع/ميلان كونديرا،ترجمة:محمد عيد ابراهيم،روايات الهلال-القاهرة،العدد592/ابريل1998
5-ميلان كونديرا/في روايته الجديدة(هوية)-جريدة(الزوراء)في27/8/1998
6-فن الرواية/في مكان ما،هناك-ميلان كونديرا،ترجمة:بدر الدين عردوكي.مجلة:العرب والفكر العالمي،العدد الثاني/ربيع1988
7-هل تتخلى الرواية عنا؟/ميلان كونديرا(ملف/ترجمة:حسونة المصباحي،صبار السعدون-مجلة:آفاق عربية/ع5/1991بغداد.
8-طرقات وسط الضباب/ميلان كونديرا،ترجمة:حسونة المصباحي،مجلة:نزوى-العدد6/ابريل1996
9-ميلان كونديرا،رواية اليوم تمتحن عالمنا/حوار:أياك ماك أيوان،ترجمة:الياس فركوح،مجلةآفاق عربية،آب1990بغداد.
10-كتاب الضحك والنسيان-جريدة(السفير)بيروت في14/12/1980
11-الطفل المنبوذ/ميلان كونديرا،ترجمة:رانية خلاق-الهيئة العامة لقصور الثقافة/آفاق عربية-القاهرة1985
12-البطء/ميلان كونديرا،ترجمة:طلعت الشايب-دار شرقيات-القاهرة ط1/1996



#حسب_الله_يحيى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ميلان كونديرا: ثلاثية حول الرواية
- خذ ما تريد..وأعطني (حرية) التوقيع على ما تريد! قراءة في نص ا ...
- من هو : جومسكي؟
- مع الروائي العراقي مهدي عيسى الصقر في روايته: رياح شرقية ريا ...
- العراق..من يغلب من؟
- ماريو فارغاس يوسا:(الحرية الموغلة)


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسب الله يحيى - كونديرا خارج الاسوار.. الطفل المنبوذ ..بطيئاً