ضيا اسكندر
الحوار المتمدن-العدد: 2475 - 2008 / 11 / 24 - 09:07
المحور:
كتابات ساخرة
عندما رنّ الهاتف كنت على وشك الدخول إلى التواليت لقضاء حاجة ملحّة من الأمام. وقفت برهة أستفتي العقل, هل أؤجل الردّ لحين خروجي أم أسارع بالردّ وأؤجل الدخول, لا سيما وأنني لا أطيق الثرثرة على الهاتف وأحاول الاختصار ما أمكنني ذلك, فأنا من هواة المحادثة وجهاً لوجه, إذ أجدها أكثر حميمية ودفئاً من أية واسطة تقنية أخرى في الاتصال.
المهم فضّلت الردّ أولاً واقتربت من شاشة الهاتف لمعرفة رقم المتصل, وإذ به أحد الرفاق القدامى فسارعت برفع السماعة:
- أهلاً يا صديقي!
- أهلاً بالحبيب..
بلا طول سيرة كان ملخص مكالمته لي أن اللجنة المنطقية لأحد الفصائل الشيوعية السورية التي ينتمي إليها هذا الرفيق, توجه لحضرتنا دعوة لحضور الاحتفال السنوي بذكرى تأسيس الحزب. ولدى الاستيضاح منه عن مكان وزمان الاحتفال أجاب مبتهجاً: هذه السنة سيكون الاحتفال غير شكل؛ فقد ارتأينا أن نكسر الروتين ونحطم الأطر التقليدية قي ممارسة النضال. وأضاف مستطرداً وكأنه أصبح على حين غرّة منظّراً ينطق بفلسفات الدهر وحكم الزمان: كفانا رفيق الدوران في حلقة مفرغة, العالم وصل إلى المريخ ونحن ما زلنا نحتفل بذكرى عزيزة على قلوبنا كهذه الذكرى بأشكال متخلفة بدائية؛ (بنزقٍ) تارةً في بيت أحد الرفاق لا يتسع لأكثر من عشرين إلى ثلاثين شخصاً.. وتارةً نحتفل في مكتب الحزب وهو كما تعلم لا يختلف عن بقية البيوت في اتساعه.. وتارةً يسمح لنا رفاقنا الحلفاء بشقّ النفس بإقامة مهرجان خطابي في صالة المركز الثقافي.. الحقيقة رفيق ضقنا ذرعاً بهذه الأنماط من الاحتفالات لذلك قررنا هذه السنة تغيير شكل الاحتفال رأساً على عقب..
قلت له وأنا أنفجر غيظاً من برودته في الوصول إلى النتيجة حول طريقتهم الجديدة في الاحتفال:
- أرجوك وقتي ثمين فأنا على موعد هام, اختصر وقل لي ما هو شكل الاحتفال عندكم هذه السنة؟
(وبدأت أضبّ ساقيّ بالتناوب متشاغلاً عن رغبتي الشديدة في التبوّل)
أجاب بمنتهى البلادة غير آبهٍ بوضعي الحرج:
- يا سيدي, سيدي وسيدك الله, الاحتفال هذا العام سيكون في مطعم أبّهة - مطعم النبلاء - وهو من فئة خمس نجوم كما تعلم, ورسم الاشتراك بهذا الاحتفال رمزي إذ لا يتعدّى الـ ( 500 ) ليرة للشخص الواحد. طبعاً المقبّلات والمازوات فاخرة مع برنامج سهرة منوّع, وأردف بتلك الطريقة الحالمة التي يتصنّعها الشعراء: صدّقني ستقضي سهرة ممتعة لن تنساها ما حييت..
أجبته وأنا مبهوت غير مصدّق وكأنني في حلم:
- هل ما سمعته منك مزحة أم..
- (مقاطعاً) لا مزحة ولا من يمزحون. يا رجل دعنا نجدّد, نغيّر, نحدّث, نطوّر.. أم أنك ما زلت ترغب بأكل المجدّرة بملعقة الخشب وشرب الماء بالطاسة والتمدد مستلقياً على حصير القش..
- (يكاد الغضب يمزقني من هول الصدمة والإحباط؟ لدرجة نسيت قضاء حاجتي التي لم تعد ملحّة): وهل تفهمون التجديد والتطوير على هذه الشاكلة؟ ماذا يضيركم لو فكرتم بتنظيم الاحتفال في حديقة عامة مثلاً, أو في ساحة بأحد الأحياء الفقيرة التي بات رجالها يبكون من شدة الغلاء, والتي تزعمون أنكم تمثلون مصالحهم الطبقية, أو حتى في مطعم ولكن بدون نجوم. ثم هل كانت حساباتكم دقيقة عن عدد الرفاق الذين يستطيعون الاستغناء عن عدة آلاف من دخلهم ليمضوا سهرة معكم في مطعمكم (النبيل)؟
وأردت المتابعة في خطابي الوعظي إلا أن عصافير الكلام طارت من أغصان ذاكرتي من شدة الغمّ..
- أف! أف! على مهلك يا رجل! الحق عليّ شخصياً في توجيه الدعوة لك. أصلاً رفاقي حذروني من مغبّة الاتصال بك, لم تتغير يا رجل! هذا هو أنت بتطرّفك ويساريتك المغامرة ونظرتك المتشددة.. كن مرناً قليلاً يا أخي.. يا شبه رفيق!
- حاضر, سأكون مرنا..ً يا أكثر من رفيق! قل لي من فضلك: هل ستشربون الويسكي وتخاصرون الرقاصات على أنغام النشيد الأممي وتسكبون الخمرة على نهودهنّ وتنثرون في فضائهنّ الدولارات, أم بسبب عدائكم لأمريكا ستستبدلونها باليورو, أم بالليرة السورية من فئة الـ (500) كونكم وطنيون؟
- بلا مسخرة رفيق, باختصار,إن كنت ترغب بالحضور فأهلاً وسهلاً وإن...
- عفواً للمقاطعة, أيمكنني الحضور بدون رسم الـ (500) ليرة؟ على فكرة نحن ثلاثة أصدقاء ننتمي إلى ثلاث شرائح اجتماعية أو(طبقية) كما ترغبون بتسمية فئات المجتمع. أحدنا يستطيع الحضور وبيده سندويشة شاورما والآخر بيده سندويشة فلافل والثالث تيمّم... يعني احتفالنا بالمناسبة سيكون طبقياً بامتياز.
- فعلاً كلامك يسمُّ البدن، أخي إلى أين تريد أن تصل؟ (مستدركاً) أحسن شيء تصبح على خير.
وأغلق سماعة الهاتف. وبدوري شعرت فجأة بامتلاء المثانة فهرعت مهرولاً إلى التواليت أو (المستراح) كما ترجمها إلى العربية أجدادنا القدامى. وبينما كنت منهمكاً بالاستراحة تذكّرت مقطعاً من حوارٍ ساخن دار بيني وبين أحد القيادات الشيوعية في أواسط الثمانينات من القرن الفائت عندما سألته: لماذا رفيق لا نقيم احتفالاتنا الحزبية بشكل علني في الساحات العامة أو في باحات المدارس أو في البيادر والغابات أو.. أجابني بكسل كبقية قيادات الحزب بسبب تقدّمهم في العمر: هذا يقتضي مجموعة من التراخيص الأمنية, وقد لا نستطيع الحصول عليها من حلفائنا.. قلت له مستغرباً بعد أن أجهدتُ نفسي برسم ابتسامة قسرية على وجهي: أيعقل أن يبخل حلفاؤنا علينا بتراخيص تافهة كهذه؟ فلننسحب من هذا التحالف العجيب إذن! فردّ المسؤول الحزبي غاضباً إنما بكسل أيضاً: كلما اختلفنا مع حلفائنا بقضية من القضايا تطالبون بفك التحالف! ألهذه الدرجة يعدّ التحالف قليل الأهمية بنظركم؟ كم مرة قلنا لكم يا رفاق لن نحرق اللحاف من أجل برغوط!
#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟